في السودان مجنزرات ضد ثورة ناعمة
جمال محمد ابراهيم
31 October, 2021
31 October, 2021
(1)
ثورة مثل ثورة السودانيين على نظام البشير الشمولي، الذي جثم على صدورهم لثلاثين عاما، تمثل تجربة ينبغي أن تتدارس بداياتها ونهاياتها ، شعوب مغلوبة على أمرها تقف في صف الانتظار لتهبّ على نظمها الاستبدادبة وحكامها الطغاة. لو نظرت الى تجارب أمم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في السنوات التي خرجت معظم شعوبها من ربقة الاستعمار والإدارات الكولونيالية في النصف الأول من القرن العشرين، ستجد قواسم مشتركة تتمثل في نظم سياسية تخلقت من أصابع الكولونياليين الكبار، تتشابه نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلى حدود التماهي. ثمّة إرث شمولي يكاد يشكل طبيعة فيها ، ومظاهر استشراق مثل التي حدّث عنها إدوارد سعيد ، فكأن ثقافاتها تماثيل فولكلورية قابعة في متحف عاديات. أخرجت تلك الشعوب فئاتٌ من نخبها، ونقلتها بعد سنوات الحرب العالمية الثانية إلى رحاب التحرر والاستقلال. من براثن الجهل والمرض والتخلف ، جهدت نخب من طلائع المتعلمبن المستنيرين لتولي تلك المهمّة العسيرة. كان للإعلان العالمبي لحقوق الانسان الأثر الأكبر في تحقيق كثير من بلدان العالم الثالث وخاصة بلدان القارة السمراء. غير أن شعوب تلكم البلدان تعثرت في مسيرتها للبناء وللتنمية ، فسقطت في فخاخ نظم استبدادية توارث حكمها نخب من أسر حاكمة، أو عقائديون أنصاف أنبياء أو عسكريون انقلابيون أنصاف أمراء.
السودان ، هذا البلد الممتد في الوسط الأفريقي، بين قوسي الشرق الأوسط والشمال الأفريقي، ليس حالة مستثناة.
(2)
نخبٌ من المتعلمين من أبناٌء السودان ومن المْتنيرين ، تولّوا قيادة البلاد من كهوف التخلّف إلى براحات التحرّر والاستقلال الوطني . غير أن علل التخلف وهي متلازمة من متلازمات بلدان العالم الثالث، أفضت بهم إلى حالٍ من قصر النظر لم تنجز معه مطلوبات بناء الأمة، فانقضّتْ نخبٌ عسكرية تربّعتْ على الحكم فيها بلا مسوغات . في الستين عاما وأكثر والتي انطوت منذ استقلال السودان عام 1956 ، تقلبتْ البلاد بين نظمٍ ديمقراطية في سنوات قليلة، ثم أخرى عسكرية ولسنوات أطول . دارت تلك الدائرة الشريرة دوراتها لأكثر من ثلاث مرات خلال ستين عاما أو يزيد. لقد كانت تلك دائرة شريرة بلا مراء. حين ظنّ الجميع أنّ انتفاضة السودانيين على حكم الطاغية البشير في ديسمبر/كانون الأول من عام 2018، ستضع خاتمة توقف تلك الدائرة الشريرة في السودان، فاجأهم العسكر من جديد- مثلما فاجأ العالم - بانقلابٍ تقليدي ، قاده جنرال واحد إسمه البرهان، بمزاعم تصحيح المسيرة. إلا أن أحوال انقلاب الرّجل ، لن تكون مثل أحوال انقلاب من سبقوه : مثل الجنرال عبود عام 1958 ، أو الجنرال نميري عام 1969، أو الجنرال البشيرعام 1989. سيتفاجأ جنرالات السودان هذه المرّة، بمجابهات مع مقاومة ناعمة وشرسة في ذات الوقت . شباب يقود حراكه الثائر بنفسه ، دون انتظار لنخب مصطفاة لتقودهم. .
(3)
لعلّ أول تجليات الحداثة التي رافقت بزوغ القرن الحادي والعشرين ، تمثلت في ظواهر العولمة وثورة الاتصالات والانفتاح على امكانات التواصل الرقمي والافتراضي. فيما انشغل المفكرون العرب بمشكلات النهضة والحداثة لزمان طويل - على قول المفكر العربي علي حرب- فإنّ واقع الحراك والانتفاضات الشبابية التي تجلّت في وخلال ما وصف بثورات الربيع العربي في مصر وليبيا وتونس ، قد تجاوزتها بفراسخ ، ولم تعد من حاجة لنخب مستنيرة تتولى القيادة والتجييش ، كما في السابق. يكفى الشباب أن يكون حراكهم محتدماً إثر كبسة زرٍّ على موبايل، فيجتمع الألوف منهم ليهدّوا جداراً يتوارى خلفه ديناصور من ديناصورات الاستبداد. تلك استنارة العولمة التي تفوّقت على الاستنارة التقليدية التي أنجبتْ في زمان مضى ، نُخباً كان لها تاريخ ومكان. .
(4)
الانقلاب الذي وقع في السودان فجر يوم 25 أكتوبر /تشرين 2021 - وإن جاء بمبررات حماية ثورتهم التي أشعلوها منذ ديسمبر 2018، فإن شباب تلك الثورة بادر بما يشبه السحر إلى تشكل صفوفه، وهبَّتْ جموعهم فجراً إلى الطرقات لاحتلالها ، قبل أن تحتلها المجنزرات. لم ينتظر الشباب قائداً يأخذهم إلى المواجهات، ولا بطلاً يتصدّر حراكهم ، ولا خطيباً مفوّهاً يردّدون معه شعارات الثورة : حرية ، سلام وعدالة . كلا . لا حاجة لهم لمن يتبرع باعانتهم في حراكهم ، إذ هُم من صاغوا الشعارات . هُم من زيّنوا الجدران بوجوه شهداء ثورتهم. هُم من كتبوا الأشعار. هم من أنشدوا وتغنوا لثورتهم. قبل ذلك كله هم من فتحوا صدورهم لاستقبال هجوم المجنزرات . .
سيتعب الإنقلابيون طويلا لفهم كيمياء ثائرات وثوّار لا يتعبون ولا يغتمض لهم جفن ، ساروا في شوارع الخرطوم يرفعون الشعارات بلا كلل ولا ملل. لم يُسمعوا أصواتهم للإنقلابيين فحسب ، بل بلغت أصواتهم أسماع العالم . .
الخرطوم 25 أكتوبر 2021
ثورة مثل ثورة السودانيين على نظام البشير الشمولي، الذي جثم على صدورهم لثلاثين عاما، تمثل تجربة ينبغي أن تتدارس بداياتها ونهاياتها ، شعوب مغلوبة على أمرها تقف في صف الانتظار لتهبّ على نظمها الاستبدادبة وحكامها الطغاة. لو نظرت الى تجارب أمم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في السنوات التي خرجت معظم شعوبها من ربقة الاستعمار والإدارات الكولونيالية في النصف الأول من القرن العشرين، ستجد قواسم مشتركة تتمثل في نظم سياسية تخلقت من أصابع الكولونياليين الكبار، تتشابه نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلى حدود التماهي. ثمّة إرث شمولي يكاد يشكل طبيعة فيها ، ومظاهر استشراق مثل التي حدّث عنها إدوارد سعيد ، فكأن ثقافاتها تماثيل فولكلورية قابعة في متحف عاديات. أخرجت تلك الشعوب فئاتٌ من نخبها، ونقلتها بعد سنوات الحرب العالمية الثانية إلى رحاب التحرر والاستقلال. من براثن الجهل والمرض والتخلف ، جهدت نخب من طلائع المتعلمبن المستنيرين لتولي تلك المهمّة العسيرة. كان للإعلان العالمبي لحقوق الانسان الأثر الأكبر في تحقيق كثير من بلدان العالم الثالث وخاصة بلدان القارة السمراء. غير أن شعوب تلكم البلدان تعثرت في مسيرتها للبناء وللتنمية ، فسقطت في فخاخ نظم استبدادية توارث حكمها نخب من أسر حاكمة، أو عقائديون أنصاف أنبياء أو عسكريون انقلابيون أنصاف أمراء.
السودان ، هذا البلد الممتد في الوسط الأفريقي، بين قوسي الشرق الأوسط والشمال الأفريقي، ليس حالة مستثناة.
(2)
نخبٌ من المتعلمين من أبناٌء السودان ومن المْتنيرين ، تولّوا قيادة البلاد من كهوف التخلّف إلى براحات التحرّر والاستقلال الوطني . غير أن علل التخلف وهي متلازمة من متلازمات بلدان العالم الثالث، أفضت بهم إلى حالٍ من قصر النظر لم تنجز معه مطلوبات بناء الأمة، فانقضّتْ نخبٌ عسكرية تربّعتْ على الحكم فيها بلا مسوغات . في الستين عاما وأكثر والتي انطوت منذ استقلال السودان عام 1956 ، تقلبتْ البلاد بين نظمٍ ديمقراطية في سنوات قليلة، ثم أخرى عسكرية ولسنوات أطول . دارت تلك الدائرة الشريرة دوراتها لأكثر من ثلاث مرات خلال ستين عاما أو يزيد. لقد كانت تلك دائرة شريرة بلا مراء. حين ظنّ الجميع أنّ انتفاضة السودانيين على حكم الطاغية البشير في ديسمبر/كانون الأول من عام 2018، ستضع خاتمة توقف تلك الدائرة الشريرة في السودان، فاجأهم العسكر من جديد- مثلما فاجأ العالم - بانقلابٍ تقليدي ، قاده جنرال واحد إسمه البرهان، بمزاعم تصحيح المسيرة. إلا أن أحوال انقلاب الرّجل ، لن تكون مثل أحوال انقلاب من سبقوه : مثل الجنرال عبود عام 1958 ، أو الجنرال نميري عام 1969، أو الجنرال البشيرعام 1989. سيتفاجأ جنرالات السودان هذه المرّة، بمجابهات مع مقاومة ناعمة وشرسة في ذات الوقت . شباب يقود حراكه الثائر بنفسه ، دون انتظار لنخب مصطفاة لتقودهم. .
(3)
لعلّ أول تجليات الحداثة التي رافقت بزوغ القرن الحادي والعشرين ، تمثلت في ظواهر العولمة وثورة الاتصالات والانفتاح على امكانات التواصل الرقمي والافتراضي. فيما انشغل المفكرون العرب بمشكلات النهضة والحداثة لزمان طويل - على قول المفكر العربي علي حرب- فإنّ واقع الحراك والانتفاضات الشبابية التي تجلّت في وخلال ما وصف بثورات الربيع العربي في مصر وليبيا وتونس ، قد تجاوزتها بفراسخ ، ولم تعد من حاجة لنخب مستنيرة تتولى القيادة والتجييش ، كما في السابق. يكفى الشباب أن يكون حراكهم محتدماً إثر كبسة زرٍّ على موبايل، فيجتمع الألوف منهم ليهدّوا جداراً يتوارى خلفه ديناصور من ديناصورات الاستبداد. تلك استنارة العولمة التي تفوّقت على الاستنارة التقليدية التي أنجبتْ في زمان مضى ، نُخباً كان لها تاريخ ومكان. .
(4)
الانقلاب الذي وقع في السودان فجر يوم 25 أكتوبر /تشرين 2021 - وإن جاء بمبررات حماية ثورتهم التي أشعلوها منذ ديسمبر 2018، فإن شباب تلك الثورة بادر بما يشبه السحر إلى تشكل صفوفه، وهبَّتْ جموعهم فجراً إلى الطرقات لاحتلالها ، قبل أن تحتلها المجنزرات. لم ينتظر الشباب قائداً يأخذهم إلى المواجهات، ولا بطلاً يتصدّر حراكهم ، ولا خطيباً مفوّهاً يردّدون معه شعارات الثورة : حرية ، سلام وعدالة . كلا . لا حاجة لهم لمن يتبرع باعانتهم في حراكهم ، إذ هُم من صاغوا الشعارات . هُم من زيّنوا الجدران بوجوه شهداء ثورتهم. هُم من كتبوا الأشعار. هم من أنشدوا وتغنوا لثورتهم. قبل ذلك كله هم من فتحوا صدورهم لاستقبال هجوم المجنزرات . .
سيتعب الإنقلابيون طويلا لفهم كيمياء ثائرات وثوّار لا يتعبون ولا يغتمض لهم جفن ، ساروا في شوارع الخرطوم يرفعون الشعارات بلا كلل ولا ملل. لم يُسمعوا أصواتهم للإنقلابيين فحسب ، بل بلغت أصواتهم أسماع العالم . .
الخرطوم 25 أكتوبر 2021