اندثار ظاهرة القائد الكارزمي !!

 


 

 

ثورة أكتوبر أفرزت قادة سياسيين أفذاذ شغلوا المشهد العام لما يتجاوز نصف القرن من الزمان، مؤهلين أكاديمياً وفكرياً، وبغض الطرف عن إخفاقاتهم التي أورثت الأجيال الحاضرة بؤس الأحوال المعيشية والتنموية، إلّا أن الالتفاف الجماهيري حولهم كان بائناً وملحوظاً، فعندما يذهب الإمام الراحل زعيم حزب الأمة غرباً ترى الخيول المسرجة، المحمول على ظهورها الفرسان، تصول وتجول ترحاباً بمقدم حفيد المهدي، وكذلك الأمر بالنسبة للسيد محمد عثمان الميرغني حينما يزور الشرق، كان الدكتور حسن عبدالله الترابي في ريعان شبابه وهو يلقي بالمحاضرات في الندوات الصفوية بدور الجامعات والمعاهد العليا، والصفوة آنذاك منبهرة بطلاقة لسانه العربي الإنجليزي الفرنسي، استطاع ان يصنع من الفسيخ شربات، بولوجه معترك السياسة وهو الأستاذ الجامعي الذي لا حظ له من السلطات الطائفية الموروثة. عبد الخالق محجوب خطيب مفوّه جذب نخبة ذلك الزمان، وأجبر دهاقنة التنظير لأن ينصتوا إليه بإمعان، مازالت محاضراته الصوتية المدهشة موثّقة، تشعرك وكأنه يتحدث إليك حول معطيات اليوم، الشهيد محمود محمد طه سلب ألباب كل المنظرين في شأن ثنائية الدين والدنيا، خطا خطوات عملاقة في ميدان نفض الغبار عن التدين التقليدي المصحوب بالهوس، فيليب غبوش زعيم الحزب القومي كان الأوحد بالجبال الذي أجمع حوله ابناء جلدته، وكذا أحمد إبراهيم دريج القائد الوطني الدارفوري الذي لم يجمع أهل دارفور على رجل مثله على الإطلاق.
جوزيف لاقو وجون قرنق، قائدان كارزميان ما فتئا يركنان في ركن ركين داخل سويداء القلب، لم يستطع أحد أن يزحزح طغيان كاريزما ابن بور الدكتور الزراعي، ولم يقدر على محو استحواذها على عقول كل من التحق بصفه، جنوبياً كان أم شمالياً، كيف وحّد السودانيين تحت راية حركة متمردة رفعت السلاح في وجه أربع حكومات متتالية – النميري – سوار الذهب – الصادق – البشير؟، الأمر الذي فشل فيه الحراك المسلح بدارفور، والذي خاضت غماره عشرات الحركات المتمرّدة ومئات القادة الميدانيين المُكدْملين، اليوم يفتقد السودانيون أنموذج القائد الكارزمي في شتى ضروب الحياة، ربما حتّى في المحيط الأسري اختفت الشخصية الرائدة المحافظة على الأصول والحاضّة على التواصل الرحمي، فبرغم عظمة ثورة ديسمبر المجيدة إلّا أن الساسة الذين أعقبوا إزالة الدكتاتور لم يكونوا بحجم هذه العظمة الباذخة، لا من حيث الخطاب ولا من ناحية التأثير النابع من الخصائص الذاتية، إنّه اندثار كامل لرمزية القائد والرئيس والمدير والمسؤول (المالي هدومو)، وفي ذات المنحى هنالك اختفاء تام لصورة العسكري (الكارب قاشو)، أو كما يقول المعاشيون والمحاربون القدامى:(الجيش زادو موية)، وما أدل على طرحنا هذا من تصريح الرجل الثاني بسلطة الأمر الواقع الهوان حول زوال الهيبة وارتخاء الحزام، جميعهم عسكريون وقحطيون ودعّامة لم يحزموا أحزمتهم المرتخية.
الحنين لماضي القيادات الكارزمية ليس بالضرورة دعوة للفردانية ولا لفظاً للمؤسسية، وإنّما بصقاً على أرض هذا الواقع المرير باسقاطاته المؤلمة، ففطرة الإنسان الإفريقي والآسيوي والأمريكي اللاتيني لا تخلو من الاعتماد على القيادة الرمزية على مستوى الدولة والدين، لقد انجبت هذه البقاع كل من نلسون مانديلا والمهاتما غاندي وتشي جيفارا والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، فبزوغ نجم الرائد الذي لا يكذب أهله ليس ضرورة وحسب، بل حتمية كونية وقدر إلهي لا مفر منه، لقد كان المهدي عليه السلام بمثابة المائدة المرسلة للبؤساء الباطشة بهم التركية بضرائبها الباهظة، وجاءت ديسمبر المجيدة بينما لم تتمكن حواء النيلين من ولادة هزبراً ضارياً يزأر وسط القطيع المتكالب ليريه حمر الأعين، أتت بالموظف الأممي الوسيم الوديع الذي تتوافر فيه كل صفات القائد الكارزمي عدا خصيصة وحيدة واحدة مهمة، هي الشِدّة عند البأس، فلم تسعفه الطيبة المتناهية ولا القلب الكبير وهو يسعى بين أفراد مجتمع مايزال يذكر النميري بالخير، لكن لكل أجل كتاب ولكل جواد كبوة، وفي الآخر لا يصح أن يُقدم المهر دون حصول العُرس، فدماء اليافعين لابد وأن يعقبها زفاف كرنفالي حافل يعقبه تتويج بالنصر الأكيد والمؤكد، فربما انشغل الفارس الكارزمي المغوار بترتيبات غاية في الأهمية تفرضها ضرورات ماقبل قيام الكرنفال، ليأتي سابحاً على صهوة فرس الحرية والسلام والعدالة.

اسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com
29 مايو 2022
////////////////////////////////

 

آراء