لماذا لم يُحل جهاز الأمن والمخابرات؟!
عندما استولت العصبة ذوو البأس على السلطة بخديعة الانقلاب المشؤوم، استندت على استمرارية حكمها العضوض طيلة الثلاثين عاماً بالاعتماد على منظومة ثلاثية هي: الأمن والمال والإعلام. وهي ثلاثية مقتبسة في الأصل من (بروتوكولات حكماء صهيون) وهي عبارة عن 24 بروتوكولاً، ظهرت في كتاب للمرة الأولى في روسيا عام 1901م ومنذاك الوقت ظلَّت تتعرض لجدل كثيف، يعلو حيناً ويهبط أحياناً أُخر. والكتاب نفسه تُرجم للغات عدة، مما عقَّد من محاصرته من قِبل اليهود، الذين انبروا للتشكيك في صحته تارةً وتفنيد مصداقيته تارةً أخرى. وقيل إن مجلس حُكمائهم استوحاها من كتاب (حوار في الجحيم بين مونتسكيو وميكافيللي). ما يهمنا في هذا الحيز سؤال يطرح نفسه بإلحاح: ما هو القاسم المشترك بين الصهيونية والحركة الإسلاموية، استناداً على المنظومة الثلاثية المذكورة؟
لقد هدفت بروتوكولات حكماء صهيون إلى تدمير المسيحية، ووضعت خططاً متكاملة لغزو العالم والسيطرة على مقاليد الأمور، بخاصة في المجالات الأمنية والمالية والإعلامية. وحتى لو تمَّ تكذيب هذه البروتوكولات فمن يجرؤ على إخفاء أطماع دولة إسرائيل التوسعية، لا سيَّما، فقد كلَّت عيون الخلق وهم يطالعون تلك العبارة الخرقاء المنقوشة على جدار الكنيست (أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل). وهو ذات الخطل الذي تقمص الحركة الإسلاموية حينما دالت لها السلطة. فأصبحت تروج لفسطاطي الكفر والإسلام، وافترضت أنها حركة أممية لا تعترف بالحدود الجغرافية. وتبعاً لذلك فتح شذاذ الآفاق حدود البلاد فتيمم شطرها النطيحة والموقوذة والمتردية من الإسلامويين. وراحت أهازيجهم تبشر (بغزو العالم أجمع، وأمريكا وروسيا قد دنا عذابها، ويا أمريكا لمي جدادك). وشرعوا فعلياً بالتدخل في شئون الآخرين بغرض تصدير (الثورة). وهو تنطع ما زلنا ندفع ثمنه الباهظ حتى يومنا هذا!
من المعلوم أن الأبالسة خصصوا نحو 70% من الميزانية العامة للأمن والدفاع، وذلك على مدى سنواتهم في الحكم. ولمَّا كان الأمن هاجسهم الأساسي، فقد تكاثرت أجهزته حتى بات يصرع بعضها بعضاً. فبينما كانت أسماء تلك الأجهزة تتغير وتتبدل ظلَّت الممارسات القهرية راسخة رسوخ الجبال. فلم تكن لهذه الأجهزة آلية لتثبيت أركان سلطتهم سوى استخدام وسائل العنف بمختلف أنواعه، أدناه التعذيب وسنامه سفك الدم الحرام. ولمَّا كانت جرائم الأبالسة لا تُحصى ولا تُعد، فمن المؤكد أن حصة أجهزة الأمن منها بعدد (الحصى والرمل والتراب) كما قال عمر بن أبي ربيعة، مع اختلاف المعنى!
تمدد جهاز الأمن والمخابرات (الوطني) حتى صار دولة داخل دولة. وقبض على مفاصل المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ونشر شباكه لاصطياد كل ساقط ترغيباً وكل جانح ترهيباً. وأسس جيشاً ثالثاً للسلطة، بعدة وعتاد لا ينقصه سوى سلاح الطيران. وسيطر على المناشط الرياضية وأصبح لديه فريق لكرة القدم، واستقطب فنانين داسوا على الكمنجة بالحذاء وامتشقوا الكلاشنكوف، وطال شراء الذمم كُتَّاباً وصحفيين تعهَّرت أقلامهم من كثرة التسول، وكان لأصحاب الطرق الصوفية نصيب من الذل نسوا فيه خالقهم فأنساهم أنفسهم. فهل يعلم ضارب بالرمل كم تبلغ ميزانية هذا الجهاز اللعين؟ نحن لا نعلم غير أنه في لحظة تجلي نادرة الحدوث داهمت الشجاعة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، فقال إن الشركات الأمنية تستحوذ على 82% خارج سيطرة وزارة المالية. وهل في ذلك قسم لذي حجر؟
بهذه التركة الثقيلة، كان الأمل أن تتجه الأنظار صوب الجهاز بعد الثورة، لكن المدهش أنه استعصم بقضه وقضيضه ولم تمتد له يدٌ سوى تغيير الاسم من جهاز الأمن والمخابرات الوطني، إلى جهاز المخابرات العامة. وتلك يقال عنها في الثقافة الشعبية السودانية (أحمد وحاج أحمد). وحتى تهدأ بعض الخواطر تناولت الوثيقة الدستورية الدور الذي يفترض أن يناط به الجهاز وحصرته في (جمع وتحليل المعلومات وتقديمها للسلطات المختصة). ويبدو أن الذين أحسنوا الظن عند وضع الوثيقة الدستورية، توهموا أن الجهاز سيتحول من كيان باطش تاريخُه ملطخ بالدماء إلى جهاز يمشي ملكاً بين الناس!
جيء بعد الثورة بمدير له وهو الفريق جمال عبد المجيد الذي كان رئيساً لهيئة الاستخبارات العسكرية، وفي إطار أفاعيل النظام البائد بمنسوبيه العسكريين كان قد أُحيل للمعاش وفارق الخدمة، إلى أن أعاده الفريق عماد الدين عدوي للاستخبارات العسكرية مجدداً. وبعد عودته تقاسمت الاستخبارات العسكرية وقوات الدعم السريع جهاز الأمن في مزاد باطني. وهل يستطيع مُنجم أن يقول لنا كم عدد كوادره العرمرم؟ كانت الظروف قد هيأت لنا مصادر انحازت للحمية الوطنية فكشفوا لنا عوراته، بما في ذلك أسماء 700 من الضابط، ذكرناهم برتبهم المبجلة واسمائهم الرنانة في كتابنا الأخير (الطاعون/ دولة جهاز الأمن والمخابرات في السودان) وذلك غيض من فيض!
ثمة تساؤلات نطرحها على القراء طبقاً (لاسم الدلع) أو المُسمى الجديد للجهاز ووظيفته التي حُصرت في جمع وتحليل المعلومات: ماذا يعمل هذا الجهاز الآثم ؟ ما هي المعلومات التي تبرع بدفعها للسلطة التنفيذية ونبهت لمحاولة الاغتيال التي تعرض لها رئيسها، بالرغم من أنها استوجبت حضور بصاصين من وراء المحيط؟ هل قالوا لنا ما هي المعلومات التي تبرع بها الجهاز وحالت دون إراقة دماء جماعية في غرب البلاد، مثل ما حدث في نيرتتي؟ هل قال لنا ما هي المعلومات وتحليلها التي تقدم بها للسلطة التنفيذية وحجبت الفتنة الهوجاء التي سالت دماءً في كسلا؟ وما هي المعلومات وتحليلها التي تقدم بها وحقنت الدماء في أوردة أهالي بورتسودان؟
ما تزال التساؤلات تتدفق مصحوبة بوجع المحنة: ما هي المعلومات وتحليلها التي تقدم بها الجهاز وأنقذت أفراد شرطة الجمارك من القتل على الحدود الشمالية؟ ما هي المعلومات وتحليلها التي بسطها الجهاز للسلطة التنفيذية وتحدثت عن الاختراقات الأمنية شرقاً وغرباً، علماً بأنها ظلت تترى منذ الاعتصام وحتى يومنا هذا؟ وما هي المعلومات وتحليلها التي تقدم بها للسلطة التنفيذية وكشف فيها أسباب الأزمات في الوقود والدقيق وإمدادات الكهرباء؟ بل هل حدثنا (هدهد) الجهاز عن معلومات تقنية وفنية بوسائل الإنذار المبكر عن فيضانات قادمة جعلت نص مليون شخص يفترشون الماء ويلتحفون السماء؟
على الرغم من أن القتل وسفك الدماء ظل سُنة الجهاز طيلة سنوات تسلطه، إلا أن ثمة جريمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، ظلتا معلقتين في الفضاء ولم تترجلان حتى الآن. الأولى جريمة فض تظاهرات سبتمبر 2013م والتي راح ضحيتها أكثر من مئتي شابة وشاب، وما يزال يطغى عليها نهج (الغتغتة والدسديس) رغم أنف الأهزوجة الثورية. والثانية وهي (أم الجرائم) المتمثلة في فض الاعتصام، وما تزال تراوح مكانها وسوف نبسط صحائفها يوم لا ظل إلا ظل شهدائها!
وأخيراً هل حدثنا جهابذة الجهاز عن الذين لاذوا بتركيا والقاهرة والإمارات ليصبحوا مستشارين لأجهزة أمن تلك الدول؟ أين صلاح قوش ومحمد عطا وعبد الغفار الشريف وماذا يفعلون؟ أين هيئة العمليات التي كادت أن تشعل ناراً تقضي على الأخضر واليابس؟ أياً كانت الإجابة للأسئلة التائهة هذه، فالحل في البل وحده!
ملحوظة: ليس في العنوان خطأ، فقد تعمدنا وضع الاسم القديم للجهاز، للتأكيد بأنه لم يتغير شيء!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية إن طال السفر!!
faldaw@hotmail.com
عن الديمقراطي