عصف ذهني: تأسيس الشعر الأوربي في بداياته على الشعر العربي بنيةً وأسلوباً (3)
عبد المنعم عجب الفيا
30 May, 2022
30 May, 2022
تأثير شعر الحب العذري والصوفي في الشعر الأوربي منذ نشأته إلى اليوم:
أبرز ما يميز شعر "التروبادور" الذي تأسس على الزجل والموشح وشكَّل بداية نشأة الشعر الأوربي الحديث، من حيث الموضوع، هو روح الفروسية والحب العذري الذي كثيرا ما يتجاوز العشق التقليدي وتتحول فيه المرأة المحبوبة إلى رمز لأشواق الروح المبهمة والعشق والإلهي. واستمر هذا التقليد مع قصيدة "السونيت" وظل علامة بارزة في مختلف مراحل واتجاهات الشعر الأوربي الغنائي حتى اليوم.
وهذا الحب الذي أرسى تقاليده شعراء التروبادور في الشعر الأوربي، لم يكن كما يقول جِبّ "من النوع الذي تعبر عنه الأغاني العاطفية الشعبية الساذجة، بل كان مذهباً وجدانياً وطقساً رومانتيكيأ" لا مثيل له في أوربا في "عادات وتقاليد ذلك الزمان كما تكشف عنه آداب الشعوب اللاتينية والشمالية الأوربية"(1).
وأهم ما يميز "هذا الشعر الغنائي الجديد هو أنه نتاج مذهب أدبي في الحب الإفلاطوني مؤسس على نظرية اجتماعية وأخلاقية في العشق هي أظهر ما يميز الأدب العربي"(2).
ويتقصى هميلتون جِبّ جذور هذا الحب في الأدب العربي منذ أيام استهلال الشعر بالنسيب مروراً بشعراء الحب العذريين وانتهاءً بمفهوم الحب عند الفلاسفة المسلمين والمتصوفة. ففي كتاب (الزهرة) يقول جب "رتب ابن داود في شعره كل مظاهر الحب وصنفها وفصلها وشرح طبيعة الحب وقوانينه وتأثراته وطرق التعبيره عنه. وكان في كل هذا متأثراً بذلك المثل الأعلى الذي عبرت عنه السنة النبوية في قول النبي: من عشق فكتم فعف فمات فهو شهيد"(3).
كذلك نرى هذا "المثل الأعلي للحب العذري الإفلاطوني عند ابن حزم وشهرته في الغرب أنه مؤسس علم الأديان المقارن، ومع ذلك كتب هذا الرجل كتاباً في الحب هو كتاب (طوق الحمامة) فجاء كتابه معادلاً لكتاب الزهرة بل كان متفوقاً عليه أيضاً".
ويعتقد ابن حزم "أن الحب وسيلة بها يتحد في الحياة الدنيا، شِقان منفصلان لماهية علوية واحدة. ويكشف عن تحليل للحب، هو من وجوه عدة ذلك التحليل الذي نراه عند جماعة التروبادور في القرن التالي، وإن كان هؤلاء قد قصروا عن إدراك ما سما إليه ابن حزم في وصف لهذا الحب"(4).
وقد تجلى هذا الحب الروحي، الذي يكرس فيه المحب ذاته للمحبوب في أسمى صوره في شعر المتصوفة المسلمين "الذي يزخر بالصور الشعرية الحسية الجريئة للحب الدنيوي الرمزي عند شعراء الصوفية من العرب والفرس"(5). على تعبير جِب.
وجدير بالذكر أن التصوف الإسلامي سبق ظهور شعر التروبادور بنحو قرنين من الزمان تقريباً. فإذا كان شعر التروبادور قد بدأ في الذيوع في القرن الحادي عشر الميلادي، فإن التصوف الإسلامي قد بدأ في الظهور في القرن التاسع الميلادي.
وقد انتشر التصوف في المشرق العربي والأندلس على السواء ويأتي في طليعة متصوفة الأندلس الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي وأصحابه. وقد استخدم المتصوفة في المشرق والمغرب فن الموشح في أشعارهم أكثر مما استخدمه شعراء الموشح المعروفين من غير المتصوفة.
وأظهر ما يميز أشعار الصوفية اتخاذ حب الأنثى وجمالها رمزاً إلى العشق الإلهي ومعراجاً للتأمل الفلسفي في جمال الخالق ووسيلة لكشف سر الوجود الأعظم، وتحقيق السلام الداخلي وإشباع الشبق الروحي إلى الوحدة والانسجام النفسي والفناء في ذات المحبوب.
لذلك تبدو أشعار الصوفية في ظاهرها قصائد غزلية ولكن في حقيقتها تعبيراً رمزياً عن مواجدهم وأحوالهم ومشاهداتهم ومقاماتهم العرفانية. ولعل خير ما يصور حال المحب مع المحبوب قول الحلاج:
أنا منْ أهوى ومنْ أهوى أنا/ نـحــن روحــان حـللنا بدنا
وفي فلسفة هذا الحب، يقول المستشرق الإسباني المعروف آسين بلاثيوس (1871- 1944) نقلاً عن ابن عربي في (الفتوحات المكية) "إن الله يتجلى لكل محب تحت حجاب المحبوبة، لأن الخالق يحتجب عنا حتى نحبه تحت مظاهر زينب الجميلة، وسعاد وهند وليلى، وكل الأوانس المحبوبات اللائي يتغزل في جمالهن الشعراء دون أن يدركوا ما يدركه الصوفية أصحاب الكشف، وهو أن المقصود في كل غزلياتهم الغرامية هو الله، فهو وحده الجمال الوحيد الحقيقي الجدير بالحب، وقد احتجب تحت نقاب الصور الجسمانية"(6).
ومن ذلك قول الشاعر الصوفي العرفاني الشيخ عبد الغني النابلسي، وهو من الصوفية المتأخرين (ت 1731م):
لا تلمني يا عذولي في هوى الغيد الحسان
إنّ ديني واعتقادي بالذي خــلف الجيــــــــوب
والنابلسي شاعر مطبوع تمتاز أشعاره بغنائية عالية ومهارة فائقة في توظيف مختلف أشكال فن الموشح والزجل مما جعل قصائده تحظى بالإنشاد والترديد من مختلف الطرق الصوفية. وله ديوان مطبوع يسمى (ديوان الحقائق ومجموع الرّقاق).
ومن ذلك أيضاً قول الصوفي الشيخ عبد الرحيم البرعي اليمني، وهو من الصوفية المتأخرين أيضاً:
أُغالطُ عن سلمى بسُعدى تنصلاً / ولبنى وما قصدي سعادٌ ولا لبنى
وفي إشارة تؤكد عمق احساس الباحثين الأوربيين بالأثر الذي تركه التصوف الاسلامي على شعراء العصور الوسطى وشعراء النهضة الأوربية من أمثال دانتي ونظرائه، يقول آسين بلاثيوس إن ابن عربي في كتابه (الفتوحات المكية) يحلل علاقة الحب الدنيوي بالحب الإلهي "تحليلاً يتفوق بمراحل عديدة على كل الشعراء المتحذلقين من أصحاب (الأسلوب الجديد العذب)"(7).
وهو يقصد بالأسلوب الجديد العذب الاتجاه الشعري الذي تشكل مع تباشير عصر النهضة بإيطاليا من بترارك ودانتي وأتباعهم بقصد إحياء تقاليد شعر التروبادور. واسم هذا الاتجاه الشعري في الإيطالية هو Dolce stil Nuovo
ويكشف معجم (بنجوين) للنظرية الأدبية عن علاقة هذه الحركة الشعرية بالشعر الصوفي الإسلامي في العشق الإلهي حيث يقول في تعريف مصطلح Dolce stil Nuovo (الأسلوب العذب الجديد):
"هذا المصطلح أول من استخدمه دانتي في وصف أسلوبه الأدبي هو نفسه، لكن الأهم من ذلك أن هذا الأسلوب مستمد من تراث الشعراء التروبادور في نظرتهم للحب حيث يعتقد أن المرأة بوصفها رمزا للجمال الإلهي، تلهم الحب السامي الذي يجب أن يقود المحِب إلى محبة الله"(8).
وعلى نسق شعر التصوف الاسلامي الرمزي تدور أشعار مدرسة (الأسلوب الجديد العذب) حول ذلك الحب النبيل أو العذري المثاليcourtly love والذي يسميه الأوربيون أيضاً platonic love الحب الإفلاطوني حيث يكرس الشاعر كل شعره الغنائي في تمجيد امرأة علق بها عشقاً على طريقة شعراء الحب العذري العرب، وأحياناً كثيرة يمتزج هذا الحب بأشواق ومواجد الشاعر الروحية فيتخذ من هذه المرأة رمزاً للعشق الإلهي وذلك على طريقة شعراء الصوفية المسلمين.
ومثلما كان شعراء الحب العذري العرب يُعرفون باسماء من أحبوهن من النساء: كثيرة عزة وجميل بثينة ومجنون ليلى وغيرهم، فكذلك ارتبط شعراء (الأسلوب العذب الجديد) المشهورين باسماء النساء اللائي أحبوهن.
فنجد أن شعر بترارك الغنائي كتبه في معشوقته "لورا" التي اتخذها ترياقاً لتمزق روحه الشفافة بين إيمانه المسيحي ومبادئ دعوته إلى "الإنسانوية". وكذلك ارتبط اسم دانتي الشاعر الإيطالي الكبير باسم "باتريشا" التي وقع في غرامها منذ أول شبابه حتى وفاتها وكرس في تمجيدها كل أشعاره الغنائية.
وقد اتخذ دانتي "باتريشا" مرشدة له في رحلته إلى العالم الآخر في (الكوميديا الإلهية). ففي مستهل القسم الأول من "الملحمة" والمسمى Inferno (الجحيم) يقابل دانتي الشاعر الروماني فرجيل ليصطحبه في رحلته ويساعده في عبور عوالم (الجحيم) ثم إلى المُطهِر (الأعراف) وهناك يتخلّف فرجيل عن صحبة دانتي قائلاً إنه غير مسموح له بتجاوز هذه الحدود، ثم يسلِّمه إلى معشوقته باتريشا لتكمل معه رحلة العروج إلى جنة الفردوس لرؤية (الرّب) (9).
وهنا يلحظ القارىء أن تخلف الشاعر فرجيل عن دانتي عند أعتاب دخول الفردوس، يثير في ذاكرتنا موقف شبيه من التراث الإسلامي وهو تخلف الملك جبريل عن النبي محمد (ص) في رحلة المعراج قبل بلوغ سدرة المنتهى، حيث خاطب جبريل النبي الكريم "ها أنت وربك" فقال له النبي محمد: "أهذا مقام يترك فيه الخليل خليله"، فرد جبريل: "هذا مقامي ولو تقدمت خطوة لاحترقت".
هذا التشابه ليس من قبيل المصادفة، ففي سياق حديثه عن المؤثرات الإسلامية في كوميديا ملحمة دانتي يقول جِبّ إن الأمر الذي لا شك فيه "إن الأفكار الفلسفية العربية ورموز الوجد والشبق الروحي في الصوفية الإسلامية لم تجد طريقها إلى أعمال دانتي وحسب، بل انعكست أيضاً في الأفكار الرئيسة للشعراء الآخرين من الجماعة المعروفة باسم Dolce stil nuovo (الأسلوب الجديد العذب)" (10).
ويأتي في مقدمة البحوث التي عنيت بدراسة علاقة دانتي ومدرسته بالتصوف الاسلامي والأدب العربي بحث المستشرق الإسباني المعروف استاذ الأدب بجامعة مدريد (ميجيل) آسين بلاثيوس الذي نشره سنة 1919 بعنوان (عالم الآخرة الإسلامي في الكوميديا الإلهية) (11) وقد حدد فيه تأثر دانتي بثلاثة مصادر هي بالترتيب: أولاً: قصة الإسراء والمعراج للنبي محمد (ص)، وثانياً: تصوير ابن عربي للعوالم (عالم الملكوت والملك الشهادة والبرزخ إلخ..) وعروج الصوفي إلى العالم العلوي وذلك بكتابه (الفتوحات المكية)، وثالثاً وأخيرا (رسالة الغفران) لإبي العلاء المعري.
هذا وبعد أن انتقلت قصيدة (السونيت) من إيطاليا إلى إنجلترا انتقل معها كل إرث شعراء التروبادور ومذهبهم في الحب النبيل ممزوجا بفنون أصحاب مدرسة (الأسلوب الجديد العذب).
فالشاعر والناقد الإنجليزي السير فيليب سدني، الذي رسّخ قصيدة السونيت في الشعر الإنجليزي، تسمى مجموعته الشعرية الشهيرة Astrophel and Stella والكلمة الأولى يونانية قديمة مكونة من كلمتين aster وتعني نجمة وphel وتعني عاشق، والكلمة الثانية في العنوان Stella لاتينية وتعني star أي نجمة وبذلك يكون معنى عنوان الديوان: (عاشق النجمة والنجمة).
ويرى النقاد أن "نجمة" سيدني في هذه المجموعة الشعرية سيدة تدعى بنيلوبا رتش Penelope Rich وقد أشار إليها بالتورية في واحدة من هذه القصائد بقوله(12):
Has no misfortune, but that Rich she is.
ومن أكبر الشعراء الإنجليز في هذا الفن الشاعر إدموند سبنسر (1552- 1599) الذي برع في كتابة السونيت حتى ابتكر له مذهباً خاصاً به في كاتبتها عرف باسمه، له مجموعة شعرية تحمل عنوان ِAmoretti نعم "أمورتي"!!
الكلمة العربية ذاتها في اللهجات العربية لفظاً ومعنى وهذه صيغتها في الإيطالية.
وكلمة amor وفعلها amare في اللاتينية تعني الحُبّ. وتذكر المعاجم الأوربية أن الفعل واسمه قد دخلا اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي فقط، وهو عصر بداية انتشار شعر التروبادور في أوربا.
وهذا يدل دلالة قاطعة على أن الفعل "أمر" ومشتقاته ليس أصيلا في اللغة اللاتينية واللغات المتفرعة عنها: (الإسبانية والبرتغالية والإيطالية والفرنسية والرومانية) بل مستعار من العربية. ودخلت الكلمة حتى اللغة الإنجليزية وهي فيها amour أي حب. وفي الإيطالية تلفظ كلمة حب amore أموري بإمالة الياء، ومن تصريفاتها ، amorett وكذلك amoretti أمورتي.
ونحن نرى أن أصل هذه الكلمة في اللاتينية هو التعبير العربي: "أمير الحب" أي المعشوق. وأغلب الظن أن هذا التعبير أدخله شعراء الزجل في الأندلس والذي هو خليط من الفصحى والعامية ثم أخذه عنهم الشعراء التروباور فاشتقت منه اللاتينية واللغات التي تفرعت عنها معنى الحب.
وترجيحاً لهذا التخريج نشير إلى ما ذكره معجم أكسفورد للغة الإنجليزية من أن "كلمة Admiral أي قائد الأسطول البحري، فرنسية، أخذتها الفرنسية من كلمة أمير العربية والفعل العربي أمر".
ثم يأتي وليم شكسبير الذي اشتهر كاتباً مسرحياَ يكتب الشعر المسرحي التمثيلي على طريقة الإغريق والرومان ولكنه عُرف أيضاَ شاعراَ كبيرا يكتب الشعر الغنائي (الذاتي) وفيه برزت شاعريته أكثر لمعاناَ، وله منه مائة وأربعة وخمسون قصيدة قصيرة تعد أحلى وأعذب ما كُتب من شعر في تاريخ الإدب الإنجليزي، وهي مجموعة القصائد المسماة "سونيتات".
ويتخذ شكسبير في هذه القصائد فتاة سوداء black معشوقة له حيث "يكتب شكسبير بعضاً من أجمل نصوصه عن الموت والحب والشهوة والطبيعة والزمن والتاريخ وعن معركة الإنسان مع الإنسان وصراعه مع الزمن وعن الروح والجسد وعن التوق الإنساني إلى البقاء والخلود وعن إحساس الإنسان بحتمية الهزيمة"(13).
وفي عصر شكسبير ظهر عدد من الشعراء يكتبون قصيدة "السونيت" برعوا في استخدام الرمز والتخييل الشعري المركب على طريقة الشعراء المتصوفة المسلمين. ولما كان هذا المذهب جديداً وطريفاً في وقته، أطلق النقاد الإنجليز على هؤلاء الشعراء: (الشعراء الميتافيزيقيون) Metaphysical Poets ويعدون من بينهم: جون دون، وجورج هربرت، وهنري كنج، وتوماس كرو، واندرو مارفيل، بل يلحقون بهم، شكسبير وميلتون وبن جونسون.
وكان الناقد والشاعر الإنجليزي الكبير جون درايدن، أول من أطلق هذا الوصف على هؤلاء الشعراء الإنجليز وذلك في سياق تقييمه لشعر جون دون. غير أن أصل المصطلح يعود إلى الشاعر الإيطالي Fulvio Testo فولفيو تيستي (1593-1646) والذي استعمل تعبير الشعر concetti metafisici (التخييل الرمزي الميتافيزيقي) بالمقارنة مع "بساطة الصورة الشعرية ومباشرتها في آداب اليونان والرومان الكلاسيكية"(14). المقدمة ص v
ومن النماذج الشعرية لهؤلاء الشعراء الميتافيزيقيين، والتي كثيراً ما يشير إليها النقاد قصيدة To His Coy Mistress (إلى معشوقته الصدود) للشاعر الإنجليزي أندرو مارفيل (1621-1678).
غير أنه بعد رسوخ الثورة العلمية والصناعية في القرن السابع عشر وسيطرة النزعة العقلانية والمنهج الكلاسيكي في الأدب، همدت هذه النزعة الوجدانية الصوفية في الشعر الأوربي إلى حين.
ومع خواتيم القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ثار الشعراء الرومانتيكيون على الكلاسيكية وردوا الاعتبار للوجدان وأحيوا التقاليد التي أسسها شعراء التروبادور وشعراء أوائل عصر النهضة.
وكان جِب قد أورد، كما سبقت الإشارة، قول المؤرخ والشاعر والناقد البريطاني توماس ورتون Warton إن "رومانتيكية العصور الوسطى هي بلا ريب نتاج عربي خالص". وذلك بكتابه (تاريخ الشعر الإنجليزي) History of English Poetry الصادر سنة 1770.
ويمكن القول إن الرومانتيكية الحديثة هي إحياء وامتداد لرومانتيكية العصور الوسطي التي تأثر بروح الشعر العربي. بل كانت بمثابة انقلاب وتمرد على الآداب الكلاسيكية (اليونانية والرومانية) والتي كان قد جرى إحياؤها في عصر النهضة الأوربية في القرن الرابع عشر. وهذا هو الانقلاب الذي قصد إليه شاعر فرنسا الكبير وقطبها الرومانتيكي، فيكتور هوجو في مقولته الشهيرة بمقدمة ديوانه (الشرقيات) حيث يقول: "كان العالم كله في عصر لويس الرابع عشر مقبلاً على الدراسات الإغريقية، أما اليوم فقد أقبل على الدراسات الشرقية".
وفي ألمانيا يقول جِبّ "وبتأثير هردرHerder كشف شليغل، وهامر، ومن بعدهما روكرت، للشعراء والكتّاب في الغرب عن كنوز لم يكونوا يتوقعون وجودها في الأدب الشرقي. وكانت أولى الزهرات وأينعها في روضة الغرب، هي كتاب جوته الشعري (ديوان الشرق والغرب)"(15).
ومؤلف جوته (الديوان الشرقي للشاعر الغربي) بحسب ترجمة الدكتور عبد الغفار مكاوي عن الألمانية، من أشهر أعمال جوته الشعرية وقد كرسّه كله للتناصص مع الأدب العربي والتراث الاسلامي ورموزه منذ شعراء الجاهلية والمعلقات: امرىء القيس وزهير وتأبط شرا ومرورا بشعراء الغزل العذري جميل والمجنون، وشعراء المتصوفة وعلى رأسهم حافظ الشيرازي ومعشوقته زليخا وسعدي غيرهم. يقول جوته في أول قصيدة من الديوان واسمها (هجرة):
"فهاجر أنت للشرق لتستنشق نسيم الآباء"(16).
ومن بين شعراء المتصوفة المسلمين الذين فتن بهم جوته، الشاعر الصوفي الكبير حافظ الشيرازي (1315- 1290م) كما أعاد جوته توظيف رمز حافظ الأنثوي العرفاني (زليخا) في نصوصه الشعرية، وخصه بفصل كامل من ديوانه الشرقي. يقول جوته في (الديوان الشرقي للشاعر الغربي) عن حافظ الشيرازي(17):
لو يسقط العالم كله في الهاوية
فأنت يا حافظ، أنت وحدك مَن يحلو لي منافسته
فلنتقاسم سويا نحن التؤامان: اللذة والألم
وليكن مذهبك في العشق كما في الشراب
محط إعزازي ومدار حياتي
فهيا نغِّم أغانيك بلهب ألحانك الحرّى
فأنت الشيخ التليد والفتى متجدد الشباب.
والحقيقة أن منبع كل من التصوف والرومانتيكية واحد وهو الوجدان وذاتية الفرد أو ما يعرف بـ"العرفان" مقابل "البرهان". على أن هناك فرق جوهري بين الصوفية العرفانية ورومانتيكية العصور الوسطى، وبين رومانتيكية القرن التاسع عشر وهو أن الأخيرة كانت تعبيراً عن أزمة تنازع ذات الفنان أو الشاعر بين العقل والوجدان أو بين البرهان الفلسفي والعرفان الصوفي.
ولعل قصيدة الشاعر الرومانتيكي الكبير وليم وردزورث (1770-1850) المركزية: Intimations of Immortality from Recollections of Early Childhood
(ومضات من الأبدية في ذكريات الطفولة الأولى) خير ما يصور حالة انقسام الذات الشاعرة وتنازعها بين العوالم.
ففي هذه القصيدة يشكو الشاعر فقدانه حالة اليقين والطمانينة والتوحد مع ذاته التي كان ينعم بها في الطفولة. "ويماثل بين عالم الطفولة واتصال النفس بالعالم الفردوسي الأول الذي انفصلت عنه بالسقوط في الزمن وسجن الجسد بالخطيئة والتجربة"(18).
"ومع نمو الطفل وبروز العقل يبدأ انقسام الوعي والاحساس بالتوزع والتشتت ويفقد الشاعر الاحساس بالاشراق والصفاء ويبدأ انتقال الشاعر من مرحلة القبول والرضا إلى مرحلة الشك المعرفي والقلق الوجودي".
وكذلك نجد الشاعر الرومانتيكي الإنجليزي وليم بليك (1757-1827) يمزج بين التجربة الصوفية والنزعة الرومانتيكية وتجلى ذلك بصفة خاصة في ديوانه الشعري: The Marriage of Heaven and Hell (زواج الجنة والجحيم).
ولكن إذا كان عشق الأنثى في رمزيته إلى الأصل الفردوسي والوحدة الأصلية الأولى قد وجد فيه الشاعر الصوفي ذاته وحقق به سلامه الداخلي وتوازنه النفسي، فان تلك الأنثى غدت للشاعر الرومانتيكي الحديث، رمزاً للحرمان والأسى والضياع والحنين إلى الماضى والأصل الفردوسي والحلم بالعودة إلى رحم الكون والتوحد مع الذات والطبيعة.
ولعل قصيدة الشاعر الإنجليزي جون كيتس (1795-1821) التي كتبها بالإنجليزية وجعل لها عنواناً بالفرنسية La Belle Dame san Meci خير مثال للتعبير عن هذه الحالة. وعنوان القصيدة يعني في الإنجليزية حرفياً: The Beautiful Lady without Pity (الحسناء القاسية). يقول كيتس في مطلع القصيدة:
O, what can ail thee, knight at arms,
…………
ماذا دهاك،
أيها الفارس الموشح بالسلاح
تهيم هكذا وحيداً شاحباً
الحشائش قد جفت حول البحيرة
ولم تعد ثمة طيور تغني؟
ونرى أن تماهي الشاعر مع هذا الفارس فيها استدعاء لصورة الشاعر الفارس العاشق النبيل كما كان يجسدها شعراء التروبادور في العصور الوسطى. وأغلب الظن أن اختيار الشاعر لقصيدته عنواناً بالفرنسية أراد به استحضار ذكرى أولئك الشعراء من إقليم "بروفانس" الفرنسي. كذلك تنطوي القصيدة على "ثيمة" امتزاج الحب بالفناء في ذات المحبوب على الطريقة الصوفية.
ولما لم يجد شعراء القرن التاسع عشر الرومانتيكيين في ظل الحضارة الصناعية، ما كان يجده الشعراء التروبادور، يمموا شطر الشرق العربي واتخذوه رمزا ومعادلاً موضوعياً حمّلوه كل ما كانوا يتوقون إليه من أشواق.
ففي قصيدة Solitary Reaper (فتاة وحيدة في الحقل) للشاعر ورودزورث يفجر صوت الفتاة وهي تغني في الحقل وحيدة، في نفس الشاعر الحنين إلى الشرق العربي البعيد وما يرتبط به من أحلام وأشواق إلى الأصل الأول والبراءة الأولى، فيشبه صوت تلك الفتاة بأنه: "أشجى من نغمات بليل يشدو لجماعة من المسافرين المتعبين تحت ظل ما وسط رمال الصحارى العربية":
No Nightingale did ever chaunt
More welcome notes to weary bands
Of travellers in some shady haunt,
Among Arabian sands:
أما الشاعر الإنجليزي ولتر دي لامير (1873-1956) فيتخذ عنوان قصيدته Arabia رمزا لعصر الفروسية والحب العذري النبيل الذي ولى ويحلم باستعادته وبالشوق إلى موسيقى الشعراء "المغنيين الجوالين" والاستمتاع بأنغامهم العذبة فيبدأ القصيدة "مترنماً":
Far are the shades of Arabia,
Where the princes ride at noon.
بعيدة هي ظلال جزيرة العرب
حيث يمتطي الأمراء جيادهم في رابعة النهار.
واستمر تقليد اتخاذ المحبوبة رمزاً للمطلق واللامتناهي والذي أرساه شعراء التروبادور سارياً عند شعراء أوربا حتى عندما ثارت المذاهب الأدبية والفنية في القرن العشرين على كل التقاليد الموروثة.
فهذا لويس أراغون أحد أقطاب السيريالية يتعبد في عيون محبوبته Elsa "إلزا" عسى تقيه الجحيم الذي يعانيه في روحه المعذبة وتعده برؤية "الفردوس المفقود تارة والمستعادة تارة ثم المفقود تارات أخرى"، على حد قوله في قصيدته الشهيرة (عيون إلزا).
وكانت السيريالية قد تأثرت بكل من الرومانتيكية والصوفية، "ويعد السورياليون هوغو ونرفال وهولدرين ونوفاليس وكوليردج وبليك بين أهم الرواد السباقين إلى هذا المجال"(19). ويظهر تأثر "السوريالية بالصوفية في النظرة الباطنة القائمة على المعرفة الحدسية". ومن هنا اهتمت "السوريالية كثيراً بالشرق ورأت فيه مستودع قوى وطاقات روحية. وأخذ التأمل الميتافيزيقي أهمية في فكر بريتون وأراغون"(20).
وكانت الرمزية قد مهدت لظهور السيريالية وأثرت في نشأتها، فقد "أخذ الشعر مع بودلير منحى صوفياً، وذهب رامبو إلى أبعد من ذلك"(21).
وإذا كان جوته هتف في (الديوان الشرقي) قائلاً: "انجُ. اذهب إلى الشرق الصافي، تنشق هواء الآباء". فإن الفرنسي آثر رامبو يجيبه بعد نحو خمسين سنة بالقول: "عائدٌ إلى الشرق، وإلى الحكمة الأبدية الأولى"(22).
ونجد امتزاج الصوفية بالحداثة عند الشاعر الإتجليزي الأمريكي الأصل تي اس إليوت أكثر شعراء الحداثة تأثيراً على شعراء الحداثة العرب في القرن العشرين. ويظهر ذلك في قصائد مثل (أربعاء الرماد) و(الرجال جوف) و(الأرض الخراب).
ولكن الأهم من ذلك تأثر إليوت العميق بأحد شعراء الرمزية في الشعر الشرقي ألا وهو الشاعر الفارسي عمر الخيام (ت 1132م). يقول إليوت عن ذلك بكتابه النقدي: (فائدة الشعر، فائدة النقد):
"أذكر أن رغبتي في الشعر الذي يحبه الصغار عادة، قد تلاشت ببلوغي سن الثانية عشرة، فظللت لبضع سنوات بلا رغبة في قراءة الشعر، إلى أن التقطت بالصدفة ذات يوم وأنا في الرابعة عشرة، نسخة من رباعيات فيتزجيرالد المترجمة عن عمر الخيام، كانت ملقاة جانباً، فكانت المفاجأة أن غمرتني هذه القصيدة بدفق مباغت من الأحاسيس، بدأ فيه العالم أمامي، زاهياً، متألقاً، تظلله ألوان براقة ممزوجة باللذة والألم، تحت تأثير هذه المشاعر الجديدة أقبلت على التهام شعر بايرون وشيلي وكيتس وروسيتي وسونبيرن"(23).
وهكذا كانت رباعيات الخيام الشرارة التي أضرمت نار الشعر في وجدان أعظم شعراء العالم تأثيراً في القرن العشرين، وفتحت أمامه آفاقاً جديدة قادته للتعرف في وقت مبكر على رموز الشعر الإنجليزي الرومانتيكي والرمزي في ذلك الوقت.
بل ويذهب إليوت بعيداً، في الإعجاب بالخيام، إلى حد تفضيله له على الشاعر الانجليزي الكبير شيلي. يقول: "مازلت أجد متعة في قراءة عمر الخيام فيتزجيرالد، ولكنني لا أطيق بعض أفكار شيلي التي تنغص عليّ الاستمتاع بقراءة أشعاره، بل إن بعض هذه الأفكار تفقدني أي متعة في القراءة"(24).
وقد تغلغلت رباعيات الخيام في تجربة إليوت الشعرية حتى "أننا نعثر على صور وأنغام وتفاصيل الرباعيات الخيامية في قصائد إليوت: بروفروك، وصورة سيدة، والرباعيات الأربع وقصيدة جيرونشن"(25).
ولكن ما لم يذكره النقاد الغربيون ولم يذكره إليوت أيضاً في الهوامش التي ذيّل بها القصيدة والتي أحال فيها إلى أكثر من ثلاثين مصدراً قديماً وحديثاً، هو أن افتتاحية قصيدة إليوت (الأرض الخراب) The waste Land جاءت ترجعياً ومحاكاة لرباعيتين من رباعيات الخيام بترجمة فيتزجيرالد. (انظر كتابنا: تي. إس. إليوت والأدب العربي– دراسة في التأثير والتأثر) 2011.
ويجدر بنا أن نذكر في هذا السياق مسألة لها علاقة بموضوع هذا المبحث، وهي إعجاب إليوت العميق بدانتي وتأثره به تأثرا عظيماً. فقد استعار وتناصص مع الكثير من صوره الشعرية وبخاصة في قصيدته الأشهر (الأرض الخراب)، ووظف بعض صور دانتي في (الكوميديا الإلهية) بمثابة معادل موضوعي لجحيم الحياة المعاصرة، وكتب عنه أكثر من مقالة نقدية وقدم عنه أكثرمن محاضرة. بل لا تكاد تخلو دراسة نقدية أو محاضرة له من الإشارة إلى دانتي. وهو يصف أسلوب دانتي بالإيجاز والوضوح في رسم الصورة الشعرية.
هذا، وكان الشاعر الانجليزي إدوارد فيتزجيرالد Edward FitzGerald (1809 – 1883) قد نقل رباعيات الخيام من الفارسية إلى اللغة الانجليزية ونشرها لأول مرة سنة 1859. وحظيت الترجمة بين القراء الانجليز بشعبية منقطعة النظير، لم تبلغها حتى أعمال شكسبير، وتغلغلت عميقاً في وجدان حملة الثقافة الانجلوسكسونية وجرى بعض منها على الألسن، مجرى الأمثال والحكم.
تصف مقدمة طبعة كلاسيكيات (بنجوين) الإنجليزية التأثير العميق لرباعيات الخيام بقولها:
"إن ترجمة فيتزجيرالد لعمر الخيام تعد أشهر الترجمات الأدبية إلى الانجليزية طراً، ولم تضاهيها في ذلك حتى أشهر الترجمات شعبية مثل ترجمة هوميروس لشابمان أو ترجمة أوفيد لقولدنج. فقد تغلغلت في النسيج العام للغة الانجليزية وصارت تشكل جزءاً لا يتجزأ من رصيد العبارات والأقوال الانجليزية المأثورة التي تجري مجرى الأمثال، حتى أن طبعة معجم أكسفورد لسنة 1953 قد ضمت تسع وخمسين رباعية كاملة من جملة 188 اقتباساً مأثوراً، أي أن الرباعيات بلغت نسبة الثلثين في المئة من جملة الأمثال التي ضمها هذا السفر، وهي نسبة تفوق ما ورد عن الكتاب المقدس وشكسبير".(26).
وتقول المقدمة إن عمر الخيام بلغ عند الشعراء الإنجليز مكانة سامية حتى أن الشاعر الرومانتيكي الكبير جون كيتس قال إنه "يفضل أن يحمل معه في سفينة، ترجمة رباعيات الخيام، من أن يحمل شاعر اليونان هوميروس بترجمة شابمان"(27).
تيبع..،
الهوامش والمصادر:
1- Gibb, Literature, From: The Legacy of Islam, Oxford University Press, 1931, p. 186
2- Ibid, p. 186
3- جِبّ، الأدب، من كتاب: تراث الإسلام، الجزء الأول، سبق ذكره، ص164،165
4- المصدر السابق، 166،167.
5- Gibb, Literature, From: The Legacy of Islam, Oxford University Press, 1931, p. 186
6- آسين بلاثيوس، ابن عربي، نقله عن الإسبانية: عبد الرحمن بدوي، ص 243، 244
7- أسين بلاثيوس، ابن عربي، سبق ذكره، ص 245
8- Dictionary of Literary Terms & Literary Theory, Penguin, p.234
9- Dante, The Inferno, Wordsworth Classic, 1998, p.3
10- Gibb, Literature, From: The Legacy of Islam, p. 198.
11- ميجيل آسين بلاثيوس، أثر الإسلام في الكوميديا الإلهية (تصرف في العنوان)، ترجمة جلال مظهر، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2015
12- Oxford Companion to The English Literature, 1996, p.536
13- شكسبير، سونيتات، ترجمة وتقديم، كمال أبو ديب، سبق ذكره، ص59
14- The Metaphysical Poets, Wordsworth Classic, Introduction, p.v
15- جِبّ، الأدب، من كتاب: تراث الإسلام، سبق ذكره، 207،208
16- غوته، الديوان الشرقي للشاعر الغربي (النور والفراشة)، سبق ذكره، ص137
17- المصدر السابق، ص،
18- محمد عبد الحي، الرؤيا والكلمات، دار الفكر، الخرطوم، ط1، 1984، ص 17
19- أدونيس، الصوفية والسوريالية، دار الساقي، الطبعة الرابعة 2010 ص 28
20- المصدر السابق، ص 31
21- المصدر السابق، ص 28
22- المصدر السابق ، ص 236
23- T.S. Eliot, The Use of poetry &e The Use of Criticism, Harvard University Press, p. 25
24- Ibid, p.125
25- Southam, A Guide to the selected poems of T.S. Eliot, B.C., The Introduction, Faber& Faber, 1994, p.8
26- Edward Fitzgerald, Rubaiyat of Omer Khayyam, the Introduction, Penguin, p. 1, 2
27- Ibid, p. 2
abusara21@gmail.com