الفصل التاسع من كتاب “ما وراء السودان الحديث “في مستوطنة لمرض النوم”
بدر الدين حامد الهاشمي
7 August, 2021
7 August, 2021
الفصل التاسع من كتاب "ما وراء السودان الحديث Behind The Modern Sudan"
في مستوطنة لمرض النوم
In a Sleeping Sickness Settlement
Henry Cecil Jackson هنري سيسيل جاكسون
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة للفصل التاسع من كتاب "ما وراء السودان الحديث Beyond the Modern Sudan"، للإداري البريطاني هنري سيسيل جاكسون. نشرت دار نشر ماكميلان الكتاب في لندن عام 1955م.
عمل جاكسون في مجال الإدارة بالسودان لأربعة وعشرين عاما متصلة، وحكم مديريتي بربر وحلفا، ولخص تجربته في الحكم والإدارة في عدد من المقالات والكتب التي وصف في بعضها عادات السودانيين وأمثالهم في مختلف المديريات التي عمل فيها، وأرَّخَ في بعضها الآخر لبعض الشخصيات السودانية مثل عثمان دقنة والزبير باشا رحمة. وقد ترجمنا من قبل بعض فصول هذا الكتاب، ومقتطفات من بعض كتب ومقالات مختلفة لهذا الإداري الكاتب.
الشكر موصول للأستاذ سيف الدين عبد الحميد لترجمته بعض أبيات لروديارد كيبلينجRudyard Kipling وردت في نهاية هذا الفصل، وهي من قصيدته .The Songs of the Women
المترجم
****** ******** *********
كنت أتنفّس الصعداء عندما أبدأ السير في مأمورية تفتيشية طويلة إذ أنني كنت أعلم أنه – إن حالفني الحظ - قد لا يكون علي خلالها أن أحكم في أي قضايا جنائية على الإطلاق. وبدأت واحدة من أمثال تلك الرحلات السعيدة في خريف 1926م عندما غادرت واو في رحلة لجنوب مديرية بحر الغزال تستغرق ثلاثة أشهر. وأسعدني الحظ بأن أرافق في تلك الرحلة الرائد ووربيرتون Warburton )من الفيلق الطبي بالجيش الملكي)، وهو صاحب حماسة مرحة لا تخبو. أخذنا معنا نحو خمسين حمالا وسرنا لاثْنَيْ عشر يوما، أحيانا على عجلات هوائية، ولكن في الغالب على الأقدام، حتى بلغنا المرحلة الأولى لرحلتنا.
وبدأت الشمس تسدل استارها إيذانا بالمغيب خلف أشجار مهوقني طويلة ونحن نقود دراجتنا الهوائية على طريق مصفوف بأشجار الموز والموز الأفريقي (plantains) نحو مستوطنة مرض النوم بمنطقة Source Yubo في أراضي الزاندي. وكان حَمّالونا قد وصلوا قبلنا بوقت طويل، إذ كانوا قد قطعوا مسافة خمسة وعشرين ميلا (40.2 كيلومتر) من آخر معسكر لنا في "طمبرة" في أقل من عشر ساعات، رغم أن كل واحد منهم كان يحمل على رأسه ستين رطلا (27.2 كيلوجرام). لا بد أن حافزهم للإسراع بتلك الطريقة كان هو ظنهم بأننا سنقضي عدة أيام للاستراحة في المستوطنة. وعند وصولنا وجدنا أن متاعنا قد صُفَّ بترتيب حسن في شرفة (فراندة) استراحة معروشة بالقش، ستكون مقرنا لأسبوع أو أسبوعين. ومُلِئَتْ بالماء حماماتنا المصنوعة من قماش الكتان الغليظ. ووضع الخدم أيضا شمعدانا (حامل عليه شمعة – أو شموع - محاط بكرة زجاجية لمنع الريح من إطفاء الشمعة) على طاولة يعطي ضوءا مريحا على قوارير الويسكي وعصير الليمون، مع مَثْعَب (سايفون) لمشروب الصودا الفوارة (sparklet soda siphon). وصفوا بعناية على الطاولة أيضا ثلاثة أقداح. وكانت خلفنا غابة مظلمة مَشْحُونة بالأسرار، تمتد لحدود الكنغو، ولأميال (غير محددة) لما بعد تلك الحدود. وكانت هناك أيضا مزرعة كبيرة مقسمة بنظام حسن إلى قطع زراعية تُزْرَعُ فيها الذرة والخضروات وأشجار الفواكه. وكان من العسير أن يدرك المرء أن هذه الأجواء البديعة الساكنة قريبة من أناس كُتِبَ عليهم أن يلقوا ميتة مؤلمة، وأن هنالك كُثر غيرهم كانوا سيلقون ذات المصير التعيس لولا تفاني وإخلاص القليل من الأطباء البريطانيين والسوريين. رأينا الآن واحدا من هؤلاء الأطباء (اسمه باز Baz) يقبل علينا. وقابلت كثيرا في غضون الأسبوعين التاليين ذلك الرجل القصير المرح الطيب الروح. وسمعت منه، ونحن جُلُوس حول طاولة مشاريبنا المسائية، تفاصيل ما كنت أجهله عما يُحدثه مرض النوم من فتك وبيل بضحيته. وبفضل دكتور باز وأمثاله من الأطباء كان بإمكان ثلاثتنا أن نجلس وسط ذلك المرض الخطير دون خوف من أن نصاب به. ولاحقا سعدنا كثيرا بنيل دكتور باز وسام الإمبراطورية البريطانية (OBE) لما قام به من أعمال مجيدة.
كثيرة هي الأدْوَاء والأوبئة التي أصابت البشرية، من "الموت الأسود" في القرون الوسطى إلى وباء "الانفلونزا الإسبانية" بعد الحرب العالمية الأولى، التي قتلت من البشر في غضون شهور قليلة أكثر مما قُتِلَ في حروب امتدت لأعوام طويلة (1). ونعرف شيئا عما سببته تلك الأدْوَاء والأوبئة عبر التاريخ من آثار وخيمة، إلا أننا، وإلى وقت قريب لم نكن نعلم عن أعداد الذين يموتون بسبب "مرض النوم". غير أننا نعلم أن ملايين الناس كانوا يموتون في وسط أفريقيا قبل مقدم الرجل الأبيض، الذي اكتشف مسبب المرض ووجد له العلاج (2).
وبدأ مرض النوم في الوصول لحدود جنوب السودان قبل نحو أربعين سنة (أي في حوالي عام 1915م. المترجم). وكان المرض شائعا منذ سنوات قبل ذلك بصورة وبائية في الكنغو البلجيكي وأفريقيا الوسطى الفرنسية. وعلى الفور شرعت الحكومة في منع انتشاره شمالا. وكما ذكرت في كتابي "السودان: أيام وعادات Sudan Days and Ways" تنقل المرض ذبابة التسي تسي بعد عضها لمريض بهذا الداء، ثم عضها لشخص سليم بعد ذلك. وبما أن هذه الذبابة، واسمها العلمي هو Glossina palpalis (3)، لا توجد إلا في الغابات الكثيفة قرب النهيرات، فقد أمرت الحكومة الذين يتنقلون بين مكان وآخر في تلك المناطق بإزالة الشجيرات المتشابكة في الغابات، حتى لا تجد تلك الحشرات لها غطاءً. وقامت الحكومة بتنظيف أمكنة سقيا الإنسان والحيوان بقطعها للأعشاب والشجيرات. وغدا بإمكان كل فرد أن يسافر وأن يجد الماء دون خوف من الإصابة بالمرض. وكان من الممكن التخلص من مرض النوم بصورة نهائية لو كان بالإمكان اقناع الناس وحثهم على تفادي الذهاب للمناطق الموبوءة. ولكنهم لا يفعلون ذلك لأسباب عديدة.
ويوجد نوعان من ذبابة التسي تسي في "حزام الذبابة" بأفريقيا هما، وهي Glossina palpalis التي تنقل مرض النوم للبشر، و Glossina moristans التي تنقل مرضا مشابها للحيوانات، وتمنع تربية الأبقار بها (تغيرت الآن مسميات هذه الحشرة كما في مرجعي (2 و3). المترجم).
وكان شباب تلك المنطقة يعانون من الحرمان من لحم الأبقار والضأن التي يتناولها غيرهم من المحظوظين في المناطق الأخرى. لذا تَوَلَّدَ عند الزاندي وغيرهم من أفراد القبائل الأخرى اِشتِهاء وتَوَّاق للحم. وكان لحم أي مخلوق يصطادونه ويقتلونه يعد عندهم تغييرا مرحبا به عوضا عن الذرة وجذور النباتات التي هي طعامهم التقليدي الوحيد. وكان حمالونا يفرحون عند رؤية قرد في الطريق ويتصايحون قائلين: "أنظروا... هناك لحم!". ورغم أن لحم القرد أو جرذ الخيزران (cane rat) يصلح لعمل يَخنة / "حلة" stew للعائلة، إلا أن اصطيادهما ليس عملا ممتعا أو مثيرا. ويأمل كل صياد صغير السن في أن يسعده الحظ بنيل شرف إثبات رجولته عن طريق اصطياد فيل أو جاموس.
وفي بعض المواسم في العام يقوم شباب الزاندي، الذين يتصفون بسرعة الغضب والعصبية المفرطة، بالتسلح بالحراب والأقواس والسهام وبعض بنادق الإلقام الفوهي muzzle-loading العتيقة والذهاب للصيد. وكانوا في بعض الأحايين ينشرون شباكا طويلة ويقومون بمحاولة دفع الظباء والثيران الوحشية نحوها، بينما ينتظر الصيادون مصطفين خلفهم. وكانوا يقومون أحيانا بحرق الأعشاب حول قطيع من الأفيال أو الأبقار، ثم يقتلون صغارها دون تمييز، إلى أن منعت الحكومة تلك الممارسة. بيد أن أنهم كانوا يقولون بأنهم إنما يفعلون ذلك من أحل الحصول على "اللحم" من أي مصدر يقومون، هم وكلابهم المدربة، بصيده في السهول أو بأعماق غابات رواقية مغلقة (gallery forests).
وكان صيد الطرائد في بلاد الزاندي أمرا عسيرا يتطلب تتبعا مرهقا. فقد كان عليهم أولا تنظيف الممر الذي سيسلكونه في الغابة من الأعشاب والنباتات المتعرشة القوية الخشنة (lianas). ويجب على الصياد المتتبع للطرائد في وسط الأعشاب الطويلة الكثيفة أن يبقى في غاية الحذر، إذ أن تلك الأعشاب توفر غطاءً ممتازا للحيوانات المفترسة. وإذا أهمل الصياد في الاحْتِرَاز، فسوف تنقلب الأدوار، ويغدو الصياد هو المَصيد. ما العجب إذن أنه عندما تنتهي عملية مطاردة وصيد الطريدة أو الفيل (مثلا)، وبعد اشباعهم لغريزة سفك الدماء أن يقطعوا لحمه النِّيء ويأكلونه وهو ما زال دافئا، وأن يجلسوا، متعبين وشِبَاع ولكنهم عطشى، في معسكرهم على ضفاف أقرب نهير في منطقة موبوءة بذبابة التسي تسي؟
ولم يكن الآخرون من سكان المنطقة بأكثر استعدادا لتنفيذ تعليمات الحكومة وتفادي مناطق السقيا الخطرة. فكان صائد السمك من رجال الزاندي يرمي بشباكه بدقة ومهارة فائقة في بحيرته المفضلة، بينما تؤثر زوجه أن تنْسَلَّ بمفردها إلى حيث يوجد مصدر صغير للماء قرب كوخها عوضا عن السير لنصف ميل لتملأ قَنانِيها المصنوعة من الطين أو القرع من موقع الماء الذي جهزته الحكومة لهم قبل مدة قصيرة حمايةً للسكان من الإصابة. كيف نُفْهَمْ هؤلاء البدائيين الجهلاء أنهم يخاطرون بحياتهم باتباعهم لممارساتهم التليدة؟ لا عجب إن لم يغير شعب الزاندي شيئا من عادات وأساليب حياته القديمة إلا بعد تعثر ونزاع، وواصل في استخدام المياه من الشواطئ التي لم يتم تنظيفها، ومن بحيرات الغابات البعيدة، وكان لا يلقي بالا للكلمات الغريبة التي أتت بها الحكومة لهم. وإلى أن يتمكن الأطباء وباشمفتش المنطقة من إقناع الناس بأن عضات ذبابة التسي تسي تعني الموت - الموت المحتوم كما الجرح الذي تحدثه واحدة من حرابهم المسمومة – فليس بالإمكان السيطرة على المرض. وبإمكان ذبابة التسي تسي العيش لمدة عام كامل، وبذا فإن لديها الفرصة كاملة لنشر الإصابة.
وكانت أكبر الصعاب التي كان على الإداريين القبول بها والعيش معها هي أن تقسيم أفريقيا بين القوى الأوربية وتَعْرِيف حدود السودان الجنوبية كان مبنيا على اعتبارات وأسباب سياسية فقط. ويبدو مثل ذلك التقسيم لعالم الأعراق البشرية (ethnologist) تقسيما اعتباطيا خالصا، رسم خطوطا عبر وسط أفريقيا دون دراسة متروية، وأفضى لتقسيمها دون أدنى اعتبار للوحدات القبلية. وتحتل قبيلة الزاندي (المعروفة باسم "نيام نيام" أو "أكلة لحوم البشر") منطقة شاسعة جدا تمتد على طول حدود السودان مع الكنغو البلجيكي وأفريقيا الاستوائية الفرنسية.
وكان عدد الزاندي في منطقة "طمبرة" وحدها نحو 100,000 نسمة، وما يربو على مليوني نسمة في منطقتين أخريين. وكان وجود الزاندي على جانبي الحدود يعني أن تحركهم بين السودان والبلدين المجاورين كان أمرا لا مفر منه. فالأقارب والأصدقاء يزورون بعضهم البعض باستمرار، وعندما يموت أحدهم تتوافد أعداد كبيرة من الأقارب ليشهدوا دفنه، ويصلوا عليه إرضاءً لأرواح من رحل عنهم، أو ليضمنوا عدم غشهم فيما سيرثونه من تَرِكة الميت، حتى وإن كانت مجرد حصيرة قصب أو جزءاً صغيرا من كَثِيب نِّمَال (anthill). ويلجأ الزاندي لاستشارة الكهان أو العرافين عندما يمرض رجل منهم أو يضيق صدره من بيته. وتتم تلك الاستشارة، إما بإعطاء دجاجة نوعا من السم، أو بإدخال قطعة خشبية إلى كَثِيب للنمل الأبيض (الأَرَضة). وإذا نفقت الدجاجة أو أكلت الأَرَضة الخشب، فينبغي على الرجل الرحيل فورا عن بيته ويبحث له عن مسكن جديد. ولا يقيم ذلك الرجل أدنى وزن لأوامر الحكومة عندما يرى الطَوَالع والنذر بائنة أمامه تحثه على الرحيل عن داره والسكن في مكان آخر. ولا يبالي الرجل بالسير لداره الجديدة على أي طريق، حتى وإن كان على غير الطرق (الآمنة من الإصابة بالمرض) التي حددتها الحكومة للسكان في المنطقة. ويختار الرجل السير دوما عبر أقصر الطرق خلال الغابات الاستوائية المجاورة للنهيرات المحاطة بالأشجار والأعشاب الكثيفة التي يكثر فيها ذباب التسي تسي. وكان زيت النخيل من بضائع أفريقيا الاستوائية الفرنسية التي يقبل عليها بشدة غَنادِر الزاندي لاستخدامه مُسُوحا للبشرة. وكان الزاندي يبتاعون من الكنغو البلجيكي بأسعار أرخص مما هو الحال في جنوب السودان بضائع مثل رؤوس الحراب وأَسِنَّة الرماح والفؤوس (وهي أشياء تدفع كمهر للزواج)، إضافة للبارود والسم الذي يستخدمونه عند استشارة الكهنة والعرافين.
وبالإضافة لكل ما سبق ذكره فإن التنظيم والتركيبة الاجتماعية وتاريخ الزاندي الْفَارِطِ جعلهم لا يثقون في أي شكل من أشكال الحكومات سوى في حكم سلاطينهم (من العشائر الملكية المسماة الأفنيقاراAvungara ). ورغم أن الأفنيقارا لا يمتون بصلة عرقية لمحكوميهم من الزاندي، إلا أنهم في أيام كتابتي لهذا الفصل قد صاروا يجسدون الطبقة الحاكمة في القبيلة، وقبل بهم الزاندي رغم خوفهم منهم وكراهيتهم لهم. وكان مَقْت السلاطين ورعيتهم من الزاندي لـ "التُّرْك/ الأتراك" ماثلا في حوافِظُهم بسبب الفظائع التي كابدوها جراء غارات تجار الرقيق في غضون سنوات الحكم التركي – المصري. وكانوا، لسوء الحظ، يعدون كل رجل أبيض البشرة من "التُّرْك"، وكان ظهور مسؤول بريطاني أو طبيب سوري إشارة لكل الأهالي بالمنطقة ليتفرقوا ويختبؤوا في الغابة إلى أن ينصرف الرجل الأبيض بعيدا عنهم. وعنما حاولت الحكومة لأول مرة نقل الزاندي من مناطق الخطر إلى القرى الخالية من ذبابة التسي تسي، سعى زعمائهم من الأفنيقارا (وقد كانوا غير متعاونين منذ البداية) بكل الطرق الاحتيالية لمنع مسؤولي الحكومة من أي اتصال بالأهالي، وأشاعوا بأن "الترك" يريدون سبي النساء القليلات (اللواتي لم يَكُنَّ ضمن حريم السلطان سلفا)، ويهدفون لاختطاف رجال القرى من الطرق لاستعبادهم.
وعندما وجدت الحكومة أنه من المستحيل عليها منع الأهالي من دخول المناطق الموبوءة، لجأت لجمع أكبر عدد ممكن المصابين بمرض النوم يمكن للفريق الطبي الصغير والمجهد المخصص لهذا المرض جمعه، وتوزيعهم في معسكرات خاصة لا يمكن لهم منها أن ينقلوا المرض لغيرهم. وفي البداية كانت تلك المعسكرات، لا مَحَالَةَ، غير مقبولة للناس، فالمرضى والمشرفين على الموت ومن معهم من الأزواج والأقارب الذين يقومون على خدمتهم كانوا قد وجدوا أنفسهم في عزلة تامة عن كل ما كانوا قد اعتادوا عليه من نشاطات فردية وقبلية. وكانوا يخشون أيضا من نوع حياة جديدة لم يألفوها من قبل. وبدت لهم الحياة في المعسكرات أسوأ من الحياة بالمستشفيات، التي كانوا في بدايات حكمنا يمجونها لكثرة أعدادا الموتى بها. فقد كان الذهاب للمستشفى في تلك الأيام يعني الموت المحتوم في وسط أغراب. ولم تكن نسب الموت العالية في المستشفيات بسبب سوء أو ضعف كفاءة الخدمات الطبية بالسودان، بل لأن أقارب المرضى كانوا لا يحضرونهم للمستشفيات إلا بعد استخدامهم للأدوية المحلية الخام، التي كانت كثيرا ما تضاعف من مرضهم وتقربهم من الموت. ولا يحضر الأقرباء للمستشفى المريض بعضة ثعبان إلا بعد أن يفشلوا في علاجه بربط رأس الثعبان فوق مكان العضة، ولا المريض بإصابة إنتانية (septic injury) إلا بعد أن يخفق علاجه بتلطيخ مكان الإصابة بروث البقر. حينذاك فقط يلجأ الأهالي لحكمة ومهارة ورعاية طبيب الحكومة. لا يمكن للمرء أن يعجب ويتعجب من أن كثيرا من المرضى قد ماتوا، بل العجب كل العجب هو ممن أبَلَّوا من "العلاج" المحلي الذي كانوا قد تلقوه قبل وصولهم للمستشفى.
وكان العزل التام لضحايا مرض النوم أمرا مقيتا للأهالي، وبدا واضحا للحكومة أنه من المستحيل إيقاف انتشار المرض بتلك الطريقة. لذا قررت الحكومة إقامة مستوطنة تمكن المرضى من العيش مع عائلاتهم. وبعد اتخاذ الحكومة لذلك القرار كان عليها العثور على موقع (مناسب) لإقامة نوع جديد من المعسكرات. وأسندت تلك المهمة للرائد بازل سبينس بالفيلق الطبي بالجيش الملكي (الذي صار فيما بعد نائبا برلمانيا لمنطقة أوركني وشيتلاند بين عامي 1935 و1950م)، والذي اختار منطقة Source Yubo الحدودية الفاصلة بين السودان وأفريقيا الوسطى الفرنسية والكنغو البلجيكي كأفضل موقع لتلك التجربة.
وتم تعيين الدكتور باز مشرفا طبيا مسؤولا عن تحويل المرضى لمنطقة Source Yubo من المعسكر القديم في طمبرة. وصادف ذلك التعيين أهله تماما، إذ لم يكن هناك من هو أفضل من ذلك الطبيب الودود، الدائم الابتسامة والمرح حتى في أوقات الشدة، والذي لا يأبه بالصعاب والمخاطر. كان الزاندي يحبونه لاستعداده الدائم للمزاح وتبادل الدعابات والمُلْح معهم، وهم قوم يستمتعون بالفكاهة، ويقدرون خصلة دكتور باز النادرة في الاستماع بصبر واهتمام لشكاويهم التي لا تنقطع، ولمهارته في تَطْبِيب أدوائهم المتنوعة. ولم يقف عمل الدكتور باز عند حد علاج المرضى وتخفيف آلامهم، بل ساهم بفعالية في تقليص نفوذ المعالجين المحليين، وفي كشف خداعهم واحتيالهم على من يترددون عليهم من المرضى. وبذا حرر المَعثُوثين الذين كان يعالجهم من مخاوفهم الكبرى في الحياة، وزاد من ثقتهم فيه.
********** ********* *********
قال لي دكتور باز ذات ليلة: "كان الحشد الذي قدته من طمبرة في العشرين من فبراير عام 1920م حشدا فوضويا شديد الاضطراب. لقد قضينا عامين كاملين ونحن نقيم أكواخا في المعسكر القديم، وننظف الأرض للزراعة. ولم يفهم الناس لماذا – بعد كل هذا العمل المتعب – نطلب منهم هجر بيوتهم وبناء مساكن جديدة على بعد 25 ميلا. لم الانتقال من قطعة من الغابة إلى قطعة غابة أخرى قريبة منها؟ كان كثير من جماعتي في حالة متقدمة من المرض وكانوا ضعفاء البِنْيَة ويصعب عليهم التنقل. ساروا محملين بممتلكاتهم القليلة – الحراب وحصائر القصب وقُرَع المياه، والمقاعد الخشبية الصغيرة، والماء والطعام. لم تكن هنالك ممرات للسير، وكان عليهم أن يشقوا طريقهم في وسط الأعشاب والشجيرات الكثيفة. وكان كثير منهم يتخلفون عن اللحاق بالجماعة، مما يضطر الحشد للتوقف والبحث عن "المفقودين" حتى يكملوا الرحلة (للمقر الجديد). كان سيرنا نحو المقر الجديد بالغ البطء غير أننا أفلحنا، بطريقة أو بأخرى، في الاستمرار في السير. وفي اليوم التالي صعدت فوق كَثِيب نِّمَال، وأطلَّلت – وأنا أحمي عيني من وهج الشمس – على داخل الغابة المحيطة بي. ورأيت في مكان ما بين الأعشاب الطويلة حولي 669 رجلا وامرأة وطفلا، أغلبهم من المصابين بمرض النوم. ورأيت أيضا على البعد، ذلك المكان الذي سنسير نحوه. وعلى بعد أكثر رأيت صفا من أشجار المهوقني الضخمة وأشجار غابية أخرى. وكنت أعلم أن ذلك المكان هو لمجرى نهر يوبو الصغير الذي سنقيم عليه مقرنا. وعندما بلغنا أخيراً Source Yubo، وجدت أن كل مرضاي المنهكين قد وصلوا بسلام، ولم يتخلف منهم أحد".
لقد تم ترحيل أولئك المرضى لمستوطنتهم بإتقان ومهارة. وقال لي دكتور باز بأن رحلته مع مرضاه ذكرته برحلة الخروج من مصر. وأضاف قائلا: "كثيرا ما غبِطَت بني إسرائيل على عمود السحاب نهارا، الذي كان سيحمى مرضاي من أشعة الشمس الحارقة، وعلى عمود النار ليلا، الذي كان سيضيئ لذلك الموكب المضطرب الطريق!". وعندما قرب موعد غروب الشمس قام واحد من رجال الزاندي وضع حجرا بين تشعب في جذع شجرة (fork of a tree) بقصد تأخير مغيب الشمس (4). ذَكَّرَ ذلك الفعل دكتور باز بحادثة توراتية أخرى، كانت أكثر نجاحا، عندما قام جوشوا (يوشع بن نون. المترجم) بحبس الشمس عن المغيب. وحمل الأهالي مشاعل من أغضان الأشجار لإخافة وطرد الحيوانات المفترسة. غير أنها لم تستمر في الاشتعال إلا لفترة وجيزة، دَمَسَ بعدها الظَّلامُ أكثر فأكثر، وبدا حفيف الأعشاب الجافة الطويلة أشد عدوانية.
غير أن "الأرض الموعودة" في Source Yubo لم تقدم للزاندي المصابين بمرض النوم شيئا يذكر سوى القليل من العسل للمغامرين منهم الذين كانوا يستخرجونه بالدخان الذي يطلقونه في نَخارِيب النحل. فلم يكن بتلك المستوطنة أي لحم أو لبن أو ذرة أو خضروات. كل ما كان لديهم هو دجاج بائس الهيئة وكلاب صغيرة ممتلئة جلبوها معهم. وكانت تلك الفصيلة من كلاب النيام نيام، التي تسمى بيسنجيBasenji (5)، قد نالت لاحقا اهتماما كبيرا عند رواد مهرجان عرض الكلاب الأشهر (Crufts). وكان الزاندي يرَبَّون ثلاثة أنواع من الكلاب: نوع عادي يأكلونه، ونوع ثانٍ لونه بين السواد والسُمرَة يستخدمونه في الصيد، ونوع ثالث كامل السواد ويستخدم أيضا في الصيد. ويقدر الزاندي النوعين الأخيرين تقديرا كبيرا ولا يقبلون ببيعهما بأي ثمن. ولعل ندرة الكلاب السوداء هنا هو ما يعطيها أهمية سحرية في أوساط القبيلة. ولا يزيد طول تلك الكلاب عن طول الكلاب من فصيلة كورقي Corgi، وشعر جلدها قصير وشديد اللمعان، وذيولها معوجة مثل ذيول الخنازير. لم أر في حياتي كلابا مثل كلاب الزاندي السوداء، إذ أنها أقرب للقطط شبها، فسلوكها ونهجها في الحياة يتميز باستقلالية متفردة. ومن الغريب أن كلاب الزاندي تمتاز بصفة ليست عند الكلاب الأخرى وهي عدم قدرتها على النباح.
وظل كل فرد في مستوطنة Source Yubo يعيش على قليل من اللحم المعلب والدقيق المجلوب من يامبيو، الواقعة على 130 ميلا، إلا عندما يجد دكتور باز وقتا – في وسط مشاغله الجمة – ليصطاد لهم جاموسا أو غزالا. ولحسن الحظ كانت تلك المنطقة تَعُجُّ بحيوانات الصيد. وكان الرائد جي. كي. موريس (من الفيلق الطبي بالجيش الملكي، الذي بذل الكثير للسيطرة على مرض النوم)، قد قضى وقتا طويلا في Source Yubo، وكان يقول بأنه يستطيع أن يرى من بيته قطعانا من الجواميس والظبيان السمراء وثيتل الهرتبيس وحيوانات مختلفة أخرى وهي تهجم على المحاصيل القليلة التي تمكن سكان المستوطنة – مع مرور السنوات - من زراعتها. أما ظبيان الماء، فقد كانت ترعى نباتات حديقة دكتور موريس، ثم تتخذ من فرندته مأوًى لها من المطر. وكنت من تلك الفرندة أراقب شمبانزي دكتور باز وهو يعض بفمه على قطعة معدنية (نصف قرش) ويقود دراجة هوائية متجها لسوق البلدة لشراء "عبار" من المريسة، كما هي عادته كل صباح، ثم يعود للبيت لاحقا وهو يتأرجح لينام حتى تذهب سكرته.
ولولا وجود حيوانات الصيد في تلك المنطقة فلربما هجرها معظم ساكنيها كليا، إذ أن الزاندي يتأقلمون على مضض وبصعوبة، على الحياة الجماعية. ولكن – كما ذكرت في بداية هذا الفصل - لهم اِشتِهاء وتَوَّاق شديد للحم. وكانت إمكانية حصولهم على وجبات من لحم جاموس أو غزال (في هذه المستوطنة) كفيلة بجعلهم يرضون بالبقاء فيها، عوضا عن الاكتفاء بسد جوعهم من أكل الجرذان والقواقع والثعابين في غيرها من المناطق. وكان اِشتِهاءهم وتَوَّاقهم للحم من الشدة بحيث كانوا يلتهمون كل ما يزحف أو يسبح أو يمشي أو يطير. بل أقدم المرضى في مستوطنة Source Yubo على أكل لحم شمبانزي المفتش الطبي بعد أن نفق عقب إصابته بالتهاب رئوي. وفي مناطق أخرى، يُقْتَلُ الكلب المُصَابٌ بِدَاءِ السُّعارِ، وعندما تحتاج السلطات لفحص دماغه (للتأكد من الإصابة بذلك المرض. المترجم)، لا تجد ذلك العضو، إذ أنه يكون قد اُلْتُهِمَ قبل وصول المسؤول!
ويعزَى الكثيرون ممارسة الزاندي لأكل لحم البشر لعوز اللحم، والحاجة لتَكْمِيل نظامهم الغذائي الذي يفتقر إلى البروتينات. وسبق أن ألجأت الضرورة الأفارقة لأكل لحوم البشر مثل ما يحدث مع البحارة عند تحطم سفينتهم، أو عند محاصرة مدينة ما لفترة طويلة، أو مثلما حدث في أم درمان في مجاعة سنة 1889م - 1306هـ (انظر الرابط لمقال حول نفاق التاريخ الأوروبي حول أكل لحوم البشر- 6 - المترجم). ومن ناحية أخرى قد تكون تلك الممارسة بسبب ما يسمى بـ "sympathetic magic" (وهي تُعْرَفُ قاموسيا بأنها طقوس بدائية أو سحرية تتم باستخدام أشياء أو أفعال تشبه أو ترتبط رمزياً بالحدث أو الشخص المطلوب التأثير عليه. المترجم). فعبر الأجيال، وفي كثير من مناطق العالم كان هناك اعتقاد بأن أكل المرء لجزء من لحم محارب أو حيوان مفترس يكسبه شجاعة ذلك المحارب أو الحيوان. وأعلم شخصيا عن أمير مهدوي في أم درمان كان يفتخر بأنه كان يلتهم أكباد أعدائه الذين يقتلهم في المعارك. وكان الفايكنغ (ملاحو السفن وتجار ومحاربو المناطق الاسكندنافية. المترجم) يشربون من جماجم الموتى – وخلّدوا إلى اليوم تلك الممارسة بالتَفَوُّه بكلمة "Skole" عند شرب الأنخاب! وعندما جرب الزاندي لأول مرة طعم لحم البشر واستساغوه (مثلهم مثل الفانج Fans /Fangs في غرب أفريقيا، الذين يشاركونهم في كثير من الخصال) بدأوا في أكل لحوم بعضهم إشباعا لتلك الرغبة في تذوق ذلك الطعم. ومنذ وقت ليس ببعيد كان اللحم البشري يعرض علنا في بعض الأسواق بغرب أفريقيا (7).
********** ********** ************
عندما أحضر دكتور باز مرضاه إلى Source Yubo وجد نفسه مواجها للمرة الثانية بمهمة ضخمة في غاية العسر. كان عليه أن يقضي على ذبابة التسي تسي، وأن ينظف الأرض لتكون صالحة للزراعة، وأن يبني المساكن (التي تتهدم بسرعة بشدة بعد فترة قصيرة من بنائها بفعل النمل الأبيض). ولتنظيف المستوطنة من كل مسببات الإصابة، كان عليه تنظيف شواطئ النهيرات من الأشجار والشجيرات والأعشاب الطويلة لمسافة نحو 200 ياردة. وتطلب الأمر أيضا اقتلاع جذور بعض النباتات وإسقاط بعض الأشجار (بالمناشير)، وتجفيف مستنقعات بعض الأماكن. وجُلِبَ للمنطقة نبات "شعير الرمال الزاحف" couch grass / Seri -seri من مركز تبشيري يقع على بعد أميال كثيرة، وزرع على شواطئ النهيرات لمنع الشجيرات من النمو مجددا. وثبت للمسؤولين أن العمل المستمر كان أمرا شاقا مزعجا للزاندي الذين يحبون المرح والانطلاق، ولا يأبهون بالعمل ولا الالتزام به. فكانوا مثلا على استعداد لترك العمل في المزرعة والذهاب للبحث عن قرود كلوبوس (colobus monkeys) يصطادونها لعمل "حلة" لحم. ولم يمكن تنظيف الأرض بحرق الحشائش فيه، إذ أن الزاندي سيحتاجون لتلك الحشائش مستقبلا لعرش أكواخهم. ولكن كانت سقوف تلك الأكواخ مخبأً للحيوانات المفترسة والثعابين. وكان "عشب الفيل" ينمو بسرعة شديدة، إذ لم تكن هناك من حيوانات مستأنسة ترعى في المنطقة، ومن الممكن أن يصل طول هذا العشب في بضع سنين إلى 10 أو 12 قدما. وحتى بعد عمل ممرات خلال العشب، قد تظهر فجأة كُثُب نِّمَال ارتفاعها ثلاثة أقدام أو أكثر في وسط ممر ما، أو تحت أحد الأكواخ – وهي أكوام من التراب الأحمر تتحجر مثل الأسمنت في غضون ساعات، ويتعذر إزالتها. وتطوف النمور حول المعسكر ليلا ويُسْمَعُ هريرها وغطيطها، بينما يعم الرعب من في المعسكر عندما سماع زئير الأسود الذي يكاد يهز أرجاء المنطقة باسرها. وتجرأ أحد تلك الحيوانات المفترسة للبشر – مدفوعا بالجوع الشديد – بالدخول في المستوطنة واختطف امرأة من عتبة مسكنها.
وفي البدء كان من المستحيل الاستمرار في توفير الأغذية والأدوية للمستوطنة. وكانت تلك اللوازم تصل لواو بالباخرة عندما تكون الملاحة النهرية متيسرة في موسم الأمطار. غير أنه لم يكن من الممكن نقل تلك المواد من واو إلا بعد توقف الأمطار. وعندما لا تكون الملاحة ممكنة في "نهر الجور"، فإن أقرب موقع هو "مشرع الرك" على النيل الأبيض. ومن هناك تقوم الباخرة الناقلة للبريد (بصورة غير منتظمة) بحمل بعض البضائع القادمة من الخرطوم. ثم تنقل تلك البضائع إلى واو، على بعد 109 ميلا، ومنها توزع على بقية المناطق البعيدة بالجنوب. وبما أن Source Yubo تقع على بعد 190 ميلا جنوب واو، فالمسافة التي تقطعها تلك البضائع تقارب 300 ميلا. وكانت المستوطنة تعتمد كليا على خط ذلك النقل المحفوف بالمخاطر. ولا يخلو النقل لتلك المسافات الطويلة بالطبع من هدر أو حتى ضياع لبعض البضائع الأساسية المهمة. فقد كان بعضها يفسد عند عبور حامليها للنهيرات العديدة في الطريق، أو عندما تهطل على رؤوسهم أمطار عواصف مدارية عنيفة. وكان الحمالون يتركون بعض البضائع على الطريق عندما يصابون بمرض ما، أو عندما توهن عزائمهم بسبب مسيرتهم الطويلة المضنية. إضافة لذلك كانت البضائع تتعرض في الطريق للسرقة، مما ينقص من كميتها قبل بلوغها وجهتها النهائية.
وعندما نقصت كميات الأدوية والملح بالمستوطنة، غادرها المرضى وهم يحسون بِالقُنُوطِ والإحباط، إذ أن الملح (الذي كان ولا يزال نادرا، بل ويُعد سلعة كمالية عند أفراد القبائل الجنوبية) كان ضروريا في Source Yubo بصورة خاصة لأنه كان يدخل في بعض العلاجات، ولأنه كان يستخدم كحافِز للمرضى للحضور للعلاج في العيادة.
وظلت أوضاع الغذاء بالمستوطنة مصدر قلق مستمر. وعندما هجمت الخنازير البرية والسناجيب والقرود وحيوانات الصيد على ما زرعه الزاندي من محاصيل، وعندما زُرِعَ نبات الكسافا أو المنيهوت قام بعض سُرّاق الزاندي باقتلاع نحو 20 – 30 نبتة من جذورها كل ليلة ليصنعوا بها وجبة، عوضا من الانتظار 18 شهرا حتى ينضج المحصول تماما. وعندما جلبنا من الخرطوم– بصعوبة بالغة - بعض المَعَز للمستوطنة كي تتم تربيتها وزيادة أعدادها، قام الزاندي فورا بذبح وأكل أكثرها. ولاحقا، غدا ما بقي من تلك المَعَز مصدر مضايقة وإزعاج إذ أن الأهالي كانوا يخشون من أن يقوم نمر من النمور التي تحوم حول المستوطنة بالهجوم على المَعَز إن ربطوها بجوار سكنهم، لذا كان يطلقونها ترعى كما تشاء، وكثيرا ما كانت تأكل نباتي الموز والموز الأفريقي على جانبي الطريق.
وأخيرا، تكلل ذلك العمل الرائد بالنجاح واختتم بعد أن أفلح دكتور باز – بعد سنوات من العمل الشاق – في الاشراف، بتوفيق كبير، على مستوطنة لمرض النوم بها نحو 2,000 من المرضى و6,000 من أقربائهم. ووجد دكتور باز أيضا وقتا لينظف قطعة مجاورة للمستوطنة ويقيم عليها معسكرا أصغر لنحو ألف من مرضى الجُذَام وأقربائهم. وبلغت مساحة المستوطنة وذلك المعسكر عشرين ميلا مربعا، وتقع على أنهار ونهيرات تم تنظيف شواطئها وزُرعت بنبات "شعير الرمال الزاحف"، وبها طرق بحالة جيدة يبلغ طولها 20 ميلا.
يبدو أن المعركة ضد مرض النوم قد كُسِبَتْ تقريبا، رغم أنها كانت معركة طويلة وصراعا شاقا، ليس فقط ضد الطبيعة، بل أيضا ضد مُقَاوَمَة وعِدَاء الكثير من الأهالي، والمُنَاوَأَة الخفية عند الجميع.
وعندما بلغت Source Yubo في شتاء 1926م وجدت أن كل تلك المشاكل الباكرة قد حُلَّتْ. فسكان المستوطنة كانوا سعداء، رغم مرضهم الْوَبِيل، وتخلصوا من ارتيابهم من الذين وهبوا حياتهم من أجلهم. وغدا مجتمعهم مكتفيا ذاتيا، وينتج الكثير من الفواكه والخضروات الطازجة والأغذية الأخرى. وتم تدريب عدد من الحرفيين والصُنّاع (الصنايعية). ولم تكن هنالك أي حاجة لجلب أي شيء من خارج المستوطنة سوى الملح والأدوية.
ولم يبق الآن على قيد الحياة من أولئك الرجال الذين صنعوا تلك المعجزة سوى القليل. ولكني كنت كلما أفكر فيهم، أتذكر كلمات روديارد كبيلينج Rudyard Kipling (من ترجمة الأستاذ سيف الدين عبد الحميد).
(إن هيَ بعثت بخدمِها في ظلِّ صراعِنا مع الألم،
وإن هي صارعتِ المنايا فصرعتها وثلمتْ سيفَها،
وإن هيَ استردت إلينا عافيةَ مريضِنا مرةً أخرى،
فتشبثت شفاهُ الطفلِ العليلِ الواهنةِ بثديِ أمِّهِ،
فهل ما صنعته يعدُّ بعدُ شيئاً يسيراً؟
إن كان كذلك فإن الحياةَ والموتَ والأمومةَ لم تكُ شيئا.)
(If she have sent her servants in our pain,
If she have fought with Death and dulled his sword,
If she have given us back our sick again
And to the breast the weakling lips restored,
Is it a little thing that she has wrought?
Then Life and Death and Motherhood be nought.)
********** ********** ************
إحالات مرجعية
(1) المقصود بـ "الموت الأسود" هو الطاعون (plague)، وهو مرض بكتيري معدٍ تنقله برغوث يعيش على الجزدان، انتشر في أوروبا بين 1347 و1351م. https://www.cdc.gov/plague/index.html
أما "الانفلونزا الاسبانية" فقد تسببت في إصابة 500 مليون نسمة (أي ثلث سكان العالم)، مات منهم 50 مليون نسمة. https://bit.ly/3ezuczc
(2) للمزيد عن مرض النوم (اسمه العلمي داء المثقبيات الأفريقي African Trypanosomiasis) انظر لما جاء في الرابط: https://bit.ly/3kymh8V. وكان عالم الكيمياء البريطاني أرثر جيمس اويز Arthur James Ewins هو من طور دواء بينتاميدن pentamidine أول دواء لهذا المرض عام 1938م.
(3) الاسم العلمي للطفيل المسبب للمرض في شرق أفريقيا Trypanosoma brucei rhodesiense ، بينما يُسمى في غرب أفريقيا Trypanosoma brucei gambiense.
(4) سجل العالم البريطاني إيفانز - بريتشارد الكثير عن معتقدات الزاندي في كتابه المعنون:
Evans-Pritchard, E.E. (1937). Witchcraft, Oracles, and Magic Among the Azande. Oxford: The Clarendon Press.
(5) للمزيد عن هذه الكلاب يمكن الاطلاع على محتوي هذا الرابط: https://bit.ly/3zS022l
(6) مقال لسارة ايفرتز في مجلة Smithsonian في الرابط https://bit.ly/3lf6Jrg
(7) خبر صحفي في عام 2014م ورد هنا: https://bit.ly/37awkJK
alibadreldin@hotmail.com
في مستوطنة لمرض النوم
In a Sleeping Sickness Settlement
Henry Cecil Jackson هنري سيسيل جاكسون
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة للفصل التاسع من كتاب "ما وراء السودان الحديث Beyond the Modern Sudan"، للإداري البريطاني هنري سيسيل جاكسون. نشرت دار نشر ماكميلان الكتاب في لندن عام 1955م.
عمل جاكسون في مجال الإدارة بالسودان لأربعة وعشرين عاما متصلة، وحكم مديريتي بربر وحلفا، ولخص تجربته في الحكم والإدارة في عدد من المقالات والكتب التي وصف في بعضها عادات السودانيين وأمثالهم في مختلف المديريات التي عمل فيها، وأرَّخَ في بعضها الآخر لبعض الشخصيات السودانية مثل عثمان دقنة والزبير باشا رحمة. وقد ترجمنا من قبل بعض فصول هذا الكتاب، ومقتطفات من بعض كتب ومقالات مختلفة لهذا الإداري الكاتب.
الشكر موصول للأستاذ سيف الدين عبد الحميد لترجمته بعض أبيات لروديارد كيبلينجRudyard Kipling وردت في نهاية هذا الفصل، وهي من قصيدته .The Songs of the Women
المترجم
****** ******** *********
كنت أتنفّس الصعداء عندما أبدأ السير في مأمورية تفتيشية طويلة إذ أنني كنت أعلم أنه – إن حالفني الحظ - قد لا يكون علي خلالها أن أحكم في أي قضايا جنائية على الإطلاق. وبدأت واحدة من أمثال تلك الرحلات السعيدة في خريف 1926م عندما غادرت واو في رحلة لجنوب مديرية بحر الغزال تستغرق ثلاثة أشهر. وأسعدني الحظ بأن أرافق في تلك الرحلة الرائد ووربيرتون Warburton )من الفيلق الطبي بالجيش الملكي)، وهو صاحب حماسة مرحة لا تخبو. أخذنا معنا نحو خمسين حمالا وسرنا لاثْنَيْ عشر يوما، أحيانا على عجلات هوائية، ولكن في الغالب على الأقدام، حتى بلغنا المرحلة الأولى لرحلتنا.
وبدأت الشمس تسدل استارها إيذانا بالمغيب خلف أشجار مهوقني طويلة ونحن نقود دراجتنا الهوائية على طريق مصفوف بأشجار الموز والموز الأفريقي (plantains) نحو مستوطنة مرض النوم بمنطقة Source Yubo في أراضي الزاندي. وكان حَمّالونا قد وصلوا قبلنا بوقت طويل، إذ كانوا قد قطعوا مسافة خمسة وعشرين ميلا (40.2 كيلومتر) من آخر معسكر لنا في "طمبرة" في أقل من عشر ساعات، رغم أن كل واحد منهم كان يحمل على رأسه ستين رطلا (27.2 كيلوجرام). لا بد أن حافزهم للإسراع بتلك الطريقة كان هو ظنهم بأننا سنقضي عدة أيام للاستراحة في المستوطنة. وعند وصولنا وجدنا أن متاعنا قد صُفَّ بترتيب حسن في شرفة (فراندة) استراحة معروشة بالقش، ستكون مقرنا لأسبوع أو أسبوعين. ومُلِئَتْ بالماء حماماتنا المصنوعة من قماش الكتان الغليظ. ووضع الخدم أيضا شمعدانا (حامل عليه شمعة – أو شموع - محاط بكرة زجاجية لمنع الريح من إطفاء الشمعة) على طاولة يعطي ضوءا مريحا على قوارير الويسكي وعصير الليمون، مع مَثْعَب (سايفون) لمشروب الصودا الفوارة (sparklet soda siphon). وصفوا بعناية على الطاولة أيضا ثلاثة أقداح. وكانت خلفنا غابة مظلمة مَشْحُونة بالأسرار، تمتد لحدود الكنغو، ولأميال (غير محددة) لما بعد تلك الحدود. وكانت هناك أيضا مزرعة كبيرة مقسمة بنظام حسن إلى قطع زراعية تُزْرَعُ فيها الذرة والخضروات وأشجار الفواكه. وكان من العسير أن يدرك المرء أن هذه الأجواء البديعة الساكنة قريبة من أناس كُتِبَ عليهم أن يلقوا ميتة مؤلمة، وأن هنالك كُثر غيرهم كانوا سيلقون ذات المصير التعيس لولا تفاني وإخلاص القليل من الأطباء البريطانيين والسوريين. رأينا الآن واحدا من هؤلاء الأطباء (اسمه باز Baz) يقبل علينا. وقابلت كثيرا في غضون الأسبوعين التاليين ذلك الرجل القصير المرح الطيب الروح. وسمعت منه، ونحن جُلُوس حول طاولة مشاريبنا المسائية، تفاصيل ما كنت أجهله عما يُحدثه مرض النوم من فتك وبيل بضحيته. وبفضل دكتور باز وأمثاله من الأطباء كان بإمكان ثلاثتنا أن نجلس وسط ذلك المرض الخطير دون خوف من أن نصاب به. ولاحقا سعدنا كثيرا بنيل دكتور باز وسام الإمبراطورية البريطانية (OBE) لما قام به من أعمال مجيدة.
كثيرة هي الأدْوَاء والأوبئة التي أصابت البشرية، من "الموت الأسود" في القرون الوسطى إلى وباء "الانفلونزا الإسبانية" بعد الحرب العالمية الأولى، التي قتلت من البشر في غضون شهور قليلة أكثر مما قُتِلَ في حروب امتدت لأعوام طويلة (1). ونعرف شيئا عما سببته تلك الأدْوَاء والأوبئة عبر التاريخ من آثار وخيمة، إلا أننا، وإلى وقت قريب لم نكن نعلم عن أعداد الذين يموتون بسبب "مرض النوم". غير أننا نعلم أن ملايين الناس كانوا يموتون في وسط أفريقيا قبل مقدم الرجل الأبيض، الذي اكتشف مسبب المرض ووجد له العلاج (2).
وبدأ مرض النوم في الوصول لحدود جنوب السودان قبل نحو أربعين سنة (أي في حوالي عام 1915م. المترجم). وكان المرض شائعا منذ سنوات قبل ذلك بصورة وبائية في الكنغو البلجيكي وأفريقيا الوسطى الفرنسية. وعلى الفور شرعت الحكومة في منع انتشاره شمالا. وكما ذكرت في كتابي "السودان: أيام وعادات Sudan Days and Ways" تنقل المرض ذبابة التسي تسي بعد عضها لمريض بهذا الداء، ثم عضها لشخص سليم بعد ذلك. وبما أن هذه الذبابة، واسمها العلمي هو Glossina palpalis (3)، لا توجد إلا في الغابات الكثيفة قرب النهيرات، فقد أمرت الحكومة الذين يتنقلون بين مكان وآخر في تلك المناطق بإزالة الشجيرات المتشابكة في الغابات، حتى لا تجد تلك الحشرات لها غطاءً. وقامت الحكومة بتنظيف أمكنة سقيا الإنسان والحيوان بقطعها للأعشاب والشجيرات. وغدا بإمكان كل فرد أن يسافر وأن يجد الماء دون خوف من الإصابة بالمرض. وكان من الممكن التخلص من مرض النوم بصورة نهائية لو كان بالإمكان اقناع الناس وحثهم على تفادي الذهاب للمناطق الموبوءة. ولكنهم لا يفعلون ذلك لأسباب عديدة.
ويوجد نوعان من ذبابة التسي تسي في "حزام الذبابة" بأفريقيا هما، وهي Glossina palpalis التي تنقل مرض النوم للبشر، و Glossina moristans التي تنقل مرضا مشابها للحيوانات، وتمنع تربية الأبقار بها (تغيرت الآن مسميات هذه الحشرة كما في مرجعي (2 و3). المترجم).
وكان شباب تلك المنطقة يعانون من الحرمان من لحم الأبقار والضأن التي يتناولها غيرهم من المحظوظين في المناطق الأخرى. لذا تَوَلَّدَ عند الزاندي وغيرهم من أفراد القبائل الأخرى اِشتِهاء وتَوَّاق للحم. وكان لحم أي مخلوق يصطادونه ويقتلونه يعد عندهم تغييرا مرحبا به عوضا عن الذرة وجذور النباتات التي هي طعامهم التقليدي الوحيد. وكان حمالونا يفرحون عند رؤية قرد في الطريق ويتصايحون قائلين: "أنظروا... هناك لحم!". ورغم أن لحم القرد أو جرذ الخيزران (cane rat) يصلح لعمل يَخنة / "حلة" stew للعائلة، إلا أن اصطيادهما ليس عملا ممتعا أو مثيرا. ويأمل كل صياد صغير السن في أن يسعده الحظ بنيل شرف إثبات رجولته عن طريق اصطياد فيل أو جاموس.
وفي بعض المواسم في العام يقوم شباب الزاندي، الذين يتصفون بسرعة الغضب والعصبية المفرطة، بالتسلح بالحراب والأقواس والسهام وبعض بنادق الإلقام الفوهي muzzle-loading العتيقة والذهاب للصيد. وكانوا في بعض الأحايين ينشرون شباكا طويلة ويقومون بمحاولة دفع الظباء والثيران الوحشية نحوها، بينما ينتظر الصيادون مصطفين خلفهم. وكانوا يقومون أحيانا بحرق الأعشاب حول قطيع من الأفيال أو الأبقار، ثم يقتلون صغارها دون تمييز، إلى أن منعت الحكومة تلك الممارسة. بيد أن أنهم كانوا يقولون بأنهم إنما يفعلون ذلك من أحل الحصول على "اللحم" من أي مصدر يقومون، هم وكلابهم المدربة، بصيده في السهول أو بأعماق غابات رواقية مغلقة (gallery forests).
وكان صيد الطرائد في بلاد الزاندي أمرا عسيرا يتطلب تتبعا مرهقا. فقد كان عليهم أولا تنظيف الممر الذي سيسلكونه في الغابة من الأعشاب والنباتات المتعرشة القوية الخشنة (lianas). ويجب على الصياد المتتبع للطرائد في وسط الأعشاب الطويلة الكثيفة أن يبقى في غاية الحذر، إذ أن تلك الأعشاب توفر غطاءً ممتازا للحيوانات المفترسة. وإذا أهمل الصياد في الاحْتِرَاز، فسوف تنقلب الأدوار، ويغدو الصياد هو المَصيد. ما العجب إذن أنه عندما تنتهي عملية مطاردة وصيد الطريدة أو الفيل (مثلا)، وبعد اشباعهم لغريزة سفك الدماء أن يقطعوا لحمه النِّيء ويأكلونه وهو ما زال دافئا، وأن يجلسوا، متعبين وشِبَاع ولكنهم عطشى، في معسكرهم على ضفاف أقرب نهير في منطقة موبوءة بذبابة التسي تسي؟
ولم يكن الآخرون من سكان المنطقة بأكثر استعدادا لتنفيذ تعليمات الحكومة وتفادي مناطق السقيا الخطرة. فكان صائد السمك من رجال الزاندي يرمي بشباكه بدقة ومهارة فائقة في بحيرته المفضلة، بينما تؤثر زوجه أن تنْسَلَّ بمفردها إلى حيث يوجد مصدر صغير للماء قرب كوخها عوضا عن السير لنصف ميل لتملأ قَنانِيها المصنوعة من الطين أو القرع من موقع الماء الذي جهزته الحكومة لهم قبل مدة قصيرة حمايةً للسكان من الإصابة. كيف نُفْهَمْ هؤلاء البدائيين الجهلاء أنهم يخاطرون بحياتهم باتباعهم لممارساتهم التليدة؟ لا عجب إن لم يغير شعب الزاندي شيئا من عادات وأساليب حياته القديمة إلا بعد تعثر ونزاع، وواصل في استخدام المياه من الشواطئ التي لم يتم تنظيفها، ومن بحيرات الغابات البعيدة، وكان لا يلقي بالا للكلمات الغريبة التي أتت بها الحكومة لهم. وإلى أن يتمكن الأطباء وباشمفتش المنطقة من إقناع الناس بأن عضات ذبابة التسي تسي تعني الموت - الموت المحتوم كما الجرح الذي تحدثه واحدة من حرابهم المسمومة – فليس بالإمكان السيطرة على المرض. وبإمكان ذبابة التسي تسي العيش لمدة عام كامل، وبذا فإن لديها الفرصة كاملة لنشر الإصابة.
وكانت أكبر الصعاب التي كان على الإداريين القبول بها والعيش معها هي أن تقسيم أفريقيا بين القوى الأوربية وتَعْرِيف حدود السودان الجنوبية كان مبنيا على اعتبارات وأسباب سياسية فقط. ويبدو مثل ذلك التقسيم لعالم الأعراق البشرية (ethnologist) تقسيما اعتباطيا خالصا، رسم خطوطا عبر وسط أفريقيا دون دراسة متروية، وأفضى لتقسيمها دون أدنى اعتبار للوحدات القبلية. وتحتل قبيلة الزاندي (المعروفة باسم "نيام نيام" أو "أكلة لحوم البشر") منطقة شاسعة جدا تمتد على طول حدود السودان مع الكنغو البلجيكي وأفريقيا الاستوائية الفرنسية.
وكان عدد الزاندي في منطقة "طمبرة" وحدها نحو 100,000 نسمة، وما يربو على مليوني نسمة في منطقتين أخريين. وكان وجود الزاندي على جانبي الحدود يعني أن تحركهم بين السودان والبلدين المجاورين كان أمرا لا مفر منه. فالأقارب والأصدقاء يزورون بعضهم البعض باستمرار، وعندما يموت أحدهم تتوافد أعداد كبيرة من الأقارب ليشهدوا دفنه، ويصلوا عليه إرضاءً لأرواح من رحل عنهم، أو ليضمنوا عدم غشهم فيما سيرثونه من تَرِكة الميت، حتى وإن كانت مجرد حصيرة قصب أو جزءاً صغيرا من كَثِيب نِّمَال (anthill). ويلجأ الزاندي لاستشارة الكهان أو العرافين عندما يمرض رجل منهم أو يضيق صدره من بيته. وتتم تلك الاستشارة، إما بإعطاء دجاجة نوعا من السم، أو بإدخال قطعة خشبية إلى كَثِيب للنمل الأبيض (الأَرَضة). وإذا نفقت الدجاجة أو أكلت الأَرَضة الخشب، فينبغي على الرجل الرحيل فورا عن بيته ويبحث له عن مسكن جديد. ولا يقيم ذلك الرجل أدنى وزن لأوامر الحكومة عندما يرى الطَوَالع والنذر بائنة أمامه تحثه على الرحيل عن داره والسكن في مكان آخر. ولا يبالي الرجل بالسير لداره الجديدة على أي طريق، حتى وإن كان على غير الطرق (الآمنة من الإصابة بالمرض) التي حددتها الحكومة للسكان في المنطقة. ويختار الرجل السير دوما عبر أقصر الطرق خلال الغابات الاستوائية المجاورة للنهيرات المحاطة بالأشجار والأعشاب الكثيفة التي يكثر فيها ذباب التسي تسي. وكان زيت النخيل من بضائع أفريقيا الاستوائية الفرنسية التي يقبل عليها بشدة غَنادِر الزاندي لاستخدامه مُسُوحا للبشرة. وكان الزاندي يبتاعون من الكنغو البلجيكي بأسعار أرخص مما هو الحال في جنوب السودان بضائع مثل رؤوس الحراب وأَسِنَّة الرماح والفؤوس (وهي أشياء تدفع كمهر للزواج)، إضافة للبارود والسم الذي يستخدمونه عند استشارة الكهنة والعرافين.
وبالإضافة لكل ما سبق ذكره فإن التنظيم والتركيبة الاجتماعية وتاريخ الزاندي الْفَارِطِ جعلهم لا يثقون في أي شكل من أشكال الحكومات سوى في حكم سلاطينهم (من العشائر الملكية المسماة الأفنيقاراAvungara ). ورغم أن الأفنيقارا لا يمتون بصلة عرقية لمحكوميهم من الزاندي، إلا أنهم في أيام كتابتي لهذا الفصل قد صاروا يجسدون الطبقة الحاكمة في القبيلة، وقبل بهم الزاندي رغم خوفهم منهم وكراهيتهم لهم. وكان مَقْت السلاطين ورعيتهم من الزاندي لـ "التُّرْك/ الأتراك" ماثلا في حوافِظُهم بسبب الفظائع التي كابدوها جراء غارات تجار الرقيق في غضون سنوات الحكم التركي – المصري. وكانوا، لسوء الحظ، يعدون كل رجل أبيض البشرة من "التُّرْك"، وكان ظهور مسؤول بريطاني أو طبيب سوري إشارة لكل الأهالي بالمنطقة ليتفرقوا ويختبؤوا في الغابة إلى أن ينصرف الرجل الأبيض بعيدا عنهم. وعنما حاولت الحكومة لأول مرة نقل الزاندي من مناطق الخطر إلى القرى الخالية من ذبابة التسي تسي، سعى زعمائهم من الأفنيقارا (وقد كانوا غير متعاونين منذ البداية) بكل الطرق الاحتيالية لمنع مسؤولي الحكومة من أي اتصال بالأهالي، وأشاعوا بأن "الترك" يريدون سبي النساء القليلات (اللواتي لم يَكُنَّ ضمن حريم السلطان سلفا)، ويهدفون لاختطاف رجال القرى من الطرق لاستعبادهم.
وعندما وجدت الحكومة أنه من المستحيل عليها منع الأهالي من دخول المناطق الموبوءة، لجأت لجمع أكبر عدد ممكن المصابين بمرض النوم يمكن للفريق الطبي الصغير والمجهد المخصص لهذا المرض جمعه، وتوزيعهم في معسكرات خاصة لا يمكن لهم منها أن ينقلوا المرض لغيرهم. وفي البداية كانت تلك المعسكرات، لا مَحَالَةَ، غير مقبولة للناس، فالمرضى والمشرفين على الموت ومن معهم من الأزواج والأقارب الذين يقومون على خدمتهم كانوا قد وجدوا أنفسهم في عزلة تامة عن كل ما كانوا قد اعتادوا عليه من نشاطات فردية وقبلية. وكانوا يخشون أيضا من نوع حياة جديدة لم يألفوها من قبل. وبدت لهم الحياة في المعسكرات أسوأ من الحياة بالمستشفيات، التي كانوا في بدايات حكمنا يمجونها لكثرة أعدادا الموتى بها. فقد كان الذهاب للمستشفى في تلك الأيام يعني الموت المحتوم في وسط أغراب. ولم تكن نسب الموت العالية في المستشفيات بسبب سوء أو ضعف كفاءة الخدمات الطبية بالسودان، بل لأن أقارب المرضى كانوا لا يحضرونهم للمستشفيات إلا بعد استخدامهم للأدوية المحلية الخام، التي كانت كثيرا ما تضاعف من مرضهم وتقربهم من الموت. ولا يحضر الأقرباء للمستشفى المريض بعضة ثعبان إلا بعد أن يفشلوا في علاجه بربط رأس الثعبان فوق مكان العضة، ولا المريض بإصابة إنتانية (septic injury) إلا بعد أن يخفق علاجه بتلطيخ مكان الإصابة بروث البقر. حينذاك فقط يلجأ الأهالي لحكمة ومهارة ورعاية طبيب الحكومة. لا يمكن للمرء أن يعجب ويتعجب من أن كثيرا من المرضى قد ماتوا، بل العجب كل العجب هو ممن أبَلَّوا من "العلاج" المحلي الذي كانوا قد تلقوه قبل وصولهم للمستشفى.
وكان العزل التام لضحايا مرض النوم أمرا مقيتا للأهالي، وبدا واضحا للحكومة أنه من المستحيل إيقاف انتشار المرض بتلك الطريقة. لذا قررت الحكومة إقامة مستوطنة تمكن المرضى من العيش مع عائلاتهم. وبعد اتخاذ الحكومة لذلك القرار كان عليها العثور على موقع (مناسب) لإقامة نوع جديد من المعسكرات. وأسندت تلك المهمة للرائد بازل سبينس بالفيلق الطبي بالجيش الملكي (الذي صار فيما بعد نائبا برلمانيا لمنطقة أوركني وشيتلاند بين عامي 1935 و1950م)، والذي اختار منطقة Source Yubo الحدودية الفاصلة بين السودان وأفريقيا الوسطى الفرنسية والكنغو البلجيكي كأفضل موقع لتلك التجربة.
وتم تعيين الدكتور باز مشرفا طبيا مسؤولا عن تحويل المرضى لمنطقة Source Yubo من المعسكر القديم في طمبرة. وصادف ذلك التعيين أهله تماما، إذ لم يكن هناك من هو أفضل من ذلك الطبيب الودود، الدائم الابتسامة والمرح حتى في أوقات الشدة، والذي لا يأبه بالصعاب والمخاطر. كان الزاندي يحبونه لاستعداده الدائم للمزاح وتبادل الدعابات والمُلْح معهم، وهم قوم يستمتعون بالفكاهة، ويقدرون خصلة دكتور باز النادرة في الاستماع بصبر واهتمام لشكاويهم التي لا تنقطع، ولمهارته في تَطْبِيب أدوائهم المتنوعة. ولم يقف عمل الدكتور باز عند حد علاج المرضى وتخفيف آلامهم، بل ساهم بفعالية في تقليص نفوذ المعالجين المحليين، وفي كشف خداعهم واحتيالهم على من يترددون عليهم من المرضى. وبذا حرر المَعثُوثين الذين كان يعالجهم من مخاوفهم الكبرى في الحياة، وزاد من ثقتهم فيه.
********** ********* *********
قال لي دكتور باز ذات ليلة: "كان الحشد الذي قدته من طمبرة في العشرين من فبراير عام 1920م حشدا فوضويا شديد الاضطراب. لقد قضينا عامين كاملين ونحن نقيم أكواخا في المعسكر القديم، وننظف الأرض للزراعة. ولم يفهم الناس لماذا – بعد كل هذا العمل المتعب – نطلب منهم هجر بيوتهم وبناء مساكن جديدة على بعد 25 ميلا. لم الانتقال من قطعة من الغابة إلى قطعة غابة أخرى قريبة منها؟ كان كثير من جماعتي في حالة متقدمة من المرض وكانوا ضعفاء البِنْيَة ويصعب عليهم التنقل. ساروا محملين بممتلكاتهم القليلة – الحراب وحصائر القصب وقُرَع المياه، والمقاعد الخشبية الصغيرة، والماء والطعام. لم تكن هنالك ممرات للسير، وكان عليهم أن يشقوا طريقهم في وسط الأعشاب والشجيرات الكثيفة. وكان كثير منهم يتخلفون عن اللحاق بالجماعة، مما يضطر الحشد للتوقف والبحث عن "المفقودين" حتى يكملوا الرحلة (للمقر الجديد). كان سيرنا نحو المقر الجديد بالغ البطء غير أننا أفلحنا، بطريقة أو بأخرى، في الاستمرار في السير. وفي اليوم التالي صعدت فوق كَثِيب نِّمَال، وأطلَّلت – وأنا أحمي عيني من وهج الشمس – على داخل الغابة المحيطة بي. ورأيت في مكان ما بين الأعشاب الطويلة حولي 669 رجلا وامرأة وطفلا، أغلبهم من المصابين بمرض النوم. ورأيت أيضا على البعد، ذلك المكان الذي سنسير نحوه. وعلى بعد أكثر رأيت صفا من أشجار المهوقني الضخمة وأشجار غابية أخرى. وكنت أعلم أن ذلك المكان هو لمجرى نهر يوبو الصغير الذي سنقيم عليه مقرنا. وعندما بلغنا أخيراً Source Yubo، وجدت أن كل مرضاي المنهكين قد وصلوا بسلام، ولم يتخلف منهم أحد".
لقد تم ترحيل أولئك المرضى لمستوطنتهم بإتقان ومهارة. وقال لي دكتور باز بأن رحلته مع مرضاه ذكرته برحلة الخروج من مصر. وأضاف قائلا: "كثيرا ما غبِطَت بني إسرائيل على عمود السحاب نهارا، الذي كان سيحمى مرضاي من أشعة الشمس الحارقة، وعلى عمود النار ليلا، الذي كان سيضيئ لذلك الموكب المضطرب الطريق!". وعندما قرب موعد غروب الشمس قام واحد من رجال الزاندي وضع حجرا بين تشعب في جذع شجرة (fork of a tree) بقصد تأخير مغيب الشمس (4). ذَكَّرَ ذلك الفعل دكتور باز بحادثة توراتية أخرى، كانت أكثر نجاحا، عندما قام جوشوا (يوشع بن نون. المترجم) بحبس الشمس عن المغيب. وحمل الأهالي مشاعل من أغضان الأشجار لإخافة وطرد الحيوانات المفترسة. غير أنها لم تستمر في الاشتعال إلا لفترة وجيزة، دَمَسَ بعدها الظَّلامُ أكثر فأكثر، وبدا حفيف الأعشاب الجافة الطويلة أشد عدوانية.
غير أن "الأرض الموعودة" في Source Yubo لم تقدم للزاندي المصابين بمرض النوم شيئا يذكر سوى القليل من العسل للمغامرين منهم الذين كانوا يستخرجونه بالدخان الذي يطلقونه في نَخارِيب النحل. فلم يكن بتلك المستوطنة أي لحم أو لبن أو ذرة أو خضروات. كل ما كان لديهم هو دجاج بائس الهيئة وكلاب صغيرة ممتلئة جلبوها معهم. وكانت تلك الفصيلة من كلاب النيام نيام، التي تسمى بيسنجيBasenji (5)، قد نالت لاحقا اهتماما كبيرا عند رواد مهرجان عرض الكلاب الأشهر (Crufts). وكان الزاندي يرَبَّون ثلاثة أنواع من الكلاب: نوع عادي يأكلونه، ونوع ثانٍ لونه بين السواد والسُمرَة يستخدمونه في الصيد، ونوع ثالث كامل السواد ويستخدم أيضا في الصيد. ويقدر الزاندي النوعين الأخيرين تقديرا كبيرا ولا يقبلون ببيعهما بأي ثمن. ولعل ندرة الكلاب السوداء هنا هو ما يعطيها أهمية سحرية في أوساط القبيلة. ولا يزيد طول تلك الكلاب عن طول الكلاب من فصيلة كورقي Corgi، وشعر جلدها قصير وشديد اللمعان، وذيولها معوجة مثل ذيول الخنازير. لم أر في حياتي كلابا مثل كلاب الزاندي السوداء، إذ أنها أقرب للقطط شبها، فسلوكها ونهجها في الحياة يتميز باستقلالية متفردة. ومن الغريب أن كلاب الزاندي تمتاز بصفة ليست عند الكلاب الأخرى وهي عدم قدرتها على النباح.
وظل كل فرد في مستوطنة Source Yubo يعيش على قليل من اللحم المعلب والدقيق المجلوب من يامبيو، الواقعة على 130 ميلا، إلا عندما يجد دكتور باز وقتا – في وسط مشاغله الجمة – ليصطاد لهم جاموسا أو غزالا. ولحسن الحظ كانت تلك المنطقة تَعُجُّ بحيوانات الصيد. وكان الرائد جي. كي. موريس (من الفيلق الطبي بالجيش الملكي، الذي بذل الكثير للسيطرة على مرض النوم)، قد قضى وقتا طويلا في Source Yubo، وكان يقول بأنه يستطيع أن يرى من بيته قطعانا من الجواميس والظبيان السمراء وثيتل الهرتبيس وحيوانات مختلفة أخرى وهي تهجم على المحاصيل القليلة التي تمكن سكان المستوطنة – مع مرور السنوات - من زراعتها. أما ظبيان الماء، فقد كانت ترعى نباتات حديقة دكتور موريس، ثم تتخذ من فرندته مأوًى لها من المطر. وكنت من تلك الفرندة أراقب شمبانزي دكتور باز وهو يعض بفمه على قطعة معدنية (نصف قرش) ويقود دراجة هوائية متجها لسوق البلدة لشراء "عبار" من المريسة، كما هي عادته كل صباح، ثم يعود للبيت لاحقا وهو يتأرجح لينام حتى تذهب سكرته.
ولولا وجود حيوانات الصيد في تلك المنطقة فلربما هجرها معظم ساكنيها كليا، إذ أن الزاندي يتأقلمون على مضض وبصعوبة، على الحياة الجماعية. ولكن – كما ذكرت في بداية هذا الفصل - لهم اِشتِهاء وتَوَّاق شديد للحم. وكانت إمكانية حصولهم على وجبات من لحم جاموس أو غزال (في هذه المستوطنة) كفيلة بجعلهم يرضون بالبقاء فيها، عوضا عن الاكتفاء بسد جوعهم من أكل الجرذان والقواقع والثعابين في غيرها من المناطق. وكان اِشتِهاءهم وتَوَّاقهم للحم من الشدة بحيث كانوا يلتهمون كل ما يزحف أو يسبح أو يمشي أو يطير. بل أقدم المرضى في مستوطنة Source Yubo على أكل لحم شمبانزي المفتش الطبي بعد أن نفق عقب إصابته بالتهاب رئوي. وفي مناطق أخرى، يُقْتَلُ الكلب المُصَابٌ بِدَاءِ السُّعارِ، وعندما تحتاج السلطات لفحص دماغه (للتأكد من الإصابة بذلك المرض. المترجم)، لا تجد ذلك العضو، إذ أنه يكون قد اُلْتُهِمَ قبل وصول المسؤول!
ويعزَى الكثيرون ممارسة الزاندي لأكل لحم البشر لعوز اللحم، والحاجة لتَكْمِيل نظامهم الغذائي الذي يفتقر إلى البروتينات. وسبق أن ألجأت الضرورة الأفارقة لأكل لحوم البشر مثل ما يحدث مع البحارة عند تحطم سفينتهم، أو عند محاصرة مدينة ما لفترة طويلة، أو مثلما حدث في أم درمان في مجاعة سنة 1889م - 1306هـ (انظر الرابط لمقال حول نفاق التاريخ الأوروبي حول أكل لحوم البشر- 6 - المترجم). ومن ناحية أخرى قد تكون تلك الممارسة بسبب ما يسمى بـ "sympathetic magic" (وهي تُعْرَفُ قاموسيا بأنها طقوس بدائية أو سحرية تتم باستخدام أشياء أو أفعال تشبه أو ترتبط رمزياً بالحدث أو الشخص المطلوب التأثير عليه. المترجم). فعبر الأجيال، وفي كثير من مناطق العالم كان هناك اعتقاد بأن أكل المرء لجزء من لحم محارب أو حيوان مفترس يكسبه شجاعة ذلك المحارب أو الحيوان. وأعلم شخصيا عن أمير مهدوي في أم درمان كان يفتخر بأنه كان يلتهم أكباد أعدائه الذين يقتلهم في المعارك. وكان الفايكنغ (ملاحو السفن وتجار ومحاربو المناطق الاسكندنافية. المترجم) يشربون من جماجم الموتى – وخلّدوا إلى اليوم تلك الممارسة بالتَفَوُّه بكلمة "Skole" عند شرب الأنخاب! وعندما جرب الزاندي لأول مرة طعم لحم البشر واستساغوه (مثلهم مثل الفانج Fans /Fangs في غرب أفريقيا، الذين يشاركونهم في كثير من الخصال) بدأوا في أكل لحوم بعضهم إشباعا لتلك الرغبة في تذوق ذلك الطعم. ومنذ وقت ليس ببعيد كان اللحم البشري يعرض علنا في بعض الأسواق بغرب أفريقيا (7).
********** ********** ************
عندما أحضر دكتور باز مرضاه إلى Source Yubo وجد نفسه مواجها للمرة الثانية بمهمة ضخمة في غاية العسر. كان عليه أن يقضي على ذبابة التسي تسي، وأن ينظف الأرض لتكون صالحة للزراعة، وأن يبني المساكن (التي تتهدم بسرعة بشدة بعد فترة قصيرة من بنائها بفعل النمل الأبيض). ولتنظيف المستوطنة من كل مسببات الإصابة، كان عليه تنظيف شواطئ النهيرات من الأشجار والشجيرات والأعشاب الطويلة لمسافة نحو 200 ياردة. وتطلب الأمر أيضا اقتلاع جذور بعض النباتات وإسقاط بعض الأشجار (بالمناشير)، وتجفيف مستنقعات بعض الأماكن. وجُلِبَ للمنطقة نبات "شعير الرمال الزاحف" couch grass / Seri -seri من مركز تبشيري يقع على بعد أميال كثيرة، وزرع على شواطئ النهيرات لمنع الشجيرات من النمو مجددا. وثبت للمسؤولين أن العمل المستمر كان أمرا شاقا مزعجا للزاندي الذين يحبون المرح والانطلاق، ولا يأبهون بالعمل ولا الالتزام به. فكانوا مثلا على استعداد لترك العمل في المزرعة والذهاب للبحث عن قرود كلوبوس (colobus monkeys) يصطادونها لعمل "حلة" لحم. ولم يمكن تنظيف الأرض بحرق الحشائش فيه، إذ أن الزاندي سيحتاجون لتلك الحشائش مستقبلا لعرش أكواخهم. ولكن كانت سقوف تلك الأكواخ مخبأً للحيوانات المفترسة والثعابين. وكان "عشب الفيل" ينمو بسرعة شديدة، إذ لم تكن هناك من حيوانات مستأنسة ترعى في المنطقة، ومن الممكن أن يصل طول هذا العشب في بضع سنين إلى 10 أو 12 قدما. وحتى بعد عمل ممرات خلال العشب، قد تظهر فجأة كُثُب نِّمَال ارتفاعها ثلاثة أقدام أو أكثر في وسط ممر ما، أو تحت أحد الأكواخ – وهي أكوام من التراب الأحمر تتحجر مثل الأسمنت في غضون ساعات، ويتعذر إزالتها. وتطوف النمور حول المعسكر ليلا ويُسْمَعُ هريرها وغطيطها، بينما يعم الرعب من في المعسكر عندما سماع زئير الأسود الذي يكاد يهز أرجاء المنطقة باسرها. وتجرأ أحد تلك الحيوانات المفترسة للبشر – مدفوعا بالجوع الشديد – بالدخول في المستوطنة واختطف امرأة من عتبة مسكنها.
وفي البدء كان من المستحيل الاستمرار في توفير الأغذية والأدوية للمستوطنة. وكانت تلك اللوازم تصل لواو بالباخرة عندما تكون الملاحة النهرية متيسرة في موسم الأمطار. غير أنه لم يكن من الممكن نقل تلك المواد من واو إلا بعد توقف الأمطار. وعندما لا تكون الملاحة ممكنة في "نهر الجور"، فإن أقرب موقع هو "مشرع الرك" على النيل الأبيض. ومن هناك تقوم الباخرة الناقلة للبريد (بصورة غير منتظمة) بحمل بعض البضائع القادمة من الخرطوم. ثم تنقل تلك البضائع إلى واو، على بعد 109 ميلا، ومنها توزع على بقية المناطق البعيدة بالجنوب. وبما أن Source Yubo تقع على بعد 190 ميلا جنوب واو، فالمسافة التي تقطعها تلك البضائع تقارب 300 ميلا. وكانت المستوطنة تعتمد كليا على خط ذلك النقل المحفوف بالمخاطر. ولا يخلو النقل لتلك المسافات الطويلة بالطبع من هدر أو حتى ضياع لبعض البضائع الأساسية المهمة. فقد كان بعضها يفسد عند عبور حامليها للنهيرات العديدة في الطريق، أو عندما تهطل على رؤوسهم أمطار عواصف مدارية عنيفة. وكان الحمالون يتركون بعض البضائع على الطريق عندما يصابون بمرض ما، أو عندما توهن عزائمهم بسبب مسيرتهم الطويلة المضنية. إضافة لذلك كانت البضائع تتعرض في الطريق للسرقة، مما ينقص من كميتها قبل بلوغها وجهتها النهائية.
وعندما نقصت كميات الأدوية والملح بالمستوطنة، غادرها المرضى وهم يحسون بِالقُنُوطِ والإحباط، إذ أن الملح (الذي كان ولا يزال نادرا، بل ويُعد سلعة كمالية عند أفراد القبائل الجنوبية) كان ضروريا في Source Yubo بصورة خاصة لأنه كان يدخل في بعض العلاجات، ولأنه كان يستخدم كحافِز للمرضى للحضور للعلاج في العيادة.
وظلت أوضاع الغذاء بالمستوطنة مصدر قلق مستمر. وعندما هجمت الخنازير البرية والسناجيب والقرود وحيوانات الصيد على ما زرعه الزاندي من محاصيل، وعندما زُرِعَ نبات الكسافا أو المنيهوت قام بعض سُرّاق الزاندي باقتلاع نحو 20 – 30 نبتة من جذورها كل ليلة ليصنعوا بها وجبة، عوضا من الانتظار 18 شهرا حتى ينضج المحصول تماما. وعندما جلبنا من الخرطوم– بصعوبة بالغة - بعض المَعَز للمستوطنة كي تتم تربيتها وزيادة أعدادها، قام الزاندي فورا بذبح وأكل أكثرها. ولاحقا، غدا ما بقي من تلك المَعَز مصدر مضايقة وإزعاج إذ أن الأهالي كانوا يخشون من أن يقوم نمر من النمور التي تحوم حول المستوطنة بالهجوم على المَعَز إن ربطوها بجوار سكنهم، لذا كان يطلقونها ترعى كما تشاء، وكثيرا ما كانت تأكل نباتي الموز والموز الأفريقي على جانبي الطريق.
وأخيرا، تكلل ذلك العمل الرائد بالنجاح واختتم بعد أن أفلح دكتور باز – بعد سنوات من العمل الشاق – في الاشراف، بتوفيق كبير، على مستوطنة لمرض النوم بها نحو 2,000 من المرضى و6,000 من أقربائهم. ووجد دكتور باز أيضا وقتا لينظف قطعة مجاورة للمستوطنة ويقيم عليها معسكرا أصغر لنحو ألف من مرضى الجُذَام وأقربائهم. وبلغت مساحة المستوطنة وذلك المعسكر عشرين ميلا مربعا، وتقع على أنهار ونهيرات تم تنظيف شواطئها وزُرعت بنبات "شعير الرمال الزاحف"، وبها طرق بحالة جيدة يبلغ طولها 20 ميلا.
يبدو أن المعركة ضد مرض النوم قد كُسِبَتْ تقريبا، رغم أنها كانت معركة طويلة وصراعا شاقا، ليس فقط ضد الطبيعة، بل أيضا ضد مُقَاوَمَة وعِدَاء الكثير من الأهالي، والمُنَاوَأَة الخفية عند الجميع.
وعندما بلغت Source Yubo في شتاء 1926م وجدت أن كل تلك المشاكل الباكرة قد حُلَّتْ. فسكان المستوطنة كانوا سعداء، رغم مرضهم الْوَبِيل، وتخلصوا من ارتيابهم من الذين وهبوا حياتهم من أجلهم. وغدا مجتمعهم مكتفيا ذاتيا، وينتج الكثير من الفواكه والخضروات الطازجة والأغذية الأخرى. وتم تدريب عدد من الحرفيين والصُنّاع (الصنايعية). ولم تكن هنالك أي حاجة لجلب أي شيء من خارج المستوطنة سوى الملح والأدوية.
ولم يبق الآن على قيد الحياة من أولئك الرجال الذين صنعوا تلك المعجزة سوى القليل. ولكني كنت كلما أفكر فيهم، أتذكر كلمات روديارد كبيلينج Rudyard Kipling (من ترجمة الأستاذ سيف الدين عبد الحميد).
(إن هيَ بعثت بخدمِها في ظلِّ صراعِنا مع الألم،
وإن هي صارعتِ المنايا فصرعتها وثلمتْ سيفَها،
وإن هيَ استردت إلينا عافيةَ مريضِنا مرةً أخرى،
فتشبثت شفاهُ الطفلِ العليلِ الواهنةِ بثديِ أمِّهِ،
فهل ما صنعته يعدُّ بعدُ شيئاً يسيراً؟
إن كان كذلك فإن الحياةَ والموتَ والأمومةَ لم تكُ شيئا.)
(If she have sent her servants in our pain,
If she have fought with Death and dulled his sword,
If she have given us back our sick again
And to the breast the weakling lips restored,
Is it a little thing that she has wrought?
Then Life and Death and Motherhood be nought.)
********** ********** ************
إحالات مرجعية
(1) المقصود بـ "الموت الأسود" هو الطاعون (plague)، وهو مرض بكتيري معدٍ تنقله برغوث يعيش على الجزدان، انتشر في أوروبا بين 1347 و1351م. https://www.cdc.gov/plague/index.html
أما "الانفلونزا الاسبانية" فقد تسببت في إصابة 500 مليون نسمة (أي ثلث سكان العالم)، مات منهم 50 مليون نسمة. https://bit.ly/3ezuczc
(2) للمزيد عن مرض النوم (اسمه العلمي داء المثقبيات الأفريقي African Trypanosomiasis) انظر لما جاء في الرابط: https://bit.ly/3kymh8V. وكان عالم الكيمياء البريطاني أرثر جيمس اويز Arthur James Ewins هو من طور دواء بينتاميدن pentamidine أول دواء لهذا المرض عام 1938م.
(3) الاسم العلمي للطفيل المسبب للمرض في شرق أفريقيا Trypanosoma brucei rhodesiense ، بينما يُسمى في غرب أفريقيا Trypanosoma brucei gambiense.
(4) سجل العالم البريطاني إيفانز - بريتشارد الكثير عن معتقدات الزاندي في كتابه المعنون:
Evans-Pritchard, E.E. (1937). Witchcraft, Oracles, and Magic Among the Azande. Oxford: The Clarendon Press.
(5) للمزيد عن هذه الكلاب يمكن الاطلاع على محتوي هذا الرابط: https://bit.ly/3zS022l
(6) مقال لسارة ايفرتز في مجلة Smithsonian في الرابط https://bit.ly/3lf6Jrg
(7) خبر صحفي في عام 2014م ورد هنا: https://bit.ly/37awkJK
alibadreldin@hotmail.com