صفحات مندثرة من تأريخ السُّودان الحديث… مملكة تقلي … نشأتها واضمحلالها(1)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
8 January, 2009
8 January, 2009
د. عمر مصطفى شركيان
shurkian@yahoo.co.uk
ديناميكيَّة الحياة السِّياسيَّة في منطقة تقلي، كما هي الحال في جبال النُّوبة، أثبتت عدائها للمركزيَّة وتأسيس الدَّولة. حاملين الثَّقافة السِّياسيَّة المنتشرة في وادي النِّيل السُّوداني، دافع جباليُّو تقلي عن حكمهم الذَّاتي ضد الولاء السِّياسي؛ كما لم تستطع أيَّة قوة خارجيَّة أن تبرم حلفاً محليَّاً مع أي من حكام تقلي.(2)
تقديم
تأريخ السُّودان، الذي تغتال فيه الحقيقة اغتيالاً، كُتب مبتوراً من كل المعالم والسِّمات الأساسيَّة التي صنعت حوادث هذا البلد، وصاغت مصائر أهله في الأمصار والسبلان. ولو دُوِّنت الحوادث التَّاريخية حسبما وقعت، ونظر الرُّواة التَّاريخيُّون إلى المصادر الموثوقة، ببصائرهم لا بقلوبهم، لذُهِل النَّاس لفرط ما رأوه من همم كانت مصروفة، وفنون مبذولة، وتقنيات شتَّى كانت معمولة بها في حكم دويلاتهم، وتسيير شؤونهم وأمورهم. ونحن إذ ندوِّن وقائع تجاربهم حتَّي نشيد بها، وندعوا إلى اعتناقها إن كانت ناجحة؛ ونحذِّر منها وننذر إن كانت إخفاقاً. ومن هذه الدُّويلات والممالك نذكر مملكة تقلي.
تطلق تسمية جبال تقلى، والتي تبلغ ارتفاعها 5,000 قدم فوق سطح البَّحر، على مساحة قدرها 40 ميلاً مربَّعاً. وتضم في محورها التلال التي تشمل، فيما تشمل، قرى كراية، والهوي، وتاسي وجولية. وتمتد هذه السلاسل الجبليَّة شرقاً لتندمج مع الهضاب الشماليَّة-الشرقيَّة التي تعلو 3,000 قدم فوق سطح البَّحر، وتنتهي في الجِّبال الصَّخريَّة المعروفة بجبال أم طلحة، 35 ميلاً صوب الشَّرق.
أصل سكان تقلي
تتعدَّد الرِّوايات عن أصل سكان المنطقة، وقد أوردت جانيت جي إيوالد رواية هي - في واقع الأمر - أقرب إلى الأسطورة منها إلى الحقيقة. ذكرت جانيت أن أقوام من الفونج المسلمين يدعون (كونياب) سكنوا أبودوم التي تبعد مسافة 10 أميال من جبل تقلي. وفي يوم من الأيام، وبينما كانوا يمارسون حرفة الصَّيد، جرحوا تيتلاً وطاردوه حتى عثروا على مساكن (لابوجاب) في قلب تقلي، وهم قوم عراة وغير مسلمين. وقد أُعجب (لابوجاب) بملابس (كونياب)، وطلب زعيم الأول من مجموعة الصيَّادين (المونياب) أن يستقروا في تقلي ليعلِّموهم زراعة القطن ونسج الملبوسات. وقد قبل (الكونياب) الدَّعوة على الرَّغم من أنَّهم ظلُّوا في اتِّصال مستمر مع ذويهم في أبودوم؛ كما أنَّهم لم يتدخَّلوا في معتقدات (لابوجاب) الدِّينيَّة مثل تقديم الفتيات قرباناً لحيَّة في بئر لضمان الهطول المبكِّر للأمطار. وهناك قول أنَّهم ينتمون إلى قبيلة السقارنج: الرجل منها سقراناوي والمرأة سقرناويَّة، وإلى هذه القبيلة تنتمي خيرة - والدة إسماعيل صاحب الرَّبابة من الشَّيخ مكي الدَّقلاشي الذي تكلَّم في المهد.(3)
من جانب آخر، تقول القصص الشَّعبيَّة إنَّه زهاء 400 عام مضى حطَّ فقير متجوِّل من الجعليين الموجودين على النِّيل قرب مصب نهر عطبرة، واستقر في هذه التِّلال، وبدأ في مزاولة النَّشاط الدِّيني الذي سرعان ما انقلب سياسيَّاً. وبهذه الطَّريقة، وبأسباب أخرى سنوردها في هذا البَّحث، أوغل نفسه في بلاط الحكم وأمسى يمارس السِّيادة والرَّيادة في هذه المملكة العريقة التي اشتهرت في القرنين الثَّامن عشر والتَّاسع عشر في وسط السُّودان. وقد ذكر المؤرِّخون أنَّ تسعة عشر حفيداً تعاقبوا على حكم المملكة دونما انقطاع: من ابن هذا الشَّيخ الجَّعلي، جيلي أبو جريدة، حتَّى المك آدم النِّيل جيلي. وقد انتشر الإسلام في المنطقة بفضل هذا الفقير، حيث تجد في كل قرية مسيد(4) الذي تمَّ تأسيسه بواسطة المسلمين الأوائل ومازال قائماً حتَّى يومنا هذا. توجد بالمنطقة أغلب الطُّرق الصُّوفيَّة، لكن معظمهم من تابعي الشَّريف يوسف الهندي. هذه المملكة، التي امتدَّت من خور أبوحبل شمالاً حتَّى تلودي جنوباً، كانت ذات شأوٍ وشأنٍ عظيمين: وقد اعترفت بها قبائل العرب التي كانت تدخل المنطقة في كل فينة وأخرى. ولا غرو في أنَّها تحدَّت، بنجاح منقطع النَّظير، الحكومة التُّركيَّة-المصريَّة لسنين عدداً.
بتشجيع الهجرة والاستيطان في تقلي في خلال السَّنوات الأولى من الحكم، استطاع هؤلاء الحكَّام الوافدون أن يغيِّروا ديانة أهل المنطقة، وأسلوب حياتهم ولاسيَّما أنَّهم قد أدخلوا ارتداء العمامة وقولة "اللَّه يطوِّل عمرك". وبذا تحوَّل جزء من النُّوبة الذين كانوا يؤمنون بالآلهة المحليَّة، في هذه المنطقة، إلى مسلمين، وتركوا ما كان آباؤهم يعبدون من كريم المعتقدات الأفريقيَّة. ونتيجة المصاهرة والتَّزاوج مع سكان المنطقة الأوائل ظهر خليط من المجموعة التي تقطن المنطقة. أمَّا سكان الكيجاكجة، جنوب-غرب تقلي، فيمثِّلون العنصر الصَّافي من سكان المنطقة الأصليين. كحال كل القبائل العربيَّة في السُّودان، تدَّعي العائلة المالكة أنَّهم ينتمون إلى الجعليين - نسبة لإبراهيم جعل. توجد، كذلك، بالمنطقة أحفاد الفونج، وأجناس من دارفور في غرب السُّودان، والعرب الذين يشملون: البديريَّة والجوامعة وكل فروع الكواهلة وكنانة.
وكأي نظام ملكي، فإنَّ نظام الحكم في هذه المملكة كان وراثيَّاً؛ وللمك مطلق الحريَّة في تصريف أمور البلاد والعباد، يعاونه في ذلك شخصين من أقربائه والذي يُسمح لأحدهما، وهو الجُّندي، بمقابلة المك في أية ساعة من ساعات النَّهار أواللَّيل. وكل من عزم أن يقابل المك عليه أن يقابل الجُّندي أولاً، وهو كذلك المسؤول عن المكوكيَّة في جنوب المملكة: جزيتهم وهداياهم تُسلَّم للمك بواسطته. أمَّا المعاون الثَّاني فيسمَّى سكراوي، ولا يتمتَّع بقدرٍ كبيرٍ من الصَّلاحيات كتلك الممنوحة للجُّندي، لكنَّه هو المسؤول عن الجزء الشِّمالي والشَّرقي من المملكة. في بعض الأحيان يتم تعيين الوزير؛ وشاغل هذا المنصب يكون دائماً من مقرَّبي المك. كما أنَّ مهمة اختيار مك جديد، إذا كان هناك أكثر من مرشَّح واحد، تقع على عاتق الجُّندي.
بعد مرور ما يقارب أربعة قرون، أصبحت العائلة المالكة أرستقراطيَّاً لا يستطيع أحد أن يتطاول عليها، ولم يخل نظام الحكم من القسوة المفرطة. وقد قيل إنَّ زبانية المك ناصر كانوا يلقون بالمعارضين السِّياسيين في دوكة حجريَّة تحتوي على زيت ساخن بعد ما تصل درجة الغليان وذلك بعد منتصف النَّهار، أي في وقت الهجيرة. ونتيجة لهذا الرُّعب، هرب كثيرون من رعايا المك إلى خارج المملكة، وقد سكن أفراد منهم في مدينة الدَّلنج في ريفي شمال الجِّبال.
تقلي قبل ظهور المكوك
قبل أربعة قرون، كان يتكوَّن سكان الجبال الشماليَّة-الشرقيَّة من عنصر عرقي واحد؛ وكانوا يتمركزون في ثلاث مناطق: تيرمي في أم طلحة، وجبال الكيجاكجة، وتقلي نفسها. كان القوم يعبدون الآلهة الطَّبيعية وهم لها عاكفون، ويعيشون حياة بدائيَّة بسيطة تحت السيطرة الوراثيَّة للمشايخ في دارهم التي تقع في تقلارو - بالقرب من قرية الهوي - وكانوا يُعرفون باسم الهمج، هكذا تقول الأساطير القديمة. وبما أنَّ دماء السكان الأوائل قد ذابت واختلطت مع العناصر التي وفدت إلى هذه المنطقة من كل فج عميق، إلاَّ أنَّها مازالت باقيَّة لدي مواطني جبال الكيجاكجة، الذين احتفظوا بنقاء حسبهم ونسبهم.
على الرَّغم من دخول الكيجاكجة إلى الإسلام أفواجاً خلال ثلاثمائة عام مضى، إلاَّ أنَّهم مازالوا يتمسَّكون ببعض عاداتهم وتقاليدهم القديمة، وطريقة حياتهم اليوميَّة لم تتغيَّر كثيراً.(5) كما تجدهم يمارسون حرفة زراعة الذُّرة على سطوح الجِّبال باستخدام الحشَّاشة الخشبيَّة؛ ويقومون بتربية الماشية؛ ونادراً ما كان يغامر القوم بالابتعاد عن جبالهم. قليلاً منهم كانوا يتحدَّثون اللُّغة العربيَّة، حيث أنَّ في تقلي قلَّما تجد اللُّغة المحليَّة في الاستعمال وربما أصبحت نسياً منسيَّاً. أمَّا عُمدتهم أو الجُّندي فينحدر من جنادي تقلي القديم الذي كان من الملازمين الوارثين للشيوخ الحاكمين، واستمر المنصب حتَّى خلال فترة حكم المكوك "الجعليين".
إنَّ إقامة أهالي تقلارو في هذه الجبال الصخريَّة، والحصون المنيعة تعكس الصِّفة الحربيَّة التي كان يتميَّز بها القوم. وكان تسليحهم يشتمل على الحراب والسكاكين والحجارة. إذ يبدو أنَّ المملكة لم تتخوَّف من أعدائها في الشمال القصي أو الغرب البعيد، لكن أعدائها الفعليين كانوا قاطني المجتمعات المجاورة. مهما بُذِل من الاجتهاد، فمن الصَّعب جداً تعقُّب جذور سكان المنطقة الأولين. لكن هناك كثيراً من أوجه التَّشابه بين الكيجاكجة والكواليب، مما يدعم هذه الشبه التَّكهن بوجود سلالة مشتركة. لكن الكيجاكجة اعتنقوا الإسلام، وفضَّل الكواليب البقاء على معتقداتهم الأفريقيَّة، وقد تنصَّر جزء منهم عندما دخل التَّبشير المسيحي إلى المنطقة إبَّان الحكم البريطاني-المصري في السُّودان (1898-1956م). بإجراء البحوث المكثَّفة على سكان تُكم، وترجوك، وتقوي - الذين جعلوا الإسلام ديناً لهم - وكذلك النُّوبة في جنوب المنطقة قد يساعد في اكتشاف التَّباين بين الكيجاكجة والكواليب.
كل ماهو أكيد، ولا ريب فيه، أنَّه منذ القرن السَّادس عشر بعد الميلاد عاش في تقلي أناس كانوا يسبِّحون اللَّه عن طريق سنن الكون؛ ولهم ملامح نوباويَّة مميِّزة؛ ولم يتم التَّزاوج والتَّمازج بينهم وبين الأجانب. هذه المجموعة البشريَّة كوَّنت النَّواة لمملكة تقلي التي نحن بصدد الحديث عنها. مما سبق يتَّضح أنَّه قبل أن تنتقل مقاليد السُّلطة إلى الحكام الوافدين، كانت بالمنطقة أنظمة حكم سياسيَّة واجتماعيَّة؛ وكل مافعلته السُّلطة الاستيطانيَّة هو تطوير النِّظام السَّائد حينذاك وإضافة شيئ من الارستقراطيَّة كثير، والاستبداد والتَّنكُّر على بعض العادات والتقاليد الموروثة، وإدخال الإسلام كعقيدة في المنطقة.
ميلاد العائلة المالكة والمكوك الأوائل
تقول الروايات القديمة أن شخصاً يدعى محمد الجَّعلي حضر من الشمال العام 1530م، وطاب به المقام ونال احترام أهل المنطقة الكرام وتدريجيَّاً طفق في تأسيس العائلة المالكة.(6) بيد أنَّ المعلومات عن خلفيَّة الرَّجل تكاد تكون شحيحة لدرجة العدم. فربما كان ذلك الجَّعلي من الذين انتشروا في الأرض ينشرون الإسلام بعد تأسيس سلطنة الفونج في سنار العام 1504م؛ وربما كان من المنبوذين اجتماعيَّاً في موطنه النِّيلي، أو من الهاربين من العدالة، أو ربما كان من الرحالة الهواة الذين يضربون في الأرض يبتغون فضلاً من الله ومرضاته. لم يكن هذا الشيخ الوافد حاملاً بين جنبيه آمالاً عراضاً وطموحات تفوق واقعه بكثير. كل ما يُعرف عن محمد الجَّعلي هذا هو أنَّه كان فقيراً بائساً وعلى قدرٍ كبيرٍ من التَّزهُّد. وقد وصل الجَّعلي ورفيق دربٍ له يدعى أبوحايمة (قد يكون هذا كنيته نسبة للحوم والتَّرحال)، بعد التيه في الأمصار، إلى تقلارو - التي كانت تحوي قرى الهوي وكراية. ومن هنا عثر عليهما الجَّبليُّون التَّقلاويُّون وقادوهم إلى كابر-كابر، مك المنطقة. وعندما مثَّلا أمام المك، شرعوا في تقديم مبادرات الصَّداقة. أمَّا المك، الذي أُعجب بمظهرهم النُّسكي، رحَّب بهم وأكرم مثواهم في غاية الحفاوة. بعد أن عُوملا معاملة حسنة واطمأنَّت عليهما قلوب النَّاس، طفق الزَّاهدان يعلِّمان القوم أصول الإسلام، بدءاً بإقامة شعائر الصَّلاة والإبقاء على طقوسهم الدُّنيويَّة. ومنذ ذلك التَّأريخ أصبحت عقيدة الإسلام تدخل في نفوس النَّاس.
يدَّعي الجعليُّون في السُّودان أنَّهم ينتمون إلى إبراهيم جعل. وبما أنَّ شرف الانتماء إلى العروبة وتبنِّي الهُويَّة العروبيَّة ناجم من الشُّعور بالفخر والاعتزاز، رأت العائلة المالكة في تقلي، والنباطاب - العشيرة السائدة في البجة - بني عامر، وسلاطين الفور وملوك ودَّاي في تشاد أن يتقمَّصوا العنصر العربي، ويستجعلونه دماً سارياً في شرايينهم. إذن، من هو إبراهيم جعل هذا الذي يتشرَّف كل من ينتمي إليه، حقَّاً كان أم كذباً، ويحرث ثمار ذلك الادِّعاء في الحياة الدُّنيا؟ يقول هولت: "إنَّ دراسة سلالة إبراهيم جعل تشير إلى أنَّه حفيد العبَّاس، عم الرَّسول صلَّى اللَّه عليه وسلم".(7) وقد كتب ماكمايكل أنَّ تشبُّه سقارنج أو مكوك تقلي، أو سلاطين الفور، ومملكة ودَّاي بإبراهيم جعل يعود إلى التَّملُّق.(8)
مهما يكن من أصل الجعليين، فقد رأى محمد الجَّعلي النَّاس يدخلون في دين اللَّه أفواجاً، أو هكذا شُبِّه له، حتَّى أصبح له موطأ قدم في المنطقة. ولم يمض وقت طويل حتَّى بات واحداً من الذين يُشار إليهم بالبنان في المملكة. ومن ثم وهبه كابر-كابر ابنته ليتزوَّجها؛ وانجبت له ابناً سمَّوه أبوجريدة - نسبة لأنَّ عظام ذراعه كانت ملتحمة سويَّاً بدلاً من أن تكون متفرِّقة. هكذا شبَّ الطِّفل وورث العقيدة من والده وآزره في نشر الدَّعوة الإسلاميَّة في المناطق المجاورة. وليس صحيحاً ادِّعاء بعض الباحثين أنَّ الإسلام والثقافة العربيَّة قد عرفا طريقهما إلى هذه المنطقة منذ فترة طويلة قبل قيام مملكة تقلي في القرن السَّادس عشر الميلادي.(9)
عندما توفى كابر-كابر، اجتمع كبار القوم واختاروا حفيده أبوجريدة، الذي كان في مقتبل عمره، ليحل محل كابر-كابر كمك لتقلي. وفي نفس الوقت أعادوا تسمية أبوجريدة وأضافوا اسم "جيلي"؛ اقراراً لحقيقة أنَّه نتاج دم أجنبي، وليس منحدراً من الخط الوراثي للعرش. وقد حدَّثني محدثي، وهو من مواطني المنطقة، أنَّ أصل الكلمة يعود إلى تحريف عبارة الاستفهام العربي "جاء ليه؟" (لماذا أتى؟) لقد ورث جيلي أبوجريدة الحكم على أساس وراثي لجهة الأم، ولكن ما أن مات أبوجريدة إلاَّ وأن انتقلت الوراثة إلى جهة الأب: أي على النِّظام العربي، وهذا ما تمَّ لدي اختلاط العرب بالنوبيين في شمال السُّودان في القرن السَّابع الميلادي.
وهكذا، أي في العام 1560م تقريباً، تم تأسيس الأسرة الحاكمة في تقلي في شخص جيلي أبوجريدة. وبنسب متفاوتة في الشهرة، حكم أبناء أبوجريدة الوارثون وتمتَّعوا بصلاحيات واسعة. لقد اشتملت المملكة التي ورثها جيلي أبوجريدة على تلال تقلي والكيجاكجة التي كانت تقع تحت نفوذ جدِّه.
فما هي الانجازات التي تمت في عهد جيلي أبوجريدة؟ جيلي أبوجريدة، الذي كان يتمتَّع بشخصيَّة فريدة، أكمل نشر الإسلام الذي بدأ في عهد والده، وعمل على توسيع نفوذه بجلب مستوطنين إلى المملكة حتى ساهموا في بسط السُّلطة. شيَّد لنفسه مسجداً، ونقل عاصمته من قرية تقلارو، وبنى حوشه في الهوي، التي تبعد مسافة قدرها نصف ميل شمالاً. في داخل هذا الحوش توجد فولة قيل إنَّها حفرت في عهده. لقد حكم طويلاً وبعد موته دُفن في حوشه، الذي أصبح فيما بعد بمثابة المقبرة الملكيَّة. خلف أبوجريدة ابنه صابو، الذي انتقل من الهوي إلى تعودم، التي تقع على بعد 30 ميلاً صوب الغرب. هناك استمر في نشر الإسلام وتوسيع مملكته؛ وقد نقل عصا السُّلطة إلى ابنيه جيلي عمارة وعمر أبوشهيرة، وحفيده جيلي عون اللَّه، الذين حكموا المملكة على التَّوالي. فلما أتته المنيَّة تم دفنه في حوش أبوجريدة في الهوي، الذي أصبح مقبرة أقاربهم ووزرائهم.
كان الإسلام هو العامل الأساس في تكوين وبقاء هذه المملكة: لأنَّ بحجة نشر الإسلام تم توسيع رقعة السُّلطنة، وباسم الإسلام تم دخول اللُّغة العربيَّة - لغة القرآن - وسيطرة التَّعريب على جميع أوجه نشاطات الحياة في المنطقة. وتحت دعاوي الإسلام تم فتح أبواب المملكة لرجال الدِّين والتجار والمغامرين من خارج الدويلة. عاصرت المملكة العصر الذَّهبي لدخول العرب السُّودان والتَّبشير الإسلامي. ولا غرو أنَّ ملوك الفونج تكفَّلوا برعاية رجالات الدِّين وأرسل بعضهم من سنَّار إلى جميع أصقاع السُّودان لنشر الدَّعوة؛ وهكذا وفد جزء منهم إلى تقلي. وكان أعظم من حضر إلى تقلي بغرض التَّبشير والتِّجارة هما حسن ودحسونة وتاج الدِّين البهاري في القرن السَّابع عشر الميلادي. وقد جمع هؤلاء الدعاة الإسلاميُّون بين المكسب الرُّوحي من جهة والمادي من جهة أُخرى، وقليل منهم قلما أوعظتهم ضمائرهم من الجَّمع بين الأثنين. وكان مك تقلي يخصِّص منطقة يقطنها السكان الذين هم على دين آبائهم لأحد المبشِّرين كحقل لممارسة نشاطه التَّبشيري والتِّجاري؛ وفي المقابل يدفع المبشِّر قدراً مقدوراً من أرباحه للمك. وكثيراً ما يختار بعض من هؤلاء المبشِّرين الإقامة الدَّائمة في المنطقة، وعليهم، إذن، الإعتراف بسلطة السُّلطان ودفع جزيَّة دوريَّة ثمناً لحمايتهم، ويمسوا معاهدين مستأمنين ما أوفوا بالعهد. بهذه الكيفيَّة استطاع مكوك تقلي نشر الدَّعوة المحمديَّة، وتوسيع نطاق سلطتهم، واخضاع أكثر من جبل إليهم. كما تزوج المستوطنون من السكان المحليين، وانجبوا خليطاً وهجيناً من العائلات والأفراد. لم يكن جميع هجرات العرب إلى تقلي من أجل تلاوة الصُّحف المطهرة وإقامة الصَّلاة، بل كان أغلبهم قد قصدوا المنطقة مبتغين تجارة العاج والرقيق؛ وكان بعضهم من الهاربين من العدالة في سلطنة سنار. وقد ساهم كلهم، بتمازجهم العرقي هذا، علي تعزيز سلطة المكوك حتَّى أصبحت نفوذهم في منتصف القرن السَّابع عشر هي الوحيدة السَّائدة في الجِّبال الشمالية-الشرقية. كان يقوم ملوك سنار بتعيين المهاجرين من الفونج مكوكاً على جبال رشاد، وتقوي وقدير. وأخيراً أصبحت قدير وتقوي أعظم مقاطعتين للفونج وقتئذٍ.
عند وفاة جيلي عون اللَّه، أصبح ابنه جيلي أبوقرون خليفته؛ وقد حكم أبوقرون في الفترة ما بين 1640- 1665م. ونسبة لمركز سلطنة تقلي الإستراتيجي - بحكم موقعها الجغرافي بين سلطنتي سنار والفور - حاول سلطان سنار أن يكسب ود مملكة تقلي ليعمل الأثنان معاً على الحد من نفوذ الفور.(10) فتزوج أبوقرون الأميرة عجائب أم شيلة، ابنة السلطان الرباط بن بادي عاهل الفونج، التي جاءت إلي تقلي وفي رفقتها حاشية كبيرة، واستقرت في حوش بلولة. ومن هؤلاء السَّدنة نشأت طبقة الفونج في تقلي وبلولة.(11) على الرَّغم من العلاقات الطيَّبة التي ازدهرت بين الفونج وتقلي في عهد أبي قرون، إلاَّ أنَّ الملك بادي الثاني - المعروف ببادي أبودقن - قد شن حملة عسكرية ضد تقلي وأجبرهم على دفع جزية سنوية لأجلٍ غير مسمى. وبذلك نجد أن الأواصر الحميمة التي تُوِّجت بالمصاهرة قد أمست هباءاً منثوراً عندما أصبحت العلاقات السِّياسية في خطر محدق. إن التَّنافس بين سلطنتي الفور والفونج علي تقلي قد أدَّى إلى تفاقم الوضع وإضرام نار الفتنة. لم يستطع مؤرخو السُّودان تحديد عام العدوان وعدد القتلى والجرحى والأسرى وحجم الغنائم لدي الطرفين، وذلك لعدم وجود سجلاَّت تأريخيَّة.
على أي حال، يعزى سبب نشوب الحرب إلى أنَّ عصبة من جماعة المك أبي قرون قد أساءت معاملة أحد أصدقاء الملك أبودقن الخلصاء، حيث اُعترض سبيله ونُهبت بضاعته؛ ولم يتوقَّف أبوقرون عند هذا الحد، بل تأبَّط شرَّاً وتحدَّى الملك بادي شخصياً. من المعروف أنَّ مكوك تقلي كانوا يفرضون ضريبة العبور على كل من يعبر مملكتهم، إلاَّ أنَّه من غير المؤكَّد أنَّ صديق بادي هذا قد دفع الرسوم أم أنَّه طغى وتجبَّر؟ ومما يُحكَى عن التحام الجَّيشين أنَّ "القتال كان يستعر بينهما نهاراً، وفي المساء يخلد كل فريق إلى هدنة ريثما يقبل الصَّباح. غير أنَّ مك تقلي كان يرسل موائد العشاء حافلة إلى الجيش الغازي كل ليلة، لأنَّهم ضيوفه، ماداموا مقيمين داخل أرضه، وإن أبدوا العداوة والبغضاء. ولما علم سلطان الفونج بحقيقة الأمر، انسحب من ميدان القتال، منهياً الحرب من جانب واحد، أسفاً على ما كان، وخجلاً من مقاتلة قوم، على هذا الحظ العظيم من النبل، يصدون العدو الغازي في النَّهار، ويكرمون وفادته في الليل، مثل الصندل الذي يعطر الفأس، كلما أمعنت في تمزيقه وتهشيمه".(12)
كان للمك جيلي أبوقرون ابنين من الأميرة عجائب. ذينك الإبنان قد تعاقبا على حكم المملكة. إنَّ الأميرة نفسها قد أمدَّ اللَّه في عمرها ولعبت دوراً هاماً في أحداث القرن الثَّامن عشر كما سنرى في مكان ما من هذا البَّحث. بهذه الهزيمة أمست تقلي مقاطعة تابعة لمملكة الفونج، ولكن سرعان ما عادت المياه إلى مجاريها، ورجعت العلاقات الطيَّبة القديمة؛ وأصبحت تقلي ترسل محملاً مستقلاً للحجاز كدليل على استقلاليتها.
انتقل جيلي أبوقرون إلى جوار ربِّه ودفن جثمانه في كراية. ثمَّ خلفه ابنه الكبير محمد الذي أطال اللَّه عمره في الحكم، وقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب؛ وإنَّ وجود أجيال كثيرة ينتمون إليه حاليَّاً دليل على كثرة أبنائه عصرذاك. أعظم مافعله المك محمد هو أنَّه شيَّد العاصمة الملكيَّة في تاسي؛ وعند وفاته أصبح شقيقه عمر أبوزنتر مكاً. ومما يُحكَى عن أبي زنتر هذا أنَّه طاغية كان وقاسي القلب، وقد بات ممقوتاً من أغلب أفراد رعيته: حتى والدته كرهته، ولم يرضها حكمه التَّعسُّفي، وحبَّذت أن تنتقل السُّلطة إلى حفيدها إسماعيل، ابن المك محمد، الذي كان يافعاً يومئذٍ. ولكي تتخلَّص الوالدة من ابنها الفاشستي، المك أبوزنتر، مكرت مكراً كُبَّاراً. أعدت الوالدة، هكذا تقول الرواية، طعاماً لأبي زنتر، وأخفت في داخله سكيناً حادة، وما أن وجد المك أبوزنتر هذا الخنجر حتى صاح صيحة ملكية وجلت منها النُّفوس وبلغت القلوب الحناجر. وتحت تأثير هذا الغضب المروع المفزع، أعدم ثلاثين من خدمه. هذه المذبحة أشعلت شرارة الثَّورة التي كانت تغلي ببطء منذ زمن بعيد، ولاسيَّما أنَّ التقلاويين كانوا يدركون كيف ولج الخنجر في الطَّعام. طُرِد عمر وسدنته، وأُعلِن إسماعيل مكاً على تقلي. على أيٍ، لا توجد معلومات أخري تمكِّننا من التَّعرُّف على الظُّروف التي استطاع بها إسماعيل أن يكون محبوباً أكثر من عمه عمر، واستحقاقه مزيَّة الاصطفاء. لكن العذاب البئيس الذي كان يعانيه القوم من أبي زنتر، وعصارة ماتعرَّضوا له في حياتهم، وحصيلة تجربتهم قد أجبرهم على القبول بأي من أفراد الأسرة مكاً عليهم، مهما كانت قلة خبرته وصغر سنه. بعد معارك متقطِّعة فرَّ المك المخلوع، عمر أبوزنتر، إلى سنار ليبحث عن الدَّعم العسكري لمواجهة أعدائه في تقلي. فعل هذا عملاً بوصيَّة والدته نفسها. وفي نفس الوقت بعثت الوالدة هي الأخرى برسالة سريَّة إلى ملك الفونج، الذي كان يمت إليها بصلة القرابة، طالبة منه عدم السَّماح لأبي زنتر بالعودة إلى تقلي، واذا استطاب له الأمر، عليه أن يقتله.
وصل أبوزنتر وأتباعه إلى سنار في وقتٍ كان يواجه فيه الملك بادي الأحمر، ملك الفونج، مشكلة أمنيَّة في جهة قصيَّة من مملكته. ظن الأحمر أن عمراً، بدلاً من أن يُقتَل في المدينة بدون مبررمقنع، قد يلقي حتفه اذا بُعِث به لتركيع هؤلاء القوم الخارجين عن السُّلطة المركزيَّة في سنار؛ ومن ثَمَّ أُسند إليه هذه المهمة. كان هذا هو شرط التَّمويل الحربي الذي قطعه الأحمر على أبي زنتر وقتما يرجع من المعركة منتصراً. أمَّا عمر، الذي حسب أنَّ فرص نجاحه ضئيلة، فقد قبل التَّحدي وهزم العصاة ولم يذر على الأرض من الخارجين دَيَّاراً. عاد عمر يطالب بوعده، فأمره الأحمر أن يعود إلى تقلي ومعه رسالة وعد بالمساعدة؛ وقد وصَّى الأحمر ربان المركب، الذين كانوا في رفقة المك المخلوع المخدوع، أن يغرقوا المركب في النِّيل الأبيض. وهكذا فعلوا، وغرق أبوزنتر ومجموعته، عدا شخصان نجيا من الموت ليحملان النَّبأ العظيم إلي تقلي، أو كما تقول الفرنجة (They survived to tell the tale).
أمَّا المك إسماعيل، الذي اعتلى العرش العام 1705م وهو ما يزال في مرحلة الطُّفولة - كما سبق الإشارة إلى ذلك - عاش حتَّى بلغ من العمر عتيَّاً. فبالإضافة إلى عمره المديد وحكمه السَّديد، كان إسماعيل طيَّب القلب، نزيهاً كان ومتجرِّداً. وأذكر في الكتاب إسماعيل إنَّه كان ملمَّاً بعلوم الشَّريعة. ففي العهد "الإسماعيلي" بلغت حدود المملكة تكم وترجوك غرباً، وأم طلحة شرقاً، وخور أبوحبل أو النِّيل الأبيض شمالاً. والجدير بالذكر أنَّ في تلك الفترة، كانت جبال الكيجاكجة تُحكم بواسطة أحفاد المك الزَّيبق أو توراي. إنَّ أحفاد الأخير كانوا ينتمون إلى الأسرة المالكة عن طريق نسبهم إلى المك صابو، ثاني ملوك تقلي. أمَّا رشاد وتقوي، على صعيدٍ آخر، فكانتا تحت سيطرة المهاجرين من الفونج بعد أن فوَّضهم أحد مكوك تقلي الأوائل على القيام بهذا الدَّور. لم تلبث رشاد وتقوي تحت نفوذ مكوك تقلي كثيراً، وسرعان ما نالتا قدراً من الحكم الذَّاتي، واكتفتا بإرسال هدايا رمزيَّة لكل مك تقلي لحظة اعتلائه على العرش، حيث تمثَّلت هذه الهدايا في جلد الكودو، وقطعتين من ثوب ناعم، وعشرة قطع من ثوب دمُّور؛ وكذلك الرقيق الذي اشتدَّت حملات القبض عليهم في عهد المك ناصر.
صوب جنوب-غرب المملكة، كان يقيم بعض قبائل النُّوبة الذين كانوا يخضعون لكريم المعتقدات الأفريقيَّة، ويتبعون بصورة غير مباشرة، أو بطريقة ما، إلى تقلي. هذه القبائل هي: الكواليب، اللَّيري، هيبان، وشواي؛ وربما كذلك عطورو. كل هذه المناطق، ما عدا عطورو، تقع بين تقلي وشيبون، حيث كانت توجد مناجم الذَّهب. ولمَّا كانت تقلي، التي كانت تسيطر على مناجم شيبون ومندي في القرنين الثَّامن عشر والتَّاسع عشر، ترسل حملات عسكريَّة لاستجلاب الذَّهب، كانت هذه الغارات تحكم قبضتها على القبائل التي تقع في خط سيرهم؛ وتفرض عليهم جزية معلومة غالباً ما كانت هذه الجِّزية في شكل الرقيق. ومن هنا نستنتج أن الذَّهب، كعامل اقتصادي حيوي، قد لعب دوراً فعالاً في الحياة السِّياسيَّة والاجتماعية والعسكريَّة في مملكة تقلي. أمَّا مقاطعة قدير، جنوب المملكة، فقد توارث على حكمها أسباط المهاجرين من الفونج كما كان الحال في رشاد وتقوي. وبما أنَّ مكوكهم كانوا شبه مستقلِّين إلاَّ أنَّهم كانوا يدفعون جزية أو هدايا لمكوك تقلي، وتعيين مكوكهم مشروط بموافقة مكوك تقلي. والجدير بالذِّكر أنَّ النُّوبة في كاو، وفنجور، وورني، وكلوقي - الذين أخرجهم الكواهلة من ديارهم بغير حق - وتيرا، وتلودي؛ وربما شرق مورو قد اعترفوا بسيادة مكوك قدير وكذلك، بطريقة غير مباشرة، بتقلي. امتداداً لعادات وتقاليد الفونج، كان مكوك قدير، ورشاد، وتقوي يرتدون التَّاج الملكي ذا القرنين. هذا التَّاج، الذي كان يقره مك تقلي وبموجب مرسوم ملكي، كان على درجات متفاوتة في الجُّودة والشَّكل: تخصَّص الدرجة الأولى للمكوك المذكورين سلفاً، أمَّا الدَّرجات الأخرى فكانت لاشخاص أقل رتبة، مثل مكوك الكيجاكجة والكدرو. هناك بعض التَّكهنات بأنَّ سكان الكدرو والدَّاير، غرب وشمال-غرب المملكة، كانوا يتبعون للمك إسماعيل "التَّقلاوي". تلك هي حدود مملكة تقلي قبل الهجرات الجماعيَّة للعرب، التي بدأت في أواخر عهد المك إسماعيل واستمرَّت حتَّى منتصف القرن التَّاسع عشر الميلادي.
توفَّى المك إسماعيل العام 1773م بعد ما بلغ أرذل العمر، ودُفِن جوار قبر والده في تاسي. خلفه ابنه أبَّكر الذي عاصر عهد الهمج في سنَّار، ومن ثَمَّ استقلَّت تقلي من ربقة استعمار الفونج لها. نتيجة لهذا الاستقلال، نمت عظمة مملكة تقلي داخليَّاً وخارجيَّاً. توفَّى المك أبَّكر العام 1814م ومازال أبناؤه عمر، وأحمد، وناصر صغاراً في السِّن؛ ولهذا حاول أخوه المريود الاستيلاء على السُّلطة. ونسبة لرداءة خلق المريود، الذي لم يأبه على الرَّغم من السخط الجماهيري الذي كان يتمتَّع به، امتنع الجُّندي والمستشارون أن يضعوا أمور المملكة والرَّعيَّة في يده. واُختير عمر ليخلف والده على أن يعمل عجلون - أخ المك أبَّكر - نائباً لأبن أخيه، المك عمر. وقد قيل عن عجلون هذا أنَّه كان رجلاً عال الاتزان، وبنى النِّظام على مستو رفيع من الرِّضا الشَّعبي، ورعى ابن أخيه حتَّى بلغ أشدَّه واستوى علي عرشه، وتزوَّج له، ثمَّ استقال. في عهد المك عمر أرسل محمد علي باشا - الوالي التركي في مصر - ابنه إسماعيل لغزو السُّودان العام 1820م، والقضاء على مملكة سنَّار. مات المك عمر في سنٍ مبكِّر العام 1827م، ولم يحتار عمه عجلون كثيراً في البَّحث عن الخليفة، بل تحرَّك سريعاً لتنصيب أحمد - شقيق المك عمر - مكاً حتَّى يفوِّت الفرصة على المريود الذي كان ينتظر في الأجنحة، وطالما عاش على أمل أن يكون مكاً على تقلي في يومٍ ما.
في عهد المك أحمد، الضعيف نسبياً، استطاع الأتراك للمرة الأولى والأخيرة التَّوغُّل في المملكة؛ حيث قاد خورشيد باشا - الذي أصبح حاكماً عاماً للسُّودان في الفترة ما بين 1826-1837م - حملة إلى تقلي. وقد حُكِي أنَّ أحمد باشا زار تقلي العام 1840م. لكن تظل المعلومات شحيحة إلى درجة العدم عن النُّفوذ التُّركي-المصري في المملكة. وإذا فرضنا أنَّ اتفاقاً للسلام قد أُبرم بين الأتراك-المصريين والنُّوبة، إلاَّ أنَّنا لم نعثر على بنود هذا الصُّلح. كان الشئ المتوقَّع أن يقبل الأتراك-المصريُّون على اتفاق أشبه باتِّفاقيَّة "البقط" المشؤومة التي عُقِدت بين النُّوبة بقيادة ملكهم، قاليدروت، والعرب تحت إمرة عبداللَّه بن أبي السَّرح العام 652م، وخاصة أنَّ الأتراك المصريين غزوا السُّودان من أجل المال والرِّجال.
في العام 1843م استطاع مريود، العم الشرِّير الذي لم يزل يختمر حقداً على أبناء أخيه المك أبَّكر، في الخفاء تجنيد أشرار تقلي لمساعدته في تنفيذ مؤامرة اغتصاب السُّلطة. وقد نجح في قتل أحد أقارب المك أحمد، والوزير المنصور، واغتال المك أحمد كذلك، واستولى على الحكم بقوة السِّلاح. حاول ناصر، الذي كان سئ السُّمعة هو الآخر، نزع السُّلطة من عمه مريود وفشل فشلاً ذريعاً. ذهب ناصر إلى الخرطوم يتوسَّل إلى الباشاوات والبكاوات الأتراك لمعاونته لاسترداد حقِّه المسلوب، على أن يدفع ناصر في المقابل، عند استعادة ملكه، جزية سنويَّة من الرقيق والعاج؛ ووعد بأن يكون القسط الأوَّل 12 ألفاً من العبيد، وتحت دعاوي الانخراط في الجنديَّة. ابتهج الأتراك-المصريُّون، الذين لم يفلحوا أساساً في إخضاع تقلي، فضلاً عن أنَّ الطَّلب الذي هو في الحقيقة من ضمن أهداف احتلالهم للسُّودان، ومنحوا ناصراً قوة عسكريَّة استطاع بفضلها أن يعيد عرشه ويقتل مريود. كتب اسكيراك لوشر يقول:"إنَّ مصطفى باشا، حاكم كردفان يومئذٍ، قبض على ناصر. وقد وعد الأخير باحتلال تقلي إذا وضعت تحت إمرته سريَّة من المشاة، ووقتما يستتب له الأمر، سيدفع جزية مقدارها 4 آلاف من العبيد. وحينما أفلح في استعادة الملك المغصوب وقتل أخيه، ذبح كل الضبَّاط الذين كانوا معه في الحملة، وأسكن الجنود السُّود في تقلي، ورفض دفع الجِّزية". إنَّ ظاهرة التماس العون والمدد من الأجانب لحسم الصراعات السياسيَّة الدَّاخليَّة هي سمة من سمات تأريخ السُّودان؛ فاستعان ملوك النُّوبة في شمال السُّودان بحكام مصر المماليك في نزاعاتهم السلطويَّة حتَّى أدَّت هذه التدخُّلات إلى انهيار المملكة، كما استعان أمراء الميرفاب بمحمد علي باشا في مصر ضد أخوته في السلطنة في وادي النِّيل في شمال السُّودان. لذلك لم نندهش حين ذهب ناصر للأتراك-المصريين في مدينة الخرطوم مستنجداً بهم.
ذروة المملكة... ناصر وآدم أم دبالو
كما أبنَّا سلفاً كيف أصبح ناصر بن المك أبَّكر عاهلاً لتقلي العام 1844م، إلاَّ أنَّ أسلوب البطش والتنكيل بالأعداء قد تضاعف في عهده. وفي خلال الأربعين عام، عقب توليه الحكم، شهدت المملكة توسُّعاً هائلاً - بواسطة الدِّماء والدَّمار - وبلغت أعلى أوجها. فلم تهدأ الأحوال إلاَّ في عهد خليفة المك ناصر، وتبدَّد ذلك السَّلام بعد مجئ المهديَّة. تميَّز ناصر بالقسوة المفرطة، وكان ذا بأسٍ شديدٍ، وفعَّال لما يريد. ومما يُحكَى عنه أنَّه كان ذات يومٍ يقضي بين النَّاس في ديوانه، ويضحك بصوتٍ صاخب. وإنَّه لفي هذه الحالة، وإذا طائر ذو حظِّ نحس يمر ويردِّد صوت ناصر. عندما رأى القوم مكَّهم وقد اشتاط غضباً، أوجس كل من حوله خيفةً؛ ومن ثَمَّ أمر ناصر بإحضار ذلك الطَّائر اللَّعين. وعلى الفور تفرَّق القوم جرياً وراء الطَّائر من جبلٍ إلى آخر، حتَّى تمَّ القبض عليه، وجئ به أمامه، وقام ناصر شخصيَّاً بسمل عيون الطائر، ثمَّ أطلق سراحه مرة أخرى. وكذلك ما يُحكَى عن انتقامه قصَّة الصَّائغ الكردفاني. إذ يُروى أنَّ صائغاً بالأبيض كان يقوم بعمله وعندما سئل عمَّ يفعل؟ ردَّ الصَّائغ بتهكُّم إنَّه يصنع خاتماً لأنف المك ناصر اللَّعين، وظنَّ أنَّ الأمر قد انتهى عند هذا الحد، ثُمَّ ذهب إلى أهله يتمطَّى. بيد أنَّ ناصراً قد سمع بهذا الخبرعن طريق جواسيسه المنتشرين في أرجاء المعمورة، وعمل جاهداً على استدراج الصَّائغ إلى تقلي بحجة صناعة له فيها. وعند حضور الصَّائغ، أمره ناصر أن يغلي فضة؛ وعندما فرغ من ذلك، سأله الصَّائغ ماذا هو فاعلٌ بهذه الفضَّة المغليَّة؟ أجاب ناصر: إنَّها لصناعة خاتم لأنفك! وعلى التو انقضَّ جلاَّديه قبضاً على الصَّائغ، وقام المك ناصر شخصيَّا بصب الفضة السَّائلة في أنفه حتَّى لقي مصرعه.
كان ناصر شجاعاً، صنديداً كان ثمَّ طاغية؛ وكان يعاقب الزناة بصورة وحشيَّة. وحينما نكث عن وعده، ورفض إرسال الرقيق إلى السُّلطات التُّركيَّة، أُرسِلت إليه حملة بواسطة عثمان بك، حيث مُنيت الحملة بهزيمة ساحقة، ولم تعاود الحكومة إيفاد قوة أخرى. كان المك ناصر ذكيَّاً ملمِّاً بفنون السِّياسة والحكم، وقد استخدم سياسة "فرِّق تسد" بمهارة بارعة في إدارة المملكة. ومن مكائده، أنَّه سمح لقبيلة الهبَّانيَّة بمهاجمة سنادرة: لكن الأخيرة، تحت قيادة شيخهم هارون، استطاعوا بعصيهم فقط هزيمة البقَّارة، الذين كانوا مسلَّحين بالحراب وعلى ظهور خيولهم أتوا. كان ناصر قلَّما يوجد في تاسي؛ حيث كان دائماً على رأس قوة غائرة على القبائل المجاورة: يضرب عليهم خراجاً يحملونه له كل عام، ويجمع الرَّقيق، ويسبُّ الماكرين. وحينما يكون في تاسي، يقضي جل نهاره جاثياً على صخرة فوق قمة جبل شالوكدوك: يلاحظ حركة العباد، ويراقب كل من لا يعمل في الحقل، أو الذي يحدق إلى نساء غيره شهوة؛ وعندما ينزل في المساء، يقضي بين النَّاس بحق أو بغير حق. ولربما توهَّم واهمون بأنَّ مملكة تقلي كانت إسلاميَّة تحكم بما أنزل الله. وقد يندهش البعض كيف كان الرعيَّة عل الدَّوام يذكِّرون بعضهم بعضاً بأحد الجناة الذي أُتِّهم في قضيَّة القتل، واختار الجاني - بمحض غباوته - الاحتكام إلى شرع اللَّه فأُعدم. فلم يكن لطف المكوك هو الدَّافع الأساس في الاحجام عن تطبيق حدود اللَّه فحسب، بل كانت الديَّة التي تدفع إلى الخزينة العامة تمثِّل ثروة ماليَّة لا يمكن الاستعاضة عنها بقتل النَّفس. وقيل إنَّ ناصراً كان ممقوتاً لمحاولاته أسلمة المجتمع التَّقلاوي، وإضفاء الطَّابع الدِّيني على الحياة العامة في كافة أرجاء المملكة.
بدأ تسلُّط المك ناصر يزداد بين عشيَّة وضحاها، وكان ينافسه في طغيانه وجبروته ابنه الأكبر المدعو المؤمن، الذي لم يأمن القوم من شره. وقد تضاعف فساده واستبداده عندما عيَّنه والده مكاً على بلولة وأم طلحة. إذ لم يكن بمقدور القوم تحمل تجاوزاته الكثيرة حتى اختطف المؤمن خطيبة أحد رعاياه عشيَّة يوم الزَّفاف، وأصبحت هذه الفعلة القشَّة التي قصمت ظهر البعير. لم يسر تصرُّف المؤمن المواطنين الذين رأوا مفارقات شتى في ادعاءات الوالد وضلالات النجل. وكيف يغض ناصر الطَّرف عن هذه الجريمة الاجتماعية طالما كان يصبُّ على الذين يزنون بأبصارهم سوط عذاب؟ اجتمع عقلاء القوم واجمعوا على كلمة سواء: على أن يتخلَّصوا من المك ناصر، ويبايعوا ابن أخيه آدم، الذي أصبح يعرف فيما بعد بآدم أم دبالو، مكاً لهم، وقرَّروا أن يكون ذلك يوم قنصة المك، في ذلك اليوم الموعود خرج المك وأعوانه للصَّيد، فنفَّذ القوم ما خطَّطوا له. ولمَّا علم المواطنون بخبر استيلاء آدم على السُّلطة، جاء أهل المدينة يستبشرون. عندما أدرك ناصر أنَّه زُهِق من منصبه، جمع أتباعه وهرب إلى الصريف، حيث مكث فيه عاماً كاملاً دون مضايقة أو تحرش من آدم، وأخيراً طرده سكان المنطقة، ومنه ذهب شمالاً واستقرَّ في أبودوم لمدة عامين آخرين. وحينما علم بأنَّ آدم يعد العدة للهجوم عليه، فرَّ إلى السلطات التُّركيَّة-المصريَّة للمرة الثَّانيَّة طالباً المساعدة. إذ لم تنخدع الحكومة التركيَّة مرة أخرى، كما لم تحاسبه بأثر رجعي على عدم وفائه بوعده في الماضي، بل اكتفت بمنحه قطعة أرض في معفوق على النِّيل الأبيض، حيث أقام فيها واستمرَّ في اضطهاده للنَّاس حتَّى أخذته المنيَّة.
ومن جانب آخر، هرب المؤمن إلى طريفي في الجبال الواقعة غرب تقلي، وعاش فيها حتَّى مماته؛ أمَّا شقيقه الصَّغير، الفحل، فقد حاول قيادة المقاومة المسلَّحة ضد حكام تقلي بعد سنوات قليلة من سقوط نظام والده لكنه مُنِي بهزيمة ساحقة وقُتِل. تولَّى آدم الحكم العام 1859م وعمل على بسط العدل، واطلاق الحريات العامة إلى حدٍ ما. وفي عهده سمح لكل من رشاد، وتقوي، وقدير أن تصبح مكوكيَّة مستقلَّة؛ وحوَّل العاصمة من تاسي إلى كراية؛ وازدهرت التِّجارة بين تقلي والأبيض، ومن خلال الأخيرة مع مصر عن طريق درب الأربعين.
تقلي إبَّان حكم المهديَّة (1882-1898م)
في العام الثَّاني والعشرين من حكم المك آدم أم دبالو نزل محمد أحمد المهدي في قدير، عملاً بمشورة عبدالله التَّعايشي وإخوته، الذين وصُّوا المهدي بالابتعاد عن سلطات الخرطوم. ولئلا يظن أتباعه أنَّ هذه الهجرة المزعومة ما هي إلا فراراً من الحكومة التركيَّة-المصريَّة، أعلن المهدي لأنصاره أنَّه تلقَّى رسالة إلهيَّة بالهجرة المهدويَّة إلى جبل ماسة، ومن هناك سوف ينتظر تعليمات ربَّانيَّة أخرى. وبما أنَّ المهدي يفترض أن يكون قد أتى من جبل ماسة في شمال أفريقيا، غير أنَّ المهدي السياسي المحنَّك لم يتردَّد لحظة واحدة في تسمية جبل قدير باسم جبل ماسة، حتَّى يحقِّق واحداً من شروط المهديَّة الرئيسة. مهما يكن من أمر الادِّعاء المهدوي، فعلى الفور طلب المهدي المساعدة من المك آدم، الذي كانت عداوته للحكومة التركيَّة-المصريَّة غير خافية على أحد. أما آدم - العليم بأمور السياسة والساسة - فقد وافق على مبايعة المهدي والتعهُّد بعدم التَّعرُّض له، أو الوقوف في طريقه، على ألاَّ يتعدَّى المهدي على تقلي وقتما تنجح ثورته. أما الاشتراك مع المهدي في الحرب العلنيَّة ضد السلطات التركيَّة، فقد رفض آدم الاذعان لهذا الطَّلب، واكتفى باغداق المهدي بالكرم الفياض والتأييد المعنوي. كان يرى علماء آدم، أي مستشاريه وعلى رأسهم القاضي ميرغني ود تميم، غير ذلك. فقد نصحوه بقتل المهدي لأنَّه ليس بمهدي حقيقي. وإذا قتلته فسوف لن تكون مسؤولاً عن فعلتك هذه أمام اللَّه، هكذا استنصحهم آدم ونصحوه. بل أصرُّوا أنَّ الواجب الإلهي يتطلَّب قتل مثل هؤلاء الرِّجال الدجَّالين. لكن آدم رفض الخضوع لهذه الاستشارة، بل أرسل ابنه عمر مع المهدي إلى قدير للانخراط في المهديَّة. وقد تعمَّق عمر في المهديَّة، وبات يحتل مكاناً مرموقاً تحت قيادة الخليفة عبداللَّه التَّعايشي.
لم يفقد المهدي الأمل في الحصول على المساعدة من المك آدم. وفي الأعوام الأولى من الثَّورة، أرسل رسالة الى آدم طالباً منه المال والمدد؛ ولكن آدم، بناءاً على وصية العلماء، رفض الامتثال للطَّلب. بعد سقوط الأبيض، دعا المهدي آدم لزيارته. في هذه المرة، على الرَّغم من نصيحة علمائه بعدم الذِّهاب، قرَّر آدم قبول الدَّعوة، ولم يفلح معه اصرار القاضي ميرغني الذي كان يلهث وراءه، وباخعاً نفسه عليه حسرات لعلَّه يثنيه عن عزمه، ولكن هيهات. كانت المفاجأة الكبرى عندما وصل آدم وحاشيته إلى الأبيض ليجد نفسه وأقرباءه سجناء في يد المهدي، فندم ندماً شديداً على ثقته في المهدي، ولات حين مندم. أمَّا القاضي ميرغني، الذي تفجَّر غضباً وطفق يسب المهدي ويصفه بأنَّه محتال ومخادع، فقد أُعدِم على الفور. أدرك آدم أنَّه أحسن الظَّن بالمهدي دون أن يقرأ الغيب، فكان جزاءه جزاء سنمار. فعندما اتَّهمه آدم بأنَّه نقض العهد الذي كان بينه وبين تقلي، كان المهدي ذكياً في رده، وقال إنَّه لم يهاجم تقلي. لكن هل امتنع خليفة المهدي - من بعده - من مهاجمة تقلي؟ بالطَّبع لا وسوف نرى كيف أمست تقلي مسرحاً للعمليات العسكريَّة ومصيداً للرقيق في عهد الخليفة عبداللَّه التعايشي. توفى آدم في الحبس مصفداً بالأغلال وموثقاً بالحبال في شبشة في دار الجمع خلال زحف المهدي نحو الخرطوم. أمَّا أبنائه، الجيلي، والطَّاهر، وأبوفلج الذين كانوا مع والدهم في الحبس، فقد استطاعوا أن يفروا من الاعتقال. في تقلي نفسها كان آدم قد خلف وراءه ابنيه، علي أبوزنيت والزيبق، ليديرا شؤون المملكة في غيابه. لكن تشاجر الأخوان، فأخذ علي يسيطر على غرب المملكة، بينما بقي الزيبق في تقلي. وقد قيل إنَّ أخوهما الطيِّب كان مسؤولاً على أم طلحة. لدي سماع خبر وفاة والده، أعلن علي نفسه مكاً على تقلي، ودخل في معارك ضارية مع أخويه. منذ تلك اللَّحظة بدأت مملكة تقلي تشهد تصدعاً داخلياً، وكان هذا الصراع الأسري يمثِّل البذرة الأولى للانهيار والتفتت.
بعد وفاة المهدي في 22 حزيران (يونيو) العام 1885م، أرسل الخليفة عبداللَّه التَّعايشي عمراً، ابن المك آدم، إلى تقلي ليأتيه بدعم أهله. لكن عمراً قد قُوبِل بالغضب العارم من أخوانه لأنَّه هجر والده في تقلي وفي الأسر وانضم إلى الدَّراويش، وتمرَّغ في المهديَّة. أقفل عمر راجعاً إلى الخليفة وهو يحمل رسالة تحدِّي من تقلي. في هذه الأثناء، ابتعث الخليفة قوة عسكريَّة تحت قيادة حمدان أبوعنجة والنُّور عنقرة في شباط (فبراير) 1885م، ثمَّ لحقهما يونس الدِّكيم لإخضاع تقلي، أي بعد سقوط الخرطوم مباشرة. وقد قامت هذه القوة بمجازر بشعة، حيث قُتِل 7 آلاف شخص في منطقة سنادرة وحدها، وأُسِرت أعداد كبيرة من المواطنين. وقد ذُبِح كل من له صلة رحم بالأسرة المالكة، ولم ينج من هذه المذابح الطِّفل الصغير ولا الشيخ الكبير. وفي هذه المعارك قُتِل كل من الزيبق والطيَّب، واستطاع علي أبوزنيت أن يهرب بجلده. شملت حملات النُّور عنقرة كذلك أولاد حميد وكنانة في جنوب شرق تقلي؛ تنزع النَّاس كأنَّهم أعجاز نخلٍ منقعر. فرَّق حمدان (من قبيلة المنضلة) النَّاس في بطون الأودية والكهوف وغنم ماشيتهم وأُحرق غلالهم وبيوتهم؛ ثمَّ دخل بلاد الكواليب فاستولى على جميع ما ملكت أيديهم من غلال ومواش مع 300 رأس من الرَّقيق و120 بندقيَّة.(13) وتوغَّل أبوعنجة في قدير، وهزم مكها بوش، ويحكى أنَّ البشر والقردة فرَّوا جميعاً صوب مورُنج، أمَّا لماذا امتنع حمدان عن مهاجمة رشاد، فقد قيل إنَّه أخذ معه قرون فيلة، ابنة المك عبدالرَّحمن - مك رشاد، كخليلته حتى لا يدمِّر رشاد.
بدأ الصِّراع الثَّقافي واضحاً في المهديَّة بين من يدينون بالإسلام ومن لا يدينون به وقد تحمَّلت عبء هذا الصِّراع القبائل الزنجيَّة التي تسكن جنوب خط عرض 13. وتنفيذاً لتعليمات المهدي بعد تعيينه أميراً على الكدرو والمندل والنيمانج وكل الجبِّال الواقعة غرب تقلي، قام عمر بشن هجمات على البعثة المسيحيَّة ومخفر أمامي تركي-مصري في الدَّلنج. لا مراء أنَّ المهدي قد استغل العامل الدِّيني كأداة رائسة في تأجيج نار الثَّورة الشَّعبيَّة التي اجتاحت السُّودان عصرئذٍ، وقد استفاد من خبرات الخليفة عبدالله التَّعايشي - الذي ورث هو الآخر العلم اللّدني من والده الذي كان فقيهاً مشعوذاً. وقد علمنا أنَّ الخليفة عبدالله التَّعايشي، حين وقع أسيراً في يد الزبير باشا رحمة في دارفور، حاول تحبيب فكرة المهدي إلى الزبير الذي رفض الأمر بشدة وزجره ثم هجره هجراً مليَّاً، وما أن لاحت لعبدالله الفرصة مع محمد أحمد حتَّى نالت الفكرة إعجابه وبدأ في استثمارها دينيَّاً وسياسيَّاً. فسجلاَّت التأريخ مليئة برجال ابتغوا السُّلطة، وبدأوا تدريجيَّاً بأخذ القيادة في كثير من الجماعات، مطلقين على أنفسهم ألقاباً طنانة. لقد أراد البعض أن يكونوا قادة دينيين ورجال سياسة على السواء. وسنحت لهم الفرصة المناسبة لتحقيق مآربهم حين حدثت تجاوزات اجتماعيَّة وسياسيَّة في حق الشُّعوب المغلوبة على أمرها. فقد نظَّم بعض رجال الدِّين، الذين امتهنوا السياسة، حملات تؤيِّد المساواة العرقيَّة وإلغاء الرِّق وأموراً مشابهة، فلقوا - في سبيل تلك الحملات - الاستحسان عند النَّاس، وفي ذكراهم بقوا. وبما أنَّ المهدي قد انتفض ضد الفساد الخلقي في المجتمع السُّوداني وسياسات الحكومة التركيَّة-المصريَّة، غير أنَّه لم يفعل شيئاً ضد ممارسة الرِّق، الذي هو أكبر جريمة أخلاقيَّة في تأريخ الحضارة الإنسانيَّة، بل تحالف المهدي مع النخَّاسين الذين ارتأوا في سياسات الحكومة الجديدة ضد علاقات الرِّق تهديداُ لمصالحهم التجاريَّة. ومن هؤلاء التجَّار الياس باشا - حاكم كردفان السَّابق - وابنه عمر في الأبيِّض، وعثمان دقنة في شرق السُّودان وآخرين ممن تحالفوا معه ضد النظام وسدنته؛ ومن أولئك السدنة نذكر: عبدالله ود دفع الله وأخوه أحمد بك دفع الله في الأبيِّض.
فلندع أمر المهدي جانباً ونعود إلى الصراع السياسي حول السُّلطة في مملكة تقلي. فقد استطاع علي أبوزنيت أن يعيد تأسيس مركزه في كندورو، وبدأ في تكريم كل من صمد معه في هذا النِّضال الطَّويل، مثل النِّيل إدريس، الذي أصبح فيما بعد عمدة موريب. هاجم إبراهيم الخليل قرى تقوي، وأجزاء من جبال الكيجاكجة، وكذلك أولاد حميد في مية العام 1892م. لو اعتزم الخليل هذا محاربة تقلي، لوجدها مفكَّكة وآيلة للسقوط، وذلك للتشتُّت الذي أصاب أحفاد العائلة المالكة، فتفرَّق الأخوة، وسادت الخلافات، ودخلت المملكة في صراع داخلي مستميت أصبحت تهدِّد استقلاليتها وبقائها ككيان سياسي كان مستقلاً حيناً من الدَّهر وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. هرب جيلي، شقيق علي أبوزنيت، من معتقله في القضارف العام 1891م، وتمَّ تعيينه وزيراً لأخيه المك. كان علي مستبدَّاً لدرجة تفوق استبداد المك ناصر؛ أمَّا جيلي، الذي كان يحظى بتأييد شعبي واسع، كان يرى نفسه أنَّه المك الشَّرعي، ولذلك قرَّر علي أن يقتله. احتدم النِّزاع حول السُّلطة شديداً، وفي ذلك تنافس المتنافسون. وبلغت الفتنة مداها عندما جاء أحد الحوازمة الرواوقة - يدعى ناصر - هارباً من الدَّراويش، وطالباً حق اللُّجوء السِّياسي في تقلي. لم يجد علي حرجاً من أن يتَّهم هذا المتضرع بأنَّه جاسوس المهديَّة، وحكم عليه بالإعدام. أمَّا ابن المتوسل، فقد جري إلى بيت جيلي يستغيثه من بطش علي وعصبته، ووعده جيلي بأنَّه في أيدي أمينة؛ ولكن ما أن عسعس اللَّيل إلاَّ وذهب عملاء علي إلى بيت جيلي، وأخذوا الطِّفل وقتلوه. كان ذلك في العام 1892م. بهذه الواقعة، توهَّم جيلي أنَّ عليَّاً ينوي قتله إذا وجد فرصة سانحة. لذلك، وكأنَّ جاءه رجل من أقصى المدينة يسعى فقال له إنَّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فأخرج إنِّي لك من النَّاصحين، اتفق جيلي مع أتباعه أن يلتقوه في بلولة، ومن ثمَّ فرُّوا إلى تاسي. وقد لحقه متطوعون من تقلي في بلولة، تحت قيادة الفكي الحسن من الكواهلة، وبايعوه مكاً على تقلي. أرسل علي قوة من الجيش يقودها الفكي عبدالكريم، شيخ شريحة من الكواهلة، ليقاتل جيلي في بلولة. انضم عبدالكريم وجنوده إلى جيلي، وشرعوا في أداء فروض الولاء والطَّاعة، وبعث عبدالكريم بخطاب إلى علي يحدِّثه فيه أنَّه هُزِم في المعركة، وقّبِض عليه أسيراً.
لم يمض وقت طويل حتَّى أصبح جيلي على رأس قوة كبيرة من المحاربين، وخاصة عندما أرسل أخوه أبوفلج ليجنِّد أولاد حميد. تحرَّك جيلي نحو تقلي والتقى مع علي في طريفي، وعلى الرَّغم من هذه القوة، هُزِم جيلي وتقهقر صوب الجنوب إلى تدقل في جبال الكيجاكجة، حيث وصلته تعزيزات من الذين هجروا عليَّاً، والعائدين من المهديَّة، وقاتل عليَّاً وانتصر عليه، وهرب الأخير. جمع علي قوة متعدِّدة الجنسيات من تقوي، والضَّباب، وحتى الكواليب، وبات يقود حرب العصابات ضد جيلي: يهلك الحرث والنَّسل في المناطق الواقعة في غرب وشمال المملكة. أخيراً جاءت المسرحيَّة إلى نهايتها العام 1896م عندما عزَّز جيلي موقفه العسكري بالعائدين من الدَّراويش الذين هجروا الخليفة حينما لاح على الأفق كتشنر وجنوده البريطانيُّون-المصريُّون والسُّودانيُّون الذين التحقوا بالقوات الغازيَّة، وأمست هزيمة الأنصار قاب قوسين أو أدنى. وبعد المعركة الفاصلة بين الأخوين، هُزِم علي واستقرَّ في جبل الدَّاير، وبذلك انفرد جيلي بالسُّلطة: يقيم الحق، ويسوس الخلق، ويرعى العباد، ويراعي البلاد. حاول البريطانيُّون إعادة الاعتبار إلى علي، وجعلوه مسؤولاً على جبال تكم وطيشان - غربي جبال تقلي - وضمَّت هذه المنطقة لاحقاً وديلكة والموريب. عاش فيها علي حتَّى مات العام 1922م، وخلفه ابنه أبَّكر. أمَّا جيلي، الذي وقَّع اتفاقيَّة السَّلام مع الخليفة عبداللَّه التَّعايشي، رجع ونقض ذلك العهد؛ ربما قد تعلَّم من الخطأ الذي وقع فيه والده مع المهدي. وعندما هرب الخليفة إلى أبودوم بعد معركة كرري بأم درمان، رفض جيلي توفير الحماية له؛ وأمر وكيله عبداللَّه جودات - الذي سبق أن عمل ملازماً في الحرس الخاص للخليفة في أم درمان، وهرب إلي تقلي مع عددٍ من الجهاديَّة - أن يطرده من تقلي. طُرِد الخليفة من بلولة، ومنها إلى قدير، حيث اختبى فيها حتَّى خرج أخيراً ليلاقي ربُّه في معركة أم دبيكرات.
في العام 1899م عيَّنت السُّلطات البريطانيَّة-المصريَّة مأموراً في كراية، ولكن جيلي - الذي كتب إلى حاكم كردفان بالأبيض يشكره على هذا التَّعيين - بات يتجاهل هذا المأمور، وطفق يقوم بتصريف أمور العباد والبلاد كما كان من قبل. وقد تواطأ مع حركة الشَّريف محمد الأمين في تقلي العام 1903م، وعند القبض على الأمين وشنقه علناً في الأبيِّض، وسجن أتباعه، أُخِذ جيلي للمساءلة الجنائيَّة. وحينما أبلغ السُّلطات البريطانيَّة-المصريَّة أن الأمين قد خدعه، تمَّ إطلاق سراحه. توفَّى جيلي العام 1916م بعدما تقلَّصت نفوذه وأصبحت محدودة جدَّاً، وخلفه ابنه أبَّكر الذي عاش حتَّى العام 1921م، ليتولَّى العرش من بعده أخوه آدم النِّيل جيلي.
تقلي في عهد الحكم البريطاني-المصري (1898-1956م)
عند اعتلاء المك آدم جيلي - المك التَّاسع عشر - على العرش العام 1921م كان السُّودان قد دخل مرحلة جديدة من تأريخه الحديث، وذلك من خلال الغزو البريطاني-المصري إليه في 2 أيلول (سبتمبر) العام 1898م، وشرعت السُّلطة الجديدة في البلاد في عمليَّة تجميع أشلاء المملكة ومحاولة إنعاش الحكم الوراثي المتهالك. لقد أضفى النِّظام الثنائي على أجهزة الحكم القديمة طابعاً تجديدياً، ولذلك نجد أنَّ تقلي أصبحت جزءاً من مجلس ريفي المنطقة في كانون الثَّاني (يناير) 1947م. جاءت فكرة رتق أجزاء المملكة في الفاتح من نيسان (أبريل) 1931م، وذلك عقب إلغاء مديريَّة جبال النُّوبة وإضافة تلودي إلى منطقة الجِّبال الشرقيَّة. شهدت المملكة تطوُّرات إداريَّة أخرى، فقد اختار المك أدم آبار كُتُري عاصمة جديدة له العام 1929م بدلاً من كراية في جبال كيجاكجة، ورفض استخدام اسم كُتُري وأطلق اسم العباسيَّة على العاصمة. كان للعاصمة الجديدة موقعاً استراتيجيَّاً هاماً، فضلاً عن كونها مركزاً تجاريَّاً واقتصاديَّاً في غاية الأهميَّة. فنجدها مصدراً للمياه، وبها طرق اتِّصالات جيِّدة بين الشَّرق والجنوب، وقريبة من السكة حديد في أم روابة، كما أكسبها فتح طريق رشاد-العباسيَّة في نفس العام وضعاً خاصاً؛ ثم انشاء محكمة تقلي تحت نفوذ المك، ومنحه سلطات قضائيِّة واسعة.
وفي العام 1930م أصبحت عموديتي الكواهلة وكنانة في بلولة وأبوجريس وأم طلحة في الشَّرق تحت سلطات المك القضائيَّة، وارتفع تعداد السُّكَّان بإضافة 4,100 مواطن إلى المملكة. وفي العام 1932م أُدمجت الموريب وتكم (تعدادهما حينئذٍ 3,300 نسمة) إلى المملكة، وكذلك ترجوك وتقوي (2,500 نسمة) في العام التالي. باتت تقلي - باستثناء رشاد - يحدُّها من الغرب الحوازمة بناظرهم الزِّبير، ومن الجنوب أولاد حميد وكنانة تحت إدارة النَّاظر راضي كمبال، الذي أمسى كيلاً للمك في مدينة أبو جبيهة. بحلول العام 1934م ارتفعت ميزانيَّة المنطقة إلى 1,265 جنيهاً إسترلينيَّاً. وفي العام 1935م امتدَّ نفوذ تقلي القضائي إلى رشاد (7,800 نسمة)، وكذلك أولاد حميد وكنانة والكواهلة في كلوقي بناظرهم محمد (13,200 نسمة). بلغت مساحة رقعة المملكة بعد ترميمها 1,200 ميلاً مربَّعاً، وتعداد سكانها ما يربو على 47,000 نسمة، وقفزت ميزانيتها إلى 3,500 جنيهاً إسترلينياً. أصبح السكَّان خليطاً من العرب، والنُّوبة المسلمين في رشاد، والنُّوبة غير المسلمين في كاو-نيارو، وقبائل تعود أصولها إلى نيجيريا (الفلاَّتة). وبحلول العام 1937م انضم ناظر اللِّيري إلى المنطقة، وفي العام 1943م ارتفعت الميزانيَّة بإضافة 1,600 جنيهاً إسترلينياً إليها من العموديات الأربع، وبعد عامين انضمت عموديَّة تلودي وبلغت الميزانيَّة 15,000 جنيهاً إسترلينيَّاً وتعداد السكَّان 140,000 نسمة.
تم تقسيم المملكة إلى إدارتين وتجزئة هاتين الإدارتين إلى 7 أقسام:(14)
الإدارة الشَّماليَّة: وتضم 3 أقسام هي تقلي والحوازمة ورشاد (مجموعة تقوي وترجوك). وتقع تحت إدارة شقيق المك - الشَّيخ حاج الطَّاهر جيلي.
الإدارة الجنوبيَّة: وتشمل 4 أقسام هي أولاد حميد - كنانة، الكواهلة في كلوقي، اللِّيري، وعموديَّة تلودي. ويدير شؤونها النَّاظر راضي كمبال.
حينما عزم المك الاستقالة العام 1946م ليعتزل العمل العام ويركن إلى حياته الخاصة، رفض الإداريون ذلك لأنَّ إبنه كان لايزال يافعاً وليس بمقدوره أن يرث الحكم. أمَّا النِّظام السِّياسي الذي الذي أصبح سائداً في المنطقة منذ الفاتح من كانون الثَّاني (يناير) 1947م فقد كان يعرف بمجلس ريفي المنطقة، ويتكوَّن من ممثِّلي القبائل الذين يعيِّنهم محافظ المديريَّة، وثلاثة أعضاء يمثِّلون المصالح الخارجيَّة - يتم تعيينهم بواسطة المحافظ كذلك - ثمَّ الممثل التجاري - الذي ينتخبه رجال المال والأعمال في الأسواق الرئيسة في العباسيَّة ورشاد وتلودي. وجد المك آدم فرصة مواتية لرفض رئاسة هذا المجلس الموقر، فما كان من المجلس إلاَّ أن انتخب شقيقه الشَّيخ حاج الطَّاهر جيلي رئيساً للمجلس - على الأقل - خلال الثلاث سنوات الأولى من تأسيس المجلس.
خلاصة
فيما مضى من السَّرد التأريخي للأحداث السياسيَّة والاجتماعيَّة التي عليها قامت مملكة تقلي، نجد أنَّ المملكة كانت مستقلة أيَّما استقلال. واستطاع رعايا المملكة أنَّ ينجو من نير الضَّرائب الباهظة، التي كانت سمة العهد التركي-المصري في السُّودان (1821-1885م). بناءاً على هذا، رفض المك آدم أم دبالو دفع الضرائب حين أوفد الياس باشا - حاكم كردفان يومئذٍ - رسله من مقرِّه في الأبيِّض إلى المك "التَّقلاوي". فماذا كان رد المك آدم لرسل الياس؟ قال لهم المك آدم: "إنَّي لأدفع فقط قيمة البضائع التي أشتريها من التجَّار، لكنَّني لن أدفع لهم الضرائب." وفي تلك الأثناء، أرسل المك آدم رسالة إلى الأبيِّض مستفسراً مستنكراً عما حدث للأتراك والبيض؟ هل لقوا مصرعهم أجمعون أبتعون حتَّى باتت الحكومة تعيِّن التجَّار "الجلاَّبة" من الجعليين والدَّناقلة والشَّايقيَّة في وظائف عليا دون إعطائها لرجال ذوي شأن عظيم؟ فكان هذا الاستهجان كافياً بأن تعفى السُّلطات حاكم كردفان، الياس باشا، ومساعده، عبدالرحمن بن نجا، من منصبيهما حين رأت أنَّهما لا يحُظيان بتقدير وتوقير من النَّاس. بيد أنَّ للإعفاء دواعي أخرى تتمثَّل في التَّنافس السياسي والتجاري لتجار الرَّقيق في الأبيِّض والنتائج التي أفرزها هذا الصراع المحموم، وخاصة إذا أدركنا أنَّ أحد أسباب غزو محمد علي باشا للسُّودان كان من أجل الحصول على الرِّجال الأقوياء (الرَّقيق) لتحديث جيشه، فضلاً عن جمع المال لتوسيع نفوذ الإمبراطوريَّة العثمانيَّة. ولإشباع رغبة السُّلطة الملحَّة ومصالهم الشخصيَّة، استخدم جباة الضرائب من الأتراك والشايقيَّة والعساكر (الباشبزق) سبلاً وحشيَّة، وانتشر أسلوب الرشوة والمحسوبيَّة، حيث نجت منها مملكة تقلي بفضل استقلالها.
يقولون دائماً إنَّ التأريخ يكتبه المنتصرون، وهكذا الحال لتأريخ السُّودان (History is written by victors). فالذين دوَّنوا تأريخ هذا البلد هم أولئك الذين تربَّعوا على عرش السُّلطة في الخرطوم سواء علينا البريطانيُّون-المصريُّون، الأجانب الذين خدموا الإمبراطوريَّة العثمانيَّة أو البريطانيَّة في السُّودان، أم الأقليَّة الحاكمة التي ورثت السُّلطة من المستعمرين. على أيٍ، هذه لمحات وقبسات من حضارة سادت ثمَّ بادت، وقد إرتأينا أنَّه من الضُّروري تسليط الأضواء عليها لإزالة الضباب الذي ظلَّ ضارباً عليها حيناً من الدَّهر، إما بسبب جهالة الجهلاء، أو تحريف المغالين، أو انتحال المبطلين. ولكن ثمة أسئلة تظل في حاجة إلى أجوبة؛ نذكر على سبيل المثال الحاجة إلى الدراسة الأثنية واللُّغوية عن سكان تقلي وعلاقتهم بقبائل النُّوبة الأخرى؛ وكذلك العلائق التي ربما ربطتهم بممالك النُّوبة القديمة على ضفاف نهر النِّيل قبل دخول العرب إلى السُّودان. وهذا يعني الانغماس في دراسة رسائل ومخطوطات الرحَّالة الذين زاروا السُّودان والمنطقة وكذلك إجراء بحث ميداني مع بعض كبار تقلي، فضلاً عن القيام بحفريات في المنطقة. فهل نحن فاعلون؟
هوامش وإحالات
(1) أنظر الدكتور يوسف فضل حسن: مقدمة في تأريخ الممالك الإسلاميَّة السُّودانيَّة في السُّودان الشرقي (1450-1821م)، الدار السُّودانيَّة للكتب، الخرطوم.
(2) Ewald, J J, Soldiers, Traders and Slaves: State Formation and Economic Transformation in the Greater Nile Valley (1700-1885), USA, 1990.
(3) أنظر محمد بن النور بن ضيف الله: كتاب الطبقات في الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السُّودان، تحقيق الدكتور يوسف فضل حسن، الخرطوم، 1971م.
(4) المسيد عبارة عن مسجد خصوصي ومدرسة لتعليم القرآن والحديث.
(5) بالإضافة إلى الشَّهادة، التي هي ركن من أركان الإسلام الخمسة، نجد أنَّ البديَّات يمارسون بعض الطُّقوس والعادات التي تُعتبر في بعض الأوساط الدِّينيَّة بدعة منافية للتَّعاليم الإسلاميَّة. وتشمل هذه العادات التَّوسُّل إلى الخالق تحت شجرة الهجليج، وتقديم القربان للبارئ على قمم الجِّبال، وهذا هو إسلام أهل السُّودان الذي فيه تمتزج الخرافة بالعقيدة والتَّقاليد بالعبادات.
(6) Elles, R S, The Kingdom of Tegali, Sudan Notes and Records, Vol XVIII, Part I, 1935.
(7) Holt, P M, A Modern History of the Sudan: From Funj Sultanate to the Present Day, London, 1961; Slatin Pasha, R C, Fire and Sword in the Sudan: A Personal Narrative of Fighting and Serving the Dervishes (1879-1895), London, 1897.
ينسب الجعليُّون أنفسهم إلى جدِّهم العبَّاس عم الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم في شبه الجزيرة العربيَّة. وإنَّهم بهذا النَّسب لفخورون، وإنَّهم لينظرون بشئ من السخريَّة والازدراء على الدَّناقلة، الذين يعتبرونهم منحدرين من العبد دنقل. وحسب الأسطورة، فإنَّ دنقل - بالرَّغم من أنَّه كان عبداً - صعد إلى مرتبة حاكم مملكة النُّوبة، وكان يدفع الجزية لبهنيسا، القس القبطي، الذي كان مسؤولاً عن المنطقة الواقعة بين صرص ودبَّة. وقد شيَّد دنقل مدينة دنقلا، التي باتت تحمل اسمه، وسرعان ما بدأ مواطنو هذه المنطقة يُعرفون بالدَّناقلة. بالرَّغم من أنَّهم امتزجوا وتصاهروا مع العرب والمواطنين المحليين، وهم كذلك يصرُّون على أنَّهم عرب، إلاَّ أنَّهم لم يسلموا من تهمة العبوديَّة والتمييز العنصري من قبل الجعليين.
(8) MacMichael, H A, A History of the Arabs in the Sudan, Vol 1, Cambridge, 1922.
للتعرف على أصل اسم (جعل) أنظر مقال علي حليب بعنوان الأصل الزنجي لأسماء المدن السُّودانيَّة.. المعاني والأبعاد، سودانايل، 7/5/2003م.
(9) أنظر سراج الدين عبدالغفار عمر: تأريخ الصراع في جبال النُّوبا (الفترة 1984-1996م)، الخرطوم، 1996م.
(10) الدكتور شوقي الجمل: تأريخ سودان وادي النيل: حضاراته وعلاقته بمصر، من أقدم العصور للوقت الحاضر، الجزء الأول، القاهرة، 1996م؛ أنظر صحيفة "الخرطوم": 12/9/1995م - العدد 986.
(11) Ibrahim, A U M, The Dilemma of the British Rule in the Nuba Mountains (1898-1947), Khartoum University Press, 1985.
(12) الدكتور أحمد محمد البدوي: مجلة "الحوار": أكتوبر 1993م، العدد الثالث، السنة الأولى.
(13) عوض عبد الهادي العطا: تأريخ كردفان السياسي في المهديَّة (1881-1899م)، الخرطوم، 1973م.
(14) Kenrick, J W, The Kingdom of Tegali, Sudan Notes and Records, Vol XXXIX, Part II, 1948.