التدخل الدولي: الصراع والتفكك الاقتصادي والدور المتسيد للجهات الفاعلة المهجمنة (3-3)
عصام على عبد الحليم
2 October, 2023
2 October, 2023
التدخلات الاقتصادية الخارجية وأزمة الدولة
في حين أن التدخلات التي يرعاها مجلس الأمن الدولي تميل إلى حماية حقوق الإنسان للسكان في الدول الهشة والحاضنة للصراعات المتفجرة ، الا إن فَرضْ السياسات الاقتصادية الخارجية (التدخلات) من قبل المؤسسات المالية الدولية، تُنقص إلى حد كبير من الممارسة السيادية لبعض الحقوق والواجبات من قبل الدولة النامية تجاه مواطنيها. ويُقوضُ التدخل كشكل من ضرورات العولمة (وخاصة سياسات برامج التكيف الهيكلي) قدرة الدولة النامية على إدارة وتجميع وإعادة توزيع الموارد الاقتصادية داخل أراضيها (بيكمان ، 1994). و قد يُحد هذا – بالنتيجة- من قدرة الدولة النامية على تحقيق التكامل السياسي الوطني بين مجموعاتها الإثنية والطائفية المتنوعة ، فضلا عن النقص فى شرعيتها تجاه المجتمع المدني بشكل عام.
بدأ تدخل القوة العظمى و المؤسسات المالية الدولية في الدولة النامية ، مرتبطا بالانهيار الاقتصادي الذي شهدته تلك الدول في أواخر عقد 1970 وأوائل عقد 1980 بسبب: التقلبات الحادة في أسعار سوق المواد الخام ، وشروط التبادل التجاري المجحفة على الصادرات ، ونتيجة لهذه التقلبات في اتجاهاتها المنحدرة ، والصدمات النفطية التي أنتجت دوامة هبوط في وضع موازين مدفوعات هذه الدول النامية ، مما خلق – وبشكل مباشر - أزمة الديون المشهودة في عقد 1980.
وقد أثر الجمع بين هذه المشاكل الداخلية المتجذرة والبيئة الاقتصادية الدولية التي تعانى الركود، تأثيرا سلبيا على استدامة "العقد الاجتماعي" ، وعلى مختلف التحالفات المستندة على الموروث الشعبي ، التي تسعى لتحقيق الاستقرار المجتمعي السياسي. ومع تزايد معاناة الدولة النامية من الأزمات الاقتصادية ، أصبح المجتمع المدني والمجتمع الدولي -كذلك -مشككا في شرعية الدولة ، ونموذج بناء جهازها، وأصبحت الشك موضوعة تلوكها الأسئلة والهمهمات المتصاعدة . وهكذا ، من أجل الحفاظ على الاستقرار في الدول النامية ووقف الأزمة المتفاقمة في الإدارة الاقتصادية ، حركت الجهات الفاعلة الرئيسية في الدولة والمؤسسات المالية الدولية ، تحولا من المبادئ الويلفارية( عدم التدخل وسيادة الدولة) القائمة على المدرسة الكينزية إلى مبادئ الليبرالية الجديدة ، التي ركزت بشكل أساسي على قوى السوق والصراع ضد التضخم (فيلاس ، 1996). تُرجمَ هذا التحول إلى ابتعاد عن التركيز على الهدف الكينزي المتمثل في تحقيق العمالة الكاملة ودور الدولة في الاقتصاد، إلى تركيز متسع وغائر على اليبرالية الجديدة . وقد حمل هذا التحول إلى الليبرالية الجديدة كمنهج في صنع السياسات الاقتصادية ، تدفقا جارفا فى عملية العولمة الاقتصادية ، وتأثيرها الكبير على إدارة السياسات الاقتصادية الوطنية في جميع أنحاء العالم. وقد عنى -على سبيل المثال - تحرير الأسواق المالية من أواخر 1970 في الدول القوية ، أن حكوماتها بدأت تفقد السيطرة على سياساتها الاقتصادية داخل حدودها الوطنية.
أصبحت الليبرالية الجديدة في نهاية المطاف، أداة للحفاظ على النظام العالمي تحت إشراف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومجموعة السبع (مجموعة 7) . كان الدافع وراء فرض صندوق النقد الدولي للأفكار الليبرالية الجديدة في الدولة النامية، هو أزمة الديون في عام 1980. أصبح توفير موارد إضافية ( قروض ، منح) لمكافحة المشاكل الحادة في نظم المدفوعات ، وأعباء الميزانية ، التضخم ، وخدمة الديون، مشروطة تماما بقبول برامج التكيف الهيكلي. وقد فرضت -هذه البرامج- تطبيقا صارما للتخفيضات الهائلة والمتكررة لقيمة العملة ، وتحرير أسعار الصرف والفائدة ، وخصخصة المؤسسات العامة ، وسحب جميع الإعانات ، وإلغاء مجالس التسويق الحكومية ، من بين حزمة إجراءات أخرى. وفي نهاية المطاف المتعسف ، أدت برامج التكيف الهيكلي إلى نسب بطالة هائلة، نتجت من تسريح أعداد ضخمة من موظفي القطاع العام. وقد عنت زيادة تدخل المانحين (صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ، ومجموعة الـ 7) في الاقتصادات الوطنية بالضرورة والفعل، كبح نافذ وعام لتدخل الدول النامية في العمليات الاقتصادية.
أدى التقشف الاقتصادي المتأصل والناتج الأساسي لبرامج التكيف الهيكلي ، إلى الحرمان الاقتصادي لكل من طبقات الكادحين والطبقة الوسطى على حد سواء. أدت برامج التكيف الهيكلي إلى تفاقم و تعقيد الأزمة الاجتماعية في الدول النامية ، والتي تصاعدت مؤدية إلى اضطرابات اجتماعية ، وتَفتتٍ اجتماعي وتزايد مضطرد لعدم المساواة. من الناحية السياسية ، لم تكن برامج التكيف الهيكلي المحلية نتيجة للتشاور المحلي والموافقة الشعبية ، ولكنها كانت - وفي كثير من الأحيان- نتاج مفاوضات سرية بين الجهات الفاعلة الخارجية والجهات الفاعلة الحكومية المحلية . وهكذا ، أصبحت الجهات الفاعلة في الدول النامية مسؤولة بشكل متزايد أمام المانحين الأقوياء من الدول والمنظمات الدولية ، بدلا من تكون مسئولة أمام مواطنيها. وقد تضاءل الحد الأدنى من حقوق الإنسان للمواطنين عندما تم قمع المعارضة المحلية لبرامج التكيف الهيكلي ، و خنقها بوحشية في كثير من الأحيان. انخرطت أفكار الليبرالية الجديدة تدريجيا في المناقشات السياسية حول الفقر، الجندر، البيئة والحكم وحتى حقوق الإنسان. في هذه العملية ، تفقد الدولة النامية بشكل متزايد استقلاليتها في صنع القرار بسبب الهجمنة الطائلة للجهات الخارجية القوية.
ومع تفاقم الأزمة في الدولة النامية ، تتفاقم " المعضلة الإدارية "و" الأزمة المالية للدولة " (أوكونور ، 1973 ؛ بارنت ومولر ، 1974). وهى أزمة يتم نقل تبعاتها مباشرة إلى المواطنين العاديين ، متخذة شكل حرمان اقتصادي مريع . وهكذا تخلت الدولة عن وظيفتها الاجتماعية ، وتركتها للمؤسسات الدولية العظمى ، بالذات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. بعبارة أخرى ، تتجلى الأممية الليبرالية الجديدة بشكل تدريجي في ما يشير إليه جيل ولوو (1989) بفرض "القوة البنيوية" لرأس المال العولمي على "السلطة المباشرة" للدولة. يتم تعزيز التصورات أو المفاهيم الذاتوية للاتفاقات لما يمكن أن يشكل علاقات اقتصادية عولمية صحيحة، بينما هي بالضبط ما تفرضه هذه المؤسسات الدولية كجزء من عملية هجمنة الأقوياء .
المعضلات التي تطرحها التدخلات الاقتصادية
إن أعمال العنف (المظاهرات في فنزويلا أو مصر أو نيجيريا أو إندونيسيا) الناتجة عن فرض برامج التكيف الهيكلي، جاءت كرد فعل على انتهاكات لحقوق الإنسان سببتها عمليات الغصب و الإكراه اللازم لإنفاذها ، وأيضا بسبب الحرمان الاقتصادي الذي تنشره بين فئات المجتمع. فرض برامج التكيف الهيكلي يتجاوز انتهاك حقوق الإنسان ليشكل أيضا نوعا من الأبوية: فهي التي تقرر للدولة النامية ما تراه الطريقة الأكثر فعالية لإدارة اقتصادها وحكم مجتمعها. في النهاية ، بما أن الأبوية الغربية تنتهي بفرض إرادتها على قيادة مترددة في كثير من الأحيان ، فإن النتيجة في العلاقة هي الهيمنة التوافقية.
يبدو أن عملية المقرطة ( فرض تصور للديمقراطية) وعملية التحرير الاقتصادي المصاحب لها ، تعملان على تخفيض اخلاق القرن ال20 التي ترى الدولة باعتبارها مسؤولة عن جزء كبير من الرفاه الاقتصادي لمواطنيها. فالدولة -بعبارة أخرى - تتحمل المسؤولية في تنفيذ وظائف تتراوح بين الحفاظ على السلام الداخلي ، حماية الإقليم/البلد من الهجمات الخارجية، والإسهام في الأمن المادي لأفراد المجتمع. فالدولة في البلدان النامية، جاءت إلى حيز الوجود ، عندما كان مفهوم دولة الرعاية الاجتماعية مفهوما إجرائيا معتادا في حالة العديد من الدول في النظام الدولي. وتسعى دول كثيرة -في هذا الصدد- إلى تحقيق حد أدنى مضمون من العيش من خلال الدور المهيمن الذي يلعبه القطاع العام، يتجلى في الدعم الحكومي لقطاعات التعليم والصحة والغذاء والإسكان وغيرها. وبعبارة أخرى ، يهدف العديد من الدول النامية إلى وفرة عالية للسلع الضرورية الاجتماعية والخدمات، من خلال سياسات توزيعية و سياسات موجهة نحو تحقيق قدر أكبر من المساواة الاجتماعية والاقتصادية.
ينطوي إرساء الديموقراطية على التأسيس التدريجي لقيم عزيزة مثل احترام الحقوق المدنية والحريات السياسية ، وبنفس القدر على زيادة مشاركة المواطنين في العملية السياسية الجارية فى المجتمع. غير أن هذا التحرر السياسي ، بوجه عام ، عندما يخلو من التماسك المجتمعي و من مستوى عالي من التنمية الاقتصادية ، كثيرا ما يصيبه وباء الصراع الانتخابي الشرس والتنافس السياسي المتوتر. إلى جانب ذلك ، قد يمثل ربط التحرير الاقتصادي بالتحرير السياسي حجر عثرة أمام تحقيق وإنجاز الاستقرار السياسي في العديد من البلدان النامية (جيبون ، بانغورا ، وأوفستاد ، 1992). وكانت ردود الفعل الفورية على تدابير التقشف الاقتصادي المتأصلة في سياسات التحرير الاقتصادي متباينة، ولكنها كانت كلها مزعزعة للاستقرار. اتخذ العديد من ردود الأفعال شكل انتفاضة عفوية ضد الحكومة ردا على التجربة المفاجئة، أو بسبب الخوف من فقدان الامتيازات الاقتصادية. وفي البلدان التي مرت بتلك التجربة ، غالبا ما يكون الجيش هو الذي يستخدم لإجبار الناس على العودة إلى السلوك السلمي القويم . ويأتي استخدام الجيش لإخماد المظاهرات والاحتجاجات بنتائج عكسية لتلك التجارب الجديدة للعمليات النيوليبرالية للتحرير السياسي.
ويشكل النجاح الإنمائي للبلدان الصناعية المتقدمة عموما حجة قوية مفادها أن التحرير الاقتصادي والتحرير السياسي عمليتان مترابطتان ومتعاضدتان (البنك الدولي ، 1991). ومع ذلك ، تشير الأدلة الواردة من البلدان النامية إلى عدم وجود توافق في الآراء بشأن الديناميات الحقيقية لعمليات التحرير المذكورة. فإلى حد كبير ، توجد العلاقة العامة بين الاثنين حتى الآن ، في مستوى توتر ديالكتيكي ، حيث يعمل التحرير الاقتصادي كقيد على التحرير السياسي ، بسبب الحدود التي يمكن أن يضعها على مدى الإصلاحات السياسية. نتيجة هذا التوتر الجدلي بين الاثنين هى التذبذب بين التقدم والتراجع في سياق الاستبداد المستمر،الحذر واستمرار السيطرة.
ويمثل التفاعل بين التحرير الاقتصادي والتحرير السياسي معضلات خطيرة للدول النامية بسبب عواقبها المتناقضة. ففي أفريقيا ، على سبيل المثال ، يؤدي التحرير الاقتصادي تفرضه تدابير برنامج التكيف الهيكلي، إلى تقليص دور الدولة في الاقتصاد ، مما يتسبب في آثار سلبية على الطبقات الفقيرة (أولوكوشي ، 1996). غالبا ما تواجه الحكومة اختيار وقت ومقدار تحرير الاقتصاد ، أو كيفية تحديد أولويات برامج التكيف المختلفة التي تشكل التحرير الاقتصادي والإصلاح. في كثير من الأحيان ، يمكن للدولة ، التي تشعر بالقلق إزاء العواقب السلبية للتحرير الاقتصادي ، أن تتعمد التوقف عن تنفيذ التدابير المطلوبة. وهكذا تضطر الدولة إلى التردد بين سيطرة الدولة الصارمة والانتخابات المقيدة. وفي التحليل النهائي ، يمكن أن يكون التحرير السياسي بمثابة كبح للتحرير الاقتصادي ، ويمكن أن يؤدي هذا الأخير بدوره إلى تقويض الديمقراطية. وغالبا ما يؤدي الخوف من عدم الاستقرار السياسي الناجم عن عدم المساواة في التوزيع ،إلى تدخل الدولة بشكل كبير في الاقتصاد. وبعد كل شيء، فما سمى بالمعجزات الاقتصادية لدول شرق آسيا من 1980 و بداية 90 ، كان نتيجة لتدخل الدولة الفعال في تحفيز القطاعات المشتغلة بالتصدير.
غالبا ما تواجه حكومات الدول النامية التي تعمل في سياق شرعية هشه ، وإرث من التدخلات العسكرية في السياسة ، معضلة ما إذا كان يجب حماية الجيش أو الفئات الاجتماعية الأخرى من تدابير التقشف التي تفرضها برامج التكيف الهيكلية. إذا كانت مجموعات معينة تتمتع بالامتيازات يمنحها التحرير الاقتصادي ، فإن الحكومة تواجه دائما مقاومة من المجموعات المحرومة اقتصاديا والمستبعدة سياسيا في المجتمع، والتي لا يحمي الاقتصاد السياسي الجديد مصالحها. وبشكل عام ، من المرجح أن يتسبب التحرير السياسي بدون تحسينات اقتصادية واضحة، في حرمان كاف من شأنه نزع الشرعية عن السلطة الماثلة ، أو تحريك الحنين إلى نظام سابق أكثر استبدادا ، أو تشجيع الانقسامات المناطقية و/أو الإثنية ، أو التحريض على التدخل العسكري في السياسة (دنغ ، كوستنر ، ويونغ ، 1990). وهذا الافتقار إلى الثقة السياسية المستمرة في النظم القائمة ، مسؤول إلى حد ما عن تغير استراتيجيات التنمية الاقتصادية في العديد من البلدان النامية. فعلى سبيل المثال ، تحول العديد من الحكومات الأفريقية من التصنيع البديل للواردات إلى ما يشار إليه الآن باستراتيجية تنمية حرية السوق .
تثير الديمقراطية وسياسات التحرير الاقتصادي المصاحبة لها، أسئلة خطيرة تتعلق بالعدالة الاجتماعية في المجتمعات النامية. إن الهياكل المؤسسية التي تقوم عليها الأسواق، والسلوك الاقتصادي في العديد من الدول النامية، ليست متطورة بشكل كاف لدمج الجزء الأكبر من السكان في بنية سياسية اقتصادية منتجة وقابلة للحياة. فهي بينة تخلو من التوافق في الصلة بين التحرير الاقتصادي والسياسي ، وبالتالي فهي تعمل ضد الحماية الفعالة المطلوبة للطبقات الدنيا والمحرومين. وبعبارة أخرى ، على الرغم من التركيز العام على الخصخصة وخفض الإنفاق الحكومي ، فإن إنشاء أنظمة رعاية اجتماعية مناسبة لا يزال مطلوبا من الدولة. ولا تؤدي سياسات إعادة التوزيع دائما إلى تعزيز الكفاءة والنمو الاقتصادي المستقر. في بعض البلدان ، كانت شرائح المجتمع المهيمنة سياسيا (الصناعيين ، وكبار موظفي الخدمة المدنية ، والجيش ، والطبقة الوسطى) هي المستفيدة من النمو الاقتصادي والتحرير. وهكذا ، بدلا من التحرير والنمو الاقتصادي المحتمل الذي يقلل من التفاوتات العلنية والنخبوية المثيرة للانقسام في مثل هذه البلدان ، تترسخ- بدلا من ذلك- الأوضاع والقوة الطبقية للمجموعات المهيمنة، وتحافظ على تقاليدها النخبوية ومواضع الامتياز. والنتيجة الأخرى هي زيادة انتشار الفساد والتشويه الاقتصادي والميول الاستبدادية. يؤدى مثل هذا الوضع إلى مزيد من الاغتراب والتهميش للطبقات الكادحة ، ويقود للفشل الذريع لبرامج التحرير الاقتصادي والسياسي.
وفي حين أن التحرير الاقتصادي الفعال يمكن أن يكون جانبا واردا من الإصلاح الديمقراطي القابل للاستمرار ، ولكنه عملية تمر بالتضحيات وتفترض الآماد الطوال. إلى جانب ذلك ، يتم التشكيك في فعالية وصلاحية برامج التكيف الهيكلي عندما لا تميل الدولة إلى التوزيع "العادل" للمكاسب المتحققة من إصلاح السوق. إن الحرمان الواسع النطاق الناجم عن برامج التكيف الهيكلى ، وحالة الأسواق الضعيفة ، والبنية التحتية غير المتطورة في العديد من البلدان الأفريقية ، على سبيل المثال ، تشير إلى أن هناك حاجة إلى دولة "قوية" لضمان الاحتياجات الإنسانية الأساسية ، وإنشاء الهياكل اللازمة لاقتصاد السوق الفعال (فرانسيس ، 1995). إن التقليل في الفوارق الاقتصادية الصارخة من خلال الإدماج الاقتصادي الاجتماعي لجميع طبقات وشرائح المجتمع ، يقلل من احتمالات نشوب صراعات بين المجموعات الاجتماعية ، واحتمال نشوء التحديات العنيفة ضد الدولة. في التحليل النهائي ، لا تزال الأسئلة الأخلاقية الجليلة متواترة دون إجابة ، فيما يتعلق بالعملية الكبيرة للتحرير الاقتصادي والسياسي. هل الهدف من إنشاء اقتصاد السوق القائم يقوم على أساس جدوى تُقتطفُ في المدى الطويل، ونمو اقتصادي مستمر ، يبرران العواقب والتكلفة الاجتماعية السلبية الأولية لبرامج التحرير؟ كيف نعرف- في الواقع - أن برامج التحرير هذه ستعمل على الإطلاق في العديد من الدول النامية ، حيث قد تكون الهياكل المؤسسية والقيم المجتمعية على خلاف تام مع النظام القانوني والسياسي الأوروبي؟ ما هي الطريقة الأكثر فعالية لضمان سياسية "مقبولة" تقل عواقبها الاجتماعية الاقتصادية المضنية تقع على كاهل معظم شرائح المجتمع جراء هذه السياسات القادمة والمفروضة باسم التحرير الاقتصادي ؟
مع نهاية الحرب الباردة ، أصبحت العلاقة بين حقوق المواطنين (حقوق الإنسان) وحقوق الدولة (الحقوق السيادية) واحدة من القضايا الرئيسية داخل الدول،كما هي في مجال السياسة العالمية. على سبيل المثال ، انعكس الجدل حول ما إذا كانت سيادة الدولة مطلقة ، أم تعتمد على الموافقة الشعبية في القضية التي أثارها احتلال هايتي من قبل الولايات المتحدة في 1994 ، بدعوى إعادة الحكومة المنتخبة للرئيس جان برتراند أريستيد ، التي أطاح بها انقلاب عسكري. وفيما يتعلق بعلاقات القوى العظمى مع الدول الضعيفة ، أصبح من المقبول عموما في السياسة الدولية، أن يفرض المانحون شروط المعونة الخارجية على الدول المتلقية. وتعتبر هذه الشروط المفروضة مشروعة ، كما تعتبر ممارسة تقع خارج حدود عمليات التدخل الفظ في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة. حتى الاتفاقات الاقتصادية والسياسية بين البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تعتبر مشروعة ، لأنها تستند إلى موافقة الدولة فى المفاوضات الثنائية. ومع ذلك، في سياق سيادة الدولة مقابل السيادة الشعبية، ينطرح السؤال : هل للدولة الحق في التفاوض والاتفاق على سياسات التكيف الهيكلي التي تفرض الحرمان الشديد على كثرة من فئات المجتمع دون مشاورتهم و موافقتهم؟ الا ينبغي أن يمر مثل هذا التدخل – وهذه المنح-من قبل دولة قوية وغيرها ، بعملية موافقة شعبية؟ هل يجب أن تستسلم الدولة للإملاءات الخارجية التي تقوض التزاماتها التعاقدية تجاه مواطنيها، وهى ضمان قدر – ولوضئيل - من الضمان الاجتماعي؟
إن الأزمة الاقتصادية للدولة النامية والإملاءات الخارجية جزء لا يتجزأ من تدويل جهاز الدولة. لقد تغيرت دوافع سياسة الدولة من توفير أنظمة الضمان الاجتماعي المحلية ، إلى دافع القدرة التنافسية في السوق الدولية، التي تفرض متطلباتها تقليص قدرة الدولة على التدخل في الاقتصاد. وتنتج هذه العملية للتدويل آثارا تشكك في هوية الدولة ذاتها تجاه المجتمع المدني. ولكنها ، في حالة الدولة النامية ، غير قادرة على التغلب على هذا التخفيض التدريجي لقدراتها وشرعيتها ، وهى العملية التي تجرى من خلال إعادة رسم هويتها في المجال العولمي. وبالنسبة للدولة النامية ، تحولت سياساتها بشكل ضيق ومحصور إلى رغبة في تعزيز الوضع التنافسي العالمي للاقتصاد الوطني ، بدلا من بذل الجهود ، مثلا ، لزيادة مستويات العمالة المحلية. وبعبارة أخرى ، أصبحت الشواغل المحلية خاضعة لمتطلبات العولمة تفرضها مصالح الجهات الفاعلة المهيمنة.
خاتمة
في نموذج ويستفاليان( مبدأ سيادة الدولة على أراضيها) للعلاقات بين الدول ، يُعتقد عموما أن التدخل غير مقبول قانونا وأخلاقيا. ومع ذلك ، فإن طبيعة الصراعات العنيفة التي أصابت النظام الدولي بالهرج المستفحل في فترة ما بعد الحرب الباردة، وما صاحب ذلك من ضرورات وتحديات إنسانية، كسرت المبدأين التوأمين لسيادة الدولة وعدم التدخل، لأن شدة مذابح الإبادة الجماعية وإراقة الدماء الإثنية سببت إثارة عالية للاشمئزاز، بدي انه يصيب عميقا المجتمع الدولي. ذلك إلى جانب توافق متزايد في الآراء في العلاقات الدولية ، على أن هذه التدخلات تكتسب الشرعية ، عندما تأذن بها مجتمعة منظمة إقليمية أو المجتمع الدولي أو قوى عظمى. وتدرك هذه النظرية الأخلاقية العالمية للعلاقات الدولية بشكل متزايد، أن أفراد الأسرة الدولية ملزمون بالتدخل لوقف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وهكذا ، فإن مبدأ عدم التدخل والسيادة الذي كان مقدسا في يوم من الأيام، يتقوض باطراد بسبب النطاق والحدة الجديدين للصراعات داخل الدول. ومع ذلك ، يمكن النظر إلى هذه التدخلات من حيث حاجة الجهات الفاعلة المهجمنة في النظام الدولي ، إلى أداء وظيفتها المتسيدة المتمثلة في الحفاظ على سلامة النظام القائم المتمركز حول الدولة ،وتقليل مستوى الفوضى في النظام الدولي.
في المجال الاقتصادي ، ترد التدخلات الاقتصادية كنتائج ضرورية لعمليات العولمة تؤثر عميقا على ممارسة سيادة الدولة. وتطرح هذه العلاقات الاقتصادية العولمية توترا خطيرا ناتجا من التحدي المباشر لسيادة الدولة الوطنية وهويتها ، وهو توتر لا ينفصل عن أهداف ومرامي برامج التكيف الهيكلي، باعتباره مكونا أساسيا لبنية العولمة المهجمنة . إن التحول للعولمة وفوق القومية المتضمن في برامج التكيف الهيكلي ، يتحدى فعالية سياسات الدولة المحلية والدولية. تجسد المنظمات الدولية الرئيسية القواعد التي تسهل توسع الأنظمة العولمية المهجمنة. وهي تعكس توجهات مواتية للقوى الاجتماعية والاقتصادية المهجمنة المنبثقة عن الدول القوية ، ولكن غالبا وكثيرا ما يكون لها بعض الآثار السلبية على حقوق الإنسان بالنسبة للدولة النامية. وقد أصبح من الواضح أن برامج التكيف الهيكلي لا تؤدي في حد ذاتها إلى الحد من الفقر ، وأن انتعاش الاقتصاد الكلي( اذا تحقق) لا يترجم إلى تحسن اجتماعي مؤثر. في العديد من الدول النامية ، تراجعت "الدولة الشعبية الوطنية" (أو دولة الرفاهية) نتيجة خضوعها لبرامج التكيف الهيكلي. ومع نموذج الليبرالية الجديدة ، نجد أن الدولة اضطرت إلى التخلي عن دورها كعامل للتنمية الاجتماعية وكأداة للتكامل.
وباختصار ، فإن الدولة النامية هي مثال اجتماعي-سياسي واقتصادي مفروض خارجيا ومخلوق ذاتوى غير موضوعي، حفزته تأثيرات واستجابات القوى العظمى للظروف المادية الماثلة. جميع الحالات الشاذة والمفارقات والمعضلات المتأصلة في الدولة النامية الضعيفة ، هي نتاج الأنطولوجيا السائدة ، في هذه الحالة ، أنطولوجيا ( او وقائع الوجود)بعد الحرب الباردة. نظام الدولة الحديث المكون من كل من الدول المتقدمة والدول النامية ينطرح كبنية من تصورات للمصالح قائمة على النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المناسب، الذي يقسم الشمال والجنوب ، ويخلق عديد التوترات بين المجموعات الأثنية والطائفية المتنافسة.
isamabd.halim@gmail.com
في حين أن التدخلات التي يرعاها مجلس الأمن الدولي تميل إلى حماية حقوق الإنسان للسكان في الدول الهشة والحاضنة للصراعات المتفجرة ، الا إن فَرضْ السياسات الاقتصادية الخارجية (التدخلات) من قبل المؤسسات المالية الدولية، تُنقص إلى حد كبير من الممارسة السيادية لبعض الحقوق والواجبات من قبل الدولة النامية تجاه مواطنيها. ويُقوضُ التدخل كشكل من ضرورات العولمة (وخاصة سياسات برامج التكيف الهيكلي) قدرة الدولة النامية على إدارة وتجميع وإعادة توزيع الموارد الاقتصادية داخل أراضيها (بيكمان ، 1994). و قد يُحد هذا – بالنتيجة- من قدرة الدولة النامية على تحقيق التكامل السياسي الوطني بين مجموعاتها الإثنية والطائفية المتنوعة ، فضلا عن النقص فى شرعيتها تجاه المجتمع المدني بشكل عام.
بدأ تدخل القوة العظمى و المؤسسات المالية الدولية في الدولة النامية ، مرتبطا بالانهيار الاقتصادي الذي شهدته تلك الدول في أواخر عقد 1970 وأوائل عقد 1980 بسبب: التقلبات الحادة في أسعار سوق المواد الخام ، وشروط التبادل التجاري المجحفة على الصادرات ، ونتيجة لهذه التقلبات في اتجاهاتها المنحدرة ، والصدمات النفطية التي أنتجت دوامة هبوط في وضع موازين مدفوعات هذه الدول النامية ، مما خلق – وبشكل مباشر - أزمة الديون المشهودة في عقد 1980.
وقد أثر الجمع بين هذه المشاكل الداخلية المتجذرة والبيئة الاقتصادية الدولية التي تعانى الركود، تأثيرا سلبيا على استدامة "العقد الاجتماعي" ، وعلى مختلف التحالفات المستندة على الموروث الشعبي ، التي تسعى لتحقيق الاستقرار المجتمعي السياسي. ومع تزايد معاناة الدولة النامية من الأزمات الاقتصادية ، أصبح المجتمع المدني والمجتمع الدولي -كذلك -مشككا في شرعية الدولة ، ونموذج بناء جهازها، وأصبحت الشك موضوعة تلوكها الأسئلة والهمهمات المتصاعدة . وهكذا ، من أجل الحفاظ على الاستقرار في الدول النامية ووقف الأزمة المتفاقمة في الإدارة الاقتصادية ، حركت الجهات الفاعلة الرئيسية في الدولة والمؤسسات المالية الدولية ، تحولا من المبادئ الويلفارية( عدم التدخل وسيادة الدولة) القائمة على المدرسة الكينزية إلى مبادئ الليبرالية الجديدة ، التي ركزت بشكل أساسي على قوى السوق والصراع ضد التضخم (فيلاس ، 1996). تُرجمَ هذا التحول إلى ابتعاد عن التركيز على الهدف الكينزي المتمثل في تحقيق العمالة الكاملة ودور الدولة في الاقتصاد، إلى تركيز متسع وغائر على اليبرالية الجديدة . وقد حمل هذا التحول إلى الليبرالية الجديدة كمنهج في صنع السياسات الاقتصادية ، تدفقا جارفا فى عملية العولمة الاقتصادية ، وتأثيرها الكبير على إدارة السياسات الاقتصادية الوطنية في جميع أنحاء العالم. وقد عنى -على سبيل المثال - تحرير الأسواق المالية من أواخر 1970 في الدول القوية ، أن حكوماتها بدأت تفقد السيطرة على سياساتها الاقتصادية داخل حدودها الوطنية.
أصبحت الليبرالية الجديدة في نهاية المطاف، أداة للحفاظ على النظام العالمي تحت إشراف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومجموعة السبع (مجموعة 7) . كان الدافع وراء فرض صندوق النقد الدولي للأفكار الليبرالية الجديدة في الدولة النامية، هو أزمة الديون في عام 1980. أصبح توفير موارد إضافية ( قروض ، منح) لمكافحة المشاكل الحادة في نظم المدفوعات ، وأعباء الميزانية ، التضخم ، وخدمة الديون، مشروطة تماما بقبول برامج التكيف الهيكلي. وقد فرضت -هذه البرامج- تطبيقا صارما للتخفيضات الهائلة والمتكررة لقيمة العملة ، وتحرير أسعار الصرف والفائدة ، وخصخصة المؤسسات العامة ، وسحب جميع الإعانات ، وإلغاء مجالس التسويق الحكومية ، من بين حزمة إجراءات أخرى. وفي نهاية المطاف المتعسف ، أدت برامج التكيف الهيكلي إلى نسب بطالة هائلة، نتجت من تسريح أعداد ضخمة من موظفي القطاع العام. وقد عنت زيادة تدخل المانحين (صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ، ومجموعة الـ 7) في الاقتصادات الوطنية بالضرورة والفعل، كبح نافذ وعام لتدخل الدول النامية في العمليات الاقتصادية.
أدى التقشف الاقتصادي المتأصل والناتج الأساسي لبرامج التكيف الهيكلي ، إلى الحرمان الاقتصادي لكل من طبقات الكادحين والطبقة الوسطى على حد سواء. أدت برامج التكيف الهيكلي إلى تفاقم و تعقيد الأزمة الاجتماعية في الدول النامية ، والتي تصاعدت مؤدية إلى اضطرابات اجتماعية ، وتَفتتٍ اجتماعي وتزايد مضطرد لعدم المساواة. من الناحية السياسية ، لم تكن برامج التكيف الهيكلي المحلية نتيجة للتشاور المحلي والموافقة الشعبية ، ولكنها كانت - وفي كثير من الأحيان- نتاج مفاوضات سرية بين الجهات الفاعلة الخارجية والجهات الفاعلة الحكومية المحلية . وهكذا ، أصبحت الجهات الفاعلة في الدول النامية مسؤولة بشكل متزايد أمام المانحين الأقوياء من الدول والمنظمات الدولية ، بدلا من تكون مسئولة أمام مواطنيها. وقد تضاءل الحد الأدنى من حقوق الإنسان للمواطنين عندما تم قمع المعارضة المحلية لبرامج التكيف الهيكلي ، و خنقها بوحشية في كثير من الأحيان. انخرطت أفكار الليبرالية الجديدة تدريجيا في المناقشات السياسية حول الفقر، الجندر، البيئة والحكم وحتى حقوق الإنسان. في هذه العملية ، تفقد الدولة النامية بشكل متزايد استقلاليتها في صنع القرار بسبب الهجمنة الطائلة للجهات الخارجية القوية.
ومع تفاقم الأزمة في الدولة النامية ، تتفاقم " المعضلة الإدارية "و" الأزمة المالية للدولة " (أوكونور ، 1973 ؛ بارنت ومولر ، 1974). وهى أزمة يتم نقل تبعاتها مباشرة إلى المواطنين العاديين ، متخذة شكل حرمان اقتصادي مريع . وهكذا تخلت الدولة عن وظيفتها الاجتماعية ، وتركتها للمؤسسات الدولية العظمى ، بالذات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. بعبارة أخرى ، تتجلى الأممية الليبرالية الجديدة بشكل تدريجي في ما يشير إليه جيل ولوو (1989) بفرض "القوة البنيوية" لرأس المال العولمي على "السلطة المباشرة" للدولة. يتم تعزيز التصورات أو المفاهيم الذاتوية للاتفاقات لما يمكن أن يشكل علاقات اقتصادية عولمية صحيحة، بينما هي بالضبط ما تفرضه هذه المؤسسات الدولية كجزء من عملية هجمنة الأقوياء .
المعضلات التي تطرحها التدخلات الاقتصادية
إن أعمال العنف (المظاهرات في فنزويلا أو مصر أو نيجيريا أو إندونيسيا) الناتجة عن فرض برامج التكيف الهيكلي، جاءت كرد فعل على انتهاكات لحقوق الإنسان سببتها عمليات الغصب و الإكراه اللازم لإنفاذها ، وأيضا بسبب الحرمان الاقتصادي الذي تنشره بين فئات المجتمع. فرض برامج التكيف الهيكلي يتجاوز انتهاك حقوق الإنسان ليشكل أيضا نوعا من الأبوية: فهي التي تقرر للدولة النامية ما تراه الطريقة الأكثر فعالية لإدارة اقتصادها وحكم مجتمعها. في النهاية ، بما أن الأبوية الغربية تنتهي بفرض إرادتها على قيادة مترددة في كثير من الأحيان ، فإن النتيجة في العلاقة هي الهيمنة التوافقية.
يبدو أن عملية المقرطة ( فرض تصور للديمقراطية) وعملية التحرير الاقتصادي المصاحب لها ، تعملان على تخفيض اخلاق القرن ال20 التي ترى الدولة باعتبارها مسؤولة عن جزء كبير من الرفاه الاقتصادي لمواطنيها. فالدولة -بعبارة أخرى - تتحمل المسؤولية في تنفيذ وظائف تتراوح بين الحفاظ على السلام الداخلي ، حماية الإقليم/البلد من الهجمات الخارجية، والإسهام في الأمن المادي لأفراد المجتمع. فالدولة في البلدان النامية، جاءت إلى حيز الوجود ، عندما كان مفهوم دولة الرعاية الاجتماعية مفهوما إجرائيا معتادا في حالة العديد من الدول في النظام الدولي. وتسعى دول كثيرة -في هذا الصدد- إلى تحقيق حد أدنى مضمون من العيش من خلال الدور المهيمن الذي يلعبه القطاع العام، يتجلى في الدعم الحكومي لقطاعات التعليم والصحة والغذاء والإسكان وغيرها. وبعبارة أخرى ، يهدف العديد من الدول النامية إلى وفرة عالية للسلع الضرورية الاجتماعية والخدمات، من خلال سياسات توزيعية و سياسات موجهة نحو تحقيق قدر أكبر من المساواة الاجتماعية والاقتصادية.
ينطوي إرساء الديموقراطية على التأسيس التدريجي لقيم عزيزة مثل احترام الحقوق المدنية والحريات السياسية ، وبنفس القدر على زيادة مشاركة المواطنين في العملية السياسية الجارية فى المجتمع. غير أن هذا التحرر السياسي ، بوجه عام ، عندما يخلو من التماسك المجتمعي و من مستوى عالي من التنمية الاقتصادية ، كثيرا ما يصيبه وباء الصراع الانتخابي الشرس والتنافس السياسي المتوتر. إلى جانب ذلك ، قد يمثل ربط التحرير الاقتصادي بالتحرير السياسي حجر عثرة أمام تحقيق وإنجاز الاستقرار السياسي في العديد من البلدان النامية (جيبون ، بانغورا ، وأوفستاد ، 1992). وكانت ردود الفعل الفورية على تدابير التقشف الاقتصادي المتأصلة في سياسات التحرير الاقتصادي متباينة، ولكنها كانت كلها مزعزعة للاستقرار. اتخذ العديد من ردود الأفعال شكل انتفاضة عفوية ضد الحكومة ردا على التجربة المفاجئة، أو بسبب الخوف من فقدان الامتيازات الاقتصادية. وفي البلدان التي مرت بتلك التجربة ، غالبا ما يكون الجيش هو الذي يستخدم لإجبار الناس على العودة إلى السلوك السلمي القويم . ويأتي استخدام الجيش لإخماد المظاهرات والاحتجاجات بنتائج عكسية لتلك التجارب الجديدة للعمليات النيوليبرالية للتحرير السياسي.
ويشكل النجاح الإنمائي للبلدان الصناعية المتقدمة عموما حجة قوية مفادها أن التحرير الاقتصادي والتحرير السياسي عمليتان مترابطتان ومتعاضدتان (البنك الدولي ، 1991). ومع ذلك ، تشير الأدلة الواردة من البلدان النامية إلى عدم وجود توافق في الآراء بشأن الديناميات الحقيقية لعمليات التحرير المذكورة. فإلى حد كبير ، توجد العلاقة العامة بين الاثنين حتى الآن ، في مستوى توتر ديالكتيكي ، حيث يعمل التحرير الاقتصادي كقيد على التحرير السياسي ، بسبب الحدود التي يمكن أن يضعها على مدى الإصلاحات السياسية. نتيجة هذا التوتر الجدلي بين الاثنين هى التذبذب بين التقدم والتراجع في سياق الاستبداد المستمر،الحذر واستمرار السيطرة.
ويمثل التفاعل بين التحرير الاقتصادي والتحرير السياسي معضلات خطيرة للدول النامية بسبب عواقبها المتناقضة. ففي أفريقيا ، على سبيل المثال ، يؤدي التحرير الاقتصادي تفرضه تدابير برنامج التكيف الهيكلي، إلى تقليص دور الدولة في الاقتصاد ، مما يتسبب في آثار سلبية على الطبقات الفقيرة (أولوكوشي ، 1996). غالبا ما تواجه الحكومة اختيار وقت ومقدار تحرير الاقتصاد ، أو كيفية تحديد أولويات برامج التكيف المختلفة التي تشكل التحرير الاقتصادي والإصلاح. في كثير من الأحيان ، يمكن للدولة ، التي تشعر بالقلق إزاء العواقب السلبية للتحرير الاقتصادي ، أن تتعمد التوقف عن تنفيذ التدابير المطلوبة. وهكذا تضطر الدولة إلى التردد بين سيطرة الدولة الصارمة والانتخابات المقيدة. وفي التحليل النهائي ، يمكن أن يكون التحرير السياسي بمثابة كبح للتحرير الاقتصادي ، ويمكن أن يؤدي هذا الأخير بدوره إلى تقويض الديمقراطية. وغالبا ما يؤدي الخوف من عدم الاستقرار السياسي الناجم عن عدم المساواة في التوزيع ،إلى تدخل الدولة بشكل كبير في الاقتصاد. وبعد كل شيء، فما سمى بالمعجزات الاقتصادية لدول شرق آسيا من 1980 و بداية 90 ، كان نتيجة لتدخل الدولة الفعال في تحفيز القطاعات المشتغلة بالتصدير.
غالبا ما تواجه حكومات الدول النامية التي تعمل في سياق شرعية هشه ، وإرث من التدخلات العسكرية في السياسة ، معضلة ما إذا كان يجب حماية الجيش أو الفئات الاجتماعية الأخرى من تدابير التقشف التي تفرضها برامج التكيف الهيكلية. إذا كانت مجموعات معينة تتمتع بالامتيازات يمنحها التحرير الاقتصادي ، فإن الحكومة تواجه دائما مقاومة من المجموعات المحرومة اقتصاديا والمستبعدة سياسيا في المجتمع، والتي لا يحمي الاقتصاد السياسي الجديد مصالحها. وبشكل عام ، من المرجح أن يتسبب التحرير السياسي بدون تحسينات اقتصادية واضحة، في حرمان كاف من شأنه نزع الشرعية عن السلطة الماثلة ، أو تحريك الحنين إلى نظام سابق أكثر استبدادا ، أو تشجيع الانقسامات المناطقية و/أو الإثنية ، أو التحريض على التدخل العسكري في السياسة (دنغ ، كوستنر ، ويونغ ، 1990). وهذا الافتقار إلى الثقة السياسية المستمرة في النظم القائمة ، مسؤول إلى حد ما عن تغير استراتيجيات التنمية الاقتصادية في العديد من البلدان النامية. فعلى سبيل المثال ، تحول العديد من الحكومات الأفريقية من التصنيع البديل للواردات إلى ما يشار إليه الآن باستراتيجية تنمية حرية السوق .
تثير الديمقراطية وسياسات التحرير الاقتصادي المصاحبة لها، أسئلة خطيرة تتعلق بالعدالة الاجتماعية في المجتمعات النامية. إن الهياكل المؤسسية التي تقوم عليها الأسواق، والسلوك الاقتصادي في العديد من الدول النامية، ليست متطورة بشكل كاف لدمج الجزء الأكبر من السكان في بنية سياسية اقتصادية منتجة وقابلة للحياة. فهي بينة تخلو من التوافق في الصلة بين التحرير الاقتصادي والسياسي ، وبالتالي فهي تعمل ضد الحماية الفعالة المطلوبة للطبقات الدنيا والمحرومين. وبعبارة أخرى ، على الرغم من التركيز العام على الخصخصة وخفض الإنفاق الحكومي ، فإن إنشاء أنظمة رعاية اجتماعية مناسبة لا يزال مطلوبا من الدولة. ولا تؤدي سياسات إعادة التوزيع دائما إلى تعزيز الكفاءة والنمو الاقتصادي المستقر. في بعض البلدان ، كانت شرائح المجتمع المهيمنة سياسيا (الصناعيين ، وكبار موظفي الخدمة المدنية ، والجيش ، والطبقة الوسطى) هي المستفيدة من النمو الاقتصادي والتحرير. وهكذا ، بدلا من التحرير والنمو الاقتصادي المحتمل الذي يقلل من التفاوتات العلنية والنخبوية المثيرة للانقسام في مثل هذه البلدان ، تترسخ- بدلا من ذلك- الأوضاع والقوة الطبقية للمجموعات المهيمنة، وتحافظ على تقاليدها النخبوية ومواضع الامتياز. والنتيجة الأخرى هي زيادة انتشار الفساد والتشويه الاقتصادي والميول الاستبدادية. يؤدى مثل هذا الوضع إلى مزيد من الاغتراب والتهميش للطبقات الكادحة ، ويقود للفشل الذريع لبرامج التحرير الاقتصادي والسياسي.
وفي حين أن التحرير الاقتصادي الفعال يمكن أن يكون جانبا واردا من الإصلاح الديمقراطي القابل للاستمرار ، ولكنه عملية تمر بالتضحيات وتفترض الآماد الطوال. إلى جانب ذلك ، يتم التشكيك في فعالية وصلاحية برامج التكيف الهيكلي عندما لا تميل الدولة إلى التوزيع "العادل" للمكاسب المتحققة من إصلاح السوق. إن الحرمان الواسع النطاق الناجم عن برامج التكيف الهيكلى ، وحالة الأسواق الضعيفة ، والبنية التحتية غير المتطورة في العديد من البلدان الأفريقية ، على سبيل المثال ، تشير إلى أن هناك حاجة إلى دولة "قوية" لضمان الاحتياجات الإنسانية الأساسية ، وإنشاء الهياكل اللازمة لاقتصاد السوق الفعال (فرانسيس ، 1995). إن التقليل في الفوارق الاقتصادية الصارخة من خلال الإدماج الاقتصادي الاجتماعي لجميع طبقات وشرائح المجتمع ، يقلل من احتمالات نشوب صراعات بين المجموعات الاجتماعية ، واحتمال نشوء التحديات العنيفة ضد الدولة. في التحليل النهائي ، لا تزال الأسئلة الأخلاقية الجليلة متواترة دون إجابة ، فيما يتعلق بالعملية الكبيرة للتحرير الاقتصادي والسياسي. هل الهدف من إنشاء اقتصاد السوق القائم يقوم على أساس جدوى تُقتطفُ في المدى الطويل، ونمو اقتصادي مستمر ، يبرران العواقب والتكلفة الاجتماعية السلبية الأولية لبرامج التحرير؟ كيف نعرف- في الواقع - أن برامج التحرير هذه ستعمل على الإطلاق في العديد من الدول النامية ، حيث قد تكون الهياكل المؤسسية والقيم المجتمعية على خلاف تام مع النظام القانوني والسياسي الأوروبي؟ ما هي الطريقة الأكثر فعالية لضمان سياسية "مقبولة" تقل عواقبها الاجتماعية الاقتصادية المضنية تقع على كاهل معظم شرائح المجتمع جراء هذه السياسات القادمة والمفروضة باسم التحرير الاقتصادي ؟
مع نهاية الحرب الباردة ، أصبحت العلاقة بين حقوق المواطنين (حقوق الإنسان) وحقوق الدولة (الحقوق السيادية) واحدة من القضايا الرئيسية داخل الدول،كما هي في مجال السياسة العالمية. على سبيل المثال ، انعكس الجدل حول ما إذا كانت سيادة الدولة مطلقة ، أم تعتمد على الموافقة الشعبية في القضية التي أثارها احتلال هايتي من قبل الولايات المتحدة في 1994 ، بدعوى إعادة الحكومة المنتخبة للرئيس جان برتراند أريستيد ، التي أطاح بها انقلاب عسكري. وفيما يتعلق بعلاقات القوى العظمى مع الدول الضعيفة ، أصبح من المقبول عموما في السياسة الدولية، أن يفرض المانحون شروط المعونة الخارجية على الدول المتلقية. وتعتبر هذه الشروط المفروضة مشروعة ، كما تعتبر ممارسة تقع خارج حدود عمليات التدخل الفظ في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة. حتى الاتفاقات الاقتصادية والسياسية بين البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تعتبر مشروعة ، لأنها تستند إلى موافقة الدولة فى المفاوضات الثنائية. ومع ذلك، في سياق سيادة الدولة مقابل السيادة الشعبية، ينطرح السؤال : هل للدولة الحق في التفاوض والاتفاق على سياسات التكيف الهيكلي التي تفرض الحرمان الشديد على كثرة من فئات المجتمع دون مشاورتهم و موافقتهم؟ الا ينبغي أن يمر مثل هذا التدخل – وهذه المنح-من قبل دولة قوية وغيرها ، بعملية موافقة شعبية؟ هل يجب أن تستسلم الدولة للإملاءات الخارجية التي تقوض التزاماتها التعاقدية تجاه مواطنيها، وهى ضمان قدر – ولوضئيل - من الضمان الاجتماعي؟
إن الأزمة الاقتصادية للدولة النامية والإملاءات الخارجية جزء لا يتجزأ من تدويل جهاز الدولة. لقد تغيرت دوافع سياسة الدولة من توفير أنظمة الضمان الاجتماعي المحلية ، إلى دافع القدرة التنافسية في السوق الدولية، التي تفرض متطلباتها تقليص قدرة الدولة على التدخل في الاقتصاد. وتنتج هذه العملية للتدويل آثارا تشكك في هوية الدولة ذاتها تجاه المجتمع المدني. ولكنها ، في حالة الدولة النامية ، غير قادرة على التغلب على هذا التخفيض التدريجي لقدراتها وشرعيتها ، وهى العملية التي تجرى من خلال إعادة رسم هويتها في المجال العولمي. وبالنسبة للدولة النامية ، تحولت سياساتها بشكل ضيق ومحصور إلى رغبة في تعزيز الوضع التنافسي العالمي للاقتصاد الوطني ، بدلا من بذل الجهود ، مثلا ، لزيادة مستويات العمالة المحلية. وبعبارة أخرى ، أصبحت الشواغل المحلية خاضعة لمتطلبات العولمة تفرضها مصالح الجهات الفاعلة المهيمنة.
خاتمة
في نموذج ويستفاليان( مبدأ سيادة الدولة على أراضيها) للعلاقات بين الدول ، يُعتقد عموما أن التدخل غير مقبول قانونا وأخلاقيا. ومع ذلك ، فإن طبيعة الصراعات العنيفة التي أصابت النظام الدولي بالهرج المستفحل في فترة ما بعد الحرب الباردة، وما صاحب ذلك من ضرورات وتحديات إنسانية، كسرت المبدأين التوأمين لسيادة الدولة وعدم التدخل، لأن شدة مذابح الإبادة الجماعية وإراقة الدماء الإثنية سببت إثارة عالية للاشمئزاز، بدي انه يصيب عميقا المجتمع الدولي. ذلك إلى جانب توافق متزايد في الآراء في العلاقات الدولية ، على أن هذه التدخلات تكتسب الشرعية ، عندما تأذن بها مجتمعة منظمة إقليمية أو المجتمع الدولي أو قوى عظمى. وتدرك هذه النظرية الأخلاقية العالمية للعلاقات الدولية بشكل متزايد، أن أفراد الأسرة الدولية ملزمون بالتدخل لوقف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وهكذا ، فإن مبدأ عدم التدخل والسيادة الذي كان مقدسا في يوم من الأيام، يتقوض باطراد بسبب النطاق والحدة الجديدين للصراعات داخل الدول. ومع ذلك ، يمكن النظر إلى هذه التدخلات من حيث حاجة الجهات الفاعلة المهجمنة في النظام الدولي ، إلى أداء وظيفتها المتسيدة المتمثلة في الحفاظ على سلامة النظام القائم المتمركز حول الدولة ،وتقليل مستوى الفوضى في النظام الدولي.
في المجال الاقتصادي ، ترد التدخلات الاقتصادية كنتائج ضرورية لعمليات العولمة تؤثر عميقا على ممارسة سيادة الدولة. وتطرح هذه العلاقات الاقتصادية العولمية توترا خطيرا ناتجا من التحدي المباشر لسيادة الدولة الوطنية وهويتها ، وهو توتر لا ينفصل عن أهداف ومرامي برامج التكيف الهيكلي، باعتباره مكونا أساسيا لبنية العولمة المهجمنة . إن التحول للعولمة وفوق القومية المتضمن في برامج التكيف الهيكلي ، يتحدى فعالية سياسات الدولة المحلية والدولية. تجسد المنظمات الدولية الرئيسية القواعد التي تسهل توسع الأنظمة العولمية المهجمنة. وهي تعكس توجهات مواتية للقوى الاجتماعية والاقتصادية المهجمنة المنبثقة عن الدول القوية ، ولكن غالبا وكثيرا ما يكون لها بعض الآثار السلبية على حقوق الإنسان بالنسبة للدولة النامية. وقد أصبح من الواضح أن برامج التكيف الهيكلي لا تؤدي في حد ذاتها إلى الحد من الفقر ، وأن انتعاش الاقتصاد الكلي( اذا تحقق) لا يترجم إلى تحسن اجتماعي مؤثر. في العديد من الدول النامية ، تراجعت "الدولة الشعبية الوطنية" (أو دولة الرفاهية) نتيجة خضوعها لبرامج التكيف الهيكلي. ومع نموذج الليبرالية الجديدة ، نجد أن الدولة اضطرت إلى التخلي عن دورها كعامل للتنمية الاجتماعية وكأداة للتكامل.
وباختصار ، فإن الدولة النامية هي مثال اجتماعي-سياسي واقتصادي مفروض خارجيا ومخلوق ذاتوى غير موضوعي، حفزته تأثيرات واستجابات القوى العظمى للظروف المادية الماثلة. جميع الحالات الشاذة والمفارقات والمعضلات المتأصلة في الدولة النامية الضعيفة ، هي نتاج الأنطولوجيا السائدة ، في هذه الحالة ، أنطولوجيا ( او وقائع الوجود)بعد الحرب الباردة. نظام الدولة الحديث المكون من كل من الدول المتقدمة والدول النامية ينطرح كبنية من تصورات للمصالح قائمة على النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المناسب، الذي يقسم الشمال والجنوب ، ويخلق عديد التوترات بين المجموعات الأثنية والطائفية المتنافسة.
isamabd.halim@gmail.com