غريبة الحكومة الإنتقالية في كل مرة تسعى جماهير الثورة للإقتراب منها تقابلها الحكومة بالاختباء، بالصد وشيء من القمع. الجماهير تتصيد المناسبات للقفز فوق "الحاضنة" بغية ضخ اليقظة في خلايا الحكومة الثورية الفاترة ، ليس غير.. كل مرة تسعى الجماهير لبناء جسور تواصل مباشر مع السلطة تبادر هي إلى نسف تلك الجسور وإغلاق الموجود منها سلطة الثورة حريصة على الإحتفاظ بمسافة بينها وبين الجماهير والإبقاء على "الحاضنة" . هي تفعل ذلك بإيعاز من عناصر داخلها مسكونة بـ "الجماهيرفوبيا" لأسباب مرضية متباينة وبواعث ليست خافية على الجماهير. ربما جاءت تظاهرات الحادي والعشرين فرصة مواتية كي تستعرض الحكومة أبعاد إجراءات وتداعيات قرار سحب السودان من القائمة السوداء. كم هو إيجابي لو خاطب رئيس الوزراء أي تجمع متصدياً لحملة التشكيك المبثوثة في شأن جدية تغريدة ترمب وجدواها.
*** *** *** نخبنا تحتاج إلى الإغتسال من أدران متراكمة ؛ موروثة ومستحدثة. أقل تلك المفاسد التشبث بالفردية والإنغماس في التسطيح فكراً وممارسة هذا الهجاء لا يقلل من بهاء سحب السودان من القائمة السوداء. ذلك أحد ابرز وعود الحكومة الإنتقالية . هو إنجاز سياسي شاهق. لكن جني عائداته الإقتصادية يتطلب صبرا حمولاً وأهم من ذلك مثابرة دؤوب فالدرب بين التغريدة الرئاسية ونفض عباءة الإدانة ثم الخروج من بئر الديون شاق وطويل. على طول الطريق يتربص خصوم الثورة وأعداؤها بالشعب وسلطته. لهذا فتظاهرة "الأربعاء الرائعة " جاءت "صدفة من غير ميعاد" لتعزيز التلاحم بين جماهير الثورة وسلطتها. لكن نخبة السلطة أجهضت الفرصة. هي تفعل ذلك وكل نخب الفصائل الجديدة تنظر إلى الحكومة المرتقبة بعين صائد الفريسة. هم في حالة استنفار يشمرون سواعدهم ويسنون سكاكينهم من أجل الفوز بمطايب الطريدة. لا أحد يأتي متأبطا مشروعا للبناء أو التطوير
*** *** *** ثمة إجماع على عبور الوطن متاهة عتمة يكتنفها الغموض مثقلة بأحمال لم يعد المواطن قادراً على مغالبتها. نعم كابد الشعب من قبل هزائم، نكسات وضائقات لكن ربما لا توازي كل تلك - حتى لو جمعناها حزمة واحدة - ظلمة وعسر المأزق الراهن. مع ذلك يبدو عجزنا الفادح ليس فقط إزاء إيجاد مخرج من تحت ظلال الأزمة، بل في التوصيف الثاقب لأسباب العجز. فإلقاء مسؤولية ذلك التدهور على كاهل الحاضنة السياسية فيه الغليظ من الشطط أكثر من الموضوعية. هو حديث يجنح إلى التعميم المخل أكثر مما يستهدف الإمساك بعظمة الأزمة.
*** *** *** الكل يدرك جيداً تهالك مكونات الحاضنة الخارجة للتو من ظلام الإنقاذ. جميع الأحزاب تعرضت إبان ثلاثين سنة إلى تدمير ممنهج شمل صنوفاً من التعذيب ، التجريف ،الترهيب والترغيب. فالحاضنة تخوض لجة عميقة دون امتلاك الحد الأدنى من شروط عبورها. لذلك فالرهان على الحاضنة رهان خاسر منذ فجر المرحلة الإنتقالية. لابد من الإعتراف بتلك الخطيئة مدخلا لصوغ المخارج من المهالك . فالحاضنة لم تفتقد فقط الوحدة أو التجانس بل كذلك الرؤية الإستراتيجية للمرحلة الحرجة. هكذا أنتجنا تحت مسؤوليتها وراكمنا مزيداً من الأزمات المتلاحقة. كما وسّعت هي بفعل تناحرها، اصطراعها، وقعودها الفجوة بين السلطة والمواطن.
*** *** *** من يستقصي أسباب الأزمة المطبقة لابد له من ولوج بئر السوسيولوجيا للطبقة السياسية منذ عشية الإستقلال .احزابنا السياسية مبنية على الطائفية، العشائرية والجماعات ذوات النفوذ والمصالح المتبادلة. هذه التركيبة ظلت تكيّف النظام السياسي وفق أهوائها، مصالحها ، أطماعها ونزواتها بما في ذلك نزاعاتها على المناصب والمكاسب.
*** *** *** لهذا من الضروري الفرز بين النخبة السياسية والنخبة خارج المظلات الحزبية " غير المنظمة" . الفريقان يلتقيان في خصائص مميزة اجتماعيا إلا ان النخبة السياسية ليست بالضرورة هي الأفضل مستوى فكرياً أوالأكثر إلتزاما وطنياً. فالسلطة لاتذهب بالضرورة لمن هو أفضل تفوقأ ،إذ يعتمد أؤلئك في ذلك على رصيدهم الإجتماعي. هذه النظرة لاتجرد ضربة لازب الفصائل السياسية من نخبة صفوية لها إلتزامها الوطني. الواقع يكشف سقوط هؤلاء أسرى فخاخ الشبكة التقليدية للتركيبة الحزبية. من حاول النجاة من تلك الشبكة وجد النجاة في المغادرة أو الإبعاد.
*** *** *** رؤية الفرز اتسمت بالنفاذ عندما علا صوت المنادين فجر انتصار الثورة بحكومة قوامها تكنوقراط. المستهدف نخبة "غير منظمة". تلك الرؤية منحت حمدوك إشارة مرور جماعية خضراء إلى رئاسة الوزراء. هو المؤهل الرئيس للرهان على حمدوك لعبور المرحلة الإنتقالية بأقل كلفة لذلك جاء احتماء حمدوك بالحاضنة مغالطة للرؤية النافذة ..اجماع القوى السياسية على حمدوك جاء تحت ضغط الشارع صانع الثورة على الحاضنة وتوابعها. تلك الحقيقة عميت عن الحكومة الإنتقالية. لو استندت في ادائها على جدار ذلك الشارع لعبرنا لمرحلة الإنتقالية حتماً بأفضل مما هو عليه الحال .
*** *** *** مالم تدركه الحكومة الإنتقالية أو تعمل على تفاديه بقاء النخب السياسية أسيرة عقلية غير قابلة للإستفداة من تجاربها ، أو الإصغاء إلى حركة التاريخ أو أصوات الجماهير. أكثر من ذلك تصميم تلك النخب على العودة إلى المربع الصفر عند كل منحنى تاريخي. هي تعود في كل مرة بعقليتها المشبّعة بالتشرزم ومنهجها المشرّب بالإقصاء. الحديث عن إنجاز مشروع وطني في غياب الحد الممكن من التوافق والإنسجام يصبح ضربا من الحرث في البحر. حينما تكون مكونات الحاضنة قاطرة لتغيير مفترض تناضل في كل مرة من أجل الإحتفاظ بامتيازاتها الأبوية وأسلحتها العتيقة على التجيش والتهميش والإقصاء.
*** *** *** طريق الإنجاز أمام الحكومة الإنتقالية يمر بالقفز فوق الحاضنة ليس بالإتكاء عليها. بتلك القفزة تلتحم الحكومة بشارع الثورة المحتشد بجماهيرها اليقظة ، هو مصدر وقود ها غير القابل للنفاد وظهيرها الوفي الباسل .عندئذٍ لن تجد الحاضنة خيارا غير التجاوب مع إيقاع الشارع والسعي لمواكبته أو – على الأقل ملاحقته- خشية الإصطدام به على أمل لإحتفاظ بما بين يديها من إمتيازات. من غير المستبعد دخول كل مكوناتها أو بعض منها في مساومات . لكنها تفعل ذلك وقتئذٍ من مواقع الضعف ليس عبر الإملاء كما تحاول حالياً. كلاهما مكونات الحاضنة والحكومة الإنتقالية لم يدركا صعوبة بل استحالة إنجاز مرحلة جديدة تلبي نهم جماهير الثورة بعقلية قديمة.
*** *** *** ربما أهدرت الحكومة الإنتقالية فرصة تاريخية على درب الإنجاز غير أنها لم تبدد بعد رصيدها من المخزون الشعبي. فقط عليها التسلح بالجرأة واليقين بعزم الشعب على عبور مرحلة فاصلة حاسمة يتحرر فيها من كافة اشكال الإستعصاء والإستقواء والإصطراع. كما يتطهر إبانها من جميع طقوس التخوين، التحريض والتخذيل. نحن نطل من على شرفة نجدد تحتها مكوناتنا السياسية بحيث تخرج من عباءة الشخصنة الفردية والإرث العائلي إلى مقام العمل المؤسسي. أحد مفاسد جميع أحزابنا ارتكازها على شرعية الكاريزما بديلا عن تكريس روح الفريق ونسق المؤسسة. الحاضنة لا تزال كما حكومتها سادرة في نهجها دون محاولة الإلتفات إلى ان ذلك االنهج هو شكل من ممارسة الانتحار البطيء.