اوراق حزينة .. كمال الجزولي سر الصداقة
صديق محيسي
7 December, 2023
7 December, 2023
siddiqmeheasi20@gemail.com
فى مكتبه بشارع الجمهورية كنا نقضى ساعات وساعات فى استعادة شريط ذكريات الستينات , كمال فى كامل اهابه الوجدانى يحدثنى عن صور محمود دريش , ومحمد الفيتورى ,وامين مكى مدنى , ومحجوب شريف, ومحد الفيتورى ,ودفع الله الرضى , وفاروق ابوعيسى ,كان يتحدث عن هذه الوجوه كانما هى تتحرك عن اطرها وتشاركنا المسامرة .
كراو حاذق يجيد السرد ,طوّف بى الى كل مناسبة جمعته بهؤلاء, طّوف بى الى مأدبة العشاء المحضورة كان ضيفها محمود درويش ونصير شما ,وعشاءات اخر كان ضيوفها محمد المكى ابراهيم وحسن موسى , وحيدر ابراهيم , , ومحمود امين العالم , والفيتورى ,وحكى لى كيف اخذ الفيتورى الى محى الدين فارس وهو يرقد نصف انسان بسبب مرض السكرى ,وكيف دمعات طفرن من الفيتورى لما رى فارس بهذا الحال.
كان كمال يتنقل كالنحلة من غصن ذكرى الى ذكرى تطفو من ذاكرته قصص وروايات بعضها عشناه الاثنان وبعضها عاشها لوحده ,ذهابه مع ابوذكرى الى البلشوى والعالم خلف النافذة , وانتهاء بالسهرة فى شقة جيلى عبد الرحمن وجدا فيها الشاعران العراقيان , حسب الشيخ جعفر, وسعدى يوسف ,طوف بى عندما ذهبنا سويا الى مدنى فألتقينا فى جنينة كعكاتى يحى جاد كريم "جحا "اظرف ظرفاء المدينة صانع الحكايات العجائبية, وزرنا شيبون فى لوكاندة خدرى عيسى , ومحمد عبد الحى فى الحى السودانى ,وعلى حين فاصلة عدنا من مدنى ليصعد بىنا الى حديقته المعلقة فى قصره الذى يشبه الكتدرائية , كان كمال شديد الحفاظ لتراث تليد طويل يرى اكرام الضيف فى مبيته ,فاعطى كل واحد منا جلابية,فبتنا معه حتى فجر اليوم التالى, بشرى الفاضل وانا ثلاثة اسرة متقابلة تحدثنا طويلا عن رواية "بطل من هذا الزمان" لميخائيل ليرمنتوف ,وام درمان تأتى فى قطار الثامنة ,وحملة عبد القيوم الانتقامية ,وحكاية البنت التى طارت عصافيرها , كان كمال يرى فى بشرى انطون تشيكوف سودانى ,ويرى فيه طاقة من الخيال متجدده ومتنوعة, ليس لنا فى حضرته سوى ان نقبل بالوساع الفكرى فى نظرته للحياة ,وفى دقته المتناهية يضع كل شىء فى مكانه, وكل فكرة فى اطارها ,وكل اطار فى محتواه, عصر كامل عشته مع كمال الجزولى اشرت الى ذلك عند كتابتى عنه ومشواره فى الصحافة عندما طلب منى ابنه "ابى" انهم بصدد نشر كامل اعماله تخليدا لذكراه ,ولا يمنع ان نطّوف معا فوق عصرالستينات فى اول علاقة لنا كان سببها سؤال لايزال حاضرا وهو هل للمبدع قضية ,ام انه نسيج ذاته ؟هل الشعريكتب من كهف باطنى معزول عما حوله ,ام هو تعبير انسانى حى عن الواقع؟ فاتفقنا على ان الأبداع اى ابداع لابد ان يخدم قضية الأنسان فالمبدع بلا قضية كطائر معّوق الأجنحة.
هكذا كان كمال شاعرا شفيفا يستمد من الواقع تجربته الشعرية ويتجاوزشكلانية الرؤية الايديولوجية التى تعتمد الهتافية فى الشعر, تلك مرحلة تجاوزها فى مسيرته الطويلة فى البحث عن شكلانية جديدة تتخطى كل ما هو مباشر الى ماهو فنتازى .
كنا والناقد الصديق جابر حسين واخرون نعد العدة لكتاب عنه كرائد للحداثة الجديدة فى الشعر السودانى ,وكنت عام 1985 نشرت دراسة طويلة عنه فى جريدة الوحدة الظبيانية واعاد نشرها فى صحيفة السياسة الراحل عيسى الحلو, وبحث كمال عنها فلم يجدها لتطاول الزمن, ولكنه فجأة بشّرنى بانه حصل عليها عند شقيقته اميرة التى تحتفظ بكل ما كتب عنه, وحاولت التدخل من جديد اريد اعادة النظر فى بعض افكارها ولكنه رفض بشدة ان ننشرها كما هى ,لأنها كما يعتقد تعبر عنى امكاناتى النقدية فى تلك الفترة, وبالفعل اعطى الدراسة لسكرتيرته فى المكتب التى جمعتها من جديد ,ولكن القدر لم يمهله فقد رحل دون ان نحقق هذا المشروع فى حياته.
كنت كلما اقرا لكمال يطفو الى ذهنى الشاعر التركى ناظم حكمت الذى صار السجن بيته لأشعاره المصادمة للاستبداد العثمانى, كان ناظم " يقول اذا كنت تؤمن بالوطن وبالعالم وبالأنسان فستقودك خطاك الى المشنقة ,او سيلقون بك فى الزنازين وستبقى هناك عشر سنين ,او ربع قرن, ولكن مهما يكن لا تفكر ولو لحظة واحدة انهم لوعلقوك كالعلم على العمود لكان ذلك افضل"
كذا كمال انتقلت تجربته الشعرية وهو "حر" فى بيته ,او "مكتبه" الى بيئة السجن شديدة العزلة النفسية فكتب فيها "عزيف الريح خلف ابواب صدئة",كان يحادث طائرا حط على باب زنازانته.وكان يتابع خطوط ضوء النهار حتى تتبدل بخطوط الظلام ,تتسرب رطوبة البحر الأحمر الى مفاصل عظامه فتصدر منها خشخشة مثل صرير باب توفيقى قديم مشبع بالرطوبة اكلته الأرضة فى سواكن .
كنت الحظ دائما سمك باب منزله الحديدى المفضى الى الداخل مدجج بالأغفال الضخمة حتى لتكاد تظن انه نقل اغفال سجن السلطة الى بيته ,ولم اتردد ان اساله عن الظاهرة ,وكان رده ان ذلك يمهله حتى يجهز حقيبته وادويته قبل وصول رجال الأمن الى داخل البيت , لكن مع ذلك كنت اذهب الى اثرالسجن دون ان افاتحه فى ذلك كانت بوابة السجن وغرفه الضيقة لاتغيب عن بال كمال فهو سار من جسر النميرى الى جسرالمتاسلمين . رحمه الله
/////////////////////
فى مكتبه بشارع الجمهورية كنا نقضى ساعات وساعات فى استعادة شريط ذكريات الستينات , كمال فى كامل اهابه الوجدانى يحدثنى عن صور محمود دريش , ومحمد الفيتورى ,وامين مكى مدنى , ومحجوب شريف, ومحد الفيتورى ,ودفع الله الرضى , وفاروق ابوعيسى ,كان يتحدث عن هذه الوجوه كانما هى تتحرك عن اطرها وتشاركنا المسامرة .
كراو حاذق يجيد السرد ,طوّف بى الى كل مناسبة جمعته بهؤلاء, طّوف بى الى مأدبة العشاء المحضورة كان ضيفها محمود درويش ونصير شما ,وعشاءات اخر كان ضيوفها محمد المكى ابراهيم وحسن موسى , وحيدر ابراهيم , , ومحمود امين العالم , والفيتورى ,وحكى لى كيف اخذ الفيتورى الى محى الدين فارس وهو يرقد نصف انسان بسبب مرض السكرى ,وكيف دمعات طفرن من الفيتورى لما رى فارس بهذا الحال.
كان كمال يتنقل كالنحلة من غصن ذكرى الى ذكرى تطفو من ذاكرته قصص وروايات بعضها عشناه الاثنان وبعضها عاشها لوحده ,ذهابه مع ابوذكرى الى البلشوى والعالم خلف النافذة , وانتهاء بالسهرة فى شقة جيلى عبد الرحمن وجدا فيها الشاعران العراقيان , حسب الشيخ جعفر, وسعدى يوسف ,طوف بى عندما ذهبنا سويا الى مدنى فألتقينا فى جنينة كعكاتى يحى جاد كريم "جحا "اظرف ظرفاء المدينة صانع الحكايات العجائبية, وزرنا شيبون فى لوكاندة خدرى عيسى , ومحمد عبد الحى فى الحى السودانى ,وعلى حين فاصلة عدنا من مدنى ليصعد بىنا الى حديقته المعلقة فى قصره الذى يشبه الكتدرائية , كان كمال شديد الحفاظ لتراث تليد طويل يرى اكرام الضيف فى مبيته ,فاعطى كل واحد منا جلابية,فبتنا معه حتى فجر اليوم التالى, بشرى الفاضل وانا ثلاثة اسرة متقابلة تحدثنا طويلا عن رواية "بطل من هذا الزمان" لميخائيل ليرمنتوف ,وام درمان تأتى فى قطار الثامنة ,وحملة عبد القيوم الانتقامية ,وحكاية البنت التى طارت عصافيرها , كان كمال يرى فى بشرى انطون تشيكوف سودانى ,ويرى فيه طاقة من الخيال متجدده ومتنوعة, ليس لنا فى حضرته سوى ان نقبل بالوساع الفكرى فى نظرته للحياة ,وفى دقته المتناهية يضع كل شىء فى مكانه, وكل فكرة فى اطارها ,وكل اطار فى محتواه, عصر كامل عشته مع كمال الجزولى اشرت الى ذلك عند كتابتى عنه ومشواره فى الصحافة عندما طلب منى ابنه "ابى" انهم بصدد نشر كامل اعماله تخليدا لذكراه ,ولا يمنع ان نطّوف معا فوق عصرالستينات فى اول علاقة لنا كان سببها سؤال لايزال حاضرا وهو هل للمبدع قضية ,ام انه نسيج ذاته ؟هل الشعريكتب من كهف باطنى معزول عما حوله ,ام هو تعبير انسانى حى عن الواقع؟ فاتفقنا على ان الأبداع اى ابداع لابد ان يخدم قضية الأنسان فالمبدع بلا قضية كطائر معّوق الأجنحة.
هكذا كان كمال شاعرا شفيفا يستمد من الواقع تجربته الشعرية ويتجاوزشكلانية الرؤية الايديولوجية التى تعتمد الهتافية فى الشعر, تلك مرحلة تجاوزها فى مسيرته الطويلة فى البحث عن شكلانية جديدة تتخطى كل ما هو مباشر الى ماهو فنتازى .
كنا والناقد الصديق جابر حسين واخرون نعد العدة لكتاب عنه كرائد للحداثة الجديدة فى الشعر السودانى ,وكنت عام 1985 نشرت دراسة طويلة عنه فى جريدة الوحدة الظبيانية واعاد نشرها فى صحيفة السياسة الراحل عيسى الحلو, وبحث كمال عنها فلم يجدها لتطاول الزمن, ولكنه فجأة بشّرنى بانه حصل عليها عند شقيقته اميرة التى تحتفظ بكل ما كتب عنه, وحاولت التدخل من جديد اريد اعادة النظر فى بعض افكارها ولكنه رفض بشدة ان ننشرها كما هى ,لأنها كما يعتقد تعبر عنى امكاناتى النقدية فى تلك الفترة, وبالفعل اعطى الدراسة لسكرتيرته فى المكتب التى جمعتها من جديد ,ولكن القدر لم يمهله فقد رحل دون ان نحقق هذا المشروع فى حياته.
كنت كلما اقرا لكمال يطفو الى ذهنى الشاعر التركى ناظم حكمت الذى صار السجن بيته لأشعاره المصادمة للاستبداد العثمانى, كان ناظم " يقول اذا كنت تؤمن بالوطن وبالعالم وبالأنسان فستقودك خطاك الى المشنقة ,او سيلقون بك فى الزنازين وستبقى هناك عشر سنين ,او ربع قرن, ولكن مهما يكن لا تفكر ولو لحظة واحدة انهم لوعلقوك كالعلم على العمود لكان ذلك افضل"
كذا كمال انتقلت تجربته الشعرية وهو "حر" فى بيته ,او "مكتبه" الى بيئة السجن شديدة العزلة النفسية فكتب فيها "عزيف الريح خلف ابواب صدئة",كان يحادث طائرا حط على باب زنازانته.وكان يتابع خطوط ضوء النهار حتى تتبدل بخطوط الظلام ,تتسرب رطوبة البحر الأحمر الى مفاصل عظامه فتصدر منها خشخشة مثل صرير باب توفيقى قديم مشبع بالرطوبة اكلته الأرضة فى سواكن .
كنت الحظ دائما سمك باب منزله الحديدى المفضى الى الداخل مدجج بالأغفال الضخمة حتى لتكاد تظن انه نقل اغفال سجن السلطة الى بيته ,ولم اتردد ان اساله عن الظاهرة ,وكان رده ان ذلك يمهله حتى يجهز حقيبته وادويته قبل وصول رجال الأمن الى داخل البيت , لكن مع ذلك كنت اذهب الى اثرالسجن دون ان افاتحه فى ذلك كانت بوابة السجن وغرفه الضيقة لاتغيب عن بال كمال فهو سار من جسر النميرى الى جسرالمتاسلمين . رحمه الله
/////////////////////