عُـمَـر بابِكـر شُـوْنَة: وَفـاءُ “الإنـقـاذِ” لِسُــفـرائـهَـا
أقربُ إلى القلب:
jamalim@yahoo.com
(1)
عملتُ مع السفير الرّاحل عمر بابكر شـونة في الإدارة العامّة للشئون القنصلية بوزارة الخارجية السودانية ، في أواخر أعوام تسعينات القرن العشرين ، بعد أنْ عُـدّتُ من تهران شتاء عام 1998م، وقيادة وزارة الخارجية وقتذاك ناقمة عليّ، إذ عدت منها دون أن تعتمدني الخارجية الإيرانية- لأسبابٍ تخصّها- نائباً لرئيس البعثة هناك بدرجة سفير. تلك قصّة لا أرغب في الخوض في تفاصيلها هنا، ولم يكن للرّاحل عمر شـونة صلة بها. كان معروفاً وقتذاك، أنَّ من تنـقـم عليه قيادة وزارة الخارجية من سفرائها ودبلوماسييها ، تدفع به بعيداً عن نظرها إلى إداراتٍ صنفتها "طـرفـية" في وزارة الخارجية. للإسلامويين خبراتٌ في تفصيلِ المُحاصصاتِ وقصاصِ التمكيـنِ وظلاماتِ التهميش، يحسدهم عليها بقية البشر.
الإدارة العامّة للمراسم والإدارة العامة للشئون القنصلية ، وإدارة البحوث- نعم البحوث- هيَ من الإدارات العامة التي تخصّص بمعايير المسكوت عنهُ، لِـمَنْ لا ترضى عنهم قيادة الوزارة. أما بقية الإدارات في الوزارة فلم يكن يتولى إدارتها في معظم أحوال حكم "الإنقـاذ" إلا أصحاب الولاء الأكيد لتوجّهاتها وأساليب سيطرتها العضوض. .
(2)
لسـببٍ يتصل بمزاج قيادة وزارة الخارجية، في أواخر تسعينات القرن الماضي، فإنها لم تكن راضية عن ثلاثة ســفراء في رئاسة الوزارة وقتذاك، وهُـم السـفير الرّاحل عمر شونة بعد أن أكمل مهمته سفيراً للسودان في تركيا ، والســفير عبدالمنعم مبروك بعد إزاحته من إدارة الإعلام لأسبابٍ يعلمها الوزير ، وثالثهم السـفير جمال ابراهيم ، كاتب هذه السطور ، لعودته من تهران على نحوٍ رأتْ قيادة الوزارة، أنّهُ أضرّ بالعلاقات الثنائية بين السودان وإيران. . ! كان طبيعياً أن يدفع بأولئك السـفراء الثلاثة بعيداً إلى الإدارة العامة للشئون القتصلية . تلك إدارة في حساباتهم " طرفية" : هي منفىً وسجنٌ أشبه بسجن "شـــالا" في شمال دارفور. .!
بعد أن خفَّـتْ الغضبة المُضرية علي شخصي الضعيف ، قرّرتْ وزارة الخارجية نقـلي للإلتحاق بإحدى سفاراتـنـا بالخارج التي تتطلب أن يكون نائب رئيس البعثة فيها، دبلوماسياً بدرجة سفير أيضاً. كانت تلك بداية مهمتي في لنـدن ، مساعداً للرّاحل حسن عابدين، والتي امتدتْ من عام 2000م إلى عام 2004م.
(3)
بعد أشهرٍ قليلة من وصولي إلى لندن وتكليفي بالإشراف على النواحي الإدارية والمالية في سفارتنا هناك ، إلى جانبِ مهـامٍ سياسية إضافية ، راسـلني بحكم الاختصاص الأخ السـفير عبدالحليم بابو فاتح من رئاسة الوزارة في الخرطوم، وقد كان وقتذاك في إدارة الشئون الإدارية بالوزارة - إنْ لم تخـني الذاكرة- يفيدني بالعلّة الخطيرة التي أصابتْ مدير عام الشئون القنصلية السفير عمر شونة. من جانبي منحتُ الموضوع جُلّ اهتمامي ، إذ قبل مغادرتي إلى لندن، كنـتُ في تلك الإدارة العامة للشئون القنصلية، وقريباً من السـفير الكبير شـونة واحتفت بعلاقة حميمة معه. حينَ طلبتُ التقرير الطبّي للسفير الكبير ، ووافاني به السفير بابوفاتح، فإنهُ أتبعه بمكالمة هاتفية، نقل إليَّ عبرها تردّي حالة السـفير شـونة بعد أن تملك جسده ورم سرطاني مُخيف. ذكر لي بابو فاتح أنه سيوافيني بالتقرير الطبي على أن نوافيه بمبلغ تكلفة العلاج في لندن ، وقد اتفقنا أن تكون تقديرات مناسبة تغطي تكلفة العلاج، وأنّ قيادة الوزارة حسـبما فهمت منه، على استعداد لأقصى مساعدة. في اتصالي بالطبيب السوداني أيوب بيه في مستشفى "كرومويل" الشهير في منطقة "نايتسبريدج" وسط لندن، والذي يعاوننا في علاج المرضى السودانيين ، طلبت منه أن يوافيني بالتقديرات وفق التقرير الطبي الذي بعث به إلينا السـفير بابوفاتح من الخرطوم. أتذكر تماماً أن المبلغ الذي وصلني من د. أيوب ، كان حوالي 60 ألف جنيه سترليني أو يزيد قليلا. أبرقتُ صديقنا بابو فاتح بالتقديرات وانتظرنا . ثمّ طال الانتظار بأكثر مما توقعت. .
(4)
برغم انشغالي بمهام السفارة في لنـدن، لكنّي ظللتُ ألاحق السـفير بابو فاتح برقياً بين يوم وآخر عن أحوال السفير شونة. فاتحني السفير بابو فاتح في آخر اتصال له معي، أنّ السفير شـونة سيسافر إلى المملكة السعودية ، إذ أنّ قريباً له من كبار الأطباء الاخصائيين في الرياض نصحه للعلاج هناك، ربّما لقرب المسافة إلى السعودية ، أما لندن فقد يكون في السفر إليها مشقة على السـفير شـونة.
تمنيتُ الشفاء للسـفير الكبير، ولم أظنّ أن وراء خيار السعودية ما وراءه ، إلى أن قدمتُ إلى الخرطوم في عطلتي السنوية ليتزامن وصولي مع رحيل السـفير عمر شونة، بعد أن لم يمهله الورمُ السرطاني فسحة للعلاج ، فتوفي في العاصمة السعودية ، وتم سـتر الجثمان في الخرطوم، وشملنا حزنٌ عميقٌ على رحيل ذلك السـفير النبيل. . على أنَّ القصة لم تنتهِ برحيله. جلستُ إلى بعض أصدقائي الدبلوماسيين في الإدارة العامة للشئون القنصلية التي كان يديرها السفير الرّاحل، فسمعتُ قصة تدمي القلب وزادتني حزناً مضاعفاً. .
(5)
وأنا في عطلتي السنوية في الخرطوم، حـدّثـني من أثق في صدق روايته من بينَ أولئك الأصدقاء الدبلوماسيين، أنّ البرقية التي بعثنا بها من سفارتنا في لندن بتكلفة علاج السّـفيرعمر شـونة ، تمّ رفعها بمذكرة داخلية لإطلاع قيادة الوزارة بغرض استصدار الموافقة على علاجه في لـنـدن، وبما يتاح للوزارة أن تساعد ولو بقـدرٍ في تغطية التكلفة . ذلك تقليد مُتبعٌ أعرفه جيّداً ، فأنا أشرف على النواحي الإدارية والمالية في السفارة، ولم تكن الوزارة عادة تتردّد في موافاتنا بما يمكننا من تغطية تكلفة علاج بعض الحالات المستعصية لسـفراء يأتون للعلاج في لندن. . وبما يفوق ذلك المبلغ الذي قدرته مستشفى "كرومويل" لعلاج السـفير عُـمـرشــونة.
(6)
حـدّثـني من وثقتُ في روايتهم، أنَّ ملف طلب الموافقة على علاج السـفير عمر شـونة وفق توصية السفارة في لندن، جاء بهِ موظفٌ من مكتب الوزيـر، وقـدّمه إلى السـفير شـونة العليل في مكتبه . تسـلّـمَ الملفَّ ، واطلع على ما فيه، ثم تفاجأ بتعليق قيادة الوزارة، فابتأس من موافـقـتها على المساهمة في علاجه في حدود الألف أو ألفي دولار أمريكي . بين الألف والستين ألف بون شاسع. تمعّـن السّــفيـرعـمـر شـونة في ذلك الملف، وتأكّـد من خط وتوقيع قيادة الوزارة العليا، فامتقع وجههُ. طوَى السَّــفير شـونة ذلك الملف وقذف بهِ إلى سـلة المُهملات تحت مكتبه . قال لي الرَّجل والحسـرة تكاد تقتله ، أنّ السـفير عمـر شـونة سـعَى بعد ذلك للتواصل مع بعض أهله المقيميـن في العاصمة السعودية . غادر ذلك الســفير النبيل للعلاج في إحدى مستشفيات السعودية، إلا أنّ استفحال الورم الخبيث فوَّتَ أوان محاصرته، فتوفي في المملكة السعودية أوائل العقد الأول في الألفية الثالثة. .
(7)
أمسكتُ عليَّ دموعي على السفير الرّاحل عمر شـونة. ما أتعسـني أنا الذي أعمل في تلك الوزارة التي لا تعـرف قيادتها "الإنقـاذية" ، وفـاءاً لســفيـرٍ قضَى قـرابة ثلاثين عاماً في خدمة الدبلوماسية السودانية وخدمة وطنه، لكنّها تعي تماماً أنّهُ ليس ســفيراً "إسـلاموياً" على مِلـتها. .
رحَم الله السّفير النبيل عمر بابكر شـونة، رحمة واسعة وألهم آله وأسرته وأصدقائه الصّبر على فـقـده العظيم، وأنْ يُذكِّـر عارفي أفضاله كيف يكون الوفـاء ، إنه سميع مجيب.
الخرطوم- 1/2/2021