التجارة البينية غير المباشرة وقطاع الطيران المدني
د. نازك حامد الهاشمي
26 October, 2024
26 October, 2024
د. نازك حامد الهاشمي
يشير مفهوم التجارة البينية إلى الصادرات والواردات المنظورة وغير المنظورة بين الدول الأعضاء في تكتل اقتصادي ما، بينما تشير التجارة البينية غير المباشرة إلى تبادل السلع والخدمات بين الدول داخل نفس المنطقة، ولكن من خلال دولة أو دول وسيطة. فعوضاً عن التجارة المباشرة بين الدول مع بعضها البعض، تقوم دول المنطقة بتوجيه تجارتها عبر دولة أو أكثر من دول الطرف الثالث وغالبا من خارج المنطقة. ويمكن أن يحدث هذا لأسباب مختلفة منها ما يتعلق مثلا بالقيود التجارية أو المزايا اللوجستية أو الفوائد الاقتصادية التي توفرها الدولة الوسيطة. ويمكن للتجارة البينية غير المباشرة أن تحدث العديد من التأثيرات الايجابية أو السلبية على التنمية في بعض البلدان. ويعد التنويع الاقتصادي أحد أهم الانعكاسات الإيجابية، وذلك عبر دمج وتطوير الصناعات والخدمات الجديدة لدعم التجارة، مثل الخدمات اللوجستية والتمويل والتخزين وغيرها. كذلك تستفيد الدول الوسيطة من تسهيل التجارة بين الدول الأخرى بزيادة حجم التجارة الخاصة بها، مما قد يؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي فيها. بينما قد تتمثل التأثيرات السالبة في أن تؤدي التجارة غير المباشرة بين بلدان المنطقة إلى زيادة التكاليف، وتزيد من الاعتماد على الأسواق الخارجية، وتقلل من التكامل الاقتصادي العادل. كما أنها قد تحد من نقل التكنولوجيا، والتخصيص الفعال للموارد داخل الدول. وهذه العوامل وغيرها تعيق التنمية الإقليمية وتؤدي إلى تفاقم الاختلالات التجارية فيها.
وتكمن أهمية التجارة غير المباشرة في أنها تدعم العلاقات الاقتصادية داخل المنطقة، مما يؤدي إلى ما يسمى بالتكامل والتعاون الإقليمي. وتجعل هذه العملية السياسات الاقتصادية أكثر تنسيقا، وتسهل تطوير اتفاقيات التجارة الإقليمية. ويمكن لهذه الاتفاقيات بعد ذلك أن تكون بمثابة الأساس للوصول إلى الأسواق العالمية، وتعزيز النمو الاقتصادي الشامل واستقرار البلدان المشاركة. ومن خلال تعزيز العلاقات الاقتصادية الوثيقة وخفض الحواجز التجارية، يمكن أن يساعد التكامل الإقليمي على إنشاء سوق إقليمية أكثر تماسكا وتنافسية، بمقدورها جذب الاستثمار الأجنبي وتعزيز التنمية المستدامة. وهذا كفيل بإزالة العوائق أمام التجارة المباشرة مثل التعريفات الجمركية أو اللوائح أو القضايا السياسية الأخرى للوصول إلى الأسواق الإقليمية بشكل غير مباشر، مما قد يساعدها على تنمية اقتصاداتها. وتناول تقرير مراقبة التجارة الصادر عن البنك الدُّوَليّ الصادر في 3 يوليو 2024م أهمية تحقيق معدلات نمو قوية في تجارة الخدمات للتعويض عن تراجع حركة تجارة السلع التي عانت من التذبذب على مدى السنوات السابقة، حيث أشار التقرير إلى أن حركة التجارة الدولية قد زادت بصورة كبيرة تزامنا مع تعافي العالم من الأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كورونا. وفي عام 2022م، ارتفعت قيمة السلع والخدمات المتداولة بنسبة 24% عما كانت عليه في عام2019 م، قبل تفشي الجائحة، ثم عادت حركة التجارة إلى التوقف في عام 2023م لأسباب مختلفة منها أوضاع العالم الجيوسياسية، حيث أن الاهتمام بحجم التجارة الخارجية ً لا يقتصر على قياس قوة الاقتصادات واستدامتها فحسب، لكن يشير أيضا إلى الوزن النسبي للدولة في خريطة العالم السياسية، الذي به يتحول صراع القوة العالمي من مفهوم السعي نحو الهيمنة العسكرية والسياسية إلى الدفع نحو الهيمنة الاقتصادية والتجارية. ومن جانب آخر يشكل الاعتماد على التجارة العالمية عائقا كبيرا للتجارة البينية غير المباشرة. إن البلدان التي تعتمد بشكل كبير على وسيط محدد تخاطر بالتحول إلى اعتماد على تلك الدولة، الأمر الذي يمكن أن يكون محفوفًا بالمخاطر إذا واجه الوسيط حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي أو السياسي. وبالإضافة إلى ذلك، عندما تمر البضائع عبر ولايات قضائية متعددة، فإنها تواجه تحديات تنظيمية مختلفة، مما يزيد من المخاطر القانونية.
وفي تقرير مشترك أصدره البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية مؤخراً بعنوان "التجارة في الخدمات من أجل التنمية"، تم التأكيد على أهمية معالجة العقبات التي تعترض التجارة في الخدمات. وتؤدي هذه العقبات إلى تضخم التكاليف، مما يعيق الفوائد المحتملة لهذه التجارة. وكان التقرير هو النقطة المحورية في مؤتمر افتراضي ضم رؤساء منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي، وكذلك وزراء التجارة في جامايكا ورواندا والمملكة المتحدة في 19 سبتمبر 2023م. كما سلط المؤتمر الضوء على الحاجة الماسة لتوسيع التجارة في الخدمات لتعزيز النمو الاقتصادي والتنمية.
ويُعد قطاع الطيران المدني نموذجاً مثالياً للتجارة في الخدمات غير المباشرة بين البلدان. ويؤدي الارتفاع الكبير في حركة الشحن الجوي والنمو المصاحب في أحجام الشحن إلى تعزيز حجم التبادل التجاري بشكل كبير. ويتجلى هذا التأثير بشكل خاص بالنسبة للسلع ذات القيمة العالية والحساسة للوقت، والتي تتطلب النقل السريع. ونتيجة لذلك، يتم تحفيز شركات الطيران والخدمات اللوجستية لتوسيع خدمات الشحن الخاصة بها، وبالتالي تسهيل زيادة كفاءة التجارة والاتصال. ويعد الاستثمار في مرافق قطاع الطيران المدني علامة بارزة لكل من الأنشطة الخدمية والتجارية. ويمكن لمثل هذه الاستثمارات أن تحفز التحسينات في البنية التحتية للمطارات، بما في ذلك مرافق مناولة البضائع والمدارج ومناطق التخزين، مع تعزيز قدرة قطاعات الخدمات أيضاً. ومن الممكن أن يؤدي تحسين الخدمات الأساسية مثل إمدادات الكهرباء والمياه، إلى جانب تعزيز الاتصالات، لزيادة عدد المطارات والرحلات الجوية المباشرة أو المتصلة، وبالتالي تلبية الطلب المتزايد وتعزيز الاتصال الإقليمي.
ويمكن أن يتيح الاستثمار في البنية التحتية للطيران المدني الشراكات بين القطاعين العام والخاص، ويمكن للحكومات والمستثمرين من القطاع الخاص التعاون في تمويل مشروعات المطارات وتجويدها، مما يؤدي إلى زيادة التجارة المالية وفرص الاستثمار. والجدير بالذكر هنا أن بعض الدول قد لجات لنظام تصكيك الأسهم (وهو آلية لتقسيم قيمة الموجودات أو محل التعاقد إلى أجزاء متساوية، وإصدار صكوك ممثلة لهذه الأجزاء وموثقة لها، قابلة للتسييل بالتداول في الأسواق المالية؛ وتنجم عن عملية التصكيك هذه ولادة أدوات مالية جديدة). ويحسب هذا المفهوم ينحصر التصكيك في طرح الأسهم للاكتتاب العام لفترة تعاقدية محددة، ويحصل صاحب السهم على عائد الاستثمار بموجب ذلك، وبنهاية العقد تعود ملكيته للدولة. وتهدف الدول بهذه السياسة لجذب الأموال للاستثمار في مرافق قطاع الطيران لتمويل مشروعات البنية التحتية للمطارات.
أن نمو وتطور قطاع الطيران المدني يمثل حافزاً لزيادة أنواع التجارة المالية المختلفة. ويشمل ذلك ارتفاع الطلب على تمويل التجارة، حيث تطلب الشركات المزيد من الخدمات مثل خطابات الاعتماد وخطابات الضمان وغيرها لتسهيل المعاملات. وبالتالي، فإن ذلك يدفع القطاع المصرفي والمؤسسات المالية الأخرى إلى تعزيز وتفعيل هذه الخدمات. كما يمكن للمصارف أن تعمل على تطوير منتجات مالية متخصصة لدعم قطاع الطيران، مثل تقديم القروض لشراء الطائرات أو تمويل مشاريع المطارات، وبالتالي زيادة الطلب على الخدمات الائتمانية. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت خدمات صرف العملات الأجنبية الناشئة عن قطاع الطيران المدني تشكل مصدراً لموارد كبيرة تعزز من احتياطيات العملات الأجنبية في المصارف. علاوة على ذلك، فإن الابتكار في الخدمات المالية الرقمية، مثل منصات الدفع عبر الإنترنت، يسهل المعاملات محليا وعالميا.
ويؤثر كذلك الاستثمار في تطوير قطاع الطيران المدني بشكل إيجابي على مختلف القطاعات الأخرى، من بينها التأمين، إذ تعمل منتجات التأمين على تقليل المخاطر المرتبطة بنقل البضائع جواً، وبالتالي زيادة الطلب على منتجات التأمين وإعادة التأمين، بما في ذلك التأمين على البضائع والأصول الأخرى. ويؤدي هذا الحراك الاقتصادي إلى قيام قطاع الطيران المدني بتوفير مجموعة متنوعة من فرص العمل في مختلف المجالات. وتشمل هذه الأدوار المتخصصة داخل القطاع نفسه، بالإضافة إلى المهن المتعلقة بالخدمات اللوجستية والصيانة وخدمة العملاء والخدمات القانونية والاستشارية والأطر التنظيمية مثل الوساطة الجمركية المؤهلة.
ومعلوم أن قطاع الخدمات يمثل أكثر من ثلثي الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهو ضعف حصتي الزراعة والصناعة معاً. ويساهم قطاع الخدمات في حل مشاكل البطالة من خلال توظيف عدد أكبر من العاملين وتوليد فرص عمل أكثر من أي قطاع آخر، وبالتالي التخفيف من حدة الفقر. وهناك أمثلة بارزة على دور الاستثمار في قطاع الطيران المدني في دعم تنمية ونمو الدول. ففي تركيا مثلاً جعل التوسع الكبير مطار إسطنبول منه مركزاً للعبور عبر مختلف القارات. وعلى نحو مماثل، عزز مطار شانغي في سنغافورة مكانة سنغافورة الاستراتيجية ودورها كمركز تجاري إقليمي. ويعزى هذا النجاح إلى عوامل عديدة مثل تطوير ودعم قطاع الخدمات، خاصةً الخدمات اللوجستية والتمويل وتكنولوجيا المعلومات، وشبكات الاتصالات المتقدمة، والخدمات المالية القوية. وبالتالي، فإن عدم كفاية الاستثمار في قطاع خدمات الطيران المدني يمكن أن يفضي للعديد من الآثار الضارة مثل القيود على القدرات، حيث أن ارتفاع أحجام البضائع والركاب يضغط على المرافق القائمة. وهذا الطلب المتزايد يضع ضغوطا كبيرة على البنية التحتية، مما يستلزم التحديث والصيانة المستمرة. وبدون الاستثمار الكافي، قد يواجه هذا القطاع صعوبة كبيرة في مواكبة التقدم التكنولوجي والطلبات المتطورة، مما يؤثر في النهاية على الكفاءة والسلامة وجودة الخدمة.
إن التجارة غير المباشرة هي محفز قوي للتقدم الاقتصادي والتماسك الإقليمي، مما يمهد الطريق لتحقيق نمو متوازن ومستدام. وقد برزت الطفرة في تجارة الخدمات كأداة حاسمة في معالجة بعض التحديات الضخمة التي تواجه التنمية اليوم. ومن خلال ربط البلدان المختلفة من خلال قطاع الطيران، يتم تعزيز التجارة غير المباشرة والتبادل الحيوي للقيمة، مما يخلق تأثيرًا مضاعفًا يحفز الرخاء الاقتصادي على الصعيدين المحلي والعالمي. ولا يؤدي هذا التفاعل إلى تعزيز النمو داخل قطاع الطيران فحسب، بل ينشط كذلك مجموعة واسعة من الصناعات ذات الصلة. وللاستفادة الكاملة من هذه الإمكانات، من الضروري ابتكار وتحسين الوظائف الأساسية لهذه القطاعات. ويعتبر تحديث البنية التحتية، وتحسين جودة الخدمات، وتعزيز الأطر الداعمة، من العوامل الأساسية للاستفادة الكاملة من فوائد التجارة في الخدمات. وتضمن مثل هذه التدابير الاستباقية بقاء القطاع الخدمي مرنًا تجاه الطلبات المتطورة دوماً ومستجيبًا لها.
nazikelhashmi@hotmail.com
يشير مفهوم التجارة البينية إلى الصادرات والواردات المنظورة وغير المنظورة بين الدول الأعضاء في تكتل اقتصادي ما، بينما تشير التجارة البينية غير المباشرة إلى تبادل السلع والخدمات بين الدول داخل نفس المنطقة، ولكن من خلال دولة أو دول وسيطة. فعوضاً عن التجارة المباشرة بين الدول مع بعضها البعض، تقوم دول المنطقة بتوجيه تجارتها عبر دولة أو أكثر من دول الطرف الثالث وغالبا من خارج المنطقة. ويمكن أن يحدث هذا لأسباب مختلفة منها ما يتعلق مثلا بالقيود التجارية أو المزايا اللوجستية أو الفوائد الاقتصادية التي توفرها الدولة الوسيطة. ويمكن للتجارة البينية غير المباشرة أن تحدث العديد من التأثيرات الايجابية أو السلبية على التنمية في بعض البلدان. ويعد التنويع الاقتصادي أحد أهم الانعكاسات الإيجابية، وذلك عبر دمج وتطوير الصناعات والخدمات الجديدة لدعم التجارة، مثل الخدمات اللوجستية والتمويل والتخزين وغيرها. كذلك تستفيد الدول الوسيطة من تسهيل التجارة بين الدول الأخرى بزيادة حجم التجارة الخاصة بها، مما قد يؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي فيها. بينما قد تتمثل التأثيرات السالبة في أن تؤدي التجارة غير المباشرة بين بلدان المنطقة إلى زيادة التكاليف، وتزيد من الاعتماد على الأسواق الخارجية، وتقلل من التكامل الاقتصادي العادل. كما أنها قد تحد من نقل التكنولوجيا، والتخصيص الفعال للموارد داخل الدول. وهذه العوامل وغيرها تعيق التنمية الإقليمية وتؤدي إلى تفاقم الاختلالات التجارية فيها.
وتكمن أهمية التجارة غير المباشرة في أنها تدعم العلاقات الاقتصادية داخل المنطقة، مما يؤدي إلى ما يسمى بالتكامل والتعاون الإقليمي. وتجعل هذه العملية السياسات الاقتصادية أكثر تنسيقا، وتسهل تطوير اتفاقيات التجارة الإقليمية. ويمكن لهذه الاتفاقيات بعد ذلك أن تكون بمثابة الأساس للوصول إلى الأسواق العالمية، وتعزيز النمو الاقتصادي الشامل واستقرار البلدان المشاركة. ومن خلال تعزيز العلاقات الاقتصادية الوثيقة وخفض الحواجز التجارية، يمكن أن يساعد التكامل الإقليمي على إنشاء سوق إقليمية أكثر تماسكا وتنافسية، بمقدورها جذب الاستثمار الأجنبي وتعزيز التنمية المستدامة. وهذا كفيل بإزالة العوائق أمام التجارة المباشرة مثل التعريفات الجمركية أو اللوائح أو القضايا السياسية الأخرى للوصول إلى الأسواق الإقليمية بشكل غير مباشر، مما قد يساعدها على تنمية اقتصاداتها. وتناول تقرير مراقبة التجارة الصادر عن البنك الدُّوَليّ الصادر في 3 يوليو 2024م أهمية تحقيق معدلات نمو قوية في تجارة الخدمات للتعويض عن تراجع حركة تجارة السلع التي عانت من التذبذب على مدى السنوات السابقة، حيث أشار التقرير إلى أن حركة التجارة الدولية قد زادت بصورة كبيرة تزامنا مع تعافي العالم من الأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كورونا. وفي عام 2022م، ارتفعت قيمة السلع والخدمات المتداولة بنسبة 24% عما كانت عليه في عام2019 م، قبل تفشي الجائحة، ثم عادت حركة التجارة إلى التوقف في عام 2023م لأسباب مختلفة منها أوضاع العالم الجيوسياسية، حيث أن الاهتمام بحجم التجارة الخارجية ً لا يقتصر على قياس قوة الاقتصادات واستدامتها فحسب، لكن يشير أيضا إلى الوزن النسبي للدولة في خريطة العالم السياسية، الذي به يتحول صراع القوة العالمي من مفهوم السعي نحو الهيمنة العسكرية والسياسية إلى الدفع نحو الهيمنة الاقتصادية والتجارية. ومن جانب آخر يشكل الاعتماد على التجارة العالمية عائقا كبيرا للتجارة البينية غير المباشرة. إن البلدان التي تعتمد بشكل كبير على وسيط محدد تخاطر بالتحول إلى اعتماد على تلك الدولة، الأمر الذي يمكن أن يكون محفوفًا بالمخاطر إذا واجه الوسيط حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي أو السياسي. وبالإضافة إلى ذلك، عندما تمر البضائع عبر ولايات قضائية متعددة، فإنها تواجه تحديات تنظيمية مختلفة، مما يزيد من المخاطر القانونية.
وفي تقرير مشترك أصدره البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية مؤخراً بعنوان "التجارة في الخدمات من أجل التنمية"، تم التأكيد على أهمية معالجة العقبات التي تعترض التجارة في الخدمات. وتؤدي هذه العقبات إلى تضخم التكاليف، مما يعيق الفوائد المحتملة لهذه التجارة. وكان التقرير هو النقطة المحورية في مؤتمر افتراضي ضم رؤساء منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي، وكذلك وزراء التجارة في جامايكا ورواندا والمملكة المتحدة في 19 سبتمبر 2023م. كما سلط المؤتمر الضوء على الحاجة الماسة لتوسيع التجارة في الخدمات لتعزيز النمو الاقتصادي والتنمية.
ويُعد قطاع الطيران المدني نموذجاً مثالياً للتجارة في الخدمات غير المباشرة بين البلدان. ويؤدي الارتفاع الكبير في حركة الشحن الجوي والنمو المصاحب في أحجام الشحن إلى تعزيز حجم التبادل التجاري بشكل كبير. ويتجلى هذا التأثير بشكل خاص بالنسبة للسلع ذات القيمة العالية والحساسة للوقت، والتي تتطلب النقل السريع. ونتيجة لذلك، يتم تحفيز شركات الطيران والخدمات اللوجستية لتوسيع خدمات الشحن الخاصة بها، وبالتالي تسهيل زيادة كفاءة التجارة والاتصال. ويعد الاستثمار في مرافق قطاع الطيران المدني علامة بارزة لكل من الأنشطة الخدمية والتجارية. ويمكن لمثل هذه الاستثمارات أن تحفز التحسينات في البنية التحتية للمطارات، بما في ذلك مرافق مناولة البضائع والمدارج ومناطق التخزين، مع تعزيز قدرة قطاعات الخدمات أيضاً. ومن الممكن أن يؤدي تحسين الخدمات الأساسية مثل إمدادات الكهرباء والمياه، إلى جانب تعزيز الاتصالات، لزيادة عدد المطارات والرحلات الجوية المباشرة أو المتصلة، وبالتالي تلبية الطلب المتزايد وتعزيز الاتصال الإقليمي.
ويمكن أن يتيح الاستثمار في البنية التحتية للطيران المدني الشراكات بين القطاعين العام والخاص، ويمكن للحكومات والمستثمرين من القطاع الخاص التعاون في تمويل مشروعات المطارات وتجويدها، مما يؤدي إلى زيادة التجارة المالية وفرص الاستثمار. والجدير بالذكر هنا أن بعض الدول قد لجات لنظام تصكيك الأسهم (وهو آلية لتقسيم قيمة الموجودات أو محل التعاقد إلى أجزاء متساوية، وإصدار صكوك ممثلة لهذه الأجزاء وموثقة لها، قابلة للتسييل بالتداول في الأسواق المالية؛ وتنجم عن عملية التصكيك هذه ولادة أدوات مالية جديدة). ويحسب هذا المفهوم ينحصر التصكيك في طرح الأسهم للاكتتاب العام لفترة تعاقدية محددة، ويحصل صاحب السهم على عائد الاستثمار بموجب ذلك، وبنهاية العقد تعود ملكيته للدولة. وتهدف الدول بهذه السياسة لجذب الأموال للاستثمار في مرافق قطاع الطيران لتمويل مشروعات البنية التحتية للمطارات.
أن نمو وتطور قطاع الطيران المدني يمثل حافزاً لزيادة أنواع التجارة المالية المختلفة. ويشمل ذلك ارتفاع الطلب على تمويل التجارة، حيث تطلب الشركات المزيد من الخدمات مثل خطابات الاعتماد وخطابات الضمان وغيرها لتسهيل المعاملات. وبالتالي، فإن ذلك يدفع القطاع المصرفي والمؤسسات المالية الأخرى إلى تعزيز وتفعيل هذه الخدمات. كما يمكن للمصارف أن تعمل على تطوير منتجات مالية متخصصة لدعم قطاع الطيران، مثل تقديم القروض لشراء الطائرات أو تمويل مشاريع المطارات، وبالتالي زيادة الطلب على الخدمات الائتمانية. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت خدمات صرف العملات الأجنبية الناشئة عن قطاع الطيران المدني تشكل مصدراً لموارد كبيرة تعزز من احتياطيات العملات الأجنبية في المصارف. علاوة على ذلك، فإن الابتكار في الخدمات المالية الرقمية، مثل منصات الدفع عبر الإنترنت، يسهل المعاملات محليا وعالميا.
ويؤثر كذلك الاستثمار في تطوير قطاع الطيران المدني بشكل إيجابي على مختلف القطاعات الأخرى، من بينها التأمين، إذ تعمل منتجات التأمين على تقليل المخاطر المرتبطة بنقل البضائع جواً، وبالتالي زيادة الطلب على منتجات التأمين وإعادة التأمين، بما في ذلك التأمين على البضائع والأصول الأخرى. ويؤدي هذا الحراك الاقتصادي إلى قيام قطاع الطيران المدني بتوفير مجموعة متنوعة من فرص العمل في مختلف المجالات. وتشمل هذه الأدوار المتخصصة داخل القطاع نفسه، بالإضافة إلى المهن المتعلقة بالخدمات اللوجستية والصيانة وخدمة العملاء والخدمات القانونية والاستشارية والأطر التنظيمية مثل الوساطة الجمركية المؤهلة.
ومعلوم أن قطاع الخدمات يمثل أكثر من ثلثي الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهو ضعف حصتي الزراعة والصناعة معاً. ويساهم قطاع الخدمات في حل مشاكل البطالة من خلال توظيف عدد أكبر من العاملين وتوليد فرص عمل أكثر من أي قطاع آخر، وبالتالي التخفيف من حدة الفقر. وهناك أمثلة بارزة على دور الاستثمار في قطاع الطيران المدني في دعم تنمية ونمو الدول. ففي تركيا مثلاً جعل التوسع الكبير مطار إسطنبول منه مركزاً للعبور عبر مختلف القارات. وعلى نحو مماثل، عزز مطار شانغي في سنغافورة مكانة سنغافورة الاستراتيجية ودورها كمركز تجاري إقليمي. ويعزى هذا النجاح إلى عوامل عديدة مثل تطوير ودعم قطاع الخدمات، خاصةً الخدمات اللوجستية والتمويل وتكنولوجيا المعلومات، وشبكات الاتصالات المتقدمة، والخدمات المالية القوية. وبالتالي، فإن عدم كفاية الاستثمار في قطاع خدمات الطيران المدني يمكن أن يفضي للعديد من الآثار الضارة مثل القيود على القدرات، حيث أن ارتفاع أحجام البضائع والركاب يضغط على المرافق القائمة. وهذا الطلب المتزايد يضع ضغوطا كبيرة على البنية التحتية، مما يستلزم التحديث والصيانة المستمرة. وبدون الاستثمار الكافي، قد يواجه هذا القطاع صعوبة كبيرة في مواكبة التقدم التكنولوجي والطلبات المتطورة، مما يؤثر في النهاية على الكفاءة والسلامة وجودة الخدمة.
إن التجارة غير المباشرة هي محفز قوي للتقدم الاقتصادي والتماسك الإقليمي، مما يمهد الطريق لتحقيق نمو متوازن ومستدام. وقد برزت الطفرة في تجارة الخدمات كأداة حاسمة في معالجة بعض التحديات الضخمة التي تواجه التنمية اليوم. ومن خلال ربط البلدان المختلفة من خلال قطاع الطيران، يتم تعزيز التجارة غير المباشرة والتبادل الحيوي للقيمة، مما يخلق تأثيرًا مضاعفًا يحفز الرخاء الاقتصادي على الصعيدين المحلي والعالمي. ولا يؤدي هذا التفاعل إلى تعزيز النمو داخل قطاع الطيران فحسب، بل ينشط كذلك مجموعة واسعة من الصناعات ذات الصلة. وللاستفادة الكاملة من هذه الإمكانات، من الضروري ابتكار وتحسين الوظائف الأساسية لهذه القطاعات. ويعتبر تحديث البنية التحتية، وتحسين جودة الخدمات، وتعزيز الأطر الداعمة، من العوامل الأساسية للاستفادة الكاملة من فوائد التجارة في الخدمات. وتضمن مثل هذه التدابير الاستباقية بقاء القطاع الخدمي مرنًا تجاه الطلبات المتطورة دوماً ومستجيبًا لها.
nazikelhashmi@hotmail.com