قضايا: قتل إنسان بسبب اعتقاد خاطئ أنه شبح أو عفريت !! .. ترجمة: عبد المنعم عجب الفَيا
عبد المنعم عجب الفيا
7 October, 2022
7 October, 2022
حكومة السودان(1)
ضد
ع. م. ن.
موجز الوقائع الثابتة:
المتهم شاب في العشرينات من عمره، يقيم بحلة اللِعَيّت، ريفي أم كدادة، شمال شرق دارفور. والمجنى عليها تعيش في قرية أخرى من نفس المنطقة ولا تربطها بالمتهم أي علاقة قرابة أو معرفة سابقة على الحادث.
كان المتهم قد سمع من أهالي القرية ومن والدته بوجود شبح ghost (Afrieta) في المنطقة وأن هذا الشبح (البعاتي- المترجم) قد دخل في عراك مع شاهد الاتهام الثاني. وفي ليلة الحادث 26 ابريل 1956 الموافق ليلة الرابع عشر من شهر رمضان كان المتهم قد خرج من منزله وقت السحور راكبا حماره باحثا عن برة مفقودة له.
وفي طريق عودته الى القرية شاهد شبحا لابسا قميصا اسود ويحمل عصا طويلة يمضي ناحيته. تحدث المتهم مع الشبح إلا أنه لم يجب، فانتابه الفزع واعتقد اعتقادا جازما انه شبحاً، فانهال عليه بالضرب بعصاه حتى وقع على الأرض مغشيا عليه بلا حراك. ثم ذهب ليبث الخبر إلى أهل القرية، خبر قتله الشبح (البعاتي). فخرج أهل القرية وذهبوا معه إلى مكان الحادث فإذا بهم يكتشفوا أن المجنى عليها في الحقيقة ليس سوى امرأة طاعنة في السن معروفة لديهم تدعى (...) ووجدوها جثة هامدة.
عُقدت محكمة كبرى بأم كدادة بمحافظة دارفور لمحاكمة المتهم بتهمة القتل العمد تحت المادة 251 من قانون العقوبات برئاسة قاضي المديرية/ حسن عبد الرحيم. وجدت المحكمة أن المتهم غير مذتب بموجب نص المادة 44 من قانون العقوبات السوداني لسنة 1925 أو أي جريمة أخرى واطلقت سراحه.
حكم المحكمة الكبرى(2)
15 يناير 1957
القاضي/ حسن عبد الرحيم/ رئيس المحكمة:
(بعد سرد الوقائع يقول في سياق الحكم) تخلص المحكمة إلى تصديق المتهم بأنه كان يعتقد أن القتيلة هي الشبح ghost الذي سمع عنه من أهل القرية. وهذا الاعتقاد تؤيده أقوال شهود الاتهام الثالث والسادس. كما أن شاهد الاتهام الثاني أكد أنه هو نفسه شاهد شبحاً ونقل ما شاهده إلى رئيس المحكمة الشعبية (شاهد الاتهام الأول) الذي أكد هو الآخر، اعتقاد أهل المنطقة في وجود أشباح وأنه هو نفسه شاهد نيران متحركة تجوب الوادي.
وقد ثبت عدم وجود علاقة من أي نوع بين المتهم والمجني عليها. الثابت أن المتهم استعمل قوة جنائية مفرطة، ولكن ذلك يعود إلى أن المتهم أصابه الفزع وتصور انه قابل بالفعل الشبح (البعاتي- المترجم) الذي سمع عنه في المنطقة. وقد ثبت بالبينة ان المجنى عليها كانت تلبس ثوبا أسود وتحمل عصا طويلة وكانت في طريقها إلى منزلها بعد منتصف الليل.
بعد أخذنا لكل هذه الوقائع الثابتة بالبينة في الحسبان، نصل الى قناعة تامة بأن المتهم كانت لديه أسباب معقولة تجعله يعتقد أنه كان يتعامل مع شبح. وليس أدل على ذلك أنه بعد الحادث ذهب بكل بساطة وعفوية ليعلن خبر انتصاره لأهل القرية. ومن هذا التصرف نستنبط أن المتهم قد تصرف بحسن in good faith وأنه كان يعتقد بكل صدق in the honest believe أنه قتل شبحاً وليس لديه أي قصد أو نية intention في قتل إنسان. لقد وجد المتهم نفسه امام الخطر وتصرف بهذه الطريقة بما تمليه عليه غريزة البقاء. فقد كان يتصرف بدافع اعتقاده انه يتعارك مع شبح.
وكان Gour قد أورد في مؤلفه، بصفحة 249 قضية: Chiranjee v. State والتي قتل فيها أب ابنه معتقدا خطأ أنه يقتل نمراً وقد بريء الأب من تهمة القتل.
هناك أيضا قضية: Waryam Singh بصفحة 249 من المؤلف المذكور طبعة سنة 1955. ففي هذه القضية رافق المتهم زوجته إلى زيارة قبر طفلهما ليلاً والذي توفي قبل شهر من الحادث لغسل القبر لاعتقاد الزوجة بحسب العرف المتبع أن ذلك سوف يحول دون موت أطفالهما في المستقبل. وبينما كان الزوج يقوم بصب الماء على القبر لمح جسما ظنه شيحاً خطأ فهجم عليه وضربه حتى الموت وتبين فيما بعد أنه شخص. بريء الزوج من تهمة القتل على أساس أنه لم يكن لديه قصد قتل إنسان.
وفي مؤلفه Law of Crime يذكر Ratanlal بصفحة 148 طبعة 1948 أن الخطأ في الوقائع mistake of fact دفاع كامل عن تهمة القتل. وقد أورد هذا المثال: إذا قصد شخص قتل لص في منزله وقتل خطأ أحد أفراد أسرته فإنه سوف لن يكون مذنبا بارتكاب أي جريمة.
لما تقدم تصل المحكمة إلى قناعة بأن فعل المتهم لا يعد جريمة، لذا نأمر باطلاق سراحه فورا بموجب أحكام المادة 44 من قانون العقوبات السوداني لسنة 1925"(3).
حكم إلإحالة للتأييد (4)
6 فبراير 1957
القاضي/ آر. سي. سوني:
أرى أن الحكم بالبراءة جاء مبرراً. لقد استشهد القاضي العالِم رئيس المحكمة بعدد من القضايا التي صدرت فيها أحكام بالبراءة بالهند على أساس الخطأ في الوقائع mistake of fact ومن بينها أن رجلاً قتل ابنه لاعتقاده خطأ أنه نمر.
وفي العام الماضي وصلت إلى هذه المحكمة قضية مماثلة (لا اتذكر الآن من أين جاءت) تم فيها تأييد الحكم بالبراءة. وقد علق على هذا الحكم "جلانفييل وليامز" في مؤلفه Criminal Law صفحة 91. وأما قضية: Waryam Singh case التي اشتهد بها رئيس المحكمة فقد وردت الإشارة إليها بالهامش رقم 12 بالمؤلف المذكور. أرى أن المحكمة كانت محقة في الحكم بالبراءة.
القاضي/ محمد أحمد أبو رنّات/ رئيس القضاء:
أوافق.
أؤيد الحكم بالبراءة.
هوامش:
(1) كان البلاغ أو القضية الجنائية تحت قانون العقوبات السوداني، تفتح باسم حكومة السودان باعتبار أنها هي المسؤولة عن حفظ الأمن والنظام العام وسلامة الأرواح والممتلكات.
(2) كانت بعض الجرائم الكبرى ومنها جريمة القتل تحاكم أمام محكمة تسمى (محكمة كبرى) major court تشكل من ثلاثة قضاة يرأسها قاضي (أكاديمي) واثنين في الغالب من قضاة المحاكم الشعبية، وظل هذا التقليد ساريا حتى صدور قانون الإجراءات الجنائية السوداني لسنة 1991
(3) تنص المادة (44) من قانون العقوبات السوداني لسنة 1925 على أنه : "لا يعد الفعل جريمة إذا قام به شخص كان ملزما قانونا أو له مبرر قانوني للقيام به، أو كان يعتقد بحسن نية بسبب خطأ في الوقائع، وليس بسبب خطأ في القانون أنه ملزم أو له الحق في القيام به".
أخذ القانون الجنائي السوداني لسنة 1991 هذا النص واختصره بالمادة (18) كما يلي: "لا يعد مرتكبا جريمة الشخص الذي يعتقد بحسن نية بسبب خطأ في الوقائع أنه مأذون له في الفعل". انتهى.
وهنا يجب التفريق بين القتل الخطأ في الأحوال الأخرى (كما في حوادث المرور)، والقتل في هذه الحالة (بسبب خطأ في الوقائع).
(4) كانت الأحكام الصادرة عن المحكمة الكبرى وخاصة قضايا القتل سواء بالإدانة أو البراءة ترفع مباشرة إلى رئيس القضاء للتأييد وأحياناً يفوض رئيس القضاء قاضي آخر لكتابة حكم التأييد (بسبب زحمة العمل مثلاً) ليقوم هو بالاطلاع وإصدار الأمر النهائي والتوقيع إذا وافق.
*ترجمناها من الإنجليزية إلى العربية عن "مجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة 1959 ص1 ، Sudan Law Journal and Reports, 1959 وأشرنا إلى اسم المتهم بالأحرف الأولى وحذفنا اسم المجني عليها.
عبد المنعم عجب الفَيا – 7 أكتوبر 2022
abusara21@gmail.com
ضد
ع. م. ن.
موجز الوقائع الثابتة:
المتهم شاب في العشرينات من عمره، يقيم بحلة اللِعَيّت، ريفي أم كدادة، شمال شرق دارفور. والمجنى عليها تعيش في قرية أخرى من نفس المنطقة ولا تربطها بالمتهم أي علاقة قرابة أو معرفة سابقة على الحادث.
كان المتهم قد سمع من أهالي القرية ومن والدته بوجود شبح ghost (Afrieta) في المنطقة وأن هذا الشبح (البعاتي- المترجم) قد دخل في عراك مع شاهد الاتهام الثاني. وفي ليلة الحادث 26 ابريل 1956 الموافق ليلة الرابع عشر من شهر رمضان كان المتهم قد خرج من منزله وقت السحور راكبا حماره باحثا عن برة مفقودة له.
وفي طريق عودته الى القرية شاهد شبحا لابسا قميصا اسود ويحمل عصا طويلة يمضي ناحيته. تحدث المتهم مع الشبح إلا أنه لم يجب، فانتابه الفزع واعتقد اعتقادا جازما انه شبحاً، فانهال عليه بالضرب بعصاه حتى وقع على الأرض مغشيا عليه بلا حراك. ثم ذهب ليبث الخبر إلى أهل القرية، خبر قتله الشبح (البعاتي). فخرج أهل القرية وذهبوا معه إلى مكان الحادث فإذا بهم يكتشفوا أن المجنى عليها في الحقيقة ليس سوى امرأة طاعنة في السن معروفة لديهم تدعى (...) ووجدوها جثة هامدة.
عُقدت محكمة كبرى بأم كدادة بمحافظة دارفور لمحاكمة المتهم بتهمة القتل العمد تحت المادة 251 من قانون العقوبات برئاسة قاضي المديرية/ حسن عبد الرحيم. وجدت المحكمة أن المتهم غير مذتب بموجب نص المادة 44 من قانون العقوبات السوداني لسنة 1925 أو أي جريمة أخرى واطلقت سراحه.
حكم المحكمة الكبرى(2)
15 يناير 1957
القاضي/ حسن عبد الرحيم/ رئيس المحكمة:
(بعد سرد الوقائع يقول في سياق الحكم) تخلص المحكمة إلى تصديق المتهم بأنه كان يعتقد أن القتيلة هي الشبح ghost الذي سمع عنه من أهل القرية. وهذا الاعتقاد تؤيده أقوال شهود الاتهام الثالث والسادس. كما أن شاهد الاتهام الثاني أكد أنه هو نفسه شاهد شبحاً ونقل ما شاهده إلى رئيس المحكمة الشعبية (شاهد الاتهام الأول) الذي أكد هو الآخر، اعتقاد أهل المنطقة في وجود أشباح وأنه هو نفسه شاهد نيران متحركة تجوب الوادي.
وقد ثبت عدم وجود علاقة من أي نوع بين المتهم والمجني عليها. الثابت أن المتهم استعمل قوة جنائية مفرطة، ولكن ذلك يعود إلى أن المتهم أصابه الفزع وتصور انه قابل بالفعل الشبح (البعاتي- المترجم) الذي سمع عنه في المنطقة. وقد ثبت بالبينة ان المجنى عليها كانت تلبس ثوبا أسود وتحمل عصا طويلة وكانت في طريقها إلى منزلها بعد منتصف الليل.
بعد أخذنا لكل هذه الوقائع الثابتة بالبينة في الحسبان، نصل الى قناعة تامة بأن المتهم كانت لديه أسباب معقولة تجعله يعتقد أنه كان يتعامل مع شبح. وليس أدل على ذلك أنه بعد الحادث ذهب بكل بساطة وعفوية ليعلن خبر انتصاره لأهل القرية. ومن هذا التصرف نستنبط أن المتهم قد تصرف بحسن in good faith وأنه كان يعتقد بكل صدق in the honest believe أنه قتل شبحاً وليس لديه أي قصد أو نية intention في قتل إنسان. لقد وجد المتهم نفسه امام الخطر وتصرف بهذه الطريقة بما تمليه عليه غريزة البقاء. فقد كان يتصرف بدافع اعتقاده انه يتعارك مع شبح.
وكان Gour قد أورد في مؤلفه، بصفحة 249 قضية: Chiranjee v. State والتي قتل فيها أب ابنه معتقدا خطأ أنه يقتل نمراً وقد بريء الأب من تهمة القتل.
هناك أيضا قضية: Waryam Singh بصفحة 249 من المؤلف المذكور طبعة سنة 1955. ففي هذه القضية رافق المتهم زوجته إلى زيارة قبر طفلهما ليلاً والذي توفي قبل شهر من الحادث لغسل القبر لاعتقاد الزوجة بحسب العرف المتبع أن ذلك سوف يحول دون موت أطفالهما في المستقبل. وبينما كان الزوج يقوم بصب الماء على القبر لمح جسما ظنه شيحاً خطأ فهجم عليه وضربه حتى الموت وتبين فيما بعد أنه شخص. بريء الزوج من تهمة القتل على أساس أنه لم يكن لديه قصد قتل إنسان.
وفي مؤلفه Law of Crime يذكر Ratanlal بصفحة 148 طبعة 1948 أن الخطأ في الوقائع mistake of fact دفاع كامل عن تهمة القتل. وقد أورد هذا المثال: إذا قصد شخص قتل لص في منزله وقتل خطأ أحد أفراد أسرته فإنه سوف لن يكون مذنبا بارتكاب أي جريمة.
لما تقدم تصل المحكمة إلى قناعة بأن فعل المتهم لا يعد جريمة، لذا نأمر باطلاق سراحه فورا بموجب أحكام المادة 44 من قانون العقوبات السوداني لسنة 1925"(3).
حكم إلإحالة للتأييد (4)
6 فبراير 1957
القاضي/ آر. سي. سوني:
أرى أن الحكم بالبراءة جاء مبرراً. لقد استشهد القاضي العالِم رئيس المحكمة بعدد من القضايا التي صدرت فيها أحكام بالبراءة بالهند على أساس الخطأ في الوقائع mistake of fact ومن بينها أن رجلاً قتل ابنه لاعتقاده خطأ أنه نمر.
وفي العام الماضي وصلت إلى هذه المحكمة قضية مماثلة (لا اتذكر الآن من أين جاءت) تم فيها تأييد الحكم بالبراءة. وقد علق على هذا الحكم "جلانفييل وليامز" في مؤلفه Criminal Law صفحة 91. وأما قضية: Waryam Singh case التي اشتهد بها رئيس المحكمة فقد وردت الإشارة إليها بالهامش رقم 12 بالمؤلف المذكور. أرى أن المحكمة كانت محقة في الحكم بالبراءة.
القاضي/ محمد أحمد أبو رنّات/ رئيس القضاء:
أوافق.
أؤيد الحكم بالبراءة.
هوامش:
(1) كان البلاغ أو القضية الجنائية تحت قانون العقوبات السوداني، تفتح باسم حكومة السودان باعتبار أنها هي المسؤولة عن حفظ الأمن والنظام العام وسلامة الأرواح والممتلكات.
(2) كانت بعض الجرائم الكبرى ومنها جريمة القتل تحاكم أمام محكمة تسمى (محكمة كبرى) major court تشكل من ثلاثة قضاة يرأسها قاضي (أكاديمي) واثنين في الغالب من قضاة المحاكم الشعبية، وظل هذا التقليد ساريا حتى صدور قانون الإجراءات الجنائية السوداني لسنة 1991
(3) تنص المادة (44) من قانون العقوبات السوداني لسنة 1925 على أنه : "لا يعد الفعل جريمة إذا قام به شخص كان ملزما قانونا أو له مبرر قانوني للقيام به، أو كان يعتقد بحسن نية بسبب خطأ في الوقائع، وليس بسبب خطأ في القانون أنه ملزم أو له الحق في القيام به".
أخذ القانون الجنائي السوداني لسنة 1991 هذا النص واختصره بالمادة (18) كما يلي: "لا يعد مرتكبا جريمة الشخص الذي يعتقد بحسن نية بسبب خطأ في الوقائع أنه مأذون له في الفعل". انتهى.
وهنا يجب التفريق بين القتل الخطأ في الأحوال الأخرى (كما في حوادث المرور)، والقتل في هذه الحالة (بسبب خطأ في الوقائع).
(4) كانت الأحكام الصادرة عن المحكمة الكبرى وخاصة قضايا القتل سواء بالإدانة أو البراءة ترفع مباشرة إلى رئيس القضاء للتأييد وأحياناً يفوض رئيس القضاء قاضي آخر لكتابة حكم التأييد (بسبب زحمة العمل مثلاً) ليقوم هو بالاطلاع وإصدار الأمر النهائي والتوقيع إذا وافق.
*ترجمناها من الإنجليزية إلى العربية عن "مجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة 1959 ص1 ، Sudan Law Journal and Reports, 1959 وأشرنا إلى اسم المتهم بالأحرف الأولى وحذفنا اسم المجني عليها.
عبد المنعم عجب الفَيا – 7 أكتوبر 2022
abusara21@gmail.com