استعراض المؤرخ البريطاني بيتر م. هولت لكتاب المؤرخ السوداني مكي شبيكة “السودان في قرن (1819 – 1919م)”

 


 

 

مقدمة: يقدم هذا المقال ترجمةً لاستعراض قصير لكتاب المؤرخ السوداني الأشهر مكي شبيكة (1905 – 1980م) المعنون: "السودان في قرن: 1819 – 1919م"، نشره المؤرخ البريطاني بيتر م. هولت (1918 – 2006م) في العدد الأول من المجلد رقم 29 لمجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" الصادرة عام1948 م، ص 132 -133. ويتضمن المقال أيضا غالب ما كتبه مكي شبيكة في تقديمه لمؤلفه الذي صدر بالقاهرة عن "لجنة التأليف والنشر والترجمة والنشر" عام 1947م (1366هـ). والكتاب (وبه غالب ما ورد في المقدمة فيما يبدو) مبذول في الشبكة العنكبوتية.
المترجم
********* ********** **********
يعود الفضل في هذا الكتاب ذي المصداقية العالية لمؤلفه، وهو عمل يحقق أكثر الأغراض فائدةً. فعلى الرغم من أن المادة التاريخية عن السودان في القرنين التاسع عشر والعشرين غنية نسبيا، إلا أنه لم يُنشر كتاب – حتى الآن – عن التاريخ العام للبلاد. وما سطره ماكمايكل في بعض فصول كتابه "السودان الإنجليزي – المصري" لا يعطى سوى لمحاتٍ عابرة عن الفترات التاريخية التي سبقت إنشاء دولة الحكم الثنائي. أما كتاب نعوم شقير عن التاريخ العربي للسودان، فهو يَعِدْ الآن من الكتب القديمة التي يصعب الحصول عليها. ويدرك كل من يحاول دراسة أو تدريس تاريخ السودان في تلك الفترة صعوبة العثور على نقطة يبدأ منها في قراءة ذلك التاريخ. وقد أفلح هذا الكتاب لمكي أفندي في حل هذه المشكلة.
يبدأ الكتاب بسرد قصير لتاريخ السودان في الفترة التي سبقت الفتح المصري – وهو موضوع مثير يرغب المرء في قراءة المزيد عنه. وتتبع المؤلف مسيرة ذلك الفتح، ثم قام بعد ذلك بتقديم فصل كبير عن "التركية" تناول فيه توسع الإمبراطورية المصرية في عهد الخديوي إسماعيل. ثم أعقب ذلك بفصل مُتْرَعَ بالمعلومات ومثير للاهتمام عن الانتفاضة المهدية وحكم المهدي والخليفة عبد الله. وتغطي الفصول التي تلت ذلك الفصل استعادة (أي إعادة احتلال. المترجم) السودان، وتاريخ الإدارة الجديدة في العشرين عاما الأولى من حكمها. ويأمل المرء في أن يواصل الكتاب في طبعات مقبلة في الكتابة عن تاريخ السودان لفترة أطول، إذا توفرت للمؤلف مادة كافية.
ويغطي هذا الكتاب فترة زمنية كانت مثاراً لمُجادَلات وخصومات كثيرة، ويتناول العديد من المشاكل التي كانت مصدراً لنزاعات مريرة. وأفلح الكاتب في التعامل مع مثل تلك الظروف بعقلية متزنة ومنصفة. وتتضح تلك العقلية المتزنة والمنصفة عند مكي أفندي في تناوله لشخصيات تاريخية مثل الخديوي إسماعيل والزبير باشا والجنرال غوردون. وجميع هؤلاء كانوا من الشخصيات التي أختلف الناس حولها وتنازعوا في غضون سنوات حياتهم، وبعد وفاتهم نالوا أكثر من نصيبهم العادل من المدح المفرط أو النقد الحاد. غير أن مكي أفندي نجح في عرض تاريخهم، ليس بعدم تعاطف، بل بنزاهة وحياد موضوعي تاريخي، ألقى في بعض الأحايين ضوءاً جديدا على شخصياتهم وأهدافهم. ويا ليت مثل تلك النزاهة والحيادية تغدو دَّيْدَن المؤرخين السودانيين الذين سيأتون بعد مكي أفندي!
وهناك العديد من التغييرات التي أرى أن تُضْمَن في طبعة تالية من هذا الكتاب، وذلك لزيادة استفادة الطلاب من هذا المُؤَلَّف. فالترتيب الزمني في هذا الكتاب ليس واضحا تماما.، إذ أن المؤلف لم يذكر إلا القليل من التواريخ. وإن لم يكن المؤلف يرغب في إدخال الكثير من التواريخ في نصه، فبإمكانه إدراج طباعة تلك التواريخ (المهمة) في هامش فقرات الصفحة التي يلزم فيها ذكر تاريخ أو أكثر. ولا شك في أن كتاباً مثل هذا الكتاب الذي يقدم عرضاً عاماً للتاريخ السياسي لفترة تاريخية واسعة سوف يُسْتَخْدَمُ في الغالب كنقطة بداية لبحث أشمل وأكثر تفصيلا. وفي مثل هذه الحالة ينبغي أن يعمل المؤلف على مساعدة الطالب بذكره لقائمة المراجع والمصادر التي أعتمد عليها في كل فصل من فصول كتابه. وقد ذكر مكي أفندي بالفعل المراجع الجديدة التي حصل عليها من المحفوظات بالقاهرة، غير أنه من المستحسن أن يورد في كتابه الرائد هذا قائمةً أشمل وأدق من المراجع والمصادر الموثوقة. ومن الضروري أن يقوم المُؤَلِّفُ – في طبعة ثانية – بعمل فهرس بالأسماء والأماكن من أجل إكمال قائمة المحتويات الكبيرة في الكتاب. أما الخرائط التي ضمنها مكي أفندي في كتابه، فهي مخيبة للآمال. فليس بأي من تلك الخرائط ما يوضح الاختلافات في الارتفاع من مكان إلى آخر على سطح الأرض، ولم تظهر على تلك الخرائط الكثير من الأماكن التي ورد ذكرها بالكتاب. والخرائط، بشكل عام، ليست بالقدر الكافي- من ناحية النوعية أو العددية - لكتاب بمثل هذه الأهمية.
وكل ما أوردته من انتقادات للطبعة الأولى من هذا الكتاب تتعلق بأمور يمكن علاجها بيسر في طبعة ثانية. ولا تقلل هذه الانتقادات مطلقاً من قيمة محتويات هذا الكتاب. ولا ريب عندي في أن الكتاب سيجد له الكثير من القراء في السودان. وربما يجد الكاتب في نفسه رغبةً في ترجمة كتابه للغة الإنجليزية، إذ أنه لا يوجد حالياً أي كتاب باللغة الإنجليزية يمكن مقارنته بهذا الكتاب.
******* ****** ******
مقدمة مكي شبيكة
بسم الله الرحمن الرحيم
ذهبت لمصر صيف سنة 1943 لمأمورية بحث في محفوظات عابدين العامرة فيما يتعلق بتاريخ السودان بعد فتح محمد علي. وذلك لما يتطلبه عملي كمحاضر لتاريخ السودان الحديث في مدرسة الآداب العليا، إذ لا بد من الوصول للوثائق الأصلية إن وجدت، ولا بد من الاطلاع على ما هو محفوظ منها في مقر الخديوية بمصر. وهذه ضرورة يتطلبها ما يجب أن يكون عليه مستوى التدريس والمحاضرات.
وقد كان معظم اعتماد المؤرخين في تلك الحقبة على الرحالين الأجانب الذين جابوا أصقاعه، وعلى الذين خدموا في السودان منهم تحت الحكومة المصرية أمثال بيكر وغوردون وجسي وغيرهم من مختلف الأجناس. والصورة التي ينقلونها لها غالبا جانبية عن ناحية واحدة، أو إقليم خاص، وفوق ذلك فهم ينسون حينما يدونون ملاحظاتهم ونقداتهم الزمن الذي يكتبون فيه وأن ما يشكون منه وما يلاحظونه من معايب ظاهرة في أداة الحكم إنما كانت جزءاُ من الإدارة العثمانية، فهي في السودان مثلها في مصر مثلها في العراق وسوريا.
والقارئ لما دونوه يخرج بصورة قاتمة عن الحكم آنذاك، ويرى في الحكام عصابة شر تآمرت وأجمعت أمرها وغالت في تآمرها على ظلم العباد والقسوة عليهم، والتفاصيل التي يوردونها تفقد المؤرخ التوازن فيما يكتب عن السودان عامة؛ فالإقليم الذي يكتبون عنه نجد أخباره مفصلة، بينما لا يصلنا إلا تافه الأخبار وقليلها عن بقية الأجزاء، فيعطي وهو يؤرخ لذلك الإقليم الذي كتب عنه مجالا لا يتناسب مع أهميته.
لهذا الغرض حملت حقيبتي في يوم 19 مايو سنة 1943م، ويممت وجهي شطر سراي عابدين، وهناك قابلت المغفور له جلاد باشا رئيس الإدارة الأوروبية بديوان جلالة الملك، وهناك أفاض علي في الحديث عن المحفوظات التاريخية، وكيف أن المغفور له جلالة الملك الراحل فؤاد الأول أعطاها من عنايته ورعايته ما جعل منها أو في مجموعة وثائق يهم المؤرخين أمرها. وأخيرا نزلت إلى مقر المحفوظات ووجدت رهطا من الموظفين يعملون في غير ما جلبة أو ضوضاء، بعضهم من أبناء الترك الذين يتقنون اللغتين يترجمون من الدفاتر الأصلية ما هو تركي إلى العربية، وبعضهم يحقق عن معنى كلمة أو لقب أو علم من الأعلام، والكل منغمسون في محيط علمي من أخبار وصور، ينقبون ويترجمون ويحققون. ووجدت الوثائق مرتبة ترتيباً علمياً حسناً. وما كان لي إلا أن أقضي الساعة تلو الساعة أنقل ما أجده يمثل ناحية أهملت، أو ينقل صورة لم أجدها في ما كتب من أخبار وصور، وواصلت الدراسة والتنقيب ثلاث فترات أخرى حتى وصلت درجة من الاطمئنان تجعلني ألقي محاضراتي على المستوى الجامعي.
وأنا حين أقدم هذه الحقبة من تاريخنا فمستندي الأول تلك الوثائق الرسمية الأصلية يعاونها كل ما نشر من كتب الرحالين ومذكرات الموظفين ومن نتف ظهرت في التقارير السرية ومخابرات الجيش ومن طائفة من الذين شاهدوا العهد في آخره واستطاعوا إعطاء صورة حية عنه.
وقد كانت حقبة الثورة المهدية من أوفر حقب تاريخ السودان من حيث المصادر – فمنها الرسائل الرسمية بين القاهرة والخرطوم وبين القاهرة ولندن، ومنها يوميات غوردون وهو مُحاصر في الخرطوم، ومنها تقرير وضعه الضباط الذين نجوا من القتل أو الأسر في الخرطوم عن حوادث حصارها وفتحها والحملات الإنجليزية في الشرق، وحملة ولسلي - كلها دونت الدقائق من تفاصيلها في السجلات الرسمية تحمل الإحصائيات والرسائل المتبادلة، وأسماء الأورط والفرق والضباط وغير ذلك. وفيها ما دونه الأسرى من موظفي حكومة السودان السابقين مثل سلاطين باشا وإبراهيم فوزي باشا، وكذلك ما دونه القس أوهر ونيفلد، ومنها مدونات قلم الاستخبارات السرية للجيش المصري في القاهرة من المترددين على السودان أو اللاجئين إلى مصر منها. وقد ظهرت معظم أخبارها عن هذا الطريق في كتاب لونجت باشا بالإنجليزية، وفي كتاب آخر لنعوم شقير بك بالعربية. ثم تلك التراجم العديدة لغوردون حيث كانت شخصيته وحياته تجذب كتابها.
وفوق ذلك محفوظات وزارة الخارجية البريطانية في جزئها الخاص بمصر تشير إلى ما يقع في السودان من حوادث، وكذلك الكتب الزرقاء والجرائد الإنجليزية في ذاك العهد لم تجد موضوعا تلفت النظر فيه بعناوين بارزة خيراً من موضوع الثورة، وما أتصل بها من بعثة غوردون، ومن مسألة الزبير، ومن حملة الإنقاذ وغيرها. وكرومر هو جزء من الحوادث دون آراءه في كتابه "مصر الحديثة"، وقد عثر ونجت باشا في واقعة كرري سنة 1898 في جيوب أنصاري استشهد في الموقعة على يوميات عباس أفندي المرافق لحملة هكس والتي دون فيها تفاصيل سير الحملة وأنباء الخلاف بين قوادها. وقد احتفظ بها هذا الأنصاري منذ أن أخرجها من جيوب عباس أفندي حين خر قتيلا في موقعة شيكان. ومن ناحية المهدية طُبع الجزء الأكبر من منشورات المهدية على مطبعة الحجر، ونسخ منها لا تزال محفوظة. والرجال الذين اشتركوا في الحوادث والذين ينعمون بذاكرة قوية منهم لا زالوا يروون ما شاهدوه وخبروه.
وإذا كان الباحث يناله الجهد من ندرة المصادر، فوفرتها وتشعبها واختلاف وجهات نظر من يدونونها اختلافاً كبيراً، قد يعجز الباحث أيضاً عن إبراز صورة واضحة صحيحة متناسبة الأجزاء. فقد ينقاد بكثرتها إلى إيراد تفاصيل تُسْئِم القارئ وتمله، وقد يعطي بروزا لا يتناسب مع بقية الصورة لجزء منها حيث تتبسط فيه المصادر، وقد ينحاز لوجهة نظر خاصة، ويترك ما لا ينسجم معها. وهذا ما يحدث للباحث في أمر المهدية. فالناحية الحربية وأنباء الحروب وتفاصيلها من المعسكرين المتحاربين وافية كثيرة التفاصيل، والأخبار المغرضة التي كتبها ودونها أسرى للعهد كذلك قد تبالغ في نواحي الضعف وتتغاضى عن المحاسن، والذين يروون عنها وهم ممتلئون بروحها، يعبدونها ولا يقبلون خدشا لها أو تنقيصا منها، بل هي عندهم المثل الأعلى للحياة الفاضلة. فالمبالغة والتفاصيل في نواحي الحروب والوقائع، والإغراق في وصفها بالوحشية والقسوة والحماس البالغ لدرجة التقديس كلها أمور تجعل الباحث في حيرة من أمره.
وسط تلك العوامل أقدمت على تقديم صورة للعهد ليست بالمفرطة التفاصيل، أو الموجزة المقتضبة التي تنعدم فيها الروح، وإنما هي وسط بين هذين. وحاولت بصورة خاصة أن أقدم للقراء ما لم يتناوله المؤرخون المحدثون البتة، أو تناولوه في إيجاز، وأوجزت ما هو معلوم بتفاصيله في الكتب الأخرى.
واستعنت فوق ما قدمت من المصادر التي ذكرت، والتي قرأتها إما في أصولها أو بواسطة مصادر ثانوية محفوظة بسراي السير السيد عبد الرحمن المهدي باشا بالخرطوم، تحت رعاية سيادته وإشراف المغفور له السيد علي المهدي، وقد أعانتني كثيرا من ناحية تعاليم المهدي. وفي محفوظات سراي عابدين أطلعت على الرسائل التلغرافية الرسمية المتبادلة بين الخرطوم والمعية. وقد أخبرني الأوصياء على حفظها أنني قد أكون أول من أطلعت عليها لغرض تاريخي. وكذلك كان كتاب Allen عن غوردون والسودان خير معين لي عما يتصل ببعثة غوردون وما دار عنه في البرلمان الإنجليزي والصحف الإنجليزية.
وأخيرا، لا أجحد فضل تلك الرسائل التي قدمها طلبتي عن شخصيات وحوادث المهدية، وقاموا ببحثها واعتمدوا زيادةً على المكتوب من المصادر على روايات من يوثق بحديثهم من رجال العهد، ومن عرفوا وخبروا ناحيةً أو واقعة، أو اتصلوا بشخصية بارزة من رجال المهدية. وبذلك تسنى لي أن أخرج للقارئ هذه الصورة للثورة المهدية.
والعهد الأخير في كتابي الذي يبدأ بحملة استرجاع السودان، وينتهي عندما صمتت المدافع في الحرب العالمية الأولى عام 1919؛ وهو أقرب العهود إلينا، وحوادثه وأخباره يعرفها الكثير، إما مشاهدةً أو رواية عمن شاهدوها. واستقيت أخبارها من تقارير الحاكم العام السنوية ومن أوراق محفوظة بمكتبة كلية غوردون، وكانت قبل ذلك مودعةً في مكتب السكرتير الإداري، وخاصة علاقات السلطان علي دينار مع حكومة السودان.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء