الحزب الشيوعي السوداني … مخترق أم مختطف؟ (9)

 


 

عاطف عبدالله
24 September, 2024

 

ضعف فكري أم سوء تقدير

قبل انعقاد المؤتمر السادس ظن الكثيرون أن الحزب سيمضي قدما في التغيير وأنه سيخرج أكثر تماسكا وتوحدا فكريا وتنظيمياُ، وأن الطريق سيكون ممهداً أمامه كي يتحول إلى حزب جماهيري ويعيد بناء ما تهدم من تنظيمات الجبهة الوطنية الديمقراطية من شباب وطلاب ونقابات، كان من المتوقع تغيير اسم الحزب على أساس أن الشيوعية مرحلة متقدمة من التاريخ وأن الحزب بتصدره للاسم الآن يصادر حق أصيل للأجيال القادمة في اختيار الاسم الذي يتناسب مع الشكل التنظيمي الذي يناسبها. وأنه بتغيير اسم الحزب يكون قد جرد خصومه أهم وأمضى أسلحتهم، وفوق كل تلك العلل والأسباب فأن تغيير الاسم كان متوقع حسب رغبة الأغلبية حيث إن أكثر من 80% من عضوية الحزب كانت مع التغيير (هذه النسبة تقديرية من الكاتب حيث لم يجر أي استفتاء وسط العضوية وهو استنتاج من واقع المعايشة والمتابعة للمناقشة العامة وللآراء وسط الشيوعيين).
لكن ما حدث كان على العكس تماماً، خرج الحزب وهو متشظي ومتضعضع، حيث عملت المجموعة المتكتلة داخل القيادة، على إعادة كلّما تجاوزته اللائحة في المؤتمر الخامس وحسمت أمره المناقشة العامة. فصارت الوحدة الفكرية تقوم على المركزية اللاديمقراطية كما أسلفنا، بدلاً عن دستور وبرنامج الحزب. وهذا أدهى من كلّما مضى، حيث جعل قرارات المركز هي أساس الوحدة الفكرية، ما يرسخ للشمولية ودكتاتورية المركز، هذا البند يساء استخدامه بشكل مفرط في ظل الظرف الراهن في ظل الحرب، حيث لم تعقد أي دورة للجنة المركزية منذ عام ونيف، وصارت السكرتارية أو اللوبي المتحكم يقوم بمهام اللجنة المركزية ويصدر القرارات ويقمع أي رأي مخالف.
كما أعيد التأكيد على أن الحزب في بنائه الطبقي وممارسته يستند إلى مبادئ النظرية الماركسية والتأكيد على أنه تنظيم ماركسي يمثل مصالح الطبقة العاملة، وذلك بالإنابة عنها لأن الواقع يؤكد إن الحزب منذ 1971 أضحت حاضنته الأساسية هي شريحة من المثقفين الثوريين من البرجوازية الصغيرة ولا وجود للطبقة العاملة في تركيبته سواء على مستوى القيادة أو القاعدة بعد تلاشي الطبقة العاملة على السودان بِرُمَّته.
لم يكتف التيار المتشدد بتلك التحولات القيصرية، بل مضى بجرأة يحسد عليها في التخلص من كافة دعاة التغيير. وتخلص عملياً من معظم المختلفين معه في الرأي، ولم يأمن حتى بعض الذين كانوا معه على نفس الخط الفكري، لكنهم شيوعيون ملتزمون باللائحة والإجراءات الحزبية السليمة في اتخاذ القرارات خاصة التي تتعلق بالفصل من الحزب، من الأقصاء إما بالتهميش أو بالفصل، هذا ليس اتهاما جائرا، بل حقيقة ساطعة يدركها كافة أعضاء الحزب خاصة القريبون من العمل القيادي.
على المستوى الجماهيري ظل الحزب في حالة انحسار لا يحسد عليها، وعلى المستوى التنظيمي في حالة ضمور، حيث ابتعد كثير من الأعضاء الذين آثروا تجميد نشاطهم الحزبي. ولأول مرة في حالات المَدّ الثوري خلال ثورة ديسمبر 1918 لم يستطع الحزب أن يلاحق الأوضاع ويلعب دوره الريادي كقوة طليعية ينتظر منها الشارع الكثير! ويعيد بناءه الداخلي وبناء التنظيمات الديمقراطية كما حدث خلال انتفاضة أبريل 1985. حيث انشغلت قيادة الحزب بمعارك جانبية وثانوية مع القوى المدنية الأخرى وحلفائها في الحرية والتغيير على حساب المعركة الكبرى ضد قوى الثورة المضادة التي كانت لا تألو جهداً في تكسير مجاديف الانتقال المدني الديمقراطي وتفكيك التمكين وإخراج البلاد من عزلتها الدولية. وكانت كل أسلحته موجهة ضد من أسماهم قوى الهبوط الناعم مما أدى لانقسام الرأي داخل الحزب بصورة لم تحدث من قبل ... ووضح جلياً تأثر الحزب برحيل قيادته التاريخية الممثلة في محمد إبراهيم نقد، الذي كان يمثل البوصلة التي ترسم وتحدد الخط العام للحزب الشيوعي، وكانت أفكاره ورؤاه ومعالجاته سواء وسط أو يمين أو يسار تمثل الوحدة الفكرية التي يلتف حولها كل أعضاء الحزب. والأكثر إقناعا لإنسان الشارع العادي ربما بفضل وعيه وقراءته السليمة للواقع السياسي السوداني والإقليمي بكل تعقيداته، ولقربه من المزاج العام فقد حظي باحترام كافة ألوان الطيف السياسي حتى الذين اختلفوا معه كانوا يحترمونه ويقدرونه. وخير دليل على ذلك تلك الحفاوة التي وجدها خطاب المعارضة الديمقراطية حول الميزانية الذي ألقاه في البرلمان في يوليو 1986.
بعد نشوب حرب الجنرالين، وهي في الأساس حرب موجهة ضد التحول المدني الديمقراطي وقوى الشارع ومكتسبات ثورة ديسمبر، توقعنا أن يسعى الحزب لإعادة بناء الجبهة المدنية العريضة مع لجان المقاومة وتجمع المهنيين والقوى المدنية في تحالف الحرية والتغيير، مع تحالف التغيير الجذري، إلا أنه ظلَّ على اشتطاطه متمسكاً بمطالب تحالف التغيير الجذري "الكلّ أو العدم". عند تأسيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدّم" التحالف الموسع الذي شمل قطاع واسع من ألوان الطيف السياسي بهدف وقف الحرب وتوصيل المساعدات للمنكوبين بالحرب، وتحقيق الانتقال المدني الديمقراطي للسلطة، توقعنا أن يكون الحزب أحد مكوناتها بهدف إيقاف الحرب كأولوية قصوى للشعب السوداني الآن. إلا أن قيادة الحزب رفضت حتى مجرد الجلوس مع وفد تقدم لبحث طلباته وشرح وجهة نظرها معلنة تمسكها غير الموضوعي، إنها لن تقبل، إما كل شيء أو لا شيء، دون أي رؤية واقعية لتوازن القوى بين المدنيين العزل والجيش والمليشيات المسلحة. ولم يقدم الحزب مشروع عملي قابل للتطبيق في أرض الواقع، فقط أطلق حزمة من الشعارات ... وهو بتمسكه بتلك المطالب غير الممكنة في تلك المرحلة، مثل حل المليشيات المسلحة، تقديم قيادتها وقيادة الدعم السريع للمحاكمة، والسيطرة على أموال شركات الدعم والجيش إلخ ... مع علمه بأن تحالف الجيش والدعم السريع والحركات والمليشيات المسلحة لم يهزم بعد ولم يجرد من أسلحته، وهو ظلَّ، منذ سقوط البشير، وبشكل يومي، يحصد في أرواح خيرة شبان وشابات الثورة دون أن يردعه رادع أو يحكمه وازع، ويطلب منه أن يستسلم لتنظيمات مدنية ولشارع أعزل، ويسعى لحتفه بظلفه أمر غاية في السخرية! وحتى الآن، بكل ما استجد في الساحة، والوطن على حافة الضياع والملايين فقدت كل شيء وآلاف الأطفال والمرضى يموتون كل يوم، والبقية مهددة بالموت جوعا، ومناطق النزوح ضاقت على وسعها ولم يعد فيها متسع لقادم. لم تراجع قيادة الحزب موقفها وظلّت على شططها تتشدق بذات المطالب وترفض مجرد المشاركة في أي مجهود سواء داخلي أو خارجي لوقف الحرب، فأضحت هي والفلول صنوان ويا للعجب!!
الحزب لم يكتف بعدم المشاركة في التحالفات المدنية الرافضة للحرب، بل قمع أي مساعي أو مبادرات حزبية للعمل مع القوى السياسية الأخرى المناهضة للحرب، حتى لو كان هذا التلاقي للتعبير عن موقف وإصدار بيان يشجب الحرب – مجرد بيان - مثلما جرى في التنصل عن البيان المشترك الذي صدر في 11 يناير 2024 بين أحزاب الأمة القومي والبعث العربي الاشتراكي (الأصل) وممثلين من المكتب السياسي واللجنة المركزية في الحزب الشيوعي بقيادة سكرتير لجنة الاتصال السياسي المهندس صديق يوسف الذين وقعوا على بيان مشترك تناول الأوضاع المتردية في مجمل الحياة السودانية جرّاء الحرب اللعينة واتفقوا على النقاط التالية:
1. ضرورة العمل علي الوقف الفوري للحرب الدائرة في السودان منذ 15 أبريل 2023 م.
2. التأمين على ضمان وحدة السودان شعباً، وأرضاً، وسلامة أراضيه، واستقلاله.
3. إدانة الانتهاكات والجرائم ضد المدنيين من قبل قوات الدعم السريع والقصف العشوائي المدفعي والجوي على منازل المواطنين من قبل الجيش السوداني ... والاعتقالات المتكررة للمواطنين والناشطين السياسيين ولجان المقاومة من قبل طرفي الحرب.
4. إدانة التصعيد لخطاب الكراهية والعنصرية ومحاولات التحشيد اليائسة بتسليح المدنيين.
5. التأكيد على ضرورة العمل في الجانب الإنساني في ظل خطر المجاعة التي تهدد السودان وفق التقارير الميدانية الواردة من منظمات ووكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المختلفة العاملة في السودان وضرورة إيصال المساعدات الإنسانية العاجلة لكل ولايات السودان.
6. شكر المجتمعون دول الجوار التي استقبلت السودانيين في هذه المحنة الكبيرة التي يمرون بها بسبب الحرب.
7. مقابلة السلطات في جمهورية مصر العربية وتقديم الشكر لها لاستضافتها لأعداد كبيرة من السودانيين وتوضيح الصعاب التي يواجها السودانيين ... والدعوة لتذليلها وتسهيل سير إجراءات تواجدهم النظامي بالتنسيق مع السلطات في مصر.
للأسف قوبلت هذه المبادرة الإيجابية بالرفض من قبل العصبة المسيطرة على الحزب قائلة في بيان لها بأن الهدف من البيان المشترك هو جرجرة الحزب الشيوعي نحو مشروع التسوية والهبوط الناعم مذكرة بأن خط الحزب السياسي وتحالفه الأساسي هو التغيير الجذري.
حينما شرع الحزب في تكوين التحالف الجذري في يونيو 2021 تحت ظل أوضاع تنظيمية غير موائمة داخلياً، وحالة يرثى لها لحلفائه الاستراتيجيين في الجبهة الوطنية الديمقراطية من مهنيين وشباب وطلاب ونساء، وخارجياً الحزب في حالة انحسار جماهيري عميق، وفي ظل ظروف موضوعية، كل الطبقات والفئات الجذرية نفسها تعيش أسوأ أوضاعها التنظيمية و السياسية و الحياتية، كما ذكر الدكتور أحمد طراوة في تعقيب له بعنوان (سرديات أم لبوس) التي جاء فيها أن أكثر من ثمانين في المئة من العاملين بأجر لا يصرفون مرتبات، وستون في المئة فقدوا وظائفهم، والطبقة الوسطى برمتها فقدت الاستقرار والقدرة على الفعل، وأكد أن من الصعوبة بمكان أن تبني تحالف طبقي جذري في ظل ظروف لا يوجد فيها ثيرموميتر نشيطٌ لقياس درجة غليان المجتمع، هذا الثيرموميتر هو الحركة الطلابية، سريعة التنظيم، وذات الحراك المتواتر الفعال كلما ضاق المجتمع و تذمر، هذا الثيرموميتر هو طبقياً الأقسام المتقدمة من حركة الموظفين و المهنيين والطبقة العاملة المنظمة، كما أكد أن من الصعوبة جداً انك تبني حركة جماهيرية جذرية في بلد لا يوجد فيها فلاحين يناضلون من أجل الأرض ...
بالرغْم من ذلك لم يستنكر الدكتور أ. طراوة مقدرات الشعب السوداني وقابليته للتغيير الجذري والقدرة على اكتساب الوعي الثوري بمعدلات كبيرة وسريعة، بعد أن أكد بسالته خلال الخمس سنوات الماضية بعد الثورة.
وأقول للصديق الدكتور أحمد طراوة نعم الشعب أثبت وعيه وظل على الدوام يصدق وعده، والشوارع لا تخون، ولكن، هل ما زالت هناك شوارع وجسور تسع المسيرات المليونية؟ وماذا تبقى من تلك الملايين بعد النزوح؟ والأهم من كل ذلك هل الحزب الشيوعي، بوضعه الراهن، قادر على قيادة ما تبقى من شوارع؟ وفي البال السؤال المؤرق هل الحزب مخترق فقط ... أم أيضاً مختطف؟
وللحديث بقية ...
في اللقاء القادم (10) المعالجات المقترحة

atifgassim@gmail.com

 

 

آراء