التدخل العسكري الوشيك – لحفظ السلام أم لتكريس الانقسام؟
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
10 December, 2024
10 December, 2024
التدخل العسكري الوشيك – لحفظ السلام أم لتكريس الانقسام؟
The Imminent Military Intervention in Sudan –
Peacekeeper or Partitioner?
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
مسوغات ومآلات التدخل العسكري لحفظ السلام:
يسمح كل من ميثاق الأمم المتحدة والقانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي للمنظمتين بالتدخل عسكرياً في دولهما الأعضاء في حالات التهديد للسلام وارتكاب جرائم حرب، وفظائع ضد الإنسانية، مثل تلك التي يرتكبها الجيش وقوات الدعم السريع منذ اندلاع الحرب الكارثية في أبريل 2023. أما مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فقد أصدر قرارات بتدخلات حققت نجاحاً كبيراً بموجب البند السابع في كمبوديا والسلفادور وغواتيمالا وموزمبيق وناميبيا وطاجيكستان. وفضلاً عن ذلك، نجحت قوات الأمم المتحدة في تعزيز السلام بشكل إيجابي في سيراليون، وبوروندي، وكوت ديفوار، وتيمور الشرقية، وليبيريا، وهايتي، وكوسوفو، والسودان. ووفقاً للمادة رقم 4 (ح) من القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي فإن قوات الاتحاد الأفريقي تدخلت عسكرياً في بوروندي وأوغندا وموزمبيق والسودان للحفاظ على السلام في إطار حماية الاتحاد الأفريقي لدوله الأعضاء من جرائم الحرب والفظائع ضد الإنسانية.
بيد أن التدخل العسكري في السودان عن طريق البند السابع لمجلس الأمن يظل رهيناً لاستخدام حق النقض (الفيتو) من جانب روسيا، عطفاً على استخدام روسيا حق النقض لإجهاض مشروع القرار الإنساني الذي صاغته بريطانيا وسيراليون في أكتوبر 2024. ونظراً لأن جرائم الحرب التي يرتكبها الطرفان المتحاربان قد حولت السودان لأسوأ كارثة إنسانية في العالم، ينبغي التنسيق بين والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة لابتكار آلية قوية قادرة على وقف الحرب دون تحسب للمواجهة بين القوى الخمس التي تتمتع بحق النقض. وعليه فإن القوة الاحتياطية لشرق إفريقيا "إيساف" (Eastern Africa Standby Force-EASF) تمثل الخيار المتاح للمشاركة في آلية مراقبة وقف إطلاق النار في السودان التي سعت لها محادثات جنيف في أغسطس 2024. ويجدر بالذكر أن بروتوكولات إنشاء "إيساف" قد نصت على التعاون مع الأمم المتحدة، ووكالاتها بما فيها مجلس الأمن، والمنظمات الدولية، والمنظمات الإقليمية الأخرى ذات الصلة، وكذلك مع السلطات الوطنية والمنظمات غير الحكومية، عند الحاجة.
ويشمل دور هؤلاء المراقبين الإقليميين المحايدين الإشراف على عمليات وقف إطلاق النار ورصد الجرائم ضد الإنسانية والمساهمة في جهود خفض التصعيد وتسهيل مشاركة المدنيين والمجتمع المدني المحلي في عملية وقف إطلاق النار ورصد الفظائع ضد المدنيين. وحتى تؤدي قوات "إيساف" دورها بالكفاءة المطلوبة في كبح جماح المواجهات الدامية بين الجيش والدعم السريع يحسُن أن تعمل في إطار آلية هجين (hybrid) تحتوي على مزيج من التقنيات الحديثة للارتقاء بقدرات المراقبة، ومراقبين عسكريين ومدنيين من "إيساف" لبناء الثقة وتفسير البيانات، بحيث تُكمِّل التكنولوجيا المراقبة البشرية ولا تستبدلها. وحتى تتمكن هذه الآلية الهجين من النجاح لا بد لها من تفويضات واضحة واتفاقيات مفصلة حول ما يجب مراقبته، وتوفير مزيج من التقنيات مثل الطائرات بدون طيار (Drone) والكاميرات والأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار الصوتية (acoustic) لرصد مصدر الخروقات، وأنظمة إدارة المعلومات لجمع البيانات وتحليلها وتفسيرها، وهياكل لإدارة الانتهاكات ومنع التصعيد، واستراتيجيات للاتصال الداخلي والخارجي، وعناصر مستقلة من المدنيين والمجتمع المدني للمشاركة في الرصد لضمان الملكية المحلية لآلية المراقبة. ويظل دور هؤلاء المراقبين من "إيساف" حاسماً حتى في وجود دعم التكنولوجيا الحديثة في أنشطة المراقبة. ويشمل دور المراقبين التعامل الاستباقي (proactive) مع المحفزات المحتملة للخروقات أو سوء الفهم بين الجيش والدعم السريع، وبناء الثقة من خلال الاتصال المباشر مع طرفي الاقتتال والمدنيين المتضررين، وإجراء الدوريات والاستقصائية بالاشتراك مع الأنظمة التكنولوجية.
مسوغات ومآلات التدخل العسكري لتكريس الانقسام:
ومن ناحية أخرى، تنص الفقرة الثانية من المادة (4) من ميثاق الأمم المتحدة: "على جميع أعضاء الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الامتناع في علاقاتهم الدولية عن التهديد أو استعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أخرى، أو على أي صورة أخرى تتنافى مع مقاصد الأمم المتحدة ". وهذا يعني بأن استخدام القوة العسكرية من إحدى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في أو ضد دولة أخرى هو أمر غير قانوني بموجب القانون الدولي. بيد أن هذا القانون يشمل ثلاثة استثناءات هي: أولاً العمل العسكري للدفاع عن النفس، وثانياً العمل العسكري المأذون به من مجلس الأمن بموجب البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وثالثاً العمل العسكري على أساس مبدأ "التدخل بناء على دعوة".
ويجدر بالذكر أن الانقسام الحاد في مجلس الأمن بين الدول الخمس المالكة لحق النقض (الفيتو) قد أدى لتلاشي إمكانية العمل العسكري عن طريق البند السابع لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وعليه يتبقى مسوغان للتدخل العسكري أولهما: تقدم دولة بطلب لدولة أخرى أو عدة دول لاستخدام القوة العسكرية داخل أراضيها. ومثال لذلك طلب الحكومة العراقية -التي اعتبرت كحكومة شرعية في العراق- من أمريكا في عام 2014 قيادة الجهود العسكرية الدولية في مكافحة "داعش". ولكن تنفيذ هذا الخيار في السودان يشوبه غياب حكومة شرعية في السودان بعد الانقلاب العسكري في ديسمبر عام2021، الذي أدى لتجميد عضوية السودان في الاتحاد الإفريقي. أما المسوغ الثاني المتاح بحجة الدفاع عن النفس فقد استندت عليه قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة في سوريا باستخدام المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة بحجة قيام قوات التحالف بممارسة حقها في الدفاع عن النفس بصورة فردية، وبصورة جماعية، لأن النظام السوري السابق "غير قادر" أو "غير راغب" في منع "داعش" من شنّ هجمات ضد دول التحالف بما فيها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وهولندا والعراق.
وعلى الرغم من سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، فقد ظل التدخل العسكري في سوريا ماثلاً بنفس حجة الدفاع عن النفس ورعاية المصالح الاستراتيجية حيث يتواصل انتشار القواعد والنقاط العسكرية الأجنبية في سوريا في أكثر من 800 موقع. فلا تزال قوات تركيا تتواجد في 126 موقعاً بحجة حماية أمنها القومي ووقف التهديد من حزب العمال الكردستاني، وأبقت روسيا على قواتها في 114 موقعاً لتحقيق مصالحها الجيوسياسية، وظلت القوات الأمريكية متواجدة في 32 موقعاً لمنع عودة تنظيمي داعش والقاعدة. ولم يتضع بعد مصير 529 موقعاً تتبع لإيران، حيث يرجح تصفيتها، وربما استبدالها بقوات أخرى موالية لهيئة تحرير الشام التي قادت التغيير في سوريا. ويشير بقاء هذه القوات الأجنبية حتى بعد التغيير إلى استمرار مهددات تقسيم البلاد بسبب تضارب المصالح الأجنبية.
وقد تكرر نفس المسوغين للتدخل الأجنبي الذي يسنده القانون الدولي في الصراع الدائر في ليبيا حيث تدعم مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وفرنسا وروسيا الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر، وتدعم تركيا وقطر وإيطاليا حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة. وكانت مصر والإمارات مشاركتين بشكل خاص في الدعم العسكري لحفتر، حيث تخشيان ارتباط حكومة الوفاق الوطني بالإسلام السياسي والإخوان المسلمين. كما سمحت روسيا لمجموعة فاغنر بمساعدة حفتر في مقابل الوصول الاستراتيجي الملائم إلى الموانئ ومراكز العبور الأخرى. وفي الوقت نفسه، تدعم تركيا حكومة الوفاق الوطني بسبب صفقات النفط والغاز البحرية. ورغم أن الولايات المتحدة ساعدت في قيادة تحالف حلف شمال الأطلسي الذي أطاح بالقذافي في عام 2011، إلا أنها لم تعد لها وجود في ليبيا ولعبت دوراً محدوداً في الصراع الحالي. ورغم دعم أمريكا الرسمي لحكومة الوفاق الوطني لكنها لم تقدم لها الدعم العسكري في معركتها ضد الجيش الوطني الليبي. ويتضح من التدخل العسكري التركي الصارخ في كل من سوريا وليبيا المدى البعيد الذي يمكن أن تذهب إليه تركيا عسكرياً لحماية مصالحها. وكما هو معلوم فإن تركيا تربطها بالسودان مصالح وثيقة مع الإسلاميين الذين يدعمون البرهان سياسياً وعسكرياً، مما يمنحها غطاءً قانونياً للتدخل العسكري الذي ربما يهدد وحدة السودان.
مآلات تحوُّل حرب الوكالة في السودان لحرب مباشرة بين الفاعلين الدوليين والإقليميين:
يقع كثير من المحللين في الاعتقاد بأن التدخل الأجنبي العسكري المشروع في السودان يقتصر فقط على قرار من مجلس الأمن تحت البند السابع. فالتدخل العسكري الأجنبي الماثل في سوريا وليبيا بمسوغ طلب الحكومة الشرعية، ومسوغ الدفاع عن النفس يمثل دليلاً قاطعاً لإمكانية تحول حرب الوكالة في السودان إلى حرب مباشرة بين الفاعلين الدوليين الإقليميين تحت حماية القانون الدولي. بل إن أمريكا كانت قد تدخلت عسكرياً في نيكاراغوا عام 1986 ضد حكومة ساندانيستا الشرعية متعللة بطلب تقدمت به عائلة سوموزا المتمردة الموالية لأمريكا وليس الحكومة الشرعية. وعلى الرغم من صدور قرار من محكمة العدل الدولية بمخالفة التدخل العسكري الأمريكي لاتفاقيات الأمم المتحدة ودعوتها لأمريكا للتوقف عن القيام بأعمال عسكرية غير قانونية ودفع تعويضات للبلاد، إلا أن واشنطن رفضت تنفيذ الحكم.
ونظراً لفشل كافة الجهود الثنائية ومتعددة الأطراف لحمل الجيش والدعم السريع على وقف إطلاق النار لفترة أوشكت على العامين، فإن المشهد الجيوسياسي الماثل يهدد بدخول القوى العظمى ووكلائها الإقليميين كأطراف مباشرة في الحرب السودانية المستعرة، خاصة إذا سلكت الحرب مساراً لمصلحة أحد الوكيلين المحليين - الجيش أو الدعم السريع. فمسوغا التدخل العسكري بحجة الدفاع عن النفس، ورعاية المصالح الاستراتيجية اللذان استخدما في سوريا وليبيا، أدعى أن يستخدما في السودان الذي يتمتع بموقع استراتيجي وموارد طبيعية تفوق مثيلاتها في سوريا وليبيا. وفضلاً عن ذلك فإن استمرار الحرب في السودان يمثل تهديداً خطيراً للتجارة العالمية في البحر الأحمر مما يبرر التدخل العسكري لحماية التجارة الدولية. كما أن استمرار هذه الحرب يجعل السودان مرتعاً خصباً للإرهاب الدولي الإسلامي المتمثل في القاعدة وداعش، والإرهاب الإفريقي المتمثل في بوكو حرام وحركة الشباب المجاهدين، مما يسوغ للتدخل العسكري المباشر بحجة مكافحة الإرهاب بشكل كبير لأن حكومة الأمر الواقع "غير قادرة" على منع تحوُّل السودان لبؤرة للإرهاب العالمي، خاصة وأن هذه الحكومة تستنفر أعداداً من الإسلاميين السودانيين الذين تربطهم علاقات تاريخية مع تنظيمي القاعدة وداعش . وقد استندت على هذا المسوغ قوات التحالف التي تقودها أمريكا في سوريا باستخدام المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة، بحجة قيام قوات التحالف بممارسة حقها في الدفاع عن النفس بصورة فردية، وبصورة جماعية.
وفي الجانب الآخر فإن فقدان روسيا لحليفها بشار الأسد في سوريا في ديسمبر 2024 ربما يدفعها لتعويض هذه الخسارة بتعزيز نفوذها في السودان كجزء من استراتيجيتها للتوسع في إفريقيا مستغلة معاناة الجيش السوداني من مشكلات في التسليح وسعيه للحصول على دعم عسكري روسي، ولتنفيذ رغبتها في إنشاء مركز دعم لوجستي بحري في السودان على ساحل البحر الأحمر، فضلاً عن توسيع نفوذها في مجالات الزراعة والتعدين وتطوير الموانئ السودانية. ويجدر بالذكر أن روسيا استبدلت في يونيو 2024 مجموعة فاغنر بتشكيل عسكري جديد تحت إشراف وزارة الدفاع الروسية مباشرة يسمى "الفيلق الإفريقي" الذي ينتشر في خمس دول إفريقية: ليبيا (المقر الرئيسي)، ومالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وجمهورية إفريقيا الوسطى للحفاظ على نفوذها في القارة الإفريقية، بما في ذلك السودان. ويضم "الفيلق الأفريقي" ما بين 40 إلى 45 ألف مقاتل، معظمهم من عناصر فاغنر السابقين.
كيف يسبق التدخل العسكري لحفظ السلام نظيره لتكريس الانقسام؟
على الرغم من توفر المسوغات القانونية الدولية للتدخل العسكري في السودان سواء لحفظ السلام، أو فرض الانقسام في ظل الديناميكيات الجيوسياسية الدولية والإقليمية المتشابكة، لا زال بعض السياسيين يتوهمون استطاعة حكومة الأمر الواقع بقيادة البرهان رفض هذا التدخل المسنود بالقانون الدولي ممثلاً في ميثاق الأمم المتحدة والقانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي. وتفيد الشواهد التطبيقية الماثلة في العديد من الدول العربية والإفريقية خطل هذا الزعم السطحي العاجز عن فهم ديناميكيات حرب السودان التي انتقلت من صراع داخلي على السلطة إلى حرب إقليمية بالوكالة، وتهدد بشكل راجح بتحويل الصراع بالوكالة إلى حرب مباشرة ومفتوحة بين قوى إقليمية ودولية تتخذ الأراضي السودانية ساحة لمعاركها المدمرة. ذلك أن التوهم بحصر الحل في أيدي السياسيين والعسكريين السودانيين وحدهم الذي شارف العامينً قد أدى لفقدان شفرة حرب السودان في غياهب مصالح واستراتيجيات معقدة للقوى الإقليمية والدولية. وهذا بدوره يجعل من المستحيل إيجاد حل سوداني حصري للصراع، حيث يتعيَّن وضع مصالح هذه القوى الأجنبية والديناميكيات الجيوسياسية الدولية والإقليمية المتشابكة في الاعتبار في أي جهود لوقف إطلاق النار ومعالجة العواقب الإنسانية الوخيمة للحرب. وينذر تضارب المصالح الحاد بين هذه الدول بعدم واقعية التبشير بأن مآلات هذه الحرب المفتوحة بين القوى الإقليمية والدولية ستفضي لسودان واحد وموحد. فالانقسام الحاد بين السودانيين الذي عمقته حرب أبريل 2024 بانتشار خطاب الكراهية القائم على الأسس الإثنية والجهوية ينذر بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، وربما تفضي لتقسيم السودان برعاية القوى الأجنبية المتذرعة بالقانون الدولي للتدخل العسكري المشروع لرعاية مصالحها الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية. وقد بدت في الأفق مؤشرات نحو هذا المسار بإعلان بعض الكيانات السياسية والعسكرية المنتمية لإقليم دارفور عزمها على تشكيل حكومة داخل السودان في المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع موازية لحكومة الأمر الواقع برئاسة الفريق البرهان.
وعلى نحو مغاير هناك مسار متاح آخر للتدخل العسكري الوشيك ينطوي على منظور واقعي (Pragmatic) قانع بتجاوز الحرب نطاق الحل السوداني المحلي الذي يرتكز على منظور اشتهائي لا يسنده الواقع الملموس. ويعتمد هذا المسار الذرائعي البديل على تهيئة الظروف المناسبة لآلية فاعلة تشمل التدخل عسكري متعدد الأطراف لحفظ السلام، وليس لفرض الانقسام، بواسطة القوة الاحتياطية لشرق إفريقيا "إيساف" بدعم من الاتحاد الإفريقي وحلفائه الثنائيين ومتعددي الأطراف. ويفرض هذا الخيار الإفريقي نفسه لصعوبة التدخل العسكري الإيجابي لحفظ السلام عن طريق البند السابع لمجلس الأمن بسبب الفيتو الروسي المرجح. ونظراً لتسارع الأحداث المؤثرة على مستقبل الواقع الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط عطفاً على ما تشهده سوريا من تغيير مسنود أجنبياً، ينبغي المسارعة بتهيئة الظروف للتدخل الإفريقي متعدد الأطراف، قبل حدوث التدخل الثنائي المغرض الذي تقوده دول إقليمية ودول كبرى ربما لا تتورع في تقسيم السودان لتحقيق مصالحها الذاتية.
ويتطلب هذا المسار الواقعي تخلي حكومة الأمر الواقع والدعم السريع عن نهجهما باستمرار الحرب التي لا يملك كلاهما مقومات الانتصار فيها. بل أن تحالفاتهما الإقليمية والدولية ستقود فقط لتسريع التدخل العسكري المصلحي الوشيك المؤدي لتقسيم السودان. كما يستوجب هذا المسار الإفريقي المدعوم دولياً انخراط الجيش والدعم السريع مباشرة في مسار المحادثات الجادة التي بدأت بجنيف في 14 أغسطس 2024 برعاية أمريكية سعودية واستضافة سويسرية. حيث ضَمَّت المحادثات أيضاً الاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة، ومصر، والإمارات العربية المتحدة بصفة مراقبين. وقد حددت أمريكا أهداف تلك المحادثات في تحقيق وقف العنف في جميع أنحاء السودان، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى جميع المحتاجين، ووضع آلية قوية للمراقبة والتحقق، لضمان تنفيذ اتفاق جدة الذي وقع عليه الجيش والدعم السريع. وبالنظر لمستقبل الدور الأمريكي في حرب السودان تحت إدارة الرئيس ترامب، فمن المرجح استمراره في الضغوط الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية المستهدفة للجيش والدعم السريع، بدلاً عن التدخل العسكري، مستعيناً بحلفائه الإقليميين مثل مصر والسعودية والإمارات للعب دور أكبر في حمل الجيش والدعم السريع على التفاوض والتوافق على آلية فاعلة لوقف إطلاق النار.
وتأسيساً على العبر من تجارب الدول التي لا زالت تعاني من الصراع، وتلك التي خرجت منه، ينبغي شمول إستراتيجية وقف إطلاق النار وإعمار السودان على فترة انتقالية تنطوي على ثلاث مراحل تشمل: أولاً التدخل الإقليمي المباشر لبسط الأمن بواسطة قوات "إيساف"، وثانياً ترسيخ التحول والانتقال في إطار السودان الموحد، وثالثاً تمكين القدرات المحلية لتحقيق الاستدامة توطئة للتحول المدني الديمقراطي. وتستند كل مرحلة من المراحل الثلاث على أربع ركائز تشمل: بسط الأمن، والعدالة الانتقالية والوئام المجتمعي، والانتعاش الاجتماعي والاقتصادي، والحوكمة والتشاركية. ونظراً لأن الفترة الانتقالية التي تعقب الحرب تتحمل أعباء إخفاقات تجربة الانتقال السابقة منذ سقوط نظام الإنقاذ في أبريل 2019، وأوزار حرب أبريل 2023، فإن تحديد مدة الفترة الانتقالية ينبغي أن يضع في الحسبان فترة كافية للإيفاء بعقد اجتماعي بين الدولة والشعب يراعي وحدة السودان ويكسب الدولة الشرعية المطلوبة تحت حماية جيش واحد لتهيئة البلاد لانتخابات حرة نزيهة، استكمالاً لتنفيذ أهداف ثورة ديسمبر المنتصرة، ولو بعد حين.
melshibly@hotmail.com
The Imminent Military Intervention in Sudan –
Peacekeeper or Partitioner?
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
مسوغات ومآلات التدخل العسكري لحفظ السلام:
يسمح كل من ميثاق الأمم المتحدة والقانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي للمنظمتين بالتدخل عسكرياً في دولهما الأعضاء في حالات التهديد للسلام وارتكاب جرائم حرب، وفظائع ضد الإنسانية، مثل تلك التي يرتكبها الجيش وقوات الدعم السريع منذ اندلاع الحرب الكارثية في أبريل 2023. أما مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فقد أصدر قرارات بتدخلات حققت نجاحاً كبيراً بموجب البند السابع في كمبوديا والسلفادور وغواتيمالا وموزمبيق وناميبيا وطاجيكستان. وفضلاً عن ذلك، نجحت قوات الأمم المتحدة في تعزيز السلام بشكل إيجابي في سيراليون، وبوروندي، وكوت ديفوار، وتيمور الشرقية، وليبيريا، وهايتي، وكوسوفو، والسودان. ووفقاً للمادة رقم 4 (ح) من القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي فإن قوات الاتحاد الأفريقي تدخلت عسكرياً في بوروندي وأوغندا وموزمبيق والسودان للحفاظ على السلام في إطار حماية الاتحاد الأفريقي لدوله الأعضاء من جرائم الحرب والفظائع ضد الإنسانية.
بيد أن التدخل العسكري في السودان عن طريق البند السابع لمجلس الأمن يظل رهيناً لاستخدام حق النقض (الفيتو) من جانب روسيا، عطفاً على استخدام روسيا حق النقض لإجهاض مشروع القرار الإنساني الذي صاغته بريطانيا وسيراليون في أكتوبر 2024. ونظراً لأن جرائم الحرب التي يرتكبها الطرفان المتحاربان قد حولت السودان لأسوأ كارثة إنسانية في العالم، ينبغي التنسيق بين والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة لابتكار آلية قوية قادرة على وقف الحرب دون تحسب للمواجهة بين القوى الخمس التي تتمتع بحق النقض. وعليه فإن القوة الاحتياطية لشرق إفريقيا "إيساف" (Eastern Africa Standby Force-EASF) تمثل الخيار المتاح للمشاركة في آلية مراقبة وقف إطلاق النار في السودان التي سعت لها محادثات جنيف في أغسطس 2024. ويجدر بالذكر أن بروتوكولات إنشاء "إيساف" قد نصت على التعاون مع الأمم المتحدة، ووكالاتها بما فيها مجلس الأمن، والمنظمات الدولية، والمنظمات الإقليمية الأخرى ذات الصلة، وكذلك مع السلطات الوطنية والمنظمات غير الحكومية، عند الحاجة.
ويشمل دور هؤلاء المراقبين الإقليميين المحايدين الإشراف على عمليات وقف إطلاق النار ورصد الجرائم ضد الإنسانية والمساهمة في جهود خفض التصعيد وتسهيل مشاركة المدنيين والمجتمع المدني المحلي في عملية وقف إطلاق النار ورصد الفظائع ضد المدنيين. وحتى تؤدي قوات "إيساف" دورها بالكفاءة المطلوبة في كبح جماح المواجهات الدامية بين الجيش والدعم السريع يحسُن أن تعمل في إطار آلية هجين (hybrid) تحتوي على مزيج من التقنيات الحديثة للارتقاء بقدرات المراقبة، ومراقبين عسكريين ومدنيين من "إيساف" لبناء الثقة وتفسير البيانات، بحيث تُكمِّل التكنولوجيا المراقبة البشرية ولا تستبدلها. وحتى تتمكن هذه الآلية الهجين من النجاح لا بد لها من تفويضات واضحة واتفاقيات مفصلة حول ما يجب مراقبته، وتوفير مزيج من التقنيات مثل الطائرات بدون طيار (Drone) والكاميرات والأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار الصوتية (acoustic) لرصد مصدر الخروقات، وأنظمة إدارة المعلومات لجمع البيانات وتحليلها وتفسيرها، وهياكل لإدارة الانتهاكات ومنع التصعيد، واستراتيجيات للاتصال الداخلي والخارجي، وعناصر مستقلة من المدنيين والمجتمع المدني للمشاركة في الرصد لضمان الملكية المحلية لآلية المراقبة. ويظل دور هؤلاء المراقبين من "إيساف" حاسماً حتى في وجود دعم التكنولوجيا الحديثة في أنشطة المراقبة. ويشمل دور المراقبين التعامل الاستباقي (proactive) مع المحفزات المحتملة للخروقات أو سوء الفهم بين الجيش والدعم السريع، وبناء الثقة من خلال الاتصال المباشر مع طرفي الاقتتال والمدنيين المتضررين، وإجراء الدوريات والاستقصائية بالاشتراك مع الأنظمة التكنولوجية.
مسوغات ومآلات التدخل العسكري لتكريس الانقسام:
ومن ناحية أخرى، تنص الفقرة الثانية من المادة (4) من ميثاق الأمم المتحدة: "على جميع أعضاء الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الامتناع في علاقاتهم الدولية عن التهديد أو استعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أخرى، أو على أي صورة أخرى تتنافى مع مقاصد الأمم المتحدة ". وهذا يعني بأن استخدام القوة العسكرية من إحدى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في أو ضد دولة أخرى هو أمر غير قانوني بموجب القانون الدولي. بيد أن هذا القانون يشمل ثلاثة استثناءات هي: أولاً العمل العسكري للدفاع عن النفس، وثانياً العمل العسكري المأذون به من مجلس الأمن بموجب البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وثالثاً العمل العسكري على أساس مبدأ "التدخل بناء على دعوة".
ويجدر بالذكر أن الانقسام الحاد في مجلس الأمن بين الدول الخمس المالكة لحق النقض (الفيتو) قد أدى لتلاشي إمكانية العمل العسكري عن طريق البند السابع لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وعليه يتبقى مسوغان للتدخل العسكري أولهما: تقدم دولة بطلب لدولة أخرى أو عدة دول لاستخدام القوة العسكرية داخل أراضيها. ومثال لذلك طلب الحكومة العراقية -التي اعتبرت كحكومة شرعية في العراق- من أمريكا في عام 2014 قيادة الجهود العسكرية الدولية في مكافحة "داعش". ولكن تنفيذ هذا الخيار في السودان يشوبه غياب حكومة شرعية في السودان بعد الانقلاب العسكري في ديسمبر عام2021، الذي أدى لتجميد عضوية السودان في الاتحاد الإفريقي. أما المسوغ الثاني المتاح بحجة الدفاع عن النفس فقد استندت عليه قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة في سوريا باستخدام المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة بحجة قيام قوات التحالف بممارسة حقها في الدفاع عن النفس بصورة فردية، وبصورة جماعية، لأن النظام السوري السابق "غير قادر" أو "غير راغب" في منع "داعش" من شنّ هجمات ضد دول التحالف بما فيها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وهولندا والعراق.
وعلى الرغم من سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، فقد ظل التدخل العسكري في سوريا ماثلاً بنفس حجة الدفاع عن النفس ورعاية المصالح الاستراتيجية حيث يتواصل انتشار القواعد والنقاط العسكرية الأجنبية في سوريا في أكثر من 800 موقع. فلا تزال قوات تركيا تتواجد في 126 موقعاً بحجة حماية أمنها القومي ووقف التهديد من حزب العمال الكردستاني، وأبقت روسيا على قواتها في 114 موقعاً لتحقيق مصالحها الجيوسياسية، وظلت القوات الأمريكية متواجدة في 32 موقعاً لمنع عودة تنظيمي داعش والقاعدة. ولم يتضع بعد مصير 529 موقعاً تتبع لإيران، حيث يرجح تصفيتها، وربما استبدالها بقوات أخرى موالية لهيئة تحرير الشام التي قادت التغيير في سوريا. ويشير بقاء هذه القوات الأجنبية حتى بعد التغيير إلى استمرار مهددات تقسيم البلاد بسبب تضارب المصالح الأجنبية.
وقد تكرر نفس المسوغين للتدخل الأجنبي الذي يسنده القانون الدولي في الصراع الدائر في ليبيا حيث تدعم مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وفرنسا وروسيا الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر، وتدعم تركيا وقطر وإيطاليا حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة. وكانت مصر والإمارات مشاركتين بشكل خاص في الدعم العسكري لحفتر، حيث تخشيان ارتباط حكومة الوفاق الوطني بالإسلام السياسي والإخوان المسلمين. كما سمحت روسيا لمجموعة فاغنر بمساعدة حفتر في مقابل الوصول الاستراتيجي الملائم إلى الموانئ ومراكز العبور الأخرى. وفي الوقت نفسه، تدعم تركيا حكومة الوفاق الوطني بسبب صفقات النفط والغاز البحرية. ورغم أن الولايات المتحدة ساعدت في قيادة تحالف حلف شمال الأطلسي الذي أطاح بالقذافي في عام 2011، إلا أنها لم تعد لها وجود في ليبيا ولعبت دوراً محدوداً في الصراع الحالي. ورغم دعم أمريكا الرسمي لحكومة الوفاق الوطني لكنها لم تقدم لها الدعم العسكري في معركتها ضد الجيش الوطني الليبي. ويتضح من التدخل العسكري التركي الصارخ في كل من سوريا وليبيا المدى البعيد الذي يمكن أن تذهب إليه تركيا عسكرياً لحماية مصالحها. وكما هو معلوم فإن تركيا تربطها بالسودان مصالح وثيقة مع الإسلاميين الذين يدعمون البرهان سياسياً وعسكرياً، مما يمنحها غطاءً قانونياً للتدخل العسكري الذي ربما يهدد وحدة السودان.
مآلات تحوُّل حرب الوكالة في السودان لحرب مباشرة بين الفاعلين الدوليين والإقليميين:
يقع كثير من المحللين في الاعتقاد بأن التدخل الأجنبي العسكري المشروع في السودان يقتصر فقط على قرار من مجلس الأمن تحت البند السابع. فالتدخل العسكري الأجنبي الماثل في سوريا وليبيا بمسوغ طلب الحكومة الشرعية، ومسوغ الدفاع عن النفس يمثل دليلاً قاطعاً لإمكانية تحول حرب الوكالة في السودان إلى حرب مباشرة بين الفاعلين الدوليين الإقليميين تحت حماية القانون الدولي. بل إن أمريكا كانت قد تدخلت عسكرياً في نيكاراغوا عام 1986 ضد حكومة ساندانيستا الشرعية متعللة بطلب تقدمت به عائلة سوموزا المتمردة الموالية لأمريكا وليس الحكومة الشرعية. وعلى الرغم من صدور قرار من محكمة العدل الدولية بمخالفة التدخل العسكري الأمريكي لاتفاقيات الأمم المتحدة ودعوتها لأمريكا للتوقف عن القيام بأعمال عسكرية غير قانونية ودفع تعويضات للبلاد، إلا أن واشنطن رفضت تنفيذ الحكم.
ونظراً لفشل كافة الجهود الثنائية ومتعددة الأطراف لحمل الجيش والدعم السريع على وقف إطلاق النار لفترة أوشكت على العامين، فإن المشهد الجيوسياسي الماثل يهدد بدخول القوى العظمى ووكلائها الإقليميين كأطراف مباشرة في الحرب السودانية المستعرة، خاصة إذا سلكت الحرب مساراً لمصلحة أحد الوكيلين المحليين - الجيش أو الدعم السريع. فمسوغا التدخل العسكري بحجة الدفاع عن النفس، ورعاية المصالح الاستراتيجية اللذان استخدما في سوريا وليبيا، أدعى أن يستخدما في السودان الذي يتمتع بموقع استراتيجي وموارد طبيعية تفوق مثيلاتها في سوريا وليبيا. وفضلاً عن ذلك فإن استمرار الحرب في السودان يمثل تهديداً خطيراً للتجارة العالمية في البحر الأحمر مما يبرر التدخل العسكري لحماية التجارة الدولية. كما أن استمرار هذه الحرب يجعل السودان مرتعاً خصباً للإرهاب الدولي الإسلامي المتمثل في القاعدة وداعش، والإرهاب الإفريقي المتمثل في بوكو حرام وحركة الشباب المجاهدين، مما يسوغ للتدخل العسكري المباشر بحجة مكافحة الإرهاب بشكل كبير لأن حكومة الأمر الواقع "غير قادرة" على منع تحوُّل السودان لبؤرة للإرهاب العالمي، خاصة وأن هذه الحكومة تستنفر أعداداً من الإسلاميين السودانيين الذين تربطهم علاقات تاريخية مع تنظيمي القاعدة وداعش . وقد استندت على هذا المسوغ قوات التحالف التي تقودها أمريكا في سوريا باستخدام المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة، بحجة قيام قوات التحالف بممارسة حقها في الدفاع عن النفس بصورة فردية، وبصورة جماعية.
وفي الجانب الآخر فإن فقدان روسيا لحليفها بشار الأسد في سوريا في ديسمبر 2024 ربما يدفعها لتعويض هذه الخسارة بتعزيز نفوذها في السودان كجزء من استراتيجيتها للتوسع في إفريقيا مستغلة معاناة الجيش السوداني من مشكلات في التسليح وسعيه للحصول على دعم عسكري روسي، ولتنفيذ رغبتها في إنشاء مركز دعم لوجستي بحري في السودان على ساحل البحر الأحمر، فضلاً عن توسيع نفوذها في مجالات الزراعة والتعدين وتطوير الموانئ السودانية. ويجدر بالذكر أن روسيا استبدلت في يونيو 2024 مجموعة فاغنر بتشكيل عسكري جديد تحت إشراف وزارة الدفاع الروسية مباشرة يسمى "الفيلق الإفريقي" الذي ينتشر في خمس دول إفريقية: ليبيا (المقر الرئيسي)، ومالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وجمهورية إفريقيا الوسطى للحفاظ على نفوذها في القارة الإفريقية، بما في ذلك السودان. ويضم "الفيلق الأفريقي" ما بين 40 إلى 45 ألف مقاتل، معظمهم من عناصر فاغنر السابقين.
كيف يسبق التدخل العسكري لحفظ السلام نظيره لتكريس الانقسام؟
على الرغم من توفر المسوغات القانونية الدولية للتدخل العسكري في السودان سواء لحفظ السلام، أو فرض الانقسام في ظل الديناميكيات الجيوسياسية الدولية والإقليمية المتشابكة، لا زال بعض السياسيين يتوهمون استطاعة حكومة الأمر الواقع بقيادة البرهان رفض هذا التدخل المسنود بالقانون الدولي ممثلاً في ميثاق الأمم المتحدة والقانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي. وتفيد الشواهد التطبيقية الماثلة في العديد من الدول العربية والإفريقية خطل هذا الزعم السطحي العاجز عن فهم ديناميكيات حرب السودان التي انتقلت من صراع داخلي على السلطة إلى حرب إقليمية بالوكالة، وتهدد بشكل راجح بتحويل الصراع بالوكالة إلى حرب مباشرة ومفتوحة بين قوى إقليمية ودولية تتخذ الأراضي السودانية ساحة لمعاركها المدمرة. ذلك أن التوهم بحصر الحل في أيدي السياسيين والعسكريين السودانيين وحدهم الذي شارف العامينً قد أدى لفقدان شفرة حرب السودان في غياهب مصالح واستراتيجيات معقدة للقوى الإقليمية والدولية. وهذا بدوره يجعل من المستحيل إيجاد حل سوداني حصري للصراع، حيث يتعيَّن وضع مصالح هذه القوى الأجنبية والديناميكيات الجيوسياسية الدولية والإقليمية المتشابكة في الاعتبار في أي جهود لوقف إطلاق النار ومعالجة العواقب الإنسانية الوخيمة للحرب. وينذر تضارب المصالح الحاد بين هذه الدول بعدم واقعية التبشير بأن مآلات هذه الحرب المفتوحة بين القوى الإقليمية والدولية ستفضي لسودان واحد وموحد. فالانقسام الحاد بين السودانيين الذي عمقته حرب أبريل 2024 بانتشار خطاب الكراهية القائم على الأسس الإثنية والجهوية ينذر بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، وربما تفضي لتقسيم السودان برعاية القوى الأجنبية المتذرعة بالقانون الدولي للتدخل العسكري المشروع لرعاية مصالحها الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية. وقد بدت في الأفق مؤشرات نحو هذا المسار بإعلان بعض الكيانات السياسية والعسكرية المنتمية لإقليم دارفور عزمها على تشكيل حكومة داخل السودان في المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع موازية لحكومة الأمر الواقع برئاسة الفريق البرهان.
وعلى نحو مغاير هناك مسار متاح آخر للتدخل العسكري الوشيك ينطوي على منظور واقعي (Pragmatic) قانع بتجاوز الحرب نطاق الحل السوداني المحلي الذي يرتكز على منظور اشتهائي لا يسنده الواقع الملموس. ويعتمد هذا المسار الذرائعي البديل على تهيئة الظروف المناسبة لآلية فاعلة تشمل التدخل عسكري متعدد الأطراف لحفظ السلام، وليس لفرض الانقسام، بواسطة القوة الاحتياطية لشرق إفريقيا "إيساف" بدعم من الاتحاد الإفريقي وحلفائه الثنائيين ومتعددي الأطراف. ويفرض هذا الخيار الإفريقي نفسه لصعوبة التدخل العسكري الإيجابي لحفظ السلام عن طريق البند السابع لمجلس الأمن بسبب الفيتو الروسي المرجح. ونظراً لتسارع الأحداث المؤثرة على مستقبل الواقع الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط عطفاً على ما تشهده سوريا من تغيير مسنود أجنبياً، ينبغي المسارعة بتهيئة الظروف للتدخل الإفريقي متعدد الأطراف، قبل حدوث التدخل الثنائي المغرض الذي تقوده دول إقليمية ودول كبرى ربما لا تتورع في تقسيم السودان لتحقيق مصالحها الذاتية.
ويتطلب هذا المسار الواقعي تخلي حكومة الأمر الواقع والدعم السريع عن نهجهما باستمرار الحرب التي لا يملك كلاهما مقومات الانتصار فيها. بل أن تحالفاتهما الإقليمية والدولية ستقود فقط لتسريع التدخل العسكري المصلحي الوشيك المؤدي لتقسيم السودان. كما يستوجب هذا المسار الإفريقي المدعوم دولياً انخراط الجيش والدعم السريع مباشرة في مسار المحادثات الجادة التي بدأت بجنيف في 14 أغسطس 2024 برعاية أمريكية سعودية واستضافة سويسرية. حيث ضَمَّت المحادثات أيضاً الاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة، ومصر، والإمارات العربية المتحدة بصفة مراقبين. وقد حددت أمريكا أهداف تلك المحادثات في تحقيق وقف العنف في جميع أنحاء السودان، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى جميع المحتاجين، ووضع آلية قوية للمراقبة والتحقق، لضمان تنفيذ اتفاق جدة الذي وقع عليه الجيش والدعم السريع. وبالنظر لمستقبل الدور الأمريكي في حرب السودان تحت إدارة الرئيس ترامب، فمن المرجح استمراره في الضغوط الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية المستهدفة للجيش والدعم السريع، بدلاً عن التدخل العسكري، مستعيناً بحلفائه الإقليميين مثل مصر والسعودية والإمارات للعب دور أكبر في حمل الجيش والدعم السريع على التفاوض والتوافق على آلية فاعلة لوقف إطلاق النار.
وتأسيساً على العبر من تجارب الدول التي لا زالت تعاني من الصراع، وتلك التي خرجت منه، ينبغي شمول إستراتيجية وقف إطلاق النار وإعمار السودان على فترة انتقالية تنطوي على ثلاث مراحل تشمل: أولاً التدخل الإقليمي المباشر لبسط الأمن بواسطة قوات "إيساف"، وثانياً ترسيخ التحول والانتقال في إطار السودان الموحد، وثالثاً تمكين القدرات المحلية لتحقيق الاستدامة توطئة للتحول المدني الديمقراطي. وتستند كل مرحلة من المراحل الثلاث على أربع ركائز تشمل: بسط الأمن، والعدالة الانتقالية والوئام المجتمعي، والانتعاش الاجتماعي والاقتصادي، والحوكمة والتشاركية. ونظراً لأن الفترة الانتقالية التي تعقب الحرب تتحمل أعباء إخفاقات تجربة الانتقال السابقة منذ سقوط نظام الإنقاذ في أبريل 2019، وأوزار حرب أبريل 2023، فإن تحديد مدة الفترة الانتقالية ينبغي أن يضع في الحسبان فترة كافية للإيفاء بعقد اجتماعي بين الدولة والشعب يراعي وحدة السودان ويكسب الدولة الشرعية المطلوبة تحت حماية جيش واحد لتهيئة البلاد لانتخابات حرة نزيهة، استكمالاً لتنفيذ أهداف ثورة ديسمبر المنتصرة، ولو بعد حين.
melshibly@hotmail.com