إعادة تقويم كتاب “تاريخ الثقافة العربية في السودان” للعَلاَّمة المصري عبد المجيد عابدين .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

Reappraising “The History of Arabic Culture in the Sudan” by the Egyptian Scholar Abd al - Majid Abidin
Heather J. Sharkey هيذر جي. شاركي

مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لمقتطفات من مقال نُشِرَ عام 2020م لهيذر جي. شاركي، الأستاذة بجامعة بنسلفانيا الأمريكية في العدد الرابع من المجلد رقم 60 لدورية "دفاتر الدراسات الإفريقية Cahiers d'Études Africaines" بعنوان: "إعادة تقويم كتاب "تاريخ الثقافة العربية في السودان" للعَلاَّمة المصري عبد المجيد عابدين (الذي عمل أستاذاً للغة العربية لسنوات طويلة في كلية غردون وكلية الخرطوم الجامعية وجامعة الخرطوم، ثم في غيرها من الجامعات السودانية). وله أيضاً كتب عديدة منها كتاب عنوانه "من أصول اللهجات العربية في السودان: دراسة مقارنة في اللهجات العربية القديمة وأثرها في السودان".
والمجلة المذكورة هي مجلة فرنسية تُعْنَى بالدراسات الإفريقية في مختلف المجالات الأنثروبولوجية والتاريخية والسياسية، بدأت في الصدور منذ عام 1960م. المترجم.
****** ****** ******
1.أشارت المؤلفة إلى أن القراء قد يتساءلون عن سبب تركيزها على كتاب عبد المجيد عابدين، وفسرت اهتمامها بأنها قرأت ذلك الكتاب في عام 1995م عندما كانت تحضر لرسالتها للدكتوراه في التاريخ بجامعة برينستون. وكتبت: "أثار خيالي ما ورد في ذلك الكتاب من وصف حي للثقافة العربية ومن قاموا عليها، وما ترك في نفسي من أثر باقٍ عن حيوية السودان الثقافية. وكنت قد درست في مرحلة الدراسة الجامعية الأولى مادة الأنثروبولوجي، بتركيز على علم اللغات الاجتماعي (sociolinguistics)، وقد أَعْجَبْتُ أيّما إعجاب بما أولاه عابدين من اهتمام كبير بالثقافة الشفاهية، وأَعْجَبْتُ في بعض الأحايين بجودة كتاباته الاثنوغرافية. واستمتعت كثيرا – كمتدربة في علم التاريخ - بطريقة عابدين في مقاربة الفنون الشفهية العربية من منظور التاريخ الاجتماعي. وكنت كامرأة ألاحظ دوماً الغياب شبه التام للمرأة السودانية من مدونات التاريخ السوداني، غير أني شعرت بالامتنان لعابدين لإدراكه للدور التاريخي النشط الذي أدته المرأة السودانية في الثقافة العربية، خاصة في مجال الأشعار المغناة التي تحض الناس على القيام بأفعال حسنة، وتهجو وتسخر من الذين يقومون بأفعال
وأعادت الكاتبة في مقدمة مقالها ما ذكرته من قبل في عدد من مقالاتها السابقة من أن حكومات السودان المتعاقبة (منذ الخمسينيات وحتى عام 2019م) كانت تسعى دوماً لفرض اللغة والهوية العربية بحسبانهما يمثلان الأساس للقومية / الوطنية السودانية. وذهبت إلى أن سياسة التعريب قد أثارت نقمة الجنوبيين وحثتهم على الانفصال في 2011م (يمكن النظر في مقالها المعنون: "اللغة والصراع: التاريخ السياسي للتعريب في السودان والجزائر" https://www.sudaress.com/alrakoba/1078244).
***** ***** *****
2. ذكرت الكاتبة في مقدمتها أيضا أنها تواصل في هذا المقال تبيان أطروحتها عن اللغة والثقافة في السودان بإعادة تقويم لكتاب العَلاَّمة المصري عبد المجيد عابدين المعنون "تاريخ الثقافة العربية في السودان منذ نشأتها إلى العصر الحديث"، الذي صدر في طبعته الأولى عام 1953م"، ثم صدرت الطبعة الثانية منه عام 1967م (وهي الطبعة التي اعتمدت عليها الكاتبة في مقالها هذا). وكان عبد المجيد عابدين (المولود عام 1915م) قد عمل أستاذا بالكلية التي غدت فيما بعد "جامعة الخرطوم" منذ أن جاء إلى السودان عام 1947م، ولاحقا بالجامعة الإسلامية وبالجامعة الأهلية. وذكرت كاتبة المقال أن عابدين "قدم الثقافة العربية في السودان على أنها ثقافة قوية ومتينة ومتنوعة وشاملة اجتماعيا، ويتم التعبير عنها في أشكال مكتوبة وشفوية، وقد تتبع التغيرات التي قادت إلى ما أسماه (عابدين) تحديث الثقافة العربية السودانية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين". وكان عابدين يقصد بالتحديث هو انتشار اللغة العربية الفصيحة (أي اللغة العربية الأدبية المعيارية)، خاصةً في الكتابة، والتي نشأت من تداخل السودانيين بالمصريين والعرب الآخرين، وبالثقافات الغربية عبر المطبوعات والوسائط السمعية والبصرية – من الكتب والمجلات إلى الأفلام والإذاعة".
***** ***** *****
3.وذكرت الكاتبة أن مُؤَلَّف عابدين هذا "يستحق إعادة النظر، ونحن نتناول الثقافة السودانية العربية في القرن العشرين، لاسيما وأن الكتاب كان قد أُلِّفَ قُبَيلَ تصفية الاستعمار. ويذكرنا هذا الكتاب، أنه على الرغم من أن سياسيات التعريب التي أُنتهجت بعد نيل السودان لاستقلاله كان قد أتت بنتائج عكسية، إلا أنه بقي للثقافة العربية في أجزاء كثيرة من السودان وجود تاريخي عميق الجذور وشعبي بحق، على مستوى القواعد الشعبية". وأضافت بأنه، في ذات الوقت، يُعد هذا الكتاب في حد ذاته "وثيقة تاريخية ... تعطينا لمحات عن فترة إنهاء وتصفية الاستعمار، وعن النقاشات (التي كانت تدور بين المتعلمين الشماليين. المترجم) عن الهوية العربية والثقافة العربية التي غمرت الوطنيين بالنشاط والحيوية والحماس، وشكلت سياسات ما بعد الاستعمار".
وشاطرت كاتبة المقال عابدين في رأيه أن "الثقافة العربية" ليست مرادفة لـ "الأدب العربي"، وأن ترجمة كلمات مثلliterature وliterary و literati بالكلمات العربية: "أدباء" و"أدبي" و"أدب"، على التوالي، ليست دقيقة دوماً. فتلك الكلمات الإنجليزية (كما يقابلها في الفرنسية) أتت من اللاتينية (litterae)، وتشير دوما للكتابة، بينما كانت معظم المواد التي استعرضها عابدين في كتابه - خاصة في فترة القرن التاسع عشر وما قبله – مواداً شفهية قالها أناس لم يكن يعرفون القراءة والكتابة. وكان عابدين يفرق بين المواد التي كُتِبَتْ أو قِيلَتْ باللغة العربية الدارجة والمواد الشفهية، وبين ما كان قد كُتب باللغة العربية الفصيحة، وملتزماً بالقواعد المتعلقة بالنحو والإِعْراب والأعراف الأدبية.
***** ***** *****
4. ذكرت المؤلفة في الجزء الأول من مقالها تحت عنوان جانبي هو: "عبد المجيد عابدين ومحيطه الثقافي في مصر والسودان وغيرهما" أنه يلزم لمعرفة عبد المجيد عابدين أن ينظر المرء في كتبه، خاصة عناوينها، ومقدماتها وتقديماتها وقائمة مراجعها. فبحسب مقدمة لمجموعة من مقالاته التي نُشِرَتْ في المجلات السودانية بين عامي 1953 و1958م (التي طبعها "المركز الثقافي المصري" بأمدرمان في عام 1972م)، فقد كان عابدين قد دَرَسَ في كلية الآداب بجامعة فؤاد (التي صار اسمها "جامعة القاهرة" بعد قيام ثورة الضباط الأحرار في 1952م) وتخرج فيها عام 1939م، ثم نال عام 1939م دبلوماً في اللغات الشرقية، متخصصا في اللغات السامية؛ ثم قام بتدريس الإثيوبية القديمة (الجعزية) بين عامي 1943 إلى 1947م. بعدها ذهب عابدين للتدريس في كلية غردون بالخرطوم. ولا بد أنه واصل في تحضير لرسالة الدكتوراه من على البعد، لأنه حصل عليها بعد مرور سبعة أعوام (1955م) من جامعة القاهرة. وكان البريطانيون قد أنشأوا كلية غردون في 1902م لتخريج بعض صبيان وشُبّان السودانيين العرب المسلمين للعمل في وظائف حكومية صغيرة. وتغير اسم كلية غردون ومدرسة كتشنر الطبية في عام 1951م ليصبح "كلية الخرطوم الجامعية". ومع تغير الاسم تباعدت تلك الكلية الجامعية عن أهداف كلية غردون القديمة، وتباعدت أيضاً عن النظام الامبراطوري البريطاني الذي دعا لتخليد ذكرى مقتل شارلس غردون في 1885م. واستفاد عابدين (وغيره من الأساتذة) من تغير الأوضاع في "كلية الخرطوم الجامعية" فانخرطوا في القيام بأبحاث متنوعة. غير أنه من المؤكد أن عابدين كان قد أكمل كتابه "تاريخ الثقافة العربية في السودان" في بداية الخمسينيات، ولم تكن "كلية الخرطوم الجامعية" حينها مؤسسةً مستقلةً تماما، فقد كانت تمنح درجات أكاديمية لخريجيها بترتيبات مع جامعة لندن، التي كانت تَعْتَبِرُ "المؤسسة الأم / الوصية tutelary" عليها. وفي عام استقلال السودان (1956م) تحولت تلك الكلية لجامعة الخرطوم، وغدت تمنح درجاتها بصورة مستقلة. وفي غضون سنوات الفترة الانتقالية (في نهاية الأربعينيات والخمسينيات) كان يَرْأَسُ قسم اللغة العربية أكاديمي مصري آخر هو محمد النويهي (1917 – 1980م)، الذي كان أحد طلاب المفكر المصري الكبير طه حسين (1889 – 1973م). وعمل النويهي بالخرطوم بين عامي 1947 و1956، حيث كان يمثل حلقة الوصل بين البريطانيين والمصريين والسودانيين. وسعى النويهي في سنوات رئاسته لقسم اللغة العربية تحديث طريقة تدريس الأدب العربي عن طريق تجديد الكتب المقررة، وجعل التدريس أكثر تفاعليةً، وأقل اعتماداً على مجرد التلقين والحفظ عن ظهر قلب. ولا بد أن النويهي كان هو من عَيَّنَ عابدين وأشرف، أو ساعد في الإشراف، على دراسته (وقد كان النويهي قد عَيَّنَ أيضاً الأديب الفلسطيني إحسان عباس، الذي حصل على الدكتوراه من جامعة القاهرة برسالة عن الشعر الأموي) . ومثل تلك التفاصيل عن قسم اللغة العربية مهمة لأسباب ثلاثة: أولها أن السلطات البريطانية عقب ثورة 1919م في مصر، وحركة 1924م بالسودان، كانت تسعى لإزاحة المصريين من كل الوظائف الكبيرة بالسودان (عدا وظيفة قاضي القضاء، التي بقيت مقصورة على المصريين حتى عام 1947م). ولا شك أن تعيين أشخاص مثل النويهي وعابدين كان إشارة لتعزيز العلاقة بين السودانيين والمصريين في سنوات إنهاء وتصفية الاستعمار. وثاني الأسباب هو أن تعيين المصريين والفلسطيني إحسان عباس كان يعكس (بداية) إدخال دراسات عربية أدبية في منهج التعليم العالي السوداني، آذنت بدخول البلاد في الساحة الثقافية العربية بالشرق الأوسط وهي تلج مرحلة ما بعد الاستقلال. أما ثالث الأسباب فهو أن تعيين أولئك الرجال كان أمرأً مؤقتا في عهد "السودنة" (أي تعيين السودانيين في الوظائف التي كان يشغلها البريطانيون والمصريون). فقد عاد محمد النويهي لبلاده في 1956م للعمل في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وغادر إحسان عباس الخرطوم بعد رفض تجديد عقده، ليعمل بالجامعة الأمريكية ببيروت، حيث أصاب هناك نجاحاً كبيراً وشهرة واسعة. أما عابدين فقد ظل يعمل بجامعة الخرطوم (على الأقل حتى عام 1958م). ثم غادرها ليعمل بجامعة القاهرة فرع الخرطوم (التي اُفْتُتِحَتْ في عام 1955م)، وظل يعمل بها حتى عام 1969م. ثم عاد بعد ذلك للعمل بجامعة الإسكندرية. وحل محل النويهي وعباس وعابدين أساتذة سودانيون مثل عبد الله الطيب (1921 – 2003م) ومحمد إبراهيم الشوش (ت 2021م).
***** ***** *****
5. وكان عابدين قد أَلَّفَ كتابين في بدايات الخمسينيات، وهو يعمل بكلية الخرطوم الجامعية، كانا يمثلان انعكاسا للسياسة الانتقالية والمزاج العام الذي كان سائداً في تلك الفترة. وكان الكتاب الأول (الذي صدر عام 1951م) في مجال النقد الأدبي لشعر التجاني يوسف بشير (1912 – 1937م). وكان التجاني (الذي أصيب بالسل، وتوفي وهو في الخامسة والعشرين من العمر) قد أثار ضَجّة واسعة في سنوات شبابه الباكرة حين قارن شعر أحمد شوقي، شاعره الأثير، بالقرآن (في هذه المسألة خلاف، وربما كانت قد أثيرت بسوء فهم. المترجم). وحملت مقدمة الطبعة الثالثة من هذا الكتاب (صدرت عام 1962م) تفسيرا من عابدين مفاده أنه كان قد كتب تلك الدراسة (السريعة) عندما كانت الجامعة – وهي في مرحلة تطوير مناهج اللغة العربية - ترغب في إبراز أعمال شعراء السودان الحديثين. وقدم عابدين التجاني يوسف بشير بحسبانه شاعراً مجدداً، يقود بقية الشعراء الاصلاحين في العالم العربي آنذاك. وإن صح ما ذهب إليه روبر، وهو أحد كتاب السير biographer، من أن التجاني كان هو "أول شاعر سوداني ينال الاعتراف خارج بلاده"، فقد تكون دراسة عابدين عن التجاني قد أعانت على تعضيد تلك السمعة الحسنة.
أما الكتاب الثاني الذي ألفه عابدين في سنوات عمله في "كلية الخرطوم الجامعية" عام 1953م فهو كتاب "تاريخ الثقافة العربية في السودان منذ نشأتها إلى العصر الحديث" (وهو الكتاب الذي أَلهَمَ الكتابة كتابة هذا المقال). ووصفته الكاتبة بأنه كتاب "شامل مُبتَكِر، ومُبدِع مُتَبَحّر". وأشار عابدين في تقديمه للطبعة الأولى من كتابه إلى أنه وجد عسراً شديداً في العثور على مصادر ذات صلة ببحثه، ولا غَرْوَ، فقد كان موضوع الكتاب من الأمور المجهولة التي لم تكن قد اُسْتُكْشِفَتْ بعد terra incognita عندما شرع في تأليف ذلك الكتاب، ولكنه موضوع كان قد بدأ في جذب اهتمام بعض البُحَّاث. وعندما كان ذلك الكتاب في مرحلة الطباعة كان بعض الباحثين السودانيين – وعلى رأسهم مكي شبيكة (1905 – 1980م) قد بدأوا في الاهتمام بتاريخ السودان الثقافي. فقد قام شبيكة في السابع من مارس عام 1953م بتنظيم أول اجتماع للجمعية التاريخية السودانية. ومن بعد ذلك غدا شبيكة رائدا في مجال تاريخ السودان الحديث، وأستاذا متميزا في جامعة الخرطوم، وصارت كتبه من الكتب المعتمدة لدي القراء السودانيين.
وإلى جانب كتاب "تاريخ الثقافة العربية في السودان منذ نشأتها إلى العصر الحديث"، نشر عابدين كتباً أخرى في سنوات مسيرته الأكاديمية الممتدة من منتصف الأربعينيات إلى أواخر الستينيات. وكانت بعض تلك الكُتُب مؤلفات ترجمها عابدين للغة العربية – بالاشتراك مع آخرين –، شملت روايتين باللغة الفرنسية نُشِرَتَا عام 1946م بالقاهرة (ذكرت المؤلفة في حاشية مقالها أنها لا تعلم إن كان عابدين مجيداً للغة الفرنسية، وأنها أخذت عبارة "ترجمها بالاشتراك" مما أورده عابدين نفسه في قائمة جزئية لأعماله وردت في كتابه "الأمثال العربية في النثر العربي القديم مع مقارنتها بنظائرها في الآداب السامية الأخرى"، ص 215، 1989م). ونشر عابدين في عام 1947م (بالاشتراك مع حسن إبراهيم حسن وإسماعيل النحراوي. المترجم) ترجمةً عربيةً لكتاب توماس ووكر أرنولد المعنون "الدعوة إلى الإسلام: بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية". وكان اشتراك عابدين في ترجمة هذا الكتاب يؤكد اهتمامه بالديناميات التاريخية للتحول للإسلام. وكان عابدين قد استشهد بتوماس أرنولد في كتابه "تاريخ الثقافة العربية في السودان".
ويمكن القول بأن أعمال عابدين كانت تجمع بين عدة مواضيع شملت علم اللسانيات في اللغة العربية، وعلم الفلكلور، وتاريخ الفكر الإسلامي، والشعر والنثر العربي المعاصر، والتفاعل والتداخل بين الثقافتين العربية والإفريقية. وفي عام 1947م نشر عابدين كتابا تناول العلاقات الإثيوبية – العربية في العهود الإسلامية الباكرة (وصدر له في عام 1949م كتاب بعنوان "بين الحبشة والعرب"، ولا أدري إن كان هذا كتابا مختلفا عن الأول. المترجم). ثم نشر من بعد ذلك دراسة بعنوان "المدخل إلى دراسة النحو العربي على ضوء اللغات السامية" وكتاب "بين شاعرين مجددين: ايليا أبو ماضي وعلى محمود طه المهندس". وبذا يكون عابدين قد شمل في أعماله الاكاديمية حوالي 1500 سنة من التاريخ العربي! وفي عام استقلال السودان (1965م) نشر عابدين كتابه عن "الأمثال في النثر العربي القديم" (أي في العصر الجاهلي والإسلامي الباكر). ]ذكرت الكاتبة بعد ذلك مقالا وحيدا لعابدين باللغة الإنجليزية تناول فيه مسألة التعريب. وأتت على عدد من الكتب التي نشرها حتى نهاية الستينات، وشملت كتابا عن الشاعر الشعبي محمد أحمد عوض الكريم أبو سن (الحاردلو) بالاشتراك مع المبارك إبراهيم، إضافة لآخر كتبه: "من أصول اللهجات العربية في السودان دراسة مقارنة في اللهجات العربية القديمة وأثرها في السودان". المترجم [.
****** ****** ******
6. وتناولت المؤلفة في الجزء الثاني من مقالها تحت عنوان جانبي هو: "العالم الفكري لكتاب عبد المجيد عابدين (تاريخ الثقافة العربية بالسودان): المصادر والشخصيات والمحتوى" سعة علم عابدين بالتاريخ في هذا الكتاب تحديدا. فقد قام فيه – معتمدا على الكتب المطبوعة وبعض المخطوطات والمصادر الشفهية - بعمل مسح شامل لكل الأحداث والتطورات التي حدثت منذ دخول العرب للسودان في القرن السابع الميلادي، وخلال عصر الفونج (تقريبا من 1500 إلى 1800م)، وحتى منتصف القرن العشرين. وأَنجَزَ كل ذلك فيما يزيد قليلا على 400 صفحة. وكان تركيز عابدين الأكبر في هذا الكتاب على الفترة من عام 1800م وما بعدها. وبان من المصادر العديدة التي استشهد بها عابدين في كتابه أنه كان قد قرأ الكثير من المصادر المهمة مثل كتاب "الطبقات" لمحمد النور ود ضيف الله (ت 1809م)، وكُتب بعض الرحالة مثل جيمس بروس (1730 – 1784م) وفريديريك كايود (1787 – 1869م)، ومحمد بن عمر التونسي (1789 – 1856م). واستشهد أيضا بمؤرخين سودانيين من أمثال محمد عبد الرحيم (1878 م - 1966م) ومكي شبيكة؛ وبكُتاب بريطانيين كانوا يعملون في خدمة حكومة السودان مثل سيقمار هيلليسون (1883 – 1960م)، وهارولد ماكمايكل (1882 – 1969م) و أ.جي. آركل (1898 – 1980م)؛ وباللبناني نعوم شقير (1863 – 1922م) الذي كان أول من قام سجل وقائع شاملة للتاريخ السوداني الحديث (في كتابه " تاريخ السودان القديم والحديث" من ثلاثة أجزاء)؛ بل واستشهد بما كتبه بعض المبشرين المسيحيين مثل البريطاني جي. اس. تريمنقهام (1904 – 1987م) والأمريكي سي. آدمز (1883 – 1948م). وكان عابدين يداوم على قراءة مجلة النظام الحاكم "السودان في رسائل ومدونات SNR"، ويستشهد بانتظام بالكثير مما جاء فيها، ويشيد بكُتابها (وغالبتهم من البريطانيين) لتنشيطهم للحركة الأدبية السودانية من خلال تقديم المعرفة بالثقافات العربية السودانية "مُنَقّاةً ومستساغة، بعد أن نفضوا عنها تراب السنين". واستشهد عابدين في أعماله بما كتبه الكثير من المفكرين المصريين الذين ساهموا في حركة "النهضة" المصرية، والذين كانوا، بدورهم، مصدر إلهام لحركة "النهضة" بالسودان، مثل رفاعة رافع الطهطاوي (1801 – 1873م)، الذي عاش منفياً بالسودان بين عامي 1850 و1854م؛ والإصلاحي محمد عبده (1849 – 1905م)؛ وطه حسين (الذي كانت مذكراته المعنونة "الأيام" مصدر إلهام لشخصيات وطنية سودانية مهمة مثل محمد أحمد محجوب وعبد الحليم محمد، في كتابهما "موت دنيا" الذي صدر في 1946م. واستشهد عابدين كذلك ببعض الشخصيات المصرية المغمورة، مثل اليوزباشي (النقيب) عبد القادر مختار الذي كان يعمل مأموراُ بالقطينة، وأَلْف في عام 1910م مسرحيةً نثريةً باللغة العامية ليؤديها التلاميذ في مدارسهم. وأعتمد عابدين كثيرا على ما كان يُنشر في الصحف والمجلات السودانية مثل "الفجر" و"النهضة" و"حضارة السودان"، التي كانت بمثابة "مَعامل laboratories" للتجريب الأدبي المتعلق بتطورات الأدب العربي بالسودان في بدايات القرن العشرين، حيث كانت تُنشر فيهما المقالات والقصص القصيرة.
******* ****** *******
7. أشارت كاتبة المقال إلى أن عابدين لم يقم بالبحث الاثنوغرافي بنفسه، ولم يقم برحلات ميدانية لجمع المصادر الشفهية والمخطوطات، بل كان يسند تلك المهام لبعض المثقفين السودانيين في منطقة الخرطوم، الذين كان يصفهم بأنهم "سدنة التراث الشعبي". وكان بعض هؤلاء يقدمون له معلومات مباشرة، أو يخبرونه عن المخطوطات غبر المنشورة. فعلي سبيل المثال أستشهد عابدين بمخطوطات كتاب بابكر بدري (1856 – 1954م) عن الأمثال السودانية (من 3 أجزاء، ولم ينشر منها سوى الجزء الأول)، وكذلك بأعمال إبراهيم العبادي وخالد أبو روس، وبكتاب محمد صالح ضرار (1892 – 1972م) عن سواكن وبورتسودان وقبائل البجا، وبما كتبه محمد عبد الرحيم عن دارفور. وكذلك أتى عابدين على أشعار النساء، فيما سماه "شعر البطولة الحربية"، وذكر الحكامة والشاعرة أم مسيمس، من المسلمية، وهي من ألفت بعض القصائد (الشعبية) في مدح بعض الشخصيات البارزة مثل المك نمر (حوالي 1785 – 1846م). وذكر كذلك "بنت مكاوي" التي اشتهرت بمدحها لمحمد أحمد المهدي وحضها له على الثورة ضد "التُرك". وخلصت الكاتبة إلى أن عابدين كان قد أورد في كتابه أسماء الكثير من المبدعين والكُتاب، مما جعله مؤلفه يفيض بالشخصيات ويموج بالحياة، ويتكشف كسلسلة من النقاشات التي تحدث في عالم فكري.
********* **********
8. يستعرض كتاب "تاريخ الثقافة العربية" في المائة صفحة الأولى منه مسحاً مُرتب زمنياً للثقافة السودانية العربية في عهود ما قبل سلطنة الفونج، وسلطنة الفونج، والحكم التركي – المصري، ثم حكم المهدية، وعهد الحكم الثنائي (أي العهد الحديث"). ثم ينتقل في أجزاء الكتاب التالية لمناقشة الأجناس النثرية والشعرية المختلفة. وتناول الشعر الشعبي (المكتوب باللغة العامية) وأشعار الصوفية والشعر التقليدي والتجديدي (المكتوب باللغة الفصيحة). أما في مجال النثر، فقد تناول الكتاب الأعمال النثرية المكتوبة باللغة الدارجة (مثل الحكايات والأحاجي والأمثال الشعبية، والقطع النثرية الصوفية والتقليدية، إضافة للكتابات "الحديثة" (التي تشمل المقالات الصحفية والنقدية، والكتابات القصصية، ووصف الرحلات، والمسرحيات. ولا يتناسب كل شيء تطرق إليه الكتاب بدقة في هذا الجزء مع أطر (frameworks) الكتاب. فعلى سبيل المثال ضم عابدين "المذكرات الشخصية" إلى نقاشه حول "القصص"، ومثال ذلك هو كتاب محمد أحمد محجوب وعبد الحليم محمد المعنون "موت دنيا". فعلى الرغم من إشادة عابدين بأصالة هذا الكتاب (في السياق السوداني)، إلا أنه وصفه بأنه خليط من المذكرات، والسرد السياسي، والقصائد السردية (عادةً في مقاطع قصيرة). وبدا أن عابدين كان يستهجن تركيز مؤلفي الكتاب على انشغالهما الشديد بحياة أندية شريحة ضيقة من "المثقفين".
وذكرت الكاتبة أن " كتاب "تاريخ الثقافة العربية في السودان" (في طبعة عام 1967م) قد خَلاَ من ذكر الروايات السودانية، إذ أن ذلك الجنس الأدبي لم يشتهر في السودان إلا في ستينيات القرن الماضي. وكان ظهور رواية الطيب صالح (1929 – 2009م) "موسم الهجرة إلى الشمال" في عام 1966م، ثم اشتهارها (عالميا) بعد ترجمتها للإنجليزية عام 1969، أشد إِذهالاً عند النظرة الاسترجاعية (in retrospect). ومع ذلك فقد كان ذلك العمل للطيب صالح قصيراً، وربما جاز القول بأنه "رواية قصيرة Novella"، أكثر منه "رواية Novel". (ورد في بعض المصادر أن أول رواية سودانية كانت هي رواية "تاجوج: مأساة الجمال والحب" لعثمان محمد أحمد (1898 - 1948م) (وكاتبة هذا المقال تعدها "قصة قصيرة")؛ وهناك رواية ملكة الدار محمد عبد الله المعنونة "الفراغ العريض" التي قِيلَ إنها كُتبت في بداية خمسينيات القرن الماضي، ولم تر النور إلا في السبعينيات؛ ورواية "الطليعي الأسود" لإيدوارد عطية، التي نُشرت بالإنجليزية في 1952م. المترجم).
ومما عَابَتْه كاتبة المقال على كتاب عابدين خلوه التام مما سماه أوفاهي (1943 – 2019م) "النصوص غير الأدبية ذات الأصول السودانية" في الفترات التي سبقت الاستعمار التركي – المصري. وهذا هو ما التفت إليه لاحقاً المؤرخ محمد إبراهيم أبو سليم (1930 – 2005م). فقد جمع وحقق ونشر "الآثار الكاملة للإمام المهدي"، وكتاب "الفور والأرض: وثائق التمليك" وغير ذلك من الكتب. واشترك أبو سليم لاحقا مع جي اسبولدينق في جمع وترجمة ونشر بعض وثائق تمليك الأرض (وغيرها من الوثائق) في عهد سلطنة الفونج. وكتب أوفاهي (مع آخرين) الكثير عن الرسائل والممارسات التعبدية الصوفية، وهو ما لم يلتفت إليه عابدين. (قد لا تخلو مثل هذه المقارنات والأحكام من بعض التَعَسُّف، بالنظر إلى اختلاف زمني عابدين وأوفاهي، والمحدوديّات limitations العددية عند عابدين، التي لم تجابه أوفاهي". المترجم).
وخلصت الكاتبة في هذا الجزء إلى أن في كتاب "تاريخ الثقافة العربية في السودان" الكثير من الثغرات، التي ذهبت إلى أنها كانت انعكاسا لاختيارات وافتراضات عابدين لما يجب أن "يُعد" ضمن التراث الشفاهي والأدبي (المكتوب) بالعربية السودانية، إضافةً لما تمكن عابدين من الوصول إليه، وما شعر بأن مقدوره تغطيته.
********** *********
9. وتحت عنوان جانبي اسمته الكاتبة "حجج Arguments"، أوردت فيه بعض النقاط المتنوعة، أقوم هنا بتلخيص بعضها بإيجاز.
1.9. لم يصف عابدين في كتابه الثقافة السودانية العربية فحسب، بل سعى لمناقشة الأهمية السياسية والاجتماعية لتلك الثقافة، فقد كان يرى الإسلام واللغة العربية في السودان تاريخياً كقوتين موحدتين / تَوحِيدِيّتين، وأنه ليس بمقدور السودانيين التغلب على خلافاتهم من دونهما. وكانت لعابدين رؤية شاملة للعروبة (Arabness) تشمل كل من يتحدث بالعربية. غير أن الكاتبة ترى أن رؤية عابدين تلك كانت رؤيةً ضيقة، بل مفرطة المحدودية parochial، إذ أنه لم يتعرض إلا نادراً جدا للأعمال الفنية الشفاهية في لغات السودان غير العربية، بحسبانها من ضمن المساهمات في الأدب الحديث. واستشهدت كاتبة المقال في هذه النقطة برأي شريف حرير في مقال له ورد في كتاب صدر بالسويد في عام 1994م، حين ذهبت إلى أن كتاب عابدين توقع (وربما عزز) من نظرة الحكومة السودانية للعالم، وسياستها في مجالي الأسلمة والتعريب.
2.9. كان عبد المجيد عابدين قد لاحظ أن كتاب "الطبقات" لود ضيف الله (الذي ألف عام 1800م تقريبا)، وتتبع سير حياة نحو 260 من شيوخ الصوفية، كان يحتوي على كلمات وتعابير دارجة عديدة – وهو ما عزاه عابدين لافتقار ود ضيف الله (أو من يستهدفهم من القراء) للمعرفة والثقافة الرفيعة sophistication. وأشار عابدين إلى قلة عدد المتعلمين بالسودان في بداية القرن العشرين، غير أنه لم يأت على أي ذكرٍ للعوامل الاجتماعية التي كانت وراء التوسع في مجال الكتابة ومحو الأمية، وتحديدا التوسع في أنظمة المدارس (كما ذكرها محمد عمر بشير في كتابه "تطورات التعليم في السودان" الذي صدر عام 1969م)، ومن ناحية مادية، سهولة الحصول على الأوراق، والوسائل الفنية للطباعة والنشر الزهيدة الثمن.
وعَدَّ عابدين التحول للعربية الفصيحة بمثابة تغيير للأحسن، وعلامة أكيدة على الحداثة.، غير أنه كال اللوم على بعض أدباء السودان في بدايات القرن العشرين لضعف قدراتهم على الكتابة بالعربية الفصيحة. وخص بالذكر الكاتب والشاعر حمزة الملك طمبل (1897 – 1951م)، الذي كان أول من حث رفاقه على انتاج وتطوير أدب عربي له ذاتية "سودانية" مميزة. ولا شك في أن عابدين كان يناصر دعوة طمبل للأدباء السودانيين لإبراز البيئات السودانية المختلفة في أشعارهم ونثرهم، بل وأشاد بالأدباء الذين قاموا لاحقاً بتناول مواضيع مثل وصف الطبيعة في جزيرة توتي ومقرن النيلين. وكان عابدين يشيد بطمبل لريادته في مجال النقد الأدبي بالسودان، ويؤيد ما قاله طمبل عن أن الأدب يمكن أن يؤسس المعتقد الديني عند الناس عن طريق هديهم لرؤية الله وحقائق الوجود في الجمال الطبيعي. بيد أن عابدين لم يلق بالاً لخلفية طمبل كرجل نوبي كانت اللغة النوبية هي لغته الأولى، وانتقد لغته العربية وكَثْرَة الأخطاء فيها (كان طمبل قد وُلِدَ في مدينة أسوان المصرية، ودرس بها الأولية والثانوية - حيث كان أحد معلميه هو عباس محمود العقاد - وتوفي بدنقلا. يصعب تصديق أن أصل طمبل النوبي هو سبب "ضعف" لغته العربية. المترجم).
3.9. كان عابدين قد خاض في الجدال حول ما الذي يجعل (أو يجب أن يجعل) الأدب العربي أدباً سودانيا (خالصاً). ويزعم أنه يتخذ موقفا وسطيا بين الذين يؤيدون شعار "السودان للسودانيين"، والذين اتخذوا من "وحدة وادي النيل" شعاراً لهم. غير أنه، كمصري يعيش في السودان ويكتب عنه، كان يميل أكثر لفكرة نوع من العلاقات والصلات الوثيقة (comity) بين مصر والسودان، رغم احترامه لرأي وجهود الوطنيين الذين ينادون بشعار "السودان للسودانيين". وكان عابدين يقول بعدم جدوى الدعوة لتأسيس "أدب عربي سوداني" من الصفر، إذ أن الثقافة العربية الموجودة سلفاً بالبلاد تعكس بيئاتها المحلية بالفعل.
وكان عابدين يفضل الأعمال السودانية التي تلتقط المناظر الطبيعية بالسودان. وخص بالثناء الشاعر الحاردلو الذي "ترجم" الأشعار البدوية من اللغة الدارجة للغة الفصيحة، مما جعلها مفهومةً عند جمهور أوسع. وأعجب كذلك بقصة "تاجوج"، التي كتب عنها عثمان محمد هاشم قصة قصيرة، وألف عنها خالد أبو الروس مسرحية، عرضها في عدد من المدن السودانية في عام 1935م. ولعل ذكر عابدين لقصة تاجوج كان واحداً من المرات النادرة التي أتى فيها عابدين على ذكر ترجمة عمل (سوداني) للغة العربية، ولكنه ذكر أن صوراً عديدة من تلك القصة لا تزال تُرُدِّدَ في مناطق ساحل البحر الأحمر باللغات البجاوية والتقراية، وبالعربية الدارجة.
4.9. تطرق عابدين في كتابه للصلات بين الأنماط المختلفة للشعر الشفاهي السوداني، وموسيقي الآلات، والغناء والرقص. فقد تناول المديح النبوي، حيث يؤدي مادح أو مجموعة من المدّاح / الْمَادِحِين أداء القصائد المادحة بمصاحبة النَقْرعلى الطار (الدَّفّ). وتقرع النساء بعض أنواع الطُبولُ في الغناء الذي تكون أشعاره عادةً في مدح أو هجاء شخص ما، بينما يغني بعض الرجال بمصاحبة الطرق على الأرض بـ "مطارق" ويسمى "غُنا (غناء) المطرق". وأتى عابدين على ذكر المؤديين "البرامكة" الذين أتوا لغرب السودان من جنوب مصر في بداية القرن العشرين، وأقاموا فيه، وكانوا يؤدون أعمالهم الفنية والناس حولهم جُلُوس يحتسون الشاي. وذكر عابدين أيضاً أنه في غضون سنوات الحرب العالمية الثانية ازدادت شهرة النساء الإثيوبيات والإريتريات بين الجنود السودانيين، وبعد هجرتهن إلى السودان، قمن بوضع ألحان أغنياتهن العربية على الإيقاعات والأنغام الإيطالية. ولعل عابدين كان يهدف من ذكر كل ذلك إلى أن الثقافة العربية لم تكن ساكنة أو جامدة في أي مكان، بل كانت دوما ثقافةً قابلةً للتجديد؛ وأن الثقافة السودانية قد رحبت بالثقافات الأجنبية التي وفدت عليها، وأنها بذلك قد ازدادت حَيَوِيّةً وازدهاراً؛ وأن النساء كن قد أدين أدواراً فعالة في الثقافة الشفاهية السودانية. غير أن النساء السودانيات في كتاب عابدين كن قد سجلن غيابا تاما في مجال الكتابة باللغة العربية. وكان عابدين قد أظهرهن في المسح العام الذي قام به عن كتابات السودانيين في فترة بدايات القرن العشرين (أي الفترة "الحديثة")، خاصةً في مقالات وقصص خريجي كلية غردون، بحسبانهن رموزا للتخلف والخرافة والتمسك بالعادات القديمة. وهو محق بالطبع في أنهن لم يشاركن بصورة نشطة في عهد الحكم الثنائي. وتلك نتيجة متوقعة، إذ أن نسبة الأمية بينهن ظلت مرتفعة جدا في الفترة التي سبقت عام استقلال السودان. ولم تبدأ نسب الأمية بين النساء بالسودان في الانخفاض إلا بعد ذلك.
5.9. تضافرت عدة عوامل جعلت من كتاب "تاريخ الثقافة العربية في السودان" غير مشهور في الأوساط الأكاديمية، فهو عند المؤرخين كتاب "أدبي" خالص، وهو كتاب "تاريخي" خالص عند الأدباء. ويراه المتخصصون في الشؤون الأفريقية والفلكلور كتابا يدور حول "العرب" و"العربية" فحسب، بل لا يعدونه كتاباً يقع ضمن "الدائرة الاكاديمية" المتخصصة. وربما كان السبب في ذلك هو تأليف الكتاب باللغة العربية، وليس بالإنجليزية، وربما لأن المؤلف رجل مصري الجنسية، وليس سودانيا. وحديثا (في 28/12/2019م) نشرت مجلة سوداناو Sudanow مقالأً عن المؤرخ الأكاديمي مكي شبيكة (أحد معاصري عبد المجيد عابدين) جاء فيه ما يفيد بأن شبيكة كان قد "ألهم أجيالاً من الباحثين السودانيين لإعادة كتابة تاريخ السودان، بعد أن غدا ذلك التاريخ مرتعاَ خصباً ومقنصاً حراً للكتاب الأجانب". ولا شك أن كاتب ذلك المقال كان يقصد – بصورة خاصة- البريطانيين مثل هارولد ماكمايكل، صاحب الآراء المشحونة بالأغراض السياسية عن العرب والأنساب العربية. إلا أن عابدين هو أيضاً رجل أجنبي – على الأقل كان أجنبياً بما فيه الكفاية (باعتباره مصري الجنسية) ليعجز عن الاحتفاظ بوظيفته في جامعة الخرطوم في أيام "السودنة".
ولا ريب أن وضع عبد المجيد عابدين "الهامشي" كمصري في عصر استقلال السودان ربما يفسر قلة عدد الأكاديميين المهتمين به، وبكتابه البديع هذا، الذي لا يزال حتى اليوم يبدو طَّازَجاً ودقيق الفهم ونافذ البصيرة، حتى بعد مرور نحو سبعين عاماً على صدوره.


alibadreldin@hotmail.com
//////////////////////////

 

آراء