الإدراكُ والتّنميةُ البشريّةُ

 


 

 

د. نازك حامد الهاشمي

لخلق وبناء مجتمع مستدام، من الضروري ألا تكون هناك حدوداً فاصلة بين الاقتصاد والسياسة والمجتمع، حيث أن هذه العناصر مترابطة وتعتمد على بعضها البعض؛ إذ أن الاقتصاد يحدد القدرة المالية للدولة على تمويل المشاريع التنموية والاجتماعية، بينما تؤثر السياسات الحكومية على كيفية توزيع الموارد وتحقيق العدالة الاجتماعية. ومن جهة أخرى، يؤدي المجتمع دورًا حيويًا في تحديد أولويات التنمية من خلال المشاركة الفعالة في صنع القرار. وإذا كانت هناك حدود فاصلة ومتباعدة بين هذه المجالات، فإن ذلك قد يؤدي إلى تضارب في الأهداف، ويعيق تحقيق التنمية المستدامة. فعلى سبيل المثال، قد تفضي السياسات الاقتصادية التي لا تأخذ في الاعتبار القضايا الاجتماعية إلى زيادة الفقر وعدم المساواة، مما ينعكس سلبًا على الاستقرار السياسي. لذا، يجب أن تكون هناك شراكة وتكامل بين الاقتصاد والسياسة والمجتمع، مما يعزز القدرة على التصدي للتحديات المعقدة، ويحقق التنمية المستدامة والشاملة التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها. إضافةً إلى ذلك، حتى عند التنظير الأكاديمي، لا يمكن فصل هذه العناصر، إذ ترتبط جميعها في إطار شامل يسهم في صياغة السياسات وإدارة الموارد بطرق فعالة. إن إدراك هذه الروابط يُعتبر أساسيًا لتحقيق نتائج إيجابية، ويعزز من قدرة المجتمع على مواجهة التحديات والتغيرات السريعة التي تشهدها العالم اليوم.
إن التنمية البشرية ليست مجرد هدف في حد ذاتها، بل هي وسيلة لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة والشاملة، مما يخلق تحسنا متدرجاً ومستمراً في جودة الحياة للأفراد، والنمو الاقتصادي للدول. وتعتبر تنمية الإنسان هي ركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية، حيث يعتمد التقدم الاقتصادي على تحسين قدرات وموارد الإنسان، فهو العنصر الأساسي في الإنتاج والإبداع؛ وإن استثمار الجهود في تنمية الإنسان من خلال التعليم والصحة والتدريب يعزز من إنتاجيته وفاعليته في تعزيز الاقتصاد. وينبغي تذكر أن الاستدامة في تنمية الإنسان ليست مجرد عملية تعليمية محددة ومحدودة، بل هي نهج شامل يتطلب تخطيطًا طويل الأجل وجهودًا مستمرة لنشر الوعي وتعزيز القيم البيئية والاجتماعية. ويتطلب ذلك التعليم بالتدرج تشجيع المسؤولية الاجتماعية واستخدام التكنولوجيا وتحفيز التفكير النقدي، مع التركيز على أهمية التنمية المستدامة وحماية الموارد الطبيعية. ويجب أن يرتكز هذا النهج على التعليم المجود والتوعية المستدامة، حيث أن التعليم هو الركيزة الأساسية لتطوير الوعي البيئي والاجتماعي.
ويمكن تحقيق كل أو جل ما سبق ذكره من خلال إدراج مفاهيم الاستدامة في المناهج الدراسية والتدريب المهني لتحسين كفاءة الموارد. ويتضمن التخطيط المتدرج رفع الوعي من خلال تقديم معلومات بسيطة في البداية، ثم الانتقال تدريجيًا إلى مفاهيم أكثر تعقيدًا مثل إدارة المخلفات والاقتصاد الدائري. ومن المهم أيضًا تعزيز المسؤولية الاجتماعية من خلال تعليم الأفراد أهمية اتخاذ قرارات تعود بالفائدة على المجتمع والبيئة، ومشاركة القطاع الخاص بفعالية في تبني ممارسات مستدامة ودعم المبادرات البيئية.
يسهم إدراك السكان لدورهم في إدارة المجتمع من خلال المحافظة على النظام والنظافة في تعزيز جودة الحياة والبيئة. وعندما يدرك الأفراد أهمية الحفاظ على نظافة محيطهم، يتجلى ذلك في مشاركتهم الفعالة في الأنشطة التطوعية التي تهدف إلى تحسين بيئتهم. إن التطوع للقيام بمثل تلك الأعمال لا يساهم في تحسين المظهر الجمالي فحسب، بل يساهم أيضاً مساهمة مقدرة في تعزيز الوعي البيئي، مما يشجع المجتمعات على اتخاذ خطوات إيجابية نحو الاستدامة. يُعتبر التطوع في خدمة المجتمع عند العديد من الثقافات شرطًا أساسيًا للعمل أو حتى الدراسة، مما يعكس العلاقة التبادلية بين الفرد ومجتمعه. ويُساعد هذا الشرط الأفراد على تطوير مهاراتهم الشخصية والاجتماعية، ويعزز شعورهم بالمسؤولية تجاه المجتمع، مما يؤدي إلى خلق مجتمع أكثر تماسكًا وفعالية. في أفريقيا، تعتبر مبادرات مثل برنامج "مبادرة نظافة نيروبي" في كينيا مثالاً على نجاح المجتمعات في تحسين النظافة العامة من خلال العمل التطوعي؛ حيث تشارك مجموعات من الشباب في حملات تنظيف الشوارع والحدائق العامة، مما يعزز الشعور بالفخر والانتماء. كذلك، في مدينة "أكرا" في غانا، أسس المجتمع مبادرات طوعية لتنظيف الأنهار والشواطئ، مما ساهم في الحد من تلوث المياه وتعزيز الوعي حول أهمية الحفاظ على البيئة.
وتعد الإدارة الحياتية (أو إدارة الحياة) ذات علاقة وثيقة بتنمية الإنسان، حيث تشمل تنظيم الأوقات واتخاذ القرارات الصائبة، وتطوير المهارات اللازمة لتحقيق أهداف الحياة. إن هذه الإدارة تساعد الإنسان في تطوير جوانب مختلفة من حياته مثل العمل والعلاقات الاجتماعية والصحة النفسية والجسدية والتوازن بين الحياة الشخصية والمهنية. وتُعد الإدارة الحياتية عنصرًا حيويًا في تنمية الإنسان، حيث تساعد في تحقيق الأهداف الشخصية والمهنية من خلال تحديد الأهداف ووضع خطط فعّالة. كما تعزز القدرة على التحكم في التوتر وإدارة الأزمات بمرونة. وعلاوةً على ذلك، تتيح الإدارة الحياتية للفرد الاستفادة من الفرص التي تظهر في حياته، سواءً أكانت فرص عمل أو تعلم مهارات جديدة.
وتظهر المشكلات عندما يمتلك الشخص "ذكاءً فعالاً" ولكنه يفتقر إلى "الإدراك الحياتي". يعني ذلك أنه قد يكون المرء ماهرًا في حل المشكلات أو تطبيق المنطق في مواقف محددة، لكنه يواجه صعوبة في فهم الآثار العميقة لقراراته في العالم الحقيقي والسياق الإنساني المحيط بها. ولا يعكس ذلك بالضرورة افتقارًا كاملًا للتفكير النقدي، بل قد يشير إلى فجوة في الحكمة العملية والتعاطف، وهما عنصران أساسيان في التفكير النقدي الشامل. فالتفكير النقدي لا يقتصر على التحليل المنطقي فحسب، بل يتطلب أيضًا استيعاب وجهات نظر متنوعة والتعرف على التحيزات السلبية، مما يعزز القدرة على تطبيق الحكم السليم في المواقف الحياتية. وفي قرارات تأخذ في اعتبارها الأبعاد العاطفية والاجتماعية والأخلاقية. هذا الأمر ينطبق أيضًا على القادة السياسيين الذين قد يكونون ممن تلقوا تعليماً عالياً إلا أنهم يفتقرون إلى الإدراك الحياتي. فقد يفشل هؤلاء القادة في اتخاذ قرارات حاسمة قد تحدد مصير دولهم، حيث تكون قراراتهم مبنية على تحليل سطحي أو تقديرات غير دقيقة للعواقب الاجتماعية والسياسية. لذا، فإن الفرد الذي يمتلك ذكاءً عالياً في مجال محدد ولكنه يفتقر إلى الإدراك الحياتي قد ينجح في حل المسائل المعقدة من الناحية النظرية، لكنه قد يغفل التأثيرات المحتملة لتلك الحلول على حياة الناس والمجتمع بشكل عام.
وعندما تفتقد الشعوب مهارة الإدراك، فإن ذلك يؤثر سلبًا على التنمية السياسية بشكل كبير. غياب الوعي بين أفراد المجتمع يُضعف المشاركة السياسية الفاعلة، حيث يصبح المواطنون غير قادرين على فهم حقوقهم وواجباتهم بشكل واضح، مما يمهّد الطريق أمام الفساد وسوء الإدارة. وفي ظل ضعف الإدراك السياسي، يمكن تضليل الرأي العام بسهولة من خلال الدعاية الموجهة أو المعلومات المغلوطة التي تروجها بعض الجهات لتحقيق مصالحها الخاصة. يُستغل المواطنون في هذه الحالات من قبل السياسيين أو الجماعات ذات النفوذ، حيث يتم التلاعب بهم لدعم سياسات أو قرارات قد لا تكون في مصلحتهم.
ويُمكن توجيه الرأي العام نحو قضايا جانبية وتجاهل القضايا الأكثر أهمية من خلال السيطرة على وسائل الإعلام أو نشر أخبار غير دقيقة. كذلك، قد يتم تشتيت انتباه المواطنين عن حالات الفساد أو الانتهاكات، وهذا مما من شأنه أن يفضي إلى غياب الضغط المجتمعي اللازم لإصلاح الأنظمة السياسية وتحقيق المساءلة. وفي النهاية، يؤدي غياب الإدراك إلى عزل المجتمع عن المشاركة في القرارات الحاسمة، مما يضر بالتنمية السياسية. واقتصاديًا، قد تواجه الشعوب التي تفتقر إلى الإدراك صعوبة في تبني التقنيات الحديثة وتحسين الإنتاجية. ومن شأن هذا الوضع إعاقة قدرتهم على التكيف مع التغيرات الاقتصادية، مما يؤدي إلى تباطؤ النمو وتراجع القدرة التنافسية. كما، يؤدي ضعف الإدراك إلى تفاقم المشكلات الاجتماعية، وانتشار سلوكيات غير صحية، وزيادة التمييز والعنف، مما يعيق التماسك الاجتماعي. ويعد تعزيز الانقسامات القبلية أحد اثاره، حيث يميل الأفراد إلى الانتماء بشكل أقوى إلى قبائلهم، مما يزيد من النزاعات ويعزز من خطاب الكراهية والتطرف وغيرها، مما يؤدي ان تسهم هذه الظروف مجتمعة في صعوبة الحوار بين الثقافات أو القبائل المختلفة داخل الدولة الواحدة وتتفشي الصور النمطية السلبية والمعلومات الخاطئة، وتعزز من التوترات والصراعات القبلية. ومن ثم يصبح من السهل انتشار خطاب الكراهية والمعلومات المضللة، حيث يتبنى الأفراد أفكارًا متطرفة تتعلق بقبيلتهم أو جماعتهم، مما يزيد من الاستقطاب ويؤدي إلى تصاعد النزاعات.
إن غياب الوعي والمعرفة لدى الأفراد، ولا سيما الشريحة الأكثر تعليمًا، يؤدي إلى ضعف المشاركة في نقل المعرفة إلى المجتمع والمشاركة الفعالة في اتخاذ القرارات. ويسهم هذا بدوره في زيادة الفساد وتفشي الممارسات غير الفعالة. كما أن قلة الإدراك عند المتعلمين في بعض المجتمعات قد تؤدي إلى تأثيرات سلبية على عدة مستويات، بدءًا من التعليم، ووصولًا إلى الحياة الاجتماعية بشكل عام. حيث يظهر ضعف التفكير النقدي كظاهرة بارزة، مما يجعل المتعلمين أقل قدرة على تحليل المعلومات بعمق، ويعرضهم للأفكار الخاطئة والمعلومات المضللة. ومع تراجع مستوى الإدراك، تتضاءل القدرة على التفكير الإبداعي واقتراح حلول جديدة للمشكلات، مما يؤثر سلبًا على تقدم المجتمع في مختلف المجالات. كما تتجلى هذه التأثيرات أيضًا في انعدام الاهتمام بالمشاركة المجتمعية، مما يزيد من العزلة بين المتعلمين والشرائح الأخرى، سواء تلك الأقل تعليمًا أو غير المتعلمة. وبالتالي، يتقلص دورهم في بناء الدولة، مما يعيق عملية التنمية الشاملة ويقلل من فعالية المشاركة المدنية. لذا، يُعتبر تعزيز الإدراك والوعي بين المتعلمين ضرورة ملحة لتحقيق مجتمع أكثر تماسكًا وتقدمًا، حيث يسهم ذلك في تعزيز قدرة الأفراد على المساهمة الفعالة في بناء مستقبل أفضل.
إن هنالك أمثلة عديدة لدول نامية استطاعت أن تحقق الاستدامة في التنمية ببناء مجتمعات متوازنة مستقرة مثل دولة رواندا، التي تمكنت بعد الإبادة الجماعية في عام 1994م من التركيز على التعليم والتكنولوجيا والابتكار، وتحقيق نمو ملحوظ في أقل من 25 عامًا. (وفقاً لتقارير البنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة). وهناك مثال آخر في آسيا هو دولة كوريا الجنوبية، التي أفلحت بعد الحرب الكورية (1950-1953م)، في حوالي أربعين عامًا فقط تحقيق تقدم اقتصادي هائل. فقد شرعت في الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا منذ الستينيات، مما حولها إلى قوة اقتصادية عالمية بحلول التسعينيات.
لذا يمكن القول بأنه من الضروري تعزيز الإدراك والوعي من خلال الاستثمار في التعليم والتدريب، وممارسة نقل المعرفة من أجل تنمية مهارة الإدراك، إذ أن ذلك يساهم ذلك في بناء مجتمع قادر على الابتكار والإبداع، ويعزز من قدرة الدولة على تحقيق التنمية المستدامة. إن الارتقاء بمستوى الإدراك يسهم في تحسين نوعية الحياة، وتعزيز التماسك الاجتماعي، وفتح آفاق جديدة للنمو والتطور، بالتالي، فإن تعزيز الإدراك ليس مجرد خيار، بل هو شرط أساسي لتفعيل الطاقات الكامنة وبناء مجتمع متكامل قادر على مواجهة التحديات المعاصرة.

nazikelhashmi@hotmail.com

 

آراء