مِـن عَصَـا “العَـشـا” إلى عَصَـا الجنَـرال

 


 

 

أقرب إلى القلب:
ذكريات أكتوبرية

(1)
تلك أيامٌ زاهيات في مدرسة المؤتمر الثانوية بمدينة أم درمان، في ستينيات القرن الماضي. .
كنّا في السنة الأولى، منكبين على دروس مرحلة الدراسة الثانوية، نتلقى دروسها على أيدي معلمين كبار، لهم باعٌ في التدريس بما ملكوا من قدرات ، وباعٌ أكبر في الهيبة بما عليهم من سمات الاحترام وقوة الحضور. جمعتْ المدرسة سودانيين وأجانب : الأستاذ جمال عـمّـار الذي يدرّس الدين الإسلامي لطلاب الفصول المتقدمة في مدرسة المؤتمر الثانوية، مصريٌّ من جماعة الإسلاميّ سيد قطب، فضّل التدريس في الخرطوم بعيداً عن القاهرة التي ما فتئت عيون البصّاصين تتابع حراكهم وسكونهم. يشاركه تدريس تلك المادة في الفصول الأدنى، معلم سوداني هو الأستاذ ابراهيم العـقـلي. عدنان الفلسطيني هو من درّسنا مادة الفيزياء، وقد تولى تدريس تلك المادة بعده الأستاذ محمد الرفيع. إثنان من المدرسين البريطانيين يدرّسان مادة الأدب الإنجليزي، هما الإنجليزي مستر "كوك" والأسكتلندي مستر " شــو" ، إلى جانب عددٍ من المدرّسين السودانيين، مثل الأستاذ "باسكوال"، وهو من أبناء جنوب السودان، والمُعلم محمد عثمان بابكر الذي فارق التدريس ليصير دبلوماسياً في وزارة الخارجية. من المعلمين الأفذاذ معلم اللغة الانجليزبة القدير مبارك يحي، والذي خلفه الأستاذ "حسن سلك". أولئك معلمونا في مدرسة المؤتمر الثانوية في مدينتي أم درمان، وتلكم هي مستوياتهم الرفيعة . أما ناظر المدرسة، فهو أستاذ الجيل الطيب شبيكة، ويساعده وكيل المدرسة المُعلم الكبير أحمد النضيف. . مثل أولئك المعلمين هم من يتركون بصماتهم على طلابهم.
(2)
المدرسة التي احتشدتْ بأنشطة غير أكاديمية عديدة، منها نشاط مسرحي حيّ، وميادين رياضية لكرة القدم وكرة السلة وحلبة للتنس وأخرى للملاكمة، وجد طلاب المدرسة في إصدار صحف حائطية حفلتْ بها جدران المدرسة ، يحرّرها طلاب يكتبون في الأكاديميات، وأيضاً في بعض أمور السياسة . لكن أكثر ما جذب اهتمامنا للموضوعات التي تبعد عن الأكاديميات الراتبة، أمسيات ثقافية تولى تنظيمها المُربّي الكبير الطيب شبيكة بنفسه. من بين تلك الندوات ، أمسية لا تنمحي من الذاكرة عن الأدب العربي وحركة النقد ، استضافتْ من على مسرح المدرسة، الدكتور محمد غنيمي هلال والدكتور عزالدين إسماعيل، المحاضران في جامعة القاهرة فرع الخرطوم في أواسط ستينات القرن الماضي. والأخير هو الذي نال جائزة الملك فيصل مناصفة مع العلامة عبدالله الطيب في عام 2003م. أما الأمسية الفنية والثقافية التي قدمها لنا الأستاذ الفنان عبدالكريم الكابلي، فتلك درّة الأمسيات الثقافية.
(3)
في يفاعتنا تلك، تفتحتْ عيوننا على دروب السياسة وزواريبها، نلامس ما نعيهِ ونستعلمه، وأيضاً ما لا نعيه فنستجهله، إلا أنّ القتال الدائر في جنوب البلاد، كان حاضراً في الذاكرة. حتى لو لم ننتبه ، فمن مدرسينا "باسكوال" معلم الأدب الإنجليزي، سوداني نتمثله والداً وأخاً، جذوره في النصف الجنوبي من السودان ، وهو من تقاسمنا معه الجرح النازف في خاصرة البلاد. .
حين تناهى إلينا مسامعنا نبأ ندوة ستعقد في جامعة الخرطوم عن القتال المشتعل في جنوب السودان ، لم نتصوّر أنها ستشكل واقعة لها شأن في تاريخ البلاد. ثمّة طلاب لحقتهم رياح الاستنارة فاجتذبتهم أمور السياسة، مثل علي آدم محمد ومكي أبوقرجة وأسامة ابراهيم الياس وعبدالوهاب الصاوي . لم يغب علينا أن ندرك أنهم في أقصى اليسار السياسي. عن نفسي في تلكم السنِّ الباكرة، ظللت مرتبطاً بأدبيات الوجوديين، ممّن لمعتْ أسماؤهم تلكم السنوات . جاءتنا من بيروت ترجمات من أعمال سارتر وسيمون دي بوفوار والبير كامو ، فأغرمتُ في تلك الأيام بهم أيّما عرام، ولكن بهرتني أكثر تلك الصبية الفرنسية ذلك الزمان، التي إسمها "فرانسوا ساغان" وروايتهاالباهرة " وداعا أيّها الحُزن". لربّما كانت تلك من بوادر اهتماماتي بالأعمال الروائية، والتي ملكتْ عليّ لبّي في تلكم الأيام ، لأصير في كهولتي كاتبا روائيا . .
(4)
لكن ندوة جامعة الخرطوم عن مشكلة الجنوب في يوم الأربعاء 21 أكتوبر من عام 1964، دفعت برياح السياسة إلى خياشيمنا فيما نحن منكبّون في فصولنا الدراسية بمدرسة المؤنمر الثانوية. .
في يوم الخميس الثاني والعشرين من أكتوبر، والبلاد يعتصرها الحزن الثوري على استشهاد طالب جامعي إسمه أحمد القرشي طه، في تلك الندوة السياسية في قلب جامعة الخرطوم، فكان ذلك ما استفزّ مشاعرنا ، خاصّة وقد علتْ الأصوات المعارضة للنظام العسكريّ الحاكم . تنادى كبار الطلاب في مدرسة المؤتمر، وأقنعونا أن نمضي - دون إذن من إدارة المدرسة- إلى الخرطوم للتظاهر مع المتظاهرين الغاضبين، أمام مقرّات قيادة الدولة قبالة القصر الجمهوري، ليس بعيداً عن ساحة وحرم جامعة الخرطوم التي استضافت لك الندوة.
لم نتردّد في تلك السنِّ الباكرة، من المضي راجلين إلى جسر النيل الأبيض، لنعبر إلى الخرطوم في تظاهرة داوية، نردّد هتافات مثل تلك التي أنشدها لاحقاً الفنان الكبيرمحمد الأمين وجوقته الغنائية : "الرّصاص لن يثنينا. .الرّصاص لن يثنينا ..". لم نكن نحن طلاب مدرسة المؤتمر وحدنا في الشوارع المفضية إلى القصر الرئاسي، بل كانت جموع من الناس بين شارع البرلمان وشارع الجمهورية قادمين من فجاج عميقة، آزرت مسيرتنا في اندفاع عفوي ، بينما باشـر رجال الشرطة يلاحقون المسيرة بالمتفجّرات المسيلة للدموع. تلك كانت المرّة الأولى التي نسمع فيها عن هذه المتفجّرات . تبرّع نفرٌ من عمال البناء من أبناء الجنوب، برزوا من داخل بناية غير مكتملة، هي ما صارت تعرف لاحقاً بـ "عمارة صحارى"، ودلّونا على براميل المياه داخل تلك البناية، لنصبّ الماء على وجوهنا فنخفّف مفعول مُسيّلات الدموع تلـك. .
(5)
كان الحساب عسيراً حين قدمنا إلى المدرسة في ساعات صباح يوم السبت 24 أكتوبر، فسمعنا في "طابور" الصباح من ناظر المدرسة المعلم الكبير الطيب شـبيكة، تقريعاً متوقعاً لخروجنا من فصول المدرسة نهار الخميس وقبل نهاية اليوم الدراسي، مُنبّهاً إلى أنّ من مسئولياته الحرص على سلامة طلاب مدرسته ، مُذكّراً كبار الطلاب أن لا يسعوا لتحريض صغار الطلاب للخروج في التظاهرات السياسية. كان الحديث يعنينا نحن صغار طلاب المدرسة. .
لم نستبعد ايقاع عقوباتٍ رادعةٍ ، بعد ذلك الخروج الفوضوي في نظر إدارة المدرسة، خاصّة والصول "العـشا" المسئول عن الانضباط، تحت بصرنا يتأهّب بعصاه التي نعرف شـدتها، إنْ طلب منه المعلم شبيكة أو نائبه أحمد النضيف، أن يستعملها لتأديب الطلاب المشاكسين. غير أننا وقد رضينا بالتقريع، لم يلحقـنا "العشـا" بعصـاه. .
(6)
تلك من يوميات صبيّ في الخامسة عشر من العمر ، رأى في أكتوبر من عام 1964، كيف تتخلّق نيران انتفاضة شعبية، تصـاعد أوارها فأسقط نظاماُ غسكرياً مُستبداً، بمقاييس أواسط ستينيات القرن الماضي. أعود إلى يومياتي ، وأنا أنظر بعينيّ هذه الأيام ومظاهر ثورة اكتوبر التي عشتُ حراكها عام 1964 ، تتماهَى أمامي مع تجلـيّـات ثورة ديسمبر 2018. هاهم شبابٌ من فتياتٍ وفتيان، يهبّون مندفعين ومدافعين عن ثورتهم ، تطارد انتفاضهم مُدرّعات و"تاتشرات" كا سـرة، وجنودٌ قساة يلهبون ظهورهم بالعصيِّ والسياط ، والمتوحشون منهم يطلقون الرّصاص كيفما اتفق، بلا وازعٍ إنسانيّ ولا رحمة.
أدمعتْ عيناي وأنا أرى المشاهد المُخزية هذه الأيام، تنقلها القنوات الفضائية، لجنودٍ قـُسـاة يلهبون ظهور فتيات الثورة وفتيانها بعصيّهم ، فأتذكّر تجارب يفاعتي في ستينيات القرن الماضي وأنا طالب في مدرستي المؤتمر الثانوية، وناظرها الطيّب شـبيكة، وقد كان مُعلما ومُربياً رحيماً وطيباً كإسمه، وأتذكّر الصّول "العـشـا"، فما عرفتْ عصاهُ ظهورنا .
يا شباب الثورة : تكبر الثورة فيكم وبكم، ولكن قسوة معارضيكم تكبـرمعكم أيضا. .

الخرطوم- 26 أكتوبر 2021

 

آراء