حول أَنْسَنة التنمية المستدامة في السودان 

 


 

 

تعد الأهداف العالمية المعروفة بالتنمية المستدامة (الواردة في جدول أعمال الأمم المتحدة لعام 2030م للتنمية المستدامة) واحدة من أهم الأعمال التي تضمن تمتع جميع الناس بالسلام والازدهار. ولهذه الأعمال سبعة عشر هدفاً. وترْمِي هذه الأهداف المترابطة في مجملها لتحقيق حلول للقضايا المرتبطة بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية والرفاه الإنساني كأساس لمجتمعات حيوية وذات اقتصاد مزدهر. ومعلوم أن هذه الأهداف ليست ملزمة قانونياً، إلا أن الحكومات تضعها ضمن الأطر الوطنية التي ترمي لتحقيقها.

وتقتضي أهداف التنمية المستدامة العمل بروح الشراكة وبشكل عملي بين الحكومات والمجتمع لتنفيذ الخيارات التصحيحية لتحسين الحياة، تحت شعار التحول نحو مجتمعات مستدامة ومرنة للأجيال الحالية والقادمة، مع الأخذ في الاعتبار العديد من التحديات التي تواجه العالم بأسره من تغير في المناخ، ونقص في الموارد الطبيعية، فضلا عن ازدياد الصراعات الدولية والاقليمية، التي تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على البيئة، وعلى الإنسان من قبل ذلك كله.

ويعتبر مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية هو نقطة الانطلاق لتحقيق التنمية المستدامة، حيث ترتكز التنمية المستدامة في مختلف البلدان على مراعاة مبادئ الكرامة والمساواة بين الأشخاص. وتعتبر مكافحة الفقر وضمان إنتفاع الجميع بالرعاية الطبية والغذاء وتأمين التعليم الجيد والحرص على تحقيق المساواة بين الجنسين من أساسيات المجتمع المستدام الذي تسود فيه المساواة.

والهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة هو "التعليم الجيد". وهو وفق تعريف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: "... تحقيق التعليم الجيد والشامل للجميع... يؤكد على القناعة بأن التعليم هو أحد أكثر الوسائل قوة وثباتا لتحقيق التنمية المستدامة. ويكفل هذا الهدف أن يكمل جميع البنات والبنين التعليم الابتدائي والثانوي المجاني بحلول عام 2030م. كما يهدف إلى توفير فرص متساوية للحصول على التدريب المهني وتكون في متناول الجميع، والقضاء على الفوارق في إتاحة التعليم بسبب الجنس أو الثروة، وتحقيق حصول الجميع على تعليم عالي الجودة".

وتتضمن مفاهيم "الأَنْسَنة" ذلك التعليم الذي يراعي إنسانية المتعلم، ويتم فيه تهيئة مواقف وخبرات ونشاطات تساعده على استغلال طاقاته الإبداعية وقدراته، لكي تتيح فرصًا لإظهار مشاعره وانفعالاته، وتساعده على تنمية شخصيته". وتحقيق أهداف التنمية المستدامة من الأمور التي قد تحدث تطورا كبيرا في إنسان الدول المستهدفة، الذي تنقصه الكثير من الحقوق الإنسانية الأساسية.

ويرتكز مفهوم "الأَنْسَنة “على إصلاح المشاكل الإنسانية والتقليل منها، والتي تتمثل في حفظ الكرامة الإنسانية، والتركيز على أن الانسان ذو قيمة، ولصالحه يجب تسخير كل الموارد وكلما من شأنه أن يحفظ حقوقه. وعند ربط رابع أهداف التنمية المستدامة "التعليم الجيد" بمفهوم أَنْسَنة التعليم نجد أن الأمر يشمل كافة المعنيين بصناعة التعليم والعوامل التربوية المرتبطة بها من معلمين وإداريين وسلطات تربوية.

إن الاعتراف بالتعليم كحق من حقوق الإنسان لا يعالج إلا جانبا واحدا من المشكلة. فمن الممكن توفير حرية الوصول إلى جميع مستويات التعليم دون تغيير مضامين التدريس أو مناهجه وتصبح النتيجة تعليما تعوزه الجودة. ومعلوم أن التعليم الحديث لم يعد مجرد تلقين للمواد المختلفة، بل هو مركز لاكتساب مفاهيم أكبر أهمها إنتاج الإنسان، وبنائه نفسياً وجسدياً وروحياً واجتماعياً. كما يسهم التعليم الحديث في التعرف على إنسانية المتعلم ورعايتها، فيصبح الدور الأساس للتعليم هو غرس المعرفة والثقة لدى الطالب ومساعدته على التكيف مع المهارات المختلفة، ويصبح قادراً على إحداث فرق في مجتمعه، ويساهم في بناء مستقبل أفضل.

لقد كانت منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا قد سعت تاريخياً - منذ ستينيات القرن الماضي - للنهوض بالتعليم من خلال الوصول المتكافئ لفرص التعليم الرسمي وتقليل الفجوة بين الجنسين في مستويات التعليم، وزيادة معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة، وإدخال مرحلة ما قبل التعليم الابتدائي. وبذلت محاولات متباينة لإزالة التفاوتات بين المناطق الريفية والحضرية. ثم توالى لاَحِقا التوسع على مستوى التعليم العالي.

وكما كان سابقا في الأنظمة التقليدية يعتمد التعليم الابتدائي اعتمادا كبيرا على نقل كمية معينة من المعارف يحفظها التلميذ. بينما يهدف التعليم الثانوي لاستيعاب مناهج تكون أكثر انفتاحا، وتزيد من ثقافة الطالب العامة.  وفي كلتي الحالتين كانت الأنظمة التربوية تعتمد بالأساس على النصوص المرجعية وما يذكره المعلم في الفصل. غير أن غالب أو كل ما يدرس موجه فقط للاستجابة لمتطلبات الامتحانات.

أما الآن فقد عاود التباين في حق الحصول على التعليم مع تزايد الصراعات المسلحة وحالات الطوارئ الأخرى من كوارث طبيعية وغيرها وما صاحبها من زيادة كبيرة في معدلات الفقر، مما أفضى إلى زيادة كبيرة في أعداد الأطفال خارج المدارس، وتقليل جودة التعليم المتوقع الحصول عليها. ودائما ما تسعى الدول التي تعاني من مشاكل تنموية إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة في التعليم بالطرق التقليدية من خلال مقياس الزيادة الكبيرة في معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة وسط السكان كأحد أهم المؤشرات لتحسن خدمات التعليم. إلا أن العالم من حولنا انتقل من طرق التعليم التقليدية إلى مراحل التعليم الالكتروني والتكنولوجي.

وبالنظر لوضع السودان في تحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة (التعليم الجيد)، نجد أن البلاد لم تحرز نجاحا كبيرا في إحداث  أي نوع من أنواع  التطور في مجال التعليم بذات القدر الذي كان يحرزه منذ ستينيات القرن الماضي على مستوى القارة الافريقية في مجالات التعليم الاكاديمي والتقني، وإنصبت جهود الدولة حينها في الاهتمام بزيادة المرافق التعليمية بكافة مراحلها دون اهتمام بمعايير جودة التعليم .كذلك كان التعليم في الماضي أداةً  تستغل في خدمة السياسة الوطنية. وكثيرا ما استخدم التعليم لغرس أفكار التفوق وتغذية النزعات الانفصالية أو العنصرية. ولم يتم الاهتمام بوضع العلوم الإنسانية في جوهر برامجها التعليمية، فقد تم توجيه اهتمام أكبر للجانب الشكلي للتعليم مما أدى إلى إهمال بعده الإنساني.

والآن، والسودان يستشرف عهدا جديدا من التغيير والانخراط في المجتمع الدولي الذي تتزاحم فيه الدول متنافسة لتحقيق التقدم في كافة المجالات، وترتكز على التعليم فيه بإعتباره المحرك الأساسي للاستثمار في الطاقات البشرية، ينبغي على قادته ايلاء قطاع التعليم المزيد من الاصلاح، من خلال تكثيف الجهود نحو التعليم الجيد، بوضع الاستراتيجيات الحديثة للنظام التعليمي بكافة جوانبه من أجل بناء الإنسان بناءً صحيحًا على أسس وقواعد سليمة قوية لبناء مجتمعات متقدمة حضارياً واقتصادياً واجتماعياً، وبالعمل على توفير نوعية من تعليم حديث يقود البلاد  في طريق التقدم المنشود.

ويعتبر إصلاح التعليم في السودان دافعا قويا نحو أَنْسَنة التعليم من أجل الإعداد لمستقبل أفضل ينصب فيه الاهتمام بالطالب كإنسان قادر على تخطي الأزمات والخلافات التي تسود المجتمعات. غير أن غالب مفاهيم أَنْسَنة التعليم مفتقدة للأسف في منهجية التعليم الحالية في السودان، حيث يحتاج التعليم إلى وضع منهجية قومية تغرس فيها مفاهيم الابتكار والتطوير والوسطية ونبذ التطرّف والعنصرية، وتحويل المعرفة التي يكتسبها إلى مزيج من الثقة بالنفس والتفكير الابداعي ومهارات مختلفة لا تتخلى عن المساهمة في العمل التطوعي والجماعي. كذلك يفرض التنوع في طبيعة تكوين السودان القبلي والعرقي أن يركز التعليم على غرس الأمل والتفاؤل والنظرة الإيجابية نحو الوطن الواحد كقيمة عالية، وتعزيز ثقافة الحوار واحترام التنوع الثقافي والحضاري ونبذ التطرّف والمحسوبية والفساد. كذلك يجب على المدرسة، من خلال مناهجها التي تغرس أشكالا متعددة من الثقافة، أن تنمي أنماطا ثقافية مختلفة بين طلابها حتى يصبحوا متطورين علميا وثقافيًا وفنيًا ويستطيعوا مشاركة ذلك مع الآخرين. كذلك تعتبر القدرة على التكيف هي أيضاً من المهارات التي تنمي القدرة على أدارة المواقف وتعلم أشياء جديدة، إما بقبول التغيير أو بإيجاد الحلول أو البدائل.

ويعد التعاون والعمل الجماعي من أهداف أَنْسَنة التعليم المهمة في المجتمعات المتعددة الثقافات والأعراق مثل السودان، وعند تنمية مهارات الطلاب في العمل مع الاخرين بانسجام وخاصة مع الطلاب المختلفين عنهم ثقافياً. فمثل هذا التعليم سيحدث بلا شك فرقاً في سلوك الطلاب في الحاضر والمستقبل، إذ أن عملية التعاون تولد أفكارا جديدة وتطور مهارات اجتماعية يحتاج إليها كل المواطنين في جميع مناحي الحياة المختلفة.

كذلك يجب الاهتمام ببرامج الخدمة المجتمعية التي يساهم فيها الطلاب في خدمة مجتمعهم المحلي المحيط بصورة إيجابية، ولاحقا يتطور مع المراحل التعليمية ليصل لمرحلة الخدمة للمجتمع الكبير، وذلك من باب الولاء والامتنان للمجتمع والوطن الجامع. ويجب عند تقديم الخدمة المجتمعية أن تخدم في نفس الوقت أهداف الفرد وطموحاته الفردية.

إن أَنْسَنة التعليم يمكن لها أن تسهم في بناء العديد من القدرات للفرد (الإنسان) ومساعدته على تنمية قدرته على اتخاذ القرارات، من خلال منهج تعليمي يحتوي على المشاكل والمسائل التي تسمح بالمحاورة لاتخاذ القرار (الصائب)، أو الانتقاد أو إصدار الأحكام. كذلك تنمي أَنْسَنة التعليم من التفكير الناقد من خلال القدرة على نقد الأفكار والاستماع والمناقشة والقدرة على تنفيذه لهذه الأفكار. فمهارة التفكير الناقد تنصب على مقدرة الفرد على الحكم على المعلومات الواردة من حيث صحتها وجودتها. ومعلوم أن مثل هذه المهارة أسهمت وتساهم في بناء العديد من المجتمعات الديموقراطية حيث يشارك الفرد في حكم مجتمعه.

كما يعد المعلم أحد حلقات أَنْسَنة التعليم، إذ أنه هو الذي يمكنه أن يحول المدرسة إلى جسد بلا روح أو العكس. ودور المعلم في دائرة أَنْسَنة التعليم يختص بكونه حلقة وصل مع المناهج في مساعدة (المتعلم) على أن يجيد العلوم من الناحية العملية وليس فقط من الناحية النظرية، حتى يتمكن الفرد التعلم وفق قدراته واستعداده للنمو والتطور ووفقا للظروف البيئية التي يتواجد فيها، هذا فضلاً عن البرامج التي تراعي الخصائص العمرية والاحتياجات الفردية. وكل هذا يهدف في النهاية إلى تحويل البيئة المدرسية / الجامعية إلى بيئة إنسانية تتبنى قيماً ومبادئاً قائمة على إحترام الانسان. كذلك لابد من أن يكون المعلم أكثر من مجرد مزوِّد للمعارف التي يتم اختبارها في الامتحانات. ولا بد تغيير وضع المعلمين بأن يرتقي إلى (أو يزيد عن) مستوى المهن الحرة الأخرى. كذلك لا بد من تكوين يجعل منه إنسانا حرا بموجب مهنته. وذلك لأن المعلم مطالب بتطوير شخصيات التلاميذ وتعليمهم ممارسة حرية التعبير والنقاش والإعلام والإختبار، وتوجيههم حتى يدركوا أن الحرية وحدها بدون الشعور بالمسؤولية، سرعان ما تصبح إخلالا بالآداب والسلوك غير المتحضر، وأن تعلّم الحرية يتطلب نوعا من الانضباط لاستيعاب كيفية تقدير العواقب الأخلاقية للسلوك.

نختم بالقول أن التعليم هو – بداهةً – حق من حقوق الإنسان الأساسية، و يتطلب إدراج حقوق الإنسان في برامج التعليم إصلاحا بطرق حديثة ومتدرجة، حتى يساهم التعليم في عمليات دفع النمو الاقتصادي للبلد على المدى الطويل، ويعزز من التماسك الاجتماعي والنمو، حيث يعد الاستثمار في التعليم أمرا بالغ الأهمية لتنمية رأس المال البشري الذي سينهي الفقر المدقع، حيث أن التعليم الجيد لا يحَسَّنَ الحياة فقط، بل هو الحياة نفسها.


nazikelhashmi@hotmail.com

 

آراء