أمريكا في أفغانستان: انسحاب بعد خراب
بابكر عباس الامين
22 July, 2021
22 July, 2021
يحزم الجنود الأمريكيون متاعهم مغادرين أفغانستان "مقبرة الإمبراطوريات" في انسحاب بدون شروط، بعد أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة، امتدت لنحو عشرين سنة. سيكتمل الانسحاب بنهاية أغسطس ليتزامن مع التاريخ ذي الرمزية: 11/9. بيْد أن الانسحاب ترافقه أمور تتناقض ومبادئ العسكرية، والأخلاق في حدودها الدنيا، وتفجّر تساؤلات، كإخلاء قاعدة "بارغام" الجوّية، على مشارف كابول، في منتصف الليل، ثم تعطيل شبكة الكهرباء التي تمدّها، ودون إشعار القادة العسكريين الأفغان، فكان أن تعرضت للسلب! في أثناء ذلك، تتقدم قوات طالبان وتسقط أمامها المقاطعة تلو الأخرى، وباتت تسيطر على نصف القطر، ومُعظم المعابر الحدودية مع دول الجوار، في بلد محروم من الثغور البحرية.
***
تدخل الولايات المتحدة في أفغانستان له تاريخ مديد، سبق دخول الجيش الأحمر السوفيتي، لزعزعة النظام الشيوعي في كابول، وإغراء موسكو، بالتالي، للتدخل لجرّها لـ"فيتنام السوفيتية". هكذا كانت استراتيجية زبغنيتو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر. على مستوي التنفيذ، تولّت المُهمة وكالة المخابرات المركزية "سي آي ايه" فيما عُرف بـ"عملية الإعصار"، بالتعاون مع الجنرال محمد ضياء الحق رئيس الباكستان (الذي أعدم ذوالفقار علي بوتو، المنتخب ديمقراطياً!). ولإنجازها، انصبّ التركيز على الفصائل الأفغانية ذات الميول الجهادية، رغم وجود تيارات وطنية وليبرالية مناوئة لنظام كابول. ضمن تلك الفصائل، كان "الحزب الإسلامي" بزعامة قلب الدين حكمتيار - الذي سيلعب دوراً إشكالياً - قد حظي بنصيب الأسد من الدعم: 600 مليون دولار. بشأن التمويل، كانت المملكة العربية السعودية تضاهي ما تجود به الولايات المتحدة، إذ بلغت ثلاثة مليار دولار في عهد رونالد ريغان، ووصلت في مُجمل العملية 20 مليار دولار. أيضاً، انخرطت في العملية المخابرات البريطانية "إم آي 6".
فقدت الولايات المتحدة الاهتمام بأفغانستان، أو بالأحرى تملّصت من مسؤوليتها، بعد استقالة الحكومة الشيوعية برئاسة محمد نجيب الله في 1992. إذ تجاهلت إعادة الإعمار، أو استغلال يدها الطولي على الفصائل لتشكيل حكومة وحدة وطنية، أو توظيف نفوذها مع "المجتمع الدولي" لفرض تسوية أو، على أقل تقدير، ابتكار آلية لجمع سلاح أمراء الحرب، فقد تم إنجاز المُهمة المُقدسة: "فيتنام السوفيتية". الذي حدث أن تلك الفصائل اصطرعت مع بعضها، ابتغاء السلطة في حرب أهلية دموية، امتدت حتى 1996، عندما بسطت طالبان سلطتها. وكان أشرس معارض للتسوية هو حكمتيار، الذي اقترف جرائم حرب، أثناء إمطار كابول بوابل من القصف الصاروخي، راح ضحيته ألوف المدنيين. قطع دعم الجهاديين سلسلة التقدّم، التي استهلها رئيس الوزراء محمد داود خان في الخمسينيات، بعد الإطاحة بالنظام الملكي وإحلال الجمهورية مكانه، كالإصلاح الزراعي، فصل الدين عن الدولة، وحضور المرأة في الفضاء العام، في التعليم الجامعي وسوق العمل، فاُستبدل بثقافة البُرقع. وبات القطرُ مُتّكأ ومرتعاً لجهاديين وإرهابيين، ستنفذ خلاياهم عمليات في أربع رياح الأرض، مصعب الزرقاوي، رمزي يوسف (مُدبّر عملية تفجير مركز التجارة العالمي في 1993)، أيمن الظواهري، و...أسامة بن لادن. هذا فضلاً عن "العرب الأفغان" الذين شرعوا في حملة عنف سالت خلالها الدماء مِدرارا، وحصدت ألوف الأنفس، في مواطن شتي كالجزائر ومصر وكشمير. أبعد من ذلك، ولشدّة المفارقة، ارتداد السحر علي الساحر في القصة المعروفة!
أعاد الاحتلال في 2001 "الحملة الصليبية" التي أعلنها جورج بوش الابن، إلى الصدارة الانحدار الأخلاقي للولايات المتحدة، في خرق القانونين الإنساني والدولي، كما تبدّي في ظاهرة "البُقع السوداء"، سجون سريّة تديرها سي آي ايه، في دول عديدة مثل تايلاند، لتوانيا، بولندا، ورومانيا، تُمتهن فيها الكرامة الإنسانية. وكذا، ما حدث - ويحدث - من تعذيب في غوانتنامو، لا يقل نكالاً عمّا يجري في سجون أعتي الدكتاتوريات. في هذا السجن، حُبس 780 شخصاً، خُطف العديد منهم في عواصم ومطارات بمساعدة دول الاستبداد العربية العميلة، مصر والمغرب وقطر، ولم تتم إدانتهم بأية جريمة ما خلا اثنين. في الأسبوع الماضي، أُطلق سراح أحد نزلائه، عبداللطيف ناصر، مواطن مغربي، بعد خصم 19 سنة من عمره في حبس انفرادي، لعدم وجود ما يدينه، هكذا بل بساطة! (وعد أوباما في حملته الانتخابية في 2008 بإغلاق غوانتنامو، ثم كرّر الوعد في 2013، لأنه "يناقض القيم الأمريكية"، ولا يزال يحتجز أسري!). نعود لحكمتيار، الذي أعلن الجهاد على حكومة ما بعد الغزو بزعامة حامد كرزاي، وعلى قوات التحالف، ونفذ عمليات قُتل خلالها عدد من جنود الأخير. ذلك ما حدا بالولايات المتحدة أن تدرجه في "القائمة الدولية الخاصة بالإرهابيين"، فمقتل الجنود الروس كان "جهاداً" في خِضمّ "حركة تحرر"، بينما قتل جُند التحالف يجعله جديراً أن يُوضع في تلك القائمة.
أجَلْ، أفلحت الولايات المتحدة، وبرعت في إنجاز "فيتنام السوفيتية"، غير أن أفغانستان أضحت بعد الاحتلال "فيتنام ثانية" بالنسبة لها، ليس من ناحية عدد الجنود القتلى، إنما في الكلفة التي بلغت تريليوني دولار، بينما كانت كلفة الحرب في الهند الصينية تريليون دولار، بقيمة هذه العملة حالياً. (تفوق كلفة احتلال أفغانستان ميزانية خطة مارشال!). وحتى بمنظور القضاء على "القاعدة"، الذي كان ذريعة الاحتلال، والتي كاد وجودها أن ينحصر في أفغانستان، نجد أن فروعها قد استطالت وتمدّدت وأثمرت، أو نشأت حركات استلهمت آيدلوجيتها في بقاع عديدة: "قاعدة الجهاد في جزيرة العرب"، "القاعدة في شبه القارة الهندية"، "القاعدة في المغرب الإسلامي"، "حركة الشباب" الصومالية، "بوكو حرام" غرب إفريقية، "جبهة النصرة" السورية، " وتنظيم الدولة "داعش". الأهم من هذي وهاتيك، ويثير الأسي، ما حاق بالأفغان من مآسٍ: أكثر من مليون قتيل، ثلاثة ملايين ونصف نازح، مليوني لاجئ، نصف مليون مُعوّق، الثلث يعاني من عِلل عقلية، النصف يعيش أسفل خط الفقر، وأربعة ملايين طفل لم يروا مدارس!
وإن لم يكن هذا الخراب عينه، فكيف يكون!
babiker200@yahoo.ca
***
تدخل الولايات المتحدة في أفغانستان له تاريخ مديد، سبق دخول الجيش الأحمر السوفيتي، لزعزعة النظام الشيوعي في كابول، وإغراء موسكو، بالتالي، للتدخل لجرّها لـ"فيتنام السوفيتية". هكذا كانت استراتيجية زبغنيتو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر. على مستوي التنفيذ، تولّت المُهمة وكالة المخابرات المركزية "سي آي ايه" فيما عُرف بـ"عملية الإعصار"، بالتعاون مع الجنرال محمد ضياء الحق رئيس الباكستان (الذي أعدم ذوالفقار علي بوتو، المنتخب ديمقراطياً!). ولإنجازها، انصبّ التركيز على الفصائل الأفغانية ذات الميول الجهادية، رغم وجود تيارات وطنية وليبرالية مناوئة لنظام كابول. ضمن تلك الفصائل، كان "الحزب الإسلامي" بزعامة قلب الدين حكمتيار - الذي سيلعب دوراً إشكالياً - قد حظي بنصيب الأسد من الدعم: 600 مليون دولار. بشأن التمويل، كانت المملكة العربية السعودية تضاهي ما تجود به الولايات المتحدة، إذ بلغت ثلاثة مليار دولار في عهد رونالد ريغان، ووصلت في مُجمل العملية 20 مليار دولار. أيضاً، انخرطت في العملية المخابرات البريطانية "إم آي 6".
فقدت الولايات المتحدة الاهتمام بأفغانستان، أو بالأحرى تملّصت من مسؤوليتها، بعد استقالة الحكومة الشيوعية برئاسة محمد نجيب الله في 1992. إذ تجاهلت إعادة الإعمار، أو استغلال يدها الطولي على الفصائل لتشكيل حكومة وحدة وطنية، أو توظيف نفوذها مع "المجتمع الدولي" لفرض تسوية أو، على أقل تقدير، ابتكار آلية لجمع سلاح أمراء الحرب، فقد تم إنجاز المُهمة المُقدسة: "فيتنام السوفيتية". الذي حدث أن تلك الفصائل اصطرعت مع بعضها، ابتغاء السلطة في حرب أهلية دموية، امتدت حتى 1996، عندما بسطت طالبان سلطتها. وكان أشرس معارض للتسوية هو حكمتيار، الذي اقترف جرائم حرب، أثناء إمطار كابول بوابل من القصف الصاروخي، راح ضحيته ألوف المدنيين. قطع دعم الجهاديين سلسلة التقدّم، التي استهلها رئيس الوزراء محمد داود خان في الخمسينيات، بعد الإطاحة بالنظام الملكي وإحلال الجمهورية مكانه، كالإصلاح الزراعي، فصل الدين عن الدولة، وحضور المرأة في الفضاء العام، في التعليم الجامعي وسوق العمل، فاُستبدل بثقافة البُرقع. وبات القطرُ مُتّكأ ومرتعاً لجهاديين وإرهابيين، ستنفذ خلاياهم عمليات في أربع رياح الأرض، مصعب الزرقاوي، رمزي يوسف (مُدبّر عملية تفجير مركز التجارة العالمي في 1993)، أيمن الظواهري، و...أسامة بن لادن. هذا فضلاً عن "العرب الأفغان" الذين شرعوا في حملة عنف سالت خلالها الدماء مِدرارا، وحصدت ألوف الأنفس، في مواطن شتي كالجزائر ومصر وكشمير. أبعد من ذلك، ولشدّة المفارقة، ارتداد السحر علي الساحر في القصة المعروفة!
أعاد الاحتلال في 2001 "الحملة الصليبية" التي أعلنها جورج بوش الابن، إلى الصدارة الانحدار الأخلاقي للولايات المتحدة، في خرق القانونين الإنساني والدولي، كما تبدّي في ظاهرة "البُقع السوداء"، سجون سريّة تديرها سي آي ايه، في دول عديدة مثل تايلاند، لتوانيا، بولندا، ورومانيا، تُمتهن فيها الكرامة الإنسانية. وكذا، ما حدث - ويحدث - من تعذيب في غوانتنامو، لا يقل نكالاً عمّا يجري في سجون أعتي الدكتاتوريات. في هذا السجن، حُبس 780 شخصاً، خُطف العديد منهم في عواصم ومطارات بمساعدة دول الاستبداد العربية العميلة، مصر والمغرب وقطر، ولم تتم إدانتهم بأية جريمة ما خلا اثنين. في الأسبوع الماضي، أُطلق سراح أحد نزلائه، عبداللطيف ناصر، مواطن مغربي، بعد خصم 19 سنة من عمره في حبس انفرادي، لعدم وجود ما يدينه، هكذا بل بساطة! (وعد أوباما في حملته الانتخابية في 2008 بإغلاق غوانتنامو، ثم كرّر الوعد في 2013، لأنه "يناقض القيم الأمريكية"، ولا يزال يحتجز أسري!). نعود لحكمتيار، الذي أعلن الجهاد على حكومة ما بعد الغزو بزعامة حامد كرزاي، وعلى قوات التحالف، ونفذ عمليات قُتل خلالها عدد من جنود الأخير. ذلك ما حدا بالولايات المتحدة أن تدرجه في "القائمة الدولية الخاصة بالإرهابيين"، فمقتل الجنود الروس كان "جهاداً" في خِضمّ "حركة تحرر"، بينما قتل جُند التحالف يجعله جديراً أن يُوضع في تلك القائمة.
أجَلْ، أفلحت الولايات المتحدة، وبرعت في إنجاز "فيتنام السوفيتية"، غير أن أفغانستان أضحت بعد الاحتلال "فيتنام ثانية" بالنسبة لها، ليس من ناحية عدد الجنود القتلى، إنما في الكلفة التي بلغت تريليوني دولار، بينما كانت كلفة الحرب في الهند الصينية تريليون دولار، بقيمة هذه العملة حالياً. (تفوق كلفة احتلال أفغانستان ميزانية خطة مارشال!). وحتى بمنظور القضاء على "القاعدة"، الذي كان ذريعة الاحتلال، والتي كاد وجودها أن ينحصر في أفغانستان، نجد أن فروعها قد استطالت وتمدّدت وأثمرت، أو نشأت حركات استلهمت آيدلوجيتها في بقاع عديدة: "قاعدة الجهاد في جزيرة العرب"، "القاعدة في شبه القارة الهندية"، "القاعدة في المغرب الإسلامي"، "حركة الشباب" الصومالية، "بوكو حرام" غرب إفريقية، "جبهة النصرة" السورية، " وتنظيم الدولة "داعش". الأهم من هذي وهاتيك، ويثير الأسي، ما حاق بالأفغان من مآسٍ: أكثر من مليون قتيل، ثلاثة ملايين ونصف نازح، مليوني لاجئ، نصف مليون مُعوّق، الثلث يعاني من عِلل عقلية، النصف يعيش أسفل خط الفقر، وأربعة ملايين طفل لم يروا مدارس!
وإن لم يكن هذا الخراب عينه، فكيف يكون!
babiker200@yahoo.ca