بعض جوانب تجارة الرقيق العربية من السودان بين القرنين السابع والتاسع عشر (2 -3)

 


 

 

SOME ASPECTS OF THE ARAB SLAVE TRADE FROM THE SUDAN - 7th to 19th CENTURY

يوسف فضل حسن Yusuf Fadl Hassan

تقديم: هذه ترجمة للجزء الثاني مما ورد في مقال طويل للأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن (1931- )، نُشِرَ عام 1977م في العدد الثامن والخمسين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" في صفحات 85 – 106. والمقال – كما ذكر المؤلف في الحاشية – هو نسخة منقحة من ورقة ألقاها أمام "برنامج دراسات الشرق الأوسط" بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن في عام 1974م.
والأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن غنِيّ عن التَّعريف، ويمكن الاطلاع على سيرته الذاتية ومؤلفاته في هذا الرابط: https://tinyurl.com/53skxv9s
المترجم
********* ********** ************
كان المسترقون يُجْلَبُونَ في الغالب الأعم للقيام بأعمال الخدمة المنزلية، والمساعدة في إدارة الأعمال التجارية وغيرها، والعمل في مجال التمريض. وكان بعض المشترين يتخذون من بعض المسترقات "محظيات"، ويشترون الخصيان أيضاً، إضافة لشراء المسترقين لتشغيلهم عمالاً وبحارة وجنوداً. غير أن غالب المسترقين كانوا يُشْتَرَوْنَ للقيام بالأعمال المنزلية (ما عدا من يلحقون بالجيش). ولما لم تكن الخدمة المنزلية تتطلب شروطاً خاصة، فقد كان يعمل بها طيف واسع من الأفارقة السود. غير أن المليحات من الفتيات المسترقات كن يُتَّخَذْنَ سراري.
وكان تجار الرقيق يتخيرون الفتيات المسترقات اللواتي يبدين رغبة في التعلم، واللواتي يظهرن بعض المواهب الفنية وذلك لتعليمهن أو تدريبهن على الموسيقى. وكانت أمثال أولئك المسترقات (اللواتي كنّ يَحْظَيْنَ بتقدير عظيم)، يقمن بتزيين منازل كبراء القوم ومجالسهم، ويقدمن لـ "أسيادهن" الأثرياء ما يسرهم من تسلية وترفيه. وكان العديد من المسترقين الذكور يعملون في مناصب تتطلب الثقة، كمساعدين في الأعمال المختلفة، أو كوكلاء يديرون أنشطة تجارية نيابة عن "ملاكهم" الأغنياء. وورد ذكر مثل تلك الأدوار بشكل واضح في المصادر العربية، كما تؤكدها أيضاً السجلات والكتب والوثائق اليهودية (Jewish Geniza).
وكان هناك من المسترقين من يشتغلون عمالاً زراعيين في مزارع "مالكيهم"، أو حرفيين في المناطق الحضرية، أو في أشغال البناء. وكان منهم أيضاً المخصيين (الطواش) الذين كانت لهم قيمة (مادية) كبيرة، ويعمل هؤلاء كخدم للمنازل، ويقومون أيضاً بحراسة نساء العائلة أو "الحريم" في قصور الخلفاء والأمراء؛ وكان تلك ممارسات أقيمت على النمط البيزنطي. وعلى الرغم من أن مهمة الخصيان الأولى هي حراسة "الحريم"، إلا أن بعض الخصيان قد كان عُهد إليهم بتولي مناصب سياسية. وربما كانت الثقة في هؤلاء تعود إلى صفاتهم الشخصية، ولانعدام الرغبة (والقدرة. المترجم) عندهم في إقامة سلالة منافسة. ومن خير الأمثلة على هؤلاء هو أبو المسك كافور، وهو خصي حبشي أو نوبي أظهر أمانة وتميزاً واضحا في مجال إدارة الدولة الإخشيدية لنحو تسعة عشر عاما انتهت في عام 946م (1). وهناك صنف آخر من المخصيين يسمون "الأغوات، وهؤلاء يعملون في خدمة الحرمين الشريفين بمكة والمدينة، وحراسة أبوبهما. وكان يقوم بعمليات الإخصاء الرهبان المسيحيون في خارج حدود "دار الإسلام"، إذ أنها محرمة في الإسلام.
وعلى الرغم من أن أغلب المسترقين كانوا يعملون في أعمال منزلية أو شبه منزلية، فهناك أدلة تشير إلى أن بعضهم كانوا يعملون في أنشطة إنتاجية. فقد كان "الزنج" يعملون بأعداد كبيرة في القرن التاسع عشر في استصلاح التربة واستخراج الملح في الفرات الأدنى؛ وكان آخرون يعملون في استخراج الذهب والزمرد من أراضي المناجم في الصحراء الشرقية للسودان، شرقي النيل. ونتيجة لدخول العرب لشرق أفريقيا في القرن التاسع عشر، أصبحت مزارع القرنفل في زنجبار تعتمد على ما يقوم به المسترقون، وهو تطور مماثل لاستغلال المسترقين للعمل بمزارع القطن في العالم الجديد. وهناك دلائل على أن المسترقين كانوا يُسْتَغَلُّونَ بصورة واسعة في شرق السودان على طول وادي النيل. وهناك وثائق عن "الحواكير" ومن فيها من مسترقين (2).
لم يكن استخدام المسترقين السود جنوداً بدعاً من الأمم الإسلامية، فقد كان ذلك الفعل قد بدأ بأحباش مكة قبيل ظهور الإسلام. وعلى الرغم من أن خلفاء الدول الدولة العباسية الأوائل كانوا قد عينوا بعض المسترقين السود جنوداً في جيوشهم، إلا أن التوسع الأكبر حدث عندما بدأ الخلفاء اللاحقين في فقدان الثقة في أفراد شعوبهم، وقرروا أن يعتمدوا على العناصر الأجنبية الذين لم تكن لديهم أي ولاءات سوى لـ "سادتهم". وكان المسترقون العسكريون يعملون حراساً شخصيين، جُنِّدُوا في الغالب من تركيا، ثم جُنِّدَ من بعد ذلك نوبيون وسود آخرين بغرض تغطية طيف أوسع من النشاطات العسكرية. ولهذا السبب العسكري قام الحكام المسلمون (خاصة في مصر وشمال أفريقيا) باللجوء الى إفريقيا، حيث مصدر المسترقين التقليدي الذي لا ينضب، وذلك لبعدهم الجغرافي عن مصادر المسترقين الأتراك وغيرهم من المسترقين البيض غالي الثمن. لقد كان المسترقون السود يشكلون العمود الفقري لجيش إمارتي الطولونيين (868- 905) والإخشيديين (935- 969) في مصر. وكان حاكم الإمارة الأولى (أحمد بن طولون) يمتلك 24,000 من المسترقين الأتراك، و40,000 من المسترقين السودانيين. وكان الإخشيديون، الذين كان أحد كبار مسؤوليهم رجل خصي واسع الحيلة (اسمه كافور)، فقد عززوا صفوف جيشهم بقوات كبيرة من المسترقين السود.
وتزايد الطلب بشدة على خدمات المسترقين السود في عهد الفاطميين (969 – 1171م) حين شكلوا قسماً كبيراً في الجيش الفاطمي، أصبح له مصلحة في وجود وبقاء الدولة نفسها. وفي ذات الوقت غدا الخصيان السود يتمتعون بسلطات واسعة في إدارة شؤون الدولة. ومع صعود الأيوبيين لسدة الحكم (1171 – 1254م) والاستغناء عن قوات الجنود السود (وتلك سياسة طبقها أيضا المماليك بين عامي 1254 – 1517م)، استعاد المسترقون البيض نفوذهم القديم في الجيش المصري. ولم تُسْتَخْدَمْ قوات الجنود السود مرة أخرى إلا عند نهاية القرن الخامس عشر في الوحدات الأقل شأناً التي كانت تستعمل الأسلحة النارية.
غير أن الطلب على الجنود السود تواصل في جهات أخرى، مثل دولة سنار المسلمة المستعربة (1504 – 1821م)، وسلطنات الفور (1660 – 1874م)، حيث كان أولئك الجنود السود يمثلون الأغلبية العظمي في جيوشها. وفي القرن التاسع عشر شرع والي مصر، محمد علي باشا (1805 – 1849م) في تجنيد السود في جيشه، حيث كان يخطط لتكوين جيش حديث وفعال يمكنه من تعضيد موقفه في مصر وخارجها. واتبع محمد علي باشا نفس ما فعله من سبقوه في جلب المسترقين السود وتجنيدهم في جيشه الجديد، وتسييره في حملة لغزو السودان وضمه لدولته. وظل يجلب سنوياً آلاف المسترقين الذين اشتراهم أو اِصْطَادَهم في سنار وكردفان وفي الجنوب أيضاً. وعلى الرغم من أنه هجر لاحقاً خطته الأصلية التي كانت تهدف لتكوين جيش من المسترقين السود، إلا أن هؤلاء ظلوا يمثلون جزءًا مهماً من الجيش المصري في غضون سنوات القرن التاسع عشر، وشارك عدد منهم في الحملة الفرنسية التي أُرْسِلَتْ للقتال في المكسيك عام 1863م (3).
تجارة الرقيق العربية مع النوبة وشرق السودان
كانت حركة المسترقين عبر النيل إلى مصر ظاهرة قديمة استمرت مِنْ قِبَل العرب عندما أبرموا معاهدة البقط عام 651م. ومن خلال تسليم حوالي 400 مسترق نوبي سنوياً، أصبح العالم العربي على دراية جيدة بالنوبيين، وبدأ يفضلهم للعمل في الخدمة المنزلية. وينعكس هذا الموقف في ما نُسِبَ إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من أحاديث عن النوبة منها: "خير سبيكم / أسراكم النوبة"، و "من لم يكن له أخ، فليتخذ له أخاً من النوبة" (4). ومع ذلك، كانت صفاتهم القتالية كرماة ممتازين هي التي حازت الإعجاب، وزكتهم للعمل كقوات مسترقة في الجيش.
ومع زيادة الطلب على المسترقين، توغل التجار العرب في المناطق الداخلية لمملكة النوبة المسيحية وعلوة للحصول على الرقيق. غير أنه بسبب وضع النوبة في القانون الدولي الإسلامي، فقد كان الحصول على مسترقين من ذلك القطر أمراً عسيرا. فقد اعتبر المحامون المسلمون أن سرقة المسلمين للنوبيين، أو القبض عليهم من الأمور غير القانونية. غير أنهم وجدوا للمسلمين ذريعة ملائمة لاسترقاق الذين كان ملوكهم قد استرقوهم أصلاً، أو أنهم كانوا من الذين اختطفتهم أي جماعة من الجماعات.
ولم يكن بمناطق النوبيين ما يكفي لسد حاجة العالم الإسلامي من المسترقين النوبيين، وذلك بسبب جفافها وطبيعتها القاسية وقلة عدد سكانها. وهذا ما جعل ملوك النوبة يحصلون على ما فُرِضَ عليهم من جزية (بحسب اتفاقية البقط) من الذين كانوا يقطنون في المناطق الجنوبية المجاورة لهم. وبالنظر إلى أن كلمتي "نوبة" و"سودان" كانت تستعملان كمترادفتين للنوبيين والسود في "بلاد السودان"، فربما كان أعداد المسترقين الذين جُلِبُوا من أرض النوبة محدودة جداً؛ وكان معظمهم قد أُتِيَ به من مناطق أبعد جنوب مناطق النوبة (أي من مناطق أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في جنوب - غرب أرض النوبة).
ومع أن المصادر العربية لم تأت على ذكر مناطق محددة كان المسترقون يُجْلَبُونَ منها، إلا أن بإمكان المرء أن يلتقط بعض الإشارات والدلالات في هذا الجانب. فقد وصف الجغرافي الإسلامي ابراهيم بن محمد الفارسي الاصطخري (المعروف بالكرخي والمتوفي عام 951 – 952م) في كتابه الموسوم "مسالك الممالك" السود الذين كانوا يُبَاعُونَ في العالم الإسلامي في القرن العاشر بأنهم لم يكونوا من النوبيين أو البجا أو الأحباش أو الزنج، بل كانوا أناساً أشد سواداً أُتِيَ بهم من مناطق أبعد من بلاد النوبة، ويسكنون في مناطق شاسعة تمتد إلى "المحيط العظيم Great Ocean". وأكد الفارسي نصري خاسرو Nasiri Khusrawأنه رأى في مصر الفاطمية أعداداً كبيرة من المسترقين الذين جُلِبُوا من منطقة تقع جنوب بلاد النوبيين. ويبدو أن بداية تلك المنطقة تقع بالتقريب في كردفان ودارفور وبحر الغزال، التي تمثل أطراف (أو مداخل) المناطق الداخلية التي كان يُتَحَصَّلُ منها على المسترقين. وفي البداية كان العرب يتحصلون على المسترقين من مناطق النوبيين. غير أنه مع زيادة الطلب على المسترقين، شرع التجار العرب في الزحف ببطء نحو المناطق الجنوبية والغربية حتى بلغوا مناطق برنو – وداي والأراضي المجاورة لها في منتصف "بلاد السودان". وظلت تلك المناطق هي المصدر الرئيس للمسترقين السود في سنوات القرون الوسطى وحتى نهايات القرن التاسع عشر. ومن تلك المناطق كانت تنطلق حملات جمع المسترقين في طريقها إلى الشمال عبر مناطق النوبة، وعبر ما عُرِفَ بـ "طريق الأربعين" إلى أسواق الرقيق العربية. وعند النظر في بعض المصادر العربية إبان العصور الوسطى، على سبيل المثال، نجد أن أعداد المسترقين "السودان" الذين جُلِبُوا لتك الأسواق كان كبيراً جداً. فبالإضافة للأعداد الكبيرة من المسترقين الذين سُخِرُوا لأداء الأعمال المنزلية، كان هناك نحو 40,000 من السود الذين جُنِّدُوا للعمل في جيش الدولة الطولانية؛ وحارب ما لا يقل عن 50,000 من الجنود السود مع الدولة الفاطمية ضد جيش صلاح الدين الأيوبي.
وليس لدينا الكثير من المعلومات عن أثمان المسترقين في تلك الحقبة، وقد لا تعكس، على كل حال، مثل تلك الأثمان القيم الحقيقية للمسترقين. وكان ذكر أسعارهم في العادة هو الاستثناء، وليس هنالك أي دراسة مقارنة لأسعار المسترقين بأثمان "البضائع" الأخرى. ولكن ربما كان من المفيد ذكر بعض الأمثلة. فقد كان ثمن المسترق في منتصف القرن الثامن عشر يبلغ في المتوسط نحو مئتي درهم. وبعد مرور قرن من الزمان على ذلك، وبعد حملة العمري (5) على النوبة، كان أسرى العمري يباعون بأثمان زهيدة في أسوان. ولم يأت أحد على ذكر أثمان محددة لأولئك المسترقين، ولكن يكفي القول بأن المحارب في قوات العمري كان يدفع للحلاق بأحد من استرقهم مقابل حلق شعر رأسه (6). وكان الخَصِيّ المشهور كافور قد اُشْتُرِيَ بثمانية عشر دينار في عام 924م، وكان ذلك مبلغاً زهيداً بمعايير تلك السنوات. وكان المسترق الزنجي (الجيد) من شرق أفريقيا يُبَاعُ في عمان بمبلغ عشرين إلى ثلاثين دينار (بحسب ما ورد في كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني). وكان ذلك هو ذات الثمن الذي يُدفع عادةً لشراء مسترق في الدولة البيزنطية. غير أن هناك من ولاة العصر العباسي من دفع مبلغاً 400,000 دينار لشراء مسترق / مسترقة نوبية. وكان ذلك يُعد ثمناً باهظاً جدا. وذُكِرَ في بعض المصادر اليهودية أن مسترقة اُشْتُرِيَتْ في مصر لأداء الأعمال المنزلية في عام 1084م بمبلغ خمسة عشر دينار، بينما بِيعَتْ أخرى بعشرين ديناراً في عام 1108م، واُشْتُرِيَتْ مسترقة مع ابنتها الصغيرة بمبلغ ثمانية وعشرين دينار في الفسطاط عام 1094م.
إن المعلومات المتوفرة عن التنظيم العام لتجارة الرقيق في العصور الوسطى ناقصة بشكل كبير. ومع ذلك، غدت الصورة أكثر وضوحاً بعد أن شرع الرحالة الأوروبيون في السفر بشكل متكرر عبر مملكة الفونج في شرق السودان في القرن الثامن عشر (ذكر الكاتب هنا أن هنالك بعض المعلومات في المصادر التركية عن تجارة الرقيق بين دارفور وسواكن. المترجم). ومع ذلك، يبدو أنه على الرغم من الانخفاض الواضح في الطلب على المسترقين السود بعد قيام الأسرة الأيوبية، إلا أن تدفق المسترقين والمسترقات للأغراض المنزلية من سنار وكردفان ودار فور إلى مصر وموانئ البحر الأحمر ظل كبيراً كما كان من قبل. وأعطى صعود الدول الإسلامية في سنار ودار فور للمنطقتين قدراً من الوحدة والاستقرار الذي سهّل المعاملات التجارية، ويبدو أنه ساهم في ظهور مجموعة من التجار المحليين عُرِفُوا بـ "الجلابة". وبحلول القرن السابع عشر كان جلابة المناطق النيلية يسيطرون سيطرة كاملة على التجارة بين سنار ودارفور، وكانوا هم من يصدرون المسترقين إلى السواق المصرية، وإلى الحداربة في سواكن (7).
ويشير مصطلح "الجلابة" (وهم مجموعة من صغار التجار) إلى مهنتهم بأكثر مما يشير لأصلهم العرقي. وقد كانت الكلمة شائعة الاستخدام عند المصريين، ربما منذ عهد المماليك، عند الإشارة لتجار الرقيق. وكان أول وصف لأولئك "الجلابة" قد أتى من الرحالة التركي ايفيليا سيبلي Evila Çelebi (المولود بإسطنبول، وعاش بين عامي1611 – 1684م، وطاف بغالب مناطق الخلافة العثمانية لأربعين عاماً، وألف كتاباً عن يوميات رحلاته. المترجم). ووصف سيبلي "الجلابة" بأنهم سمر البشرة، وأصلهم من مناطق ابريم وأسوان والواحات. والملاحظ أن طرق سير القوافل تشق تلك المناطق، وأن ابريم وأسوان تقعان على حدود مصر الجنوبية. ويبدو أن نفس تلك العناصر ذات البشرة السمراء استمروا في الهيمنة على "حرفة" أو "طائفة" تجارة الرقيق حتى عام 1890م. وكان أولئك الجلابة من صعيد مصر، ومن مغاربة مديرية البحيرة، ومن بعض السودانيين المقيمين بالقاهرة. وبحسب ما جاء في كتاب الرحالة البريطاني وليم جورج براون المعنون "رحلات في أفريقيا ومصر وسوريا" الصادر عام 1806م، فقد كان الدناقلة والمحس (النوبة) والسناريين (أو الجعليين) فيما يبدو هم أول من فتح اتصالاً مباشراً بين مصر ودارفور. وكان غالب الرحالة الأوربيين قد لاحظوا سيادة الدناقلة والنوبيين المستعربين (خاصة الجعليين) على التجارة في معظم المدن التجارية في شرق السودان.
وربما كان صعود جلابة السودان النيلي، خاصة الجلابة في دنقلا سببه هو الموقع المحلي الذي احتلته دنقلا على طرق التجارة التي كانت تعبر صحراء بيوضة من سنار وشندي وكردفان إلى مصر. وباعتبارهم وسطاء في التجارة بين سنار ومصر، اكتسب الدناقلة والجعليون في شندي خبرة تجارية وجمعوا رأس مال كافٍ للمغامرة في أراضٍ جديدة. والواقع أن اضطراب التجارة الناجم عن صعود الشايقية (والعرب الرحل) في القرن الثامن عشر كان قد أجبر الدناقلة على الهجرة إلى كردفان ودارفور. ويبدو أن تلك الهجرة أدت إلى تطوير التجارة النشطة بين دارفور ومصر من خلال "طريق الأربعين".
وعند بدايات القرن التاسع عشر شرع الجلابة السودانيون في الدخول لمناطق جنوب كردفان ودارفور، وتوجهوا نحو بحر الغزال والنيل الأبيض. وكانت هنالك قافلة تجارية تسافر من سنار (عاصمة دولة الفونج) بانتظام في كل عام مرتين إلى الشمال عبر قري (عاصمة زعماء العبدلاب)، إما مباشرةً عبر صحراء بيوضة، أو من نقطة أخرى على النيل (في الغالب شندي) إلى دنقلا وسليمة وأسيوط في صعيد مصر. ولكن نسبة للحالة الفوضوية التي سادت في المنطقة منذ عام 1770م، هجر التجار ذلك الطريق التجاري المعتاد. وصارت القوافل بعد ذلك تسافر من سنار عبر شندي إلى بربر عبر صحراء النوبة، في حماية العرب العبابدة إلى ابريم ودراوة وإسنا في صعيد مصر. وكان هناك أيضاً طريق فرعي لطريق سنار يسير شرقاً، إما مباشرةً من سنار، أو عبر شندي إلى قوز رجب (على نهر أتبرا) وكسلا حتى يبلغ سواكن. وسجل الأب ثيودور كرمب الأحوال في سنار في حوالي عام 1702م بالقول: "في كل مناطق أفريقيا، حتى الأراضي المغربية (Moorish land) القاصية، فقد كانت سنار هي أعظم المدن التجارية في القارة؛ إذ أن القوافل كانت تصل إليها باستمرار من أرض النوبة، وعبر البحر الأحمر من الهند، ومن إثيوبيا ودارفور وبرنو، ومن القاهرة ودنقلا وفزان والممالك الأخرى ... وبالإضافة لذلك، كانت المسترقات والمسترقون من مختلف الأعمار يُعرضون للبيع يومياً في سوق سنار الكبير مثلهم مثل الماشية".
وكانت المسترقات والمسترقون في ذلك السوق قد جُلِبُوا من أرض النوبة أو الحبشة. والصنف الأول كانوا هم من أُتِيَ به في الغالب بعد غارات شنت ضد القبائل الوثنية في جبال النوبة بكردفان، وعلى قبائل أخرى تقيم في مناطق الحدود الإثيوبية. وحُصِلَ على بعض هؤلاء المسترقين والمسترقات من النوبة (غير المحاربين) الذين استقروا في المناطق المجاورة سنار. أما الصنف الثاني من المسترقات والمسترقين الإثيوبيين، فقد كانوا في الغالب من الأمهرة أو الأرومو / Gala. وكانت المسترقات يقعن في الأسر من منطقة الحدود، أو يبيعهن تجار الرقيق الأحباش الذين يُطلق عليهم اسم الجبرتة (وهم من المسلمين) الذين كانوايعملون في شراء الرقيق السود من سنار ويبيعونهم مع الرقيق الأحباش في مصوع وجدة. وربما كان المسترقون السود من جبال النوبة أكثر عدداً من المسترقين الأحباش.
وعلى الرغم من أننا لا نملك معلومات مفصلة عن الطريقة التي كان يُتحصل بها على المسترقين والمسترقات في تلك المناطق، إلا أنه يبدو أن ملوك الفونج، على عكس سلاطين الفور، لم يشاركوا بشكل خاص في الحصول عليهم، ولم يشاركوا في إدارة تجارة الرقيق. ومِنْ ثَمَّ كان لجلابة المناطق النهرية حرية التصرف في تجارة الرقيق، باستثناء منافستهم للحدربة (البجا العرب من سواكن)، وللجبرتة بدرجة أقل.
وبشكل كبير تأثر الصعود التجاري لسنار، الذي تأكد عبر سيطرتها على أراضٍ داخلية أوسع، بالتنافس بين الفونج والفور على كردفان، وبغارات الشلك، مما جعل طريق القوافل من سنار إلى الأبيض وكوبي طريقاً غير آمن. وبالتالي، اتجهت التجارة شمالاً إلى شندي. وفي عام 1773م غدت شندي مركزاً تجارياً كبيراً. ولكن بحلول بداية القرن التاسع عشر، اكتسبت شندي أهمية تجارية كبيرة لدرجة أن بوركهارت وصفها بأنها خلفت سنار بحسبانها ملتقى طرق القوافل النوبية، والسوق الأكثر أهمية للتجارة "الإثيوبية"، والتي كانت تتكون بشكل رئيسي من المسترقين والإبل التي تم جمعها من دارفور والحبشة. وفي وقت زيارة بوركهارت لشندي، كان يسكنها الجعليون "الذين يبدو أنهم أمة من التجار من دنقلا وسنار وكردفان ودار فور وسواكن ومصر والجزيرة العربية (خاصة ينبع)، التي كان لها معها اتصالات تجارية مباشرة". ولاحظ بوركهارت أنه يبدو أن حدود تلك التجارة في اتجاه الغرب كانت هي في "دار سلاي"، أو ربما باقرمي. وكتب في عام 1820م: "يتضح أنه بسبب وجود كل أولئك التجار، فقد صارت شندي هي أول مدينة تجارية في الدول السوداء لتجارة الرقيق المصرية والعربية". لذا، لم يكن عجباً أن خصص بوركهارت أكثر من عشرين صفحة من رسالته لوصف طبيعة تلك التجارة.
*********** ********** ***********
إحالات مرجعية
1/ للمزيد عن سيرة كافور (905 – 968م) يمكن النظر في كتاب "أبو المسك كافور" لإبراهيم الإبياري، الذي صدر بالقاهرة عام 1962م، وهو مبذول في الشبكة العالمية.
2/ أشار الكاتب لورقة باللغة الإنجليزية للمؤرخ أوفاهي صدرت في "مجلة التاريخ الإفريقي" عام 1973م بعنوان: "الرق وتجارة الرقيق في دارفور". وتجد في هذا الرابط ترجمةً عربية لها https://shorturl.at/va8GV
3/ انظر بعض المقالات المترجمة عن مشاركة الجنود السودانيين في تلك الحملة في الروابط التالية: https://shorturl.at/b0uwp و https://shorturl.at/qAw9n و https://shorturl.at/Ibver
4/ هذان "الحديثان" ذكرا في كتاب "آثار البلاد وأخبار العباد" للقزويني، و"مختصر كتاب البلدان" لابن الفقيه كما نقلهما نعوم شقير في كتاب "تاريخ السودان". وليس لهما أصل بحسب ما ورد في كثير من المصادر المعتمدة.
5/ للمزيد عن "العمري" يمكن النظر في بعض المعلومات عنه في هذا الرابط: https://shorturl.at/yPsEN
6/ استشهد الكاتب هنا بما أورده المقريزي في "المقفى الكبير"، ونقله مصطفى محمد سعد في "المكتبة السودانية العربية: مجموعة النصوص والوثائق العربية الخاصة بتاريخ السودان في العصور الوسطي".
7/ الحداربة بطن من العرب بسواكن من بلاد البجا في السودان وأريتريا ومصر، بحسب ما ورد في موسوعة الويكيبديا (https://tinyurl.com/5dbb3khx).

alibadreldin@hotmail.com
////////////////////////////

 

آراء