التطهير العرقي من خلال الرؤية الفقهيَّة وسوداويَّة العيش وسط الحرب
في بحث سابق صُدِر لنا في لندن – حاضرة المملكة المتحدة - جادلنا في أكثر ما يكون الجدال عن تجاوزات حقوق الإنسان في جبال النُّوبة في أول عهد النُّوبة بالحرب الأهليَّة في جنوب كردفان وفي غمرة الحرب وفي نهايتها، وبيَّنا رأينا فيها بياناً مجملاً، ولكن – برغم من ذلك كله – لم نوف الموضع حقه من السرد، ولا نظن أنَّنا سوف نوفي حقه هنا أيضاً، وذلك لأنَّ هول ما حدث أفجع وقعاً في النفس، ونتيجة الوقائع أوجع ألماً بكثير مما يمكن أن يتصوَّره الناس ويتخيَّله الذين لم يعيشوا هذه اللحظات العصيبة. فقد سامت زبانية النظام "الإنقاذي" أهل النُّوبة في جبال النُّوبة أشدّ أنواع الخسف، وأفظع صنوف العذاب، فكانوا يحتملونها بصبر وجلد.(17) هذا، فلم نكن وحدنا ممن بذلنا الجهد الجهيد في سبيل هذا التسجيل، بل تجاهر بالاستنكار ضد هذه التجاوزات الإنسانيَّة رؤساء حكومات أجنبيَّة ووزراؤها، وكتبت في هذا الأمر المرير الصحافة الغربيَّة ومراكز الدراسات ومنظمات حقوق الإنسان ولجان برلمانيَّة لحكومات غربيَّة تعني دوماً بحقوق الإنسان. ولكن مهما كتب المخلصون من أبناء السُّودان، أو الحادبون على مصلحة السُّودان من غير السُّودانيين، أو دعاة الإنسانيَّة كلهم أجمعون أكتعون، أو أظهره رجال الدين المسيحيُّون، أو أصحاب الضمائر الصَّادقة أو غيرهم فلم يفوا بالغرض حقه، لأنَّ ما حدث كان شيئاً أفظع مما يمكن أن يحتمله أي بشر إلا الذين أُوتوا بسطة في الشجاعة، وأشنع مما يمكن أن يُخطر على بال، وأبشع مما يمكن أن يقدم عليه إنسان يملك مثقال ذرة من الأخلاق. وبما أنَّ العدالة يمكن أن تنتظر ولو طال الدهر، فمتى تأتي هذه العدالة لأهل النُّوبة، وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار بتجارب الآخرين من الأمم الأخرى؟
ففي الماضي كانت الضغوط الخارجيَّة أو الأمميَّة التي كانت تُمارس على الحكومات في سبيل كبح غلوها ضعيفة، أو تكاد تكون معدومة. ولذلك وجدت دول كثيرة الحرية في مجزرة أبنائها وبناتها، وأكبر شاهد على هذا العصر مقتل 1,7 مليون كمبودي تحت سلطة "الخمير الحمر" في الفترة ما بين (1975-1979م) – أي ربع سكان كمبوديا، وأكبر من نسبة الذين قُتِلوا بواسطة النازيَّة بعد احتلالها لأجزاء من أوربا، أو ضحايا "التطهير العرقي" من التوتسي في رواندا بواسطة الهوتو العام 1994م. وبما أنَّ العدالة تُمهَّل ولا تُعجَّل أحياناً فقد مثَّل خمسة من متهمي الإبادة الجماعيّة في كمبوديا في ذلك الحين أمام القضاء في آذار (مارس) 2009م – أي بعد ثلاثين عاماً من اقترافهم لهذه الجرائم البشعة – وعلى رأسهم الفريق دوتش، الذي كان على قيادة الشرطة السريَّة للخمير الحمر في ذلك الرَّدح من الزمان. وإنَّا لنشعر بالحاجة إلى أن نضرب مثلاً آخر قد يدهش له السُّودانيُّون؛ لأنَّهم لم يعتادوا على هذه النمطيَّة من العدالة في حيواتهم في السُّودان. ففي يوم 7 نيسان (أبريل) 2009م أدانت المحكمة رئيس بيرو السابق البيرتو فوخيموري بتهمتي الاختطاف والقتل، وحكمت عليه المحكمة بالسجن 25 عاماً. فقد وجد القضاة الثلاثة أنَّ فوخيموري – البالغ من العمر 70 عاماً – مذنباً لأنَّه أعطى أوامر لفرقة قتل عسكريَّة خلال الحقبة التي سُمِّيت ب"الحرب القذرة" ضد المتمرِّدين الماويين في التسعينيَّات. وتُعتَبر المحكمة، التي استمرَّت في الانعقاد لمدة 15 شهراً في قاعدة الشرطة الخاصة بالعاصمة ليما، انجازاً للعدالة في سبيل حقوق الإنسان ضد رئيس منتخب ديمقراطيَّاً في أمريكا اللاتينيَّة، ولكنه استغل سلطاته. مدير جامعة سابق كان وسياسي، تم ترشيح فوخيموري رئيساً لبيرو العام 1990م، وقضى على التمرد والتضخم الذي تفشي في البلاد، وحقق استقراراً في الدولة. غير أنَّ الفساد والاغتيالات السياسيَّة كانا سمة سيئة لازمت حكمه التسلطي حتى سقوطه من السلطة العام 2000م، ومن ثَمَّ هرب إلى اليابان، حيث موطن والديه، وبعث باستقالته من هناك بالفاكس. ثمَّ حاول العودة إلى السلطة حين سافر إلى شيلي العام 2005 مهيئاً نفسه لخوض الانتخابات الرئاسيَّة التي كانت تجري في ذلك الحين في بيرو، ولكنه اعتقل وسُلِّم إلى السلطة الحاكمة في بيرو العام 2007م. ففي الأحدث التي راح ضحيتها حوالي 70,000 شخص إثر تمرد "توباك أمارو" و"الطريق الساطعة" الماويَّة، قتلت العسكرتارية حوالي 37% من هؤلاء الضحايا. فقد أدانت المحكمة فوخيموري في مقتل 25 مواطن في مذبحتين واختطاف رجل أعمال وصحافي. وإنَّ هاتين المجزرتين قد قامت بهما وحدة من ضباط الاستخبارات العسكريَّة ذو التدريب الخاص، حيث أعدمت هذه الوحدة 15 شخصاً في ليما العام 1991م خطاً تحت تهمة التعاطف مع حركة التمرُّد. وفي العام التالي اختطفت هذه الوحدة 9 طلاب جامعيين وأستاذ جامعي، وأمسوا في عداد المفقودين. وبما أنَّ ليس ثمة شيئاً يستطيع أن يعوِّض الأموات، إلا أنَّ هذه العدالة قد قدَّمت تعزية لذويهم، وحقَّقت رغبة منظَّمات حقوق الإنسان، وأمست عبرة لم يعتبر.
ولكننا بعدنا عن الموضوع فيما يظهر، فلنعد إليه لنقول ما كنا نقول منذ حين في أمر النُّوبة. فالجدير بالذكر إنَّ العلاقة بين الدكتور حسن عبد الله الترابي ومنطقة جبال النُّوبة لذات خلفيَّة دراميَّة قبل الانتفاضة الشعبيَّة العام 1985م. إذ كان لا يتعدَّى أنصار الحركة الإسلاميَّة يومئذٍ الخمسمائة شخص من المثقَّفين والطلاب المقيمين في الخرطوم. وبعد الانتفاضة تعرَّض الترابي لحملة تشويش وصلت إلى مرحلة القذف بالحجارة في أبو جبيهة والدلنج وكادقلي لمجرَّد أنَّ الشيخ الترابي سعى لمخاطبة الجماهير وطرح بضاعته الكاسدة. واحتمل الرجل القذف بالحجارة والهتافات التي صنعت في الدور الحزبيَّة الاشتراكيَّة وغير الاشتراكيَّة مثل حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب القومي السُّوداني وحزب الأمة وقليل جداً من الشيوعيين، وخاضت الحركة الإسلاميَّة الانتخابات وفشلت في الحصول على أيَّة دائرة بجنوب كردفان برغم من أنَّ مرشَّحي الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة قد حقَّقوا تقدُّماً كبيراً، وبخاصة النور كبسور أبو صليب. وبعد تشكيل الحكومة الائتلافيَّة بين حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي كانت الأوضاع الأمنيَّة في جبال النُّوبة تتدهور يوماً بعد الآخر. هذه هي الظروف السياسيَّة التي فيها تكوَّنت ما عُرِفت ب"خلايا الدفاع الذاتي" من عناصر حزب الأمة والإسلاميين (الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة)، التي تحوَّلت إلى "قوات الدفاع الشَّعبي".(18) ومن قبل كانت عملية "تمليش" القبائل العربيَّة المسلمة المجاورة لجنوب السُّودان قد بدأت. ومن هذه القبائل المسيريَّة (الحُمُر والزرق)، الرزيقات، والمعاليا التي تمَّت استمالتها لأنظمة الخرطوم كمحاولة من الأخيرة لصد تمدد الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان شمالاً. ومما ساعد على تنفيذ هذه السياسة امتلاك هذه المجموعات العربيَّة مهارات عالية في استخدام الأسلحة الحديثة، نسبة لخدمة أفرادها في الجَّيش السُّوداني. وكذلك تمَّ تسليح بعض القبائل الجنوبيَّة – مثل منداري، ديدينغا، مورلي، وباري – بواسطة الحكومة. إذ نسَّقت هذه الميليشيات الجنوبيَّة مع النوير – أي "أنيانيا تو"، وكانت الحكومة تطلق على ميليشيات النوير اسم "القوات الصديقة"! وقد عالج الدكتور محمد عبد الرحيم محمد صالح والدكتور شريف حرير العلاقة بين انتشار الميليشيات القبليَّة في جنوب كردفان والدولة السُّودانيَّة في ثلاث أفكار متداخلة هي:(19)
المفاهيم المتنافسة للحرب الحاليَّة (1985-2005م)، ومدلولاتها السياسيَّة على الأصعدة المحليَّة والوطنيَّة.
صعود الميليشيات القبليَّة باعتبارها امتداداً لذراع الدولة القمعي، وبالتَّالي إضعاف احتكار الدولة لاستخدام العنف والقهر.
أثَّر كل ذلك في عمليَّة الاندماج الوطني في السُّودان.
على أيَّة حال، فإنَّ في تأريخ الحروب الأهليَّة لعبر ودروس. ولكن لماذا فشلت الحكومات السُّودانيَّة في فهم هذه العبر والدروس والتعامل معها بإيجابيَّة؟ ومثلما هي الحال في السُّودان، فقد فشلت أنغولا وموزنبيق والكونغو وإثيوبيا ودول أخرى في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينيَّة في القضاء عسكريَّاً على صراعاتها الأهليَّة، كما فشلت الولايات المتحدة في القضاء على حرب عصابات الثوار الفيتناميين، والاستثناء الوحيد في إفريقيا هو حرب البيافرا في نيجيريا في الستينيَّات من القرن المنصرم. وبالطبع، فإنَّ حروب العصابات من الصراعات التي يكتنفها كثر من التمويه لأنَّ الحكومات لا تواجه جيشاً نظاميَّاً بها معسكرات دائمة في بعض الأحايين، بل إنَّها في حال احتراب مع جيش ذي قواعد متنقلة حسبما تقتضي الظروف، أي وحدات متنقِّلة وسريعة الحركة، وليس لها من الناقلات أو العربات المدرعة أو غيرها من الآليات الثقيلة التي لسوف تشل حركتها في حال تدمير هذه الناقلات. ثم هناك الجانب النفسي كذلك، فإنَّ الحروب الأهليَّة تنشأ بين أبناء الشعب الواحد، وفي أغلب الأحايين تجد إخوة أشقاء يقفان على جانبي الصراع، أو أبناء القبيل الواحد ذاته وقد انقسموا إلى فريقين: فريق مع الحكومة وآخر مع التمرُّد. وهناك المأجورين الذين تستأجرهم الحكومات وهم في حال الارتزاق، وهناك العقائديين الذين يرون أنَّ المذاهب السياسيَّة أو العقائد الدينيَّة تتطلَّب منهم خوض غمار حروب الآخرين تحت لواء هذا المذهب السياسي أو تلك العقيدة الدينيَّة التي هم بها يؤمنون. وعندما تجتمع مثل هذه العناصر لتمويل حرب أهليَّة، فينبغي على الحكومات – لأنَّها هي التي تقود الحملة السياسيَّة لجلب وخلط هذا الشتات – أن تأخذ الجوانب الأخلاقيَّة في الاعتبار، ولأنَّ حروب الأخوان الأشقاء، أو بني الأعمام، هي أشد وطأ من أيَّة نزاعات أخرى. لذلك كان لزاماً على الدولة السُّودانيَّة أن تأخذ العبر من التأريخ المحلي أو الإقليمي أو الدولي حول التعاطي مع مثل هذه الأنماط من الحروب، وأن تمتثل الأخلاق كذلك وتستكثر في البحث عن سبل الحلول السياسيَّة الدائمة العادلة. لأنَّ كلفة هذه الحرب عالية في الموارد الماديَّة والبشريَّة. وبما أنَّ التكاليف الماديَّة موجودة في شكل أرقام في سجلات الدولة إن هي اهتمَّت برصدها وتدوينها، إلا أنَّ الضحايا البشريَّة التي كان ينبغي الاهتمام بها أكثر فأكثر، لم تجد سبيلاً إلى ذلك الاهتمام. ولئن حصرت الدولة موتاها وجرحاها ومفقوديها في المعارك التي دارت بين قواتها من جانب، وقوات الجيش الشعبي لتحرير السُّودان من جانب آخر، إلا أنَّها لم تعر انتباهاً للمدنيين الذين وقعوا ضحايا هذا الصراع الدموي. ففي سبيل أولئك المدنيين القتلى وهؤلاء العاجزين الجرحى والأطفال اليتامى والشيوخ المرضى نورد بعضاً مما حدث لهم في جبال النُّوبة.
ونتيجة لمعاناة النُّوبة في جبال النُّوبة – كما شهدنا – قامت منظمة تضامن أبناء النُّوبة بالخارج في بريطانيا ومصر وسويسرا، ثمَّ هولندا واليمن لاحقاً وأفراد نشطاء في فرنسا. ثم شهدت كل من الولايات المتحدة الأمريكيَّة وكندا والنرويج والسويد وأستراليا الرابطة العالمية لأبناء جبال النُّوبة. فقد ورد إلينا تقرير عن إحصائيَّة الحوادث التي حصلت في بعض مناطق جنوب كردفان خلال شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1989م، وكانت مأسويَّة. ففي بلاغ رقم 2479 في قسم الشرطة بالمنطقة الجنوبيَّة من جبال النُّوبة بتأريخ 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989م أبلغ فضل الله عبد الرحمن كوة من قرية كيقا الخيل أنَّ مجموعة مسلَّحة من العرب بقيادة البشرى الإمام، وهو كان معلِّماً بمدرسة دميك الابتدائيَّة، وكان مقيماً في قرية درنقاس، قد هجمت على منطقة كيقا الخيل، وقتلت 14 شخصاً وجرحت 13 آخرين، ونهبت ألفين رأس من الماعز. وفي بلاغ آخر برقم 2488 والذي تمَّ تدوينه في يوم 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989م، وكان المبلِّغ عنه هو التاجر كوة جمال الدين، وهو كان يقيم في منطقة تكسوانة التابعة لشياخة أبو شنب ككي، أفاد بأنَّ العرب – أو ما يسمى ب"قوات الدِّفاع الشَّعبي" - قد هجموا على المواطنين نهاراً جهاراً في مزارعهم، وأطلقوا عليهم أعيرة ناريَّة، مما أُصِيب المواطن بخيت كوة بطلقة في راحة يده. أما في البلاغ رقم 2501 بتأريخ 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989م، وكان المبلغ عنه ملازم أول بقوات الشَّعب المسلَّحة في حامية موسى مرجان، فقد أفاد البلاغ بأنَّ مجموعة من العرب في "قوات الدِّفاع الشَّعبي" قاموا بالهجوم على منطقة الروصيرص وقتلوا سبعة أشخاص وجرحوا اثنين آخرين. وفي البلاغ رقم 2505 في يوم 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989م وكان المبلغ عنه زكريا آدم إسماعيل، فيورد أنَّ مجموعة مجهولة هاجمت الرعاة في منطقة الملاحة وقتلت منهم ستة أشخاص وجرحت ثلاثة آخرين. وفي يوم 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989م هجمت جماعة من العرب المسلَّحين على قرية الدبيبات، وقتلت 14 شخصاً وجرحت اثنين آخرين. والمدهش في الأمر حقاً أنَّ هذه الأحداث ما هي إلا مشاريع مشتركة بين القوات النظاميَّة من الجَّيش والشرطة وقوات السجون من أبناء العرب في المنطقة. وبعد حدوث كل تلك الحوادث المذكورة أعلاه لم تقم الحكومة في محافظة (ولاية حاليَّاً) جنوب كردفان بأيَّة محاولة لحماية المواطنين، وكان ذلك يعني الإهمال المتعمد من قبل القيادة في المنطقة، والتي تمثَّلت في قائد الحامية في كادقلي ومدير شرطة جنوب كردفان، وانتشار السلاح وسط المواطنين العرب لدعم الحكومة التي سلَّحتهم في بادئ الأمر.(20)
وكأنَّما هذا الوضع المزري غير كافٍ حتى بدأت الأحداث المأسويَّة تتوالى بشكل أكثر فجائعيَّة. ففي تقرير عن الأحداث المؤسفة التي وقعت على قبيل أم لاوية بمناطق صبوري ولقوري وتلو في يوم 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989م سالت دماء كثيرة. ففي نفس التأريخ المذكور وصلت قوة من المليشيات العربيَّة-الحكوميَّة تحملهم عربة إلى قرية الدبيبات التَّابعة لمنطقة لقوري، وكان أفراد هذه القوة يرتدون الزي العسكري، أي ما تتزيَّن به القوات المسلَّحة الحكوميَّة، وكانت حجتهم أنَّهم جاءوا إلى هذه القرية للاجتماع مع المواطنين بخصوص السَّلام. فقد انخدع رجال القرية بهذه الحيلة الماكرة، وتجمَّعوا للاستماع لحديث السَّلام، الذي له رنين، ولأنَّه حديث ذي شجون. وبعد تجمعهم غدروا بهم وربطوهم، ثمَّ أُطلق عليهم الرصاص، فمات أغلبهم ما عدا شاب واحد استطاع أن يهرب منهم وهو كان مصاباً، وجرى حتى وصل إلى حامية كادقلي، وأبلغ قائد الحامية بما جرى، وحُجز في المستشفى، حيث لم يتحرك القائد إلا في اليوم التالي، وذلك بعد أن قام جندي من أبناء المنطقة باستذكار القائد بما جرى للمرة الثانية. بعدئذٍ تحركَّت قوة عسكريَّة ومعهم الجندي البليغ. وقبل الوصول إلى مكان الحادث، قابلوا مجموعة من الميليشيات العربيَّة في الطريق، وحينما سألهم قائد القوة إلام هم متجهون؟ أدَّعوا بأنَّهم ذاهبون للبحث عن بهائمهم التي سُرقت، فتركوهم وذهبوا إلى مكان الحادث فوجدوا الضحايا الأموات. ثم مر أفراد هذه الميليشيات بقرية الدرود التَّابعة للقوري وقتلوا ما قتلوا، وأثناء مرورهم بمنطقة صبورى وجدوا فتاتين بقرية دلقو التَّابعة لصبوري، فذبحوهما، حيث لم يذكر التقرير أسماءهما. وفي طريقهم اشتبك أفراد هذه الميليشيات مع المواطنين في قرية الروصيرص التَّابعة لصبوري، فلقي أربعة من رجال القرية حتفهم وجُرح اثنان. وفي منطقة تلو – وما زال أفراد هذه الميليشيات في طريقهم إلى كادقلي – قابلوا رجلاً وهو ماضٍ في سبيله إلى مزرعته، فقتلوه وهو أنديو تية، وكذلك وجدوا طالبين ومعهما جندي فذبحوهم كلهم أجمعين أبتعين. وختم كاتب التقرير – وهو من أبناء قبيل أم لاوية المنكوبة – حديثه بالنِّداء التَّالي: باسم القبيل نرجو من الحكومة اتخاذ اللازم تجاه الجناة وإيقاف هذا العبث (بأرواح المواطنين النُّوبة).(21)
كذلك أتتنا تقارير مرعبة عن الأحداث التي وقعت في المنطقة التي يقطنها أبناء كالوقي (لوقان)، والتي رُفع إلى مستشار أمن السُّودان العميد إبراهيم نايل إيدام في يوم 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989م (ملحق رقم (1)). ثم جاء الخطاب الضافي من اللجنة العليا لأبناء جبال النُّوبة للسَّلام والتعمير إلى رئيس وأعضاء مجلس قيادة ثورة "الإٌنقاذ" الوطني، ورئيس مؤتمر الحوار الوطني لقضايا السَّلام، والمشرف السياسي لإقليم كردفان، وحاكم إقليم كرفان في يوم 30 تشرين (نوفمبر) 1989م ليلخِّص ما يجري في جبال النُّوبة (ملحق رقم (2)). وفي إحدى الإغارات التعسفيَّة على النُّوبة في المناطق الواقعة شرق وجنوب كادقلي قامت الحكومة بحرق القرى في أم سردبة، تيش، العتمور، أم دورين، حمرة، وبرام. وبعدما قتل الجيش معظم القرويين قاموا باختطاف 600 طفلاً من أبناء النُّوبة وأتوا بهم إلى كادقلي، وكان بعضهم قد تم تعميدهم بواسطة قس كاثوليكي اُستقدِم من كادقلي لأداء هذه الطقوس الدينيَّة. ويحكى شاهد عيان أنَّه حينما استقدم الجَّيش الحكومي هؤلاء الأطفال المخطوفين إلى كادقلي طلبوا من مواطني المدينة أخذ من يرغبون منهم، واستنكر أهل المدينة هذا الصنع الشنيع لأطفال تبلغ أعمارهم بين 9-14 عاماً، وأغلبهم يتامى. وبعد أن قضوا بضع أيام في كادقلي، تمَّ نقلهم إلى مدينة أم روابة في شمال كردفان لأسلمتهم في خلوة الشيخ بكري وقيع الله محمد خير. وفي الفترة من 1990-1991م – وهي الفترة التي فيها شهدت مدينة كادقلي تصعيداً واضحاً في الاغتيالات الجماعيَّة، أو ما يمكن نعتها ب"الاغتيالات الدستوريَّة" (Judicial murders) – تخصَّص لها مقصلة في حي السَّما، وهو يقع على بعد بضعة كيلومترات من القيادة العسكريَّة في كادقلي باتجاه الشرق. وبعد الإعدام كان يُترك القتلى في العراء، وكانت الجثث المتحلِّلة سبباً في تلوُّث الطقس بالروائح الكريهة، وانتشار الذباب والصقور في الجو، وفي بعض الأحايين حملت الكلاب السائبة أطراف القتلى ودخلت بها إلى حي السما. ولهذه الأسباب هاجر السكان، وتقدَّم عمدة الحي بشكوى للمسؤولين، ولكن دونما جدوى.(22) وكانت تلك الأيام شبيهة بالعهد الإمبراطوري التركي-العثماني في ألبانيا، أو ما وصفه الروائي الألباني إسماعيل قدير ب"قانون سمل العيون" (The Blinding Order)، حيث كان يُوشى الجار أنَّ جاره يملك "عيون الشر"، ومن ثَمَّ تقوم زبانية الإمبراطوريَّة بسمل عيونه. إذ يعكس هذا الأمر كيف يمكن أن يتعاون الأفراد مع ماكينة الإرهاب الذي يمكن أن تمثله الدولة أيَّة دولة. وهذا – بالضبط والربط – ما حدث في التسعينيَّات في جبال النُّوبة، حيث كان يبلِّغ عملاء النظام عن جيرانهم بأنَّهم يمثِّلون "الطابور الخامس" – أي من أنصار الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، ويأتي رجال الأمن ثم يقبضون عليهم أو يُطلب مثولهم أمام قيادة الاستخبارات العسكريَّة، أو قوات الدفاع الشَّعبي، كما هو واضح في الأمر التالي، ومن ثََمَّ لم يروا النور مرة أخرى:
بسم اللَّه الرَّحمن الرَّحيم
القيادة العامة لقوات الدِّفاع الشعبي
اللِّواء الخامس - كادقلي
بواسطة/ قائد كتيبة خالد بن الوليد
النِّمرة /ق/د/ ش
السيِّد/ حسين محمَّد مدو
المحترم
نرجو حضورك يوم الأحد الموافق 24/9/1989م أمام مكتب قوات الدِّفاع الشَّعبي السَّاعة العاشرة والنِّصف صباحاً. ونرجو الحرص على الحضور.
وشكراً
مقدَّم الاستخبارات
داؤد حماد داؤد
23/9/1989م
وكانت من النتائج الفجيعة لهذه الممارسات البشعة والحرب المستعرة ما يلي:
أمست مدينة كادقلي مدينة أشباح؛ تسكنها ثلاث فرق للموت: "القوات الصديقة"، القوات النظاميَّة، والميليشيات الشعبيَّة (قوات الدفاع الشَّعبي)، حتى بات من دخل أحد هذه المعسكرات مفقوداً، ومن خرج منها كان مولوداً.
انعدام الثقة بين المواطنين، حيث تولَّدت في النفوس أحقاد وتصفيات بين العرب والنُّوبة من جهة، والنُّوبة والنُّوبة من جهة أخرى.
تحوَّلت المنطقة إلى أكبر سوق للسلاح.
تعطَّلت الزراعة في كثير من المناطق لفقدان الأمن، وانتقل الاقتتال إلى مناطق الزراعة الآليَّة.
تهجير الأهالي من قراهم إلى ما سُمِّيت ب"قرى السَّلام".
انتشار المجاعة والفقر التَّام.
ومن القصص المأسوي ما حكاه جبير الضوء عبد الصمد من قبيل لويا في منطقة صبوري حول مدينة كادقلي. ويحكي جبير – ليس من موقع نظري تأملي، بل من منطلق ميداني - أنَّه غادر قريته العام 1991م حين هاجمت الحكومة وميليشيات العرب قريتهم في الساعة الرابعة صباحاً، وبدأ أفرادها في إطلاق النار عليهم، فمات منهم من مات حالاُ، وهرب من استطاع الهروب، ومنهم من لقي مصرعه في الغابة. وقد بلغ عدد القتلى من الذين استطعنا إحصاءهم 250 شخصاً. كذلك تم حرق جميع المنازل، وتدمير مباني الجمعيَّة التعاونيَّة وطلمبة ضخ الماء، ونهب كل الممتلكات والماشية، وتركونا بلا شيء. كذلك يحكي الأب صمويل علي عن الإغارة التي تعرَّضت لها قريتهم في الساعات الأولى من الصباح العام 1992م. هذا وقد قامت القوة المهاجمة بحرق كل الكنائس في القرية. وفي 13 كانون الثاني (يناير) 1993م قامت الحكومة بالهجوم الثاني على القرية، مستخدمة هذه المرة الدبابات والمدفعيَّة الثقيلة، وقتل المهاجمون أناساً كثراً، وحرقوا المنازل والكنيسة التي أعدنا تشييدها، وتركوا مسجداً كان يقف جوار الكنيسة، ولذنا بالهروب. كان هذا هو حديث الأب صمويل علي الذي كان يتحدَّث واقفاً مع الأب بطرس في موقع الكنيسة الأسقفيَّة المهدمة. فقد بدا محدِّقاً إلى ميراث آبائه وأجداده ولم يبق له منه إلا وقفة بين يديه كوقفة الثاكل بين أيدي الأطلال البوالي والآثار الدوارس. ثمَّ جاءت شهادة كمال توتو والتي يندهش المرء الاندهاش كله كيف يقدم الإنسان على القيام بمثل هذه الأفاعيل، التي تقشعر منه الأبدان. إذ يحكي كمال توتو في شريط وثائقي أنَّهم لفي الكنيسة العام 1992م يقيمون الصلوات إذا يحضر جيش الحكومة ويضربوا حصاراً حول الكنيسة، ثمَّ يقبضوا القس متى النور ويذبحوه كما يُذبح الشاه. أما الشمَّاس بوليس والقساوسة الآخرين وهم: مطمور، زكريا، أبو نوك والمصلين الآخرين فقد تمَّ حرقهم كلهم أجمعين أكتعين داخل الكنيسة. ويضيف كمال توتو إنَّهم ربطوني وتركوني في حر الهجيرة لأشاهد ماذا هم بغيري فاعلون، وبعد أن حرقوا الكنيسة ومن بداخلها من الناس، قاموا بقذفي في الكنيسة التي ما زالت تحترق، وغادروا المكان. وأمسى كمال توتو – البالغ من العمر يومذاك 40 عاماً – محروقاً مشوَّهاً لا يستطيع أن يفعل شيئاً بيديه المحروقتين، وباتت زوجه عائشة القوم – البالغة من العمر يومئذٍ 30 عاماً – هي التي تخدمه وتعينه على كل شيء، بما في ذلك إطعامه. هذه هي حال كمال توتو من منطقة نينجيلي ومن قبيل مورو. وفي هذه الأثناء يتحدَّث الأب بطرس عن مقتل قياداتهم بواسطة الحكومة، ومنهم القس هارون الفاضل ومتى النور، واعتقال 15 من أعيان القبيل ورجال الدين المسيحي، لأنَّهم يعلِّمون الناس المسيحيَّة. هذا، وقد تطوَّر الأمر حتى أمسى جند الحكومة لا يكتفون بحرق الكنائس فحسب، بل تعدوا ذلك إلى حرق المساجد، وكانوا يفعلون ذلك ويردِّدون: "أحرقوا مساجد العبيد!" وقد أضرمت النيران التي أشعلتها جيوش الحكومة مسجد كلكدة في شباط (فبراير) 1994م، ومسجد كومو، الذي تم تدميره ونهب ممتلكاته في شباط (فبراير) 1995م، ومسجد طرور، الذي نُهِبت ممتلكاته وتم تدنيسه في شباط (فيراير) 1995م. وأغلب سكان قرية طرور من المسلمين، ومع ذلك تمَّ الهجوم عليها في شهر رمضان، واُختطف ما لا يقل عن 250 مواطناً من القرية التي يبلغ تعدادها 1,950 شخصاً، وكذلك تمَّ قتل 12 قرويَّاً دون أدنى سبب، كما شهد على ذلك شيخ القرية محمد زين.
ثمَّ ندلف إلى شهادة الشيخ ضيفان هارون كافي، وهو كان شيخاً لقرية عطورو ثمَّ مسلماً كان. ويقول الشيخ ضيفان – الذي كان يتحدَّث بصعوبة بالغة في هذا الشريط الوثائقي السالف الذكر، لأنَّ فكه الأسفل كان مهشَّماً وفاه متورِّماً – أنَّ علاقاتهم مع المسيحيين والأغيار من غير المسلمين كانت جيِّدة حتى قامت الحكومة باستخدام سياسة التفريق بيننا. لقد سبق أن دُعينا إلى اجتماع الشيوخ بواسطة الحكومة، وحينما ذهبنا إلى مكان الاجتماع المزعوم لم نجد هناك أي اجتماع، بل تمَّ اعتقالنا جميعاً، وتمَّ ربط أيدينا من خلاف وقضينا 59 يوماً في الحبس، وكان تعدادنا 68 شخصاً من أبناء النُّوبة. وفي إحدى الليالي وحوالي الساعة التاسعة مساءاً تم أخذنا من السجن ووضعونا داخل عربة وأوقفونا صفاً واحداً، وأطلقوا علينا النار من خلاف. إذ تمَّت إصابتي خلف رأسي وخرجت الرصاصة من فمي لتحطِّم فكي، فسقطت مغشيَّاً عليَّ، ولم أدر بعدئذٍ ماذا أنا فاعل، ولما استفقت بعد ذلك بمساعدة الله، ومات الجميع وحييت أنا، وبدأت السير في الأدغال لمدة أربعة أيام حتى عثر عليَّ بعض جنود الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان وأحضروني إلى معسكرهم، وعندما رجعت إلى قريتي وجدت أنَّ (جنود الرئيس) عمر البشير قد أحرقوا كل المحاصيل، واعتقلوا كل أعيان القرية – مسيحيين ومسلمين على السواء. وكذلك فإنَّ قصص إسماعيل عبد الله توتو وحسين هارون وعبد الرحمن موسى ليحكي الكثير المرعب عن هذه المآسي. فماذا جرى لهم كلهم أجمعين أكتعين؟ لقد تمَّ القبض على هؤلاء بواسطة قوات الحكومة بعد الإغارة في الفجر على قريتهم كلكدة وحرقها تماماً، وتمَّ اقتيادهم إلى الحامية العسكريَّة بمدينة مندي، حيث لم يتم إسعافهم من جروحهم الخطيرة. وقد توفى موسى بعد يومين من الهجوم وهارون بعد تسعة أيام. أما توتو، وكان أباً لثلاثة أطفال وفي الثلاثين من عمره كان، قد فقد رجله اليسرى بواسطة لغم منفجر، وتقطَّعت رجله اليمنى إلى أشلاء بواسطة القرنيت، وقد صُرِب ضرباً مبرحاً لأنَّه تجرَّأ بالسؤال عن الدواء. لكنه – برغم من ذلك كله – استطاع أن يعود إلى قريته هارباً بعد مضي 40 يوماً في الاعتقال، وذلك زحفاً على ركبتيه المعصوبتين باللحاء لمدة 36 ساعة. وقد اعترف بأنَّ الذي دفعه إلى الفرار هو المعاناة، وبخاصة حين تمَّ اغتصاب زوجه بواسطة جند الحكومة في معسكر مندي. وتأكيداً لمزاعم الاغتصاب، فقد أكَّدت "زينب جبريل" – غير اسمها الحقيقي، التي كانت تبلغ من العمر 16 عاماً، أنَّها و15 عضواً من أسرتها قد تم القبض عليهم وإحضارهم إلى مندي، حيث كان الجنود الحكوميُّون يغتصبونهم بالتناوب حين يسدل الليل أستاره، ولم يكن بكاؤهن ليدير عطف هؤلاء الجنود. كذلك أكَّد راشد عثمان، والذي كان يبلغ من العمر 10 سنوات وقتئذٍ، حيث اختطفهم الجنود الحكوميُّون حينما كان يرعى بغنمه، وظلَّ يخدمهم في معسكر مندي، وكان شاهداً على عمليات الاغتصاب لفتيات النُّوبة داخل هذا المعسكر وحين يجن الليل، وكان يسمع صراخهن بكاءاً شكاءاً حتى يختفي الصوت تماماً ويتلاشى.(23)
على أيَّة حال، فقد ناشد المواطنون في جبال النُّوبة الأمم المتحدة لإنقاذ النُّوبة بالأدوية، حيث توفى في ذلك الرَّدح من الزمان حوالي 2,000-3,000 شخصاً من جراء الأمراض المتفشية، وكان الأطفال من أوائل الضحايا لهذه الأوبئة، ومن جراء العوز والفاقة. إذ كان يموت حوالي 50-60 شخصاً يوميَّاً، وكان سؤال الناس لِمَ تساعد المنظمات الدوليَّة أهل الشمال والجنوب وتمتنع عن مساعدة أهل النُّوبة؟! كذلك وجه النُّوبة نداءاً إلى كل المنظَّمات الخيريَّة (المحليَّة والدوليَّة) وكل منظَّمات حقوق الإنسان، والأمم المتحدة أن يحضروا إلى كادقلي ليروا بأنفسهم ما يحدث في جبال النُّوبة. حتى مشروع الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر لمكافحة عمى الجور ودودة الفرنديد فهو كان مشروعاً بعيداً عن الواقع، برغم الإعلان عن موافقة وقف إطلاق النار من جانبي الصراع لمدة 60 يوماً. حيث لم يُطبَّق هذا المشروع في جبال النُّوبة، وقد أضرَّ المشروع بالحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان كثيراً لأنَّ خلال فترة وقف إطلاق النار الأولى التي استمرَّت 60 يوماً خرقت الحكومة السُّودانيَّة وقف إطلاق النار 14 مرة، فضلاً عن أنَّه تمَّ الإعلان عن وقف إطلاق النار بموجب مشروع "مبادرة كارتر" بمنطقة العمليات العسكريَّة بجنوب السُّودان فقط، وتجاهل المناطق الأخرى؛ وهذا أعطى الحكومة حركة أوسع وأشمل في مناطق جبال النُّوبة والأنقسنا، فقامت بعمليات عسكريَّة شرسة في تلك المناطق، مما ألحقت أبلغ الأضرار بالمواطنين الأبرياء. وفي هذا الصدد قال القائد دانيال كودي: "إنَّ مشروع كارتر ليمثِّل حلماً إنسانيَّاً جميلاً، ولكن في واقع النظام الحالي (الإنقاذي) فشل فشلاً ذريعاً، ومع الأسف أكسب هذا النظام بعض الانتصارات العسكريَّة."(24) هذا ما كان من أمر "مشروع كارتر" الإنساني. وعوداً إلى سرد مآسي النُّوبة، يقول يوسف هارون إنَّه حين دخل العدو (القوات المسلحة وميليشيات قوات الدفاع الشَّعبي التابعة للحكومة) منطقة كركراية في يوم 21 شباط (فبراير) 1994م قاموا بحرق الكنيسة، وتدمير المكتب التابع لها، وأخذوا ممتلكات الكنيسة – مثل الدفاتر والقروش والكراسي والكتب، فويل للمجرمين الآثمين الذين يسرقون مال الله في بيت الله – وحرقوا ما أرادوا حرقه، ونهبوا ما ابتغوا نهبه، واستاقوا أنعامنا، وسفكوا من دمائنا ما شاءوا، وسلبوا من حقوقنا ما أرادوا، وملكوا علينا مشاعرهم وعقولهم حتى لا ندين إلا بما يدينون. ثمَّ يقول سايمون مادوة توتو، وهو شيخ قرية كركراية، إنَّه عندما هاجمهم العدو في يوم 21 شباط (فبراير) 1994م حرقوا القرية وما فيها من أناس كثر؛ ومن ضمن الضحايا بنت اسمها سيما الكنامة، ورجل اسمه حسين كايسرة، وامرأة مكتهلة، وتركوا امرأة مسنة أخرى وهي مضروبة على رجليها حتى تهشَّمتا، وثالثة مجروحة في ظهرها وشارفت على الموت. إذ أمست مراسيم الدفن شيئاً عادياً في المنطقة، وهرب الناس بأولادهم الصغار، ولاذوا بالخلاء، وأصبحت الحال صعبة للغاية، وامتلك الناس الخوف، وبات البلد في مشكل، وليس هناك سبيلاً للذهاب لإحضار الماء للأولاد، ثمَّ إنَّهم دمَّروا قرية الدبيبات كذلك.
كذلك تعرَّضت منطقة الطرور لهجوم غاشم من قوات الحكومة والدفاع الشَّعبي في الفترة ما بين 23-25 شباط (فبراير) 1994م، وحرقوا المنازل ونهبوا ممتلكات المواطنين. ويضيف محمد صديق، وهو شيخ قرية الطرور التَّابعة لريفي هيبان، أنَّه جاءهم العدو من اتجاه عقب في تمام الساعة الثامنة مساءاً، وسقطوا عليهم سقوط الشهب والنيازك في جنح ليلة من ليالي الظلام، وأغاروا عليهم في القرية، وحرقوا البيوت والذرة، ولم يتركوا فيها شيئاً، وبات الأهالي يتضاغون من الجوع ويتضورون. وفي هذه الأثناء قُتِل 10 أشخاص وجُرِح 8 آخرين وأخذوا 68 شخصاً وذهبوا بهم إلى عقب، وحرقوا 2,000 منزلاُ؛ والقتلى هم: إسماعيل كوكو، كوكو كودي، حواء إدريس، فضيلة هارون، بركات عمر، زهرة طابور، منى إسماعيل، علي متلي، عمر وفرة، والنضيف تبرة. وبعد هذا الحريق الكامل والدمار الشامل لم يتركوا سوى الجامع فقط. فقد تعرَّضت جبال النُّوبة منذ العام 1987م لانتهاكات كثيرة في مجال حقوق الإنسان من قبل الحكومة السُّودانيَّة، وتمَّ حرق أكثر من 1,000 قرية، وهناك قرى أُحرِقت أكثر من مرة، وكان هناك أكثر من 500,000 مواطناً تمَّ تشريدهم، وباتوا يعيشون في ظروف قاسية جداً في التسعينيَّات من القرن الماضي الميلادي. ولم تسلم القرى في اللبة وقردود الحمير ومناطق كاودا (أ وب) وتيرا أو ريفي البرام وأرياف غرب كادقلي ولقاوة وغيرها من الحرق والتشريد. ففي أحايين كثيرة اختفت القريَّة المحروقة من السهول، وقُبِض على القوي الأمين، وذُبِح الضعيف الهزيل، وأمسى المغتصب الوحش يجر ضحاياه إلى الديار القصيَّة، إلى مناخات بعيدة، حيث يكثر الأجانب، عبر طريق وعرة، وعلى رمال محترقة، وأراضٍ خلويَّة غير مرويَّة باتوا سائرين.(25) وقد اقتنع أهل النُّوبة – بلا شك – أنَّ المجازر والمآسي التي يتعرَّضون لها ما هي إلا سياسة من سياسات حكومة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة للقضاء عليهم كشعب، ومحو هُويَّتهم وتقاليدهم وقيمهم النُّوباويَّة.
ثم يستنكر قائل من أهل النُّوبة مندهشاً: كيف يزعم أهل "الإنقاذ" بأنَّهم يجاهدون ضد الكافرين، ونحن قوم فينا مسلمين، وليس بيننا كافرين؟! كيف يدَّعون ذلك وهم يقاتلوننا في شهر رمضان المعظَّم، ويحرقون بيوتنا ويقتلوننا ويوقفون معيشتنا وينهبون أبقارنا في شهر رمضان المبارك؟! فمن أي عالم من عوالم الأرض أو السماء أتوا بهذه العقول التي تصوِّر لهم أنَّ الشعوب تُساق إلى ما تأباه سوقاً، وإنَّ العقائد التي تُفرض على الناس فرضاً يمكنها أن تبقى. فلا نملك غير أن نطلب من الله أن يهديهم إلى الصراط المستقيم، ويعلم الله أنَّنا هنا نقاتل ليس ضد الدين، بل نقاتل من أجل حقوقنا، ولأنَّنا لم نعتد عليهم، ولم نهاجمهم في شهر رمضان، ولم ننهب ممتلكاتهم في شهر رمضان، بل كنا في شهر العبادة حين هاجمونا، وكنا نعبد الله مخلصين له الدين حنفاء. فقد استخدمت الحكومة سياسة الجهاد هذه لإلهاب مشاعر الدهماء ودفعهم إلى حرب لا تبقي ولا تذر دون تردُّد، أي كما تُقاد السائمة البلهاء بأعواد الكلأ إلى مصرعها، ثمَّ إنَّهم استغلوا هذه الفرية الجهاديَّة لإقناع الدول الإسلاميَّة والعربيَّة بأنَّهم يخوضون حرباً جهاديَّة ضد الكفار في جبال النُّوبة وجنوب النيل الأزرق وجنوب السُّودان، ومن ثَمَّ يحصلون على مساعدات مالية وعسكريَّة لخوض هذه الحرب بلا هوادة. فقد بدا هذا الدعم الإسلامي الخارجي بائناً في الدور الإيراني؛ وعن تلك العلاقة، التي لم تكن خافية على أحد، قال القائد يوسف كوة مكي: "إنَّ الحديث عن الدعم العسكري والعتادي والاستعانة بالمقاتلين والخبراء الفنيين الإيرانيين لم يدع مجالاً للشك، وكنت أتمنى في وقت سابق لو كانت الحركة (الشعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان) تحوز على كاميرا فيديو، لكانت عرضت على المجتمع الدولي الأدلة الدَّامغة بأنَّ الإيرانيين اشتركوا فعليَّاً في هذه الحرب، وأخص في هذا المجال واقعة معركة بمنطقة "تلشي" بجبال النُّوبة؛ فقد وجدنا جثث المقاتلين الإيرانيين ضمن القتلى، كما أسرنا جريحاً إيرانيَّاً لكنه مات متأثِّراً بجراحه، ولعدم توفُّر الأدوية. إنَّ مثل هذه الحقائق كان يمكن أن تسهم وسائل الإعلام في كشف النقاب عن حجم التدخُّل الإيراني وتثبت تورُّطه."(26)
ولكن أين مدافن النُّوبة إذا القبور بُعثِرت؟ على سبيل الأمثلة توجد مواقع الدفن لضحايا النُّوبة من الحرب الأهليَّة - ممن قتلتهم القوات المسلَّحة الحكوميَّة وقوات الدفاع الشَّعبي التابعة لها - في كل من أم سردبة، والتي تبعد بضع كيلومترات جنوب مدينة كادقلي، وبها مقبرة جماعيَّة لنحو 3,000 شخصاً قتلتهم هذه القوات في تشرين الثاني (نوفمبر) 1992م. كذلك استخدمت الاستخبارات العسكريَّة منطقة العفين – التي تقع على بضع كيلومترات شرق مدينة كادقلي – للإعدامات الجماعيَّة، وذلك نسبة لبعض المظاهر الطبيعيَّة، حيث توجد في هذه المنطقة مجاري مائيَّة، بحيث تستطيع المياه أخذ الجثث بعيداً عن المنطقة. وتقدَّر الضحايا الذين لقوا مصرعهم في هذه المنطقة بين 5,000-8,000 شخصاً في الفترة بين تشرين الثاني (نوفمبر) 1991م ونهاية العام 1992م. ثمَّ هناك منطقة الشعير وهي تقع في منتصف الطريق بين الدَّلنج وكادقلي، وبها غابة كثيفة ومجاري مائيَّة، حيث استخدمتها الاستخبارات العسكريَّة وجهاز الأمن كموضع لإعدام أكثر من 2,000 مواطناً نوباويَّاً بين الفترة 1990-1992م.
وفي مناطق الكواليب حدثت مجازر جماعيَّة للنُّوبة في عبري والفار، حيث تمَّ تدمير ونهب القرى وقتل النساء والأطفال بواسطة الاستخبارات العسكريَّة وقوات الدِّفاع الشَّعبي، وكان يتم التمثيل بالجثث وحرقها، ويُقدَّر عدد الضحايا في هذه المنطقة ب 3,000 مواطناً نوباويَّاً في الفترة بين 1991م ومستهل العام 1993م. أما في قرية دلو التَّابعة لريفي هيبان، فقد حدثت فيها مجزرة في كانون الأول (ديسمبر) 1992م، حيث هاجمت قوات الدِّفاع الشَّعبي هذه القرية وقتلت وأحرقت النساء والأطفال والكهول. وبعد المجزرة جُمِعت الجثث وتم دفنها في مقبرة جماعيَّة. وبعد مضي 3-4 أيَّام من الحادثة باتت تنبعث من المنطقة رائحة نتنة من الجثث المتحلِّلة المتعفنة، واقتفت قوة عسكريَّة من جيش الحكومة مصدر الرائحة حتى عثروا على الجثث وأُعيدت توريتها لمنع تسرُّب الرائحة وإخفاء آثار هذه المذبحة الوحشيَّة، وقُدِّر عدد الضحايا ب 6,000 شخصاً. أما في قرية العتمور النُقرة، التي تم حرقها وسلبها، فيُقدَّر عدد القتلى بثلاثين شخصاً، بما فيهم القس متى النور الذي تمَّ حرقه داخل منزله. أما في قرية العتمور الكراكراية، فقد تمَّ حرقها في الفترة بين 1991-1992م، وفي هذه القرية قُتِل 50 شخصاً، بما فيهم القس هارون الفاضل، الذي تمَّ التمثيل بجثَّته. وكذلك تم حرق قرية حجر الفيل بين 1991-1992م، وقُتِل في هذ الحادثة عشرة أشخاص، بما فيهم رجل الدين المسيحي كيوجي ساندوق. وحينما أحرقت القوات المسلَّحة الحكوميَّة والميليشيات التَّابعة لها قرية أم دورين بين تشرين الأول (ديسمبر) 1991م – تشرين الأول (ديسمبر) 1992م، قتلت من الناس كثراً؛ إذ نذكر منهم حسن رملة (25 سنة)، وهو كان معلِّماً في المدرسة المتوسطة بأم دورين، وزكريا حسين خميس (25 سنة) وكان أستاذاً في مدرسة أم جبر الله المتوسطة، وحسن كوكو (55 سنة)، وهو كان مساعداً طبيَّاً. وقد حدثت أكبر مجزرة في هيبان لقبيل الكواليب في عيد ميلاد المسيح في 25 كانون الأول (ديسمبر) 1992م، حيث بلغ صداها العالم الخارجي. وقد شكَّلت هذه المذبحة حديث الأمين العام لاتحاد المحامين العرب فاروق أبو عيسي في الجلسة رقم 49 لمفوضيَّة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان المنعقدة في جنيف في 9 شباط (فبراير) 1993م.(27)
وكما حدث في مناطق أخرى من الجبال، لم تخل منطقة لقاوة من أحداثها الدمويَّة. فقد تمَّ اعتقال عدد كبير من مواطني لقاوة – محافظة السَّلام – وهي المنطقة الغربيَّة من جنوب كردفان (جبال النُّوبة)، ويقطنها قبائل النُّوبة والمسيريَّة الزرق الرحل. وقد بلغ عدد الذين تمَّ اعتقالهم 22 شخصاً من مواطني قبيل الكمدا المقيمين بمدينة لقاوة، وتمَّ إعدامهم رمياً بالرصاص من قبل القوات المسلحة التَّابعة لحامية لقاوة، وذلك في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1991م، وفي الساعة الثالثة صباحاً، وعلى بعد 20 كيلومتراً من المدينة، وبعد اتِّهامهم بالتعاون مع حركة التمرد (الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان) (ملحق رقم (3)). وكان من ضمن الذين تمَّت فيهم هذه التصفيات مختار موسى صابون، الذي أُُعدم أمام المواطنين في يوم 13 آب (أغسطس) 1991م، وحمزة فرج الله، الذي أُخِذ من الفرقة الخامسة بالأبيض للتحقيق معه وأُعدِم في الطريق. وفي حادثة أخرى قامت القوات المسلَّحة بقتل ثمانية من الموطنين من قبيل تليشي تحت دعاوي تعاونهم مع الخوارج (الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان).(28) لم يستطع أهالي قبيل كمدا الصمت على هذه التجاوزات (ملحق رقم (4))، وهكذا نجدهم قد بعثوا برسالة طويلة إلى رئيس مجلس قيادة الثورة الفريق (ركن) عمر حسن أحمد البشير، وأُرسلت نسخ من هذه الرسالة إلى مستشار الأمن الوطني العميد (ركن) إبراهيم نايل إيدام، والمشرف السياسي لإقليم كردفان، والاستخبارات العسكريَّة، ووحدة لجنة الأمن الداخلي (ملحق رقم (5)). كذلك رفع مواطنو أبوجنوك شكواهم بواسطة عمدتهم دفع الله النميري بطران إلى العميد (ركن) إبراهيم نايل إيدام في يوم 30 آب (أغسطس) 1989م (ملحق رقم (6)). ومنذ العام 1990م منعت الحكومة السُّودانيَّة وصول الطعام لمناطق وقرى لقاوة وتليشي، ومنعت كذلك دخول الدواء والكساء وغير ذلك من متطلَّبات الحياة الأساسيَّة، ولم تسمح للمنظَّمات الدَّوليَّة - مثل عمليَّة شريان الحياة (Operation Lifeline Sudan) – بتقديم أيَّة مساعدات للنُّوبة في تلك المناطق ومناطق أخرى، بل منعت المواطنين من دخول المدينة في سبيل البحث عن الطعام، ونتيجة لذلك الإجراء التعسُّفي مات المئات من النُّوبة متأثرين بالجوع والمرض. والمناطق والقرى التي تأثَّرت بسياسة الحكومة هذه هي: جبال كمدا، جبال تليشي، تيما، جبال كتلا، والي، طبق، تيمين، وجبال جُلُد. وحسب رواية بعض ممن تمكَّنوا من الهروب من مناطق المجاعة تم إعداد كشفاً يحوي 192 من الموتى، مع العلم أنَّ العدد الحقيقي أكبر من ذلك بكثير. ولكن تفرساً في هذه القائمة تكشف لنا أنَّ تصنيف الضحايا كان على النحو التالي: 58 طفلاً (30%)، 34 امرأة (18%)، و100 رجلاً (52%). وكانت هذه النسبة العالية من الأطفال توضح بلا شك كيف عانى الأطفال من القيود الأمنيَّة والإغاثيَّة التي فرضتها الحكومة على الجبال. أما النسبة الصغيرة من النساء فإنَّها لا تعبِّر عن وفيات النساء في الطريق فحسب، بل إنَّ أغلب النساء قد لقين مصرعهن في قراهم قبل مغادرتها، وهناك من فضلن البقاء مع من تبقى من ذويهم في القرية التي كانوا فيها، وفضلن الموت في مناطقهم بدلاً من الترحال والموت على قارعة الطريق.
وكانت هناك نقطة تفتيش يديرها الجَّيش الحكومي في قرية الكرقل، وهي من مناطق قبيل خلفان، وتقع جنوب مدينة الدَّلنج، وتوجد مئات من الهياكل البشريَّة في الغابات التي تحيط بالمنطقة، وهي بقايا النُّوبة الذين تمَّت تصفيتهم خارج نطاق القضاء تحت تهمة الانتماء إلى الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، أو ما كان يُعرف شعبيَّاً ب"الطابور الخامس". ثمَّ هناك خور مريسة، والذي يقع غرب مدينة الدَّلنج، وعلى بعد كيلومتر واحد من المدينة، وقد استخدمه الجَّيش الحكومي وقوات الدِّفاع الشَّعبي في تصفية أبناء النُّوبة، حيث أُلقي فيه أكثر من 500 جثة. وكذلك استخدمت القوات المسلحة الحكوميَّة منطقة التُّكمة – شرق مدينة الدَّلنج – كمقابر جماعيَّة، حيث تمتاز هذه المنطقة بغابات كثيفة. ثمَّ كانت هناك حاميتان في منطقة الدَّليبة، التي تقع جنوب مدينة الدَّلنج، إحداهما للجَّيش الحكومي والثانية لقوات الدِّفاع الشَّعبي، حيث لا محتجز يُؤتى به إلى هاتين الحاميتين يستطيع أن يخرج حيَّاً. وكان من أشهر جلادي حامية الدِّفاع الشَّعبي القادة محمد إسماعيل، بيتر مكي، مهدي (؟). وتقول الإحصائيات أنَّ ضحايا هاتين الحاميتين يبلغون 1,500 مواطناً نوباويَّاً. وقد استطاع مكتب الحزب القومي السُّوداني بالقاهرة أن يحصر أسماء فرق التَّعذيب والإعدامات في جبال النُّوبة، وكذلك مهنهم وانتماءاتهم القبليَّة (ملحق رقم (7)).
مهما يكن من شيء، فقد اتهم عدد من أبناء منطقة جبال النُّوبة الحكومة السُّودانيَّة بإتباع سياسة تستهدف إبادة قبائل النُّوبة وحرق حقولها والتخلص من العنصر الزنجي في المنطقة. وناشدوا المنظمات المعنيَّة بالدفاع عن حقوق الإنسان إجراء اتصالات مع الخرطوم لمعرفة مصير 37 شاباً من مواطني مدينة كادقلي كانوا قد اعتقلوا. وإنَّ من بين الأشخاص الذين لا يُعرف مصيرهم: محمد نوار، كمال كنو كافي، التجاني محمد شكر الله، إبراهيم مرمطون، السر عبد النبي مالك، عثمان آدم علي، عبد الرحيم جاد الله، وإبراهيم قادربي. وحذَّر أبناء قبائل النُّوبة في مذكرات من أنَّ المجاعة تطحن ذويهم بينما أبلغ المحافظ السابق عبد الوهاب عبد الرَّحمن علي، الذي عُيِّن وزيراً للخدمات في إقليم كردفان، الحكومة المركزيَّة في الخرطوم بأنَّ المنطقة مكتفية غذائيَّاً ولا حاجة لتزويدها بإغاثة. وجاء في إحدى المذكرات أنَّ مواطني كادقلي باتوا يأكلون أوراق أشجار التبلدي ومخلفات العلف الحيواني. وأفاد بعض خريجي الجامعات من أبناء المنطقة أنَّهم زاروا مدنهم وقراهم أخيراً فشعروا بأنَّهم ليسوا مواطنين. وما يُمارس في جنوب كردفان لا يُمارس حتى في جنوب إفريقيا. وقالوا إنَّ سياسة الأخوان المسلمين في السُّودان تهدف إلى التخلُّص من العنصر الزنجي. وكان اتحاد أبناء جبال النُّوبة، وهو تنظيم يضم مثقفي المنطقة وخريجي الجامعات والمدارس الثانويَّة، قد وجه أكثر من 15 مذكرة إلى الفريق عمر البشير وأعضاء مجلس قيادة "ثورة الإنقاذ الوطني" منذ استيلاء الجيش على السلطة في 30 حزيران (يونيو) 1989م تحذِّر من تسليح القبائل العربيَّة. واتَّهمت المذكرات حزب الأمة، الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق السيد الصَّادق المهدي، بانتهاج سياسة تسليح الميليشيات العربيَّة في جبال النُّوبة وإقليم دارفور. وندَّد الاتحاد ب"تواطؤ" الحكم مع الميليشيات العربيَّة في محافظة جنوب كردفان، حيث ارتدى أفراد الميليشيات الزي العسكري، ومُنِحوا رتباً عسكريَّة، ومارسوا سلطات أجهزة الأمن. وطالب خريجو الجامعات من أبناء النُّوبة بتدخل المنظمات الدوليَّة لإغاثة ذويهم، وإيجاد مأوى للذين اضطروا للنزوح إلى المدن والعاصمة الخرطوم، وتجريد الميليشيات القبليَّة من السلاح، وتعزيز سلطة الدولة، وبسط نفوذها.(29) كذلك أرسل اتحاد القوميات السُّودانيَّة في الخرطوم رسالة إلى مندوب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بالسُّودان، شارحاً ما يجرى في جبال النُّوبة من تجاوز شنيع في حقوق الإنسان. فقد جاءت الرسالة – بعد التحية الطيِّبة – مرحبة، باسم أبناء النُّوبة واتحاد القوميات السُّودانيَّة، بالمندوب الأممي في السُّودان مع تقديرهم لمهمته الإنسانيَّة، وبادئين رغبتهم في التعاون مع سيادته في أداء مهمَّته. وكشفت الرسالة – فيما كشفت – بعض ممارسات السُّلطة ضد أبناء النُّوبة بشكل خاص والشَّعب السُّوداني بشكل عام. وقد أرفقوا مع الرسالة إحدى عشر وثيقة عن ممارسات حكومة ما يسمى ب"الإنقاذ الوطني" ضد أبناء النُّوبة وتطهيرهم عرقيَّاً. وأكَّدوا أنَّهم يملكون من الأدلَّة وشهود عيان لما يقدِّمونه، وعلى استعداد لعرضهم عليه، كما يمكن الاتِّصال بأسر الضحايا لإثبات الحقائق. وشملت الوثائق ما يلي:
وثيقة عبارة عن فتوى صُدرت عن مؤتمر علماء الدين وأئمة المساجد والخلاوي بولاية كردفان، والمنعقد بمدينة الأبيض في 27 نيسان (أبريل) 1992م حول قتال الخوارج بجنوب كردفان، وإعلان الجِّهاد على أبناء النُّوبة، وإباحة دمائهم وأموالهم وسبي نسائهم وتشتيتهم إلى خارج منطقة الجبال، وموقع على الفتوى ستة من الأئمة.
كشف بأسماء العسكريين من أبناء النُّوبة (13 فرداً) والجنوبيين (4 أفراد) وأحد أبناء دارفور المعتقلون بسجن سواكن منذ 11 نيسان (أبريل) 1992م بتهمة "المؤامرة العنصريَّة" لتقويض الدَّستور – مع العلم أنَّه لم يكن هناك دستور يومئذٍ، أي بعد تعليقه بواسطة انقلابيي "الإنقاذ" – ولم يُقدَّموا لأيَّة محاكمة، وعددهم 18 شخصاً برتب مختلفة (ملحق رقم (8)). وكان عددهم في بادئ الأمر 101 معتقلاً، حيث تمَّ إطلاق سراح 83 منهم بعد عام كامل.
كشف بأبناء النُّوبة المعتقلون من مدن الجبال المختلفة في الفترة من كانون الثاني (يناير) 1989م إلى تموز (يوليو) 1992م، وتمَّ نقلهم إلى سجن الأبيض، وبقوا في السجن حتى تموز (يوليو) 1993م بدون أيَّة محاكمة أو تقديمهم للقضاء، حيث توفى منهم تسعة أشخاص داخل السجن نتيجة التعذيب وسوء المعاملة، وكان عددهم 100 معتقلاً. والموتى هم: كُرتُبَير باشا (مك قبيل جُلُد)، أبَّشر علي قدَّال، إسماعيل سلطان، مكينة خير، إبراهيم باشا، حميدين فضل، حسن الكيفا، محمد حمَّاد، وعمر اللبان (ملحق رقم (9)).
كشف بأسماء المثقَّفين من أبناء النُّوبة بمدينة كادقلي، والذين اعتقلتهم الاستخبارات العسكريَّة وأجهزة الأمن بكادقلي ثم قامت بتصفيتهم جميعاً دون علم أسرهم، وعددهم 103 شخصاً؛ وكذلك أسماء الضباط والعسكريين الذين نفَّذوا الإعدامات (ملحق رقم (10)).
كشف بأسماء مواطني قريتي لقوري وصبوري – شرق مدينة كادقلي – الذين قامت الاستخبارات العسكريَّة بتصفيتهم في كانون الأول (ديسمبر) 1990م وآذار (مارس) 1991م، وعددهم 77 شخصاً (ملحق رقم (11)).
كشف بأسماء المواطنين الذين اعتقلتهم، ثم قامت بتصفيتهم، الاستخبارات العسكريَّة بمدينة الدلنج في 4 شباط (فبراير) 1992م، وشاهد عيان ممن هرب وقت تنفيذ الإعدامات (رمياً) بالرصاص.
كشف بأسماء المعتقلين ثم تصفيتهم بلقاوة ونمر شاقو، وأسماء من تمَّ تنفيذ الإعدام عليهم، وعددهم 38 شخصاً.
كشف عمن تم قتلهم جوعاً بجبال النُّوبة بجبال تلشي عن طريق منع إيصال الطعام لهم بواسطة (عمليَّة شريان الحياة) والمنظَّمات الدوليَّة الأخرى؛ ومنع المواطنين من الخروج (من المنطقة) للبحث عن الطعام. والجدير بالذكر أنَّ الحكومة كانت تستخدم الغذاء كسلاح لمحاربة مواطني جبال النُّوبة، ومنع أيَّة مساعدات غذائيَّة عن المنطقة، سواء كانت تحت سيطرة الحكومة أو الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، وضربت حصاراً على المنطقة إبَّان فترة القحط التي اجتاحت المنطقة، مما أدى إلى وفاة العديد من الأطفال والعجزة، وقد اضطرَّ البعض إلى أكل أوراق الشجار ومخلَّفات معاصر الزيوت (الأمباز) (ملحق رقم (12)).
أسماء الموظَّفين والفنيين من أبناء النُّوبة بمدينة كادقلي، والذين نُقِلوا إلى خارج منطقة جبال النُّوبة خلال 24 ساعة فقط على أساس أنَّهم (يمثِّلون) "الطابور الخامس" للمتمرِّدين، وعددهم 35 شخصاً.
كشف بمن تمَّت تصفيتهم – أي تسريحهم - من القوات النظاميَّة على أساس التخلص من أبناء النُّوبة داخل الجيش والشرطة والسجون (ملحق رقم (13)).
وثيقة عبارة عن جزء من محضر اجتماع المجلس الأربعيني للجبهة القوميَّة الإسلاميَّة يوضِّح خطة تصفية وطرد النُّوبة والجنوبيين من الخرطوم وأجهزة الدولة الرسميَّة (ملحق رقم (14)).
ففي رسالة بُعِثت لنا في تضامن أبناء النُّوبة بالخارج ذكر المرسل أنَّ "الوضع في جبال النُّوبة أصبح لا يُطاق بسبب الإرهاب والقهر والبطش والتَّجسُّس على النَّاس، وإلحاقهم بالشبهات"، وهناك تمييز ديني واضح في منطقة دلامي، دري، والدلنج، وإنَّ أمير الكواليب المدعو نبيل سعيد بدوي ليقوم بمحاربة المسيحيَّة بالمنطقة؛ فقد صادر منزلاً خاصاً للكنيسة الكاثوليكيَّة، ويسكن فيه الآن رجال الأمن العام الحكومي. كما تمَّ طرد المبشِّرين المسيحيين كلَّهم أجمعين أكتعين من أبناء المنطقة يوم 7 تموز (يوليو) 1995م بواسطة عناصر الأمن العام. وقد أضاف الراسل - في رسالته المدعومة بقائمة القتلى والسجناء السياسيين والمعذبين في المعتقلات من أبناء وبنات النُّوبة – أنَّه هو ذاته قد اُعتقل منذ العام 1992م لمدة إحدى عشر شهراً دون توجيه أيَّة تهمة ضده حتى أُطلِق سراحه في يوم 26 كانون الأول (ديسمبر) 1992م. وقد بلغ عدد الذين تمَّت تصفيتهم بمحافظة كادقلي في أوائل أعوام "الإنقاذ" 158 شخصاً مدنيَّاً، وقد قام بإعدام هؤلاء المواطنين الأبرياء المقدم أحمد خميس وهو أحد أبناء منطقة أبوجنوك بلقاوة في الاستخبارات العسكريَّة في الفترة 1991-1992م. وكان يعاونه في الإثم والعدوان والقتل أناس كثر. وقد علمنا أنَّ يونس الرحيمة وهو من أبناء العرب المستعربة في منطقة الحمرة جنوبي كادقلي كان يختال زهواً بهذا العمل الإجرامي، وكان يرددَّ أنَّه لن يرتاح قلبه حتى يقتل مائة على الأقل من أبناء النًّوبة المتعلِّمين. وفي نهاية الأمر أُحططنا علماً أن يونس هذا قد أمسى مخبولاً، وبات يقف في مفترق الطرق بمدينة الدبيبات، وينظر ذاهلاً مشدوهاً تارة، ويعوِّي عواء الذئب أو الكلب العقور تارة أخرى، ويجثو على الأرض جثي الكلب الذليل تحت مائدة سيِّده تارة ثالثة، أو متعلِّقاً بأهداب ثوبه تارة رابعة، إن شاء تصدَّق عليه وإن لم يشاء زجره، وأقلَّ ما نقول له ولإقرانه القتلة الجبَّارين كونوا قردة خاسئين. وكان الملازم (ميليشي) أحمد عبد الله محمود الكلس، الذي تبرع للجهاد براتبه الشهري كاملاً وبالبدلات كذلك ليتم تسليمها لرئيس لجنة الجهاد بمحافظة كادقلي حتى نهاية خدمته العسكريَّة، واحداً من هؤلاء الفجرة سافكي الدماء. والكلس جندي سابق بالقوات المسلحة، حيث أنهى خدمته العسكريَّة وعمل بالتجارة، وعند إنشاء الدفاع الشعبي، سلَّم نفسه للقوات المسلحة، وحارب في صفوف قوات الدفاع الشعبي حتى تمَّت ترقيته إلى رتبة ملازم. إذ لم يكمل الكلس شهراً، بعد تحريره رسالته المؤرَّخة في يوم 15 شباط (فبراير) 1992م، حتى قضى نحبه.(30) والكلس سفاحاً كان، ثم جباراً في الأرض؛ قصد النُّوبة المدنيين قتلاً وإرهاباً، فلربما لهذه الأسباب عجَّل الرب وأخذه أخذاً وبيلاً. فقد عاشوا عيش الآثمين، وماتوا أو سيموتون موت الآثمين المسرفين، الذين أسرفوا على أنفسهم، ومكروا مُكراً كبَّاراً.
لا ريب في أنَّ أفغانستان كان مثالاً يحتذي عند أهل "الإنقاذ". فقد أخذوا عن الأفغان شعاراتهم الجهاديَّة، وطرائقهم في سبيل دعم المجاهدين والعناية بأسرهم حين كانوا يحاربون الغزو السوفيتي في بلادهم، ثم كذلك أخذوا منهم "الأفغان العرب" وآووهم إلى حين. ونقلاً عن تجربة أفغانستان، كانت "منظمة البر" تقوم بتنفيذ إفطارات رمضانيَّة "للمجاهدين والمرابطين" في مناطق العمليات وفي عدد من الوحدات العسكريَّة بالخرطوم كما أقرَّ بذلك السيد إبراهيم عبد الحفيظ، مدير المنظمة بالسُّودان. وقد أنشات قوات الدفاع الشعبي "منظمة نداء الجهاد" لرعاية أسر المجاهدين ودعم عمليات التدريب والجهاد.(31) وحتى نتبيَّن خلل هذه الظاهرة التعيسة برمتها – وفي غالبها الأعم – تعالوا نرجع إلى نشأة هذا الصدع، ونراجع كيف تمَّت وتتم مجريات تعميقه وحشوه بمتفجِّرات الكراهيَّة مريبة المصدر خطيرة الأهداف. لا ريب في أن هؤلاء الضحايا من النُّوبة هم نتاج الفتوى التكفيري الذي صُدِر ضدهم، والمقالات الصحافيَّة التي كُتِبت تدينهم، والخطب الحكوميَّة التي كانت تُطلق لاستهجانهم، وتتكاثف في أذهان مجموعة من المواطنين وجدوا سنداً معنويَّاً وروحيَّاً وحكوميَّاً ولوجستكيَّاً للقيام بمثل هذه الأفاعيل التي ترتد منها الأبصار، وتقشعر منها الأبدان، ويشيب لها الولدان. وقد بلغت بهم حماسة الدعوة التحريضيَّة شأواً لم يستطع أن يجاريهم فيها أحد في تأريخ السُّودان الحديث؛ وأيَّم الله لقد أمسوا سيوفاً ومقاصل مشرعة على الرِّقاب! وكان أعوان النظام وأشياعه يدافعون عن حملات التطهير والتهجير في جبال النُّوبة، وقصف القرى العزلاء والقرويين العزل فيها بطائرات الأنتينوف من الجو، وحرق المساكن والمزارع، ونهب الماشية والماعز، وتجريد الفلاحين من مزارعهم وإرسالهم هاربين على الطرقات، وليس معهم سوى ما في وسعهم حمله؛ كانوا يدافعون عن ذلك كله بذرائع أكثر همجيَّة مما لا يستطيع كثر من الناس احتماله. وقد تواطأ الخاطفون والقاتلون والمدمِّرون والحارقون على أنفسهم تعابير وصفات "الإنقاذ"، كما تعارف أهل السُّودان على تسمية المراكز التي عندها تُذل الناس كالبهائم، وتُرغم على كل صنوف التعذيب لسنوات تحت رحمة الزعيف والأوامر ورصاصة الرحمة، تعارفوا على تسميتها ب"بيوت الأشباح". كل هذا الظلم هو الذي دفع كليمنت حمودة أنجلو مجولو طوبة وآخرين أن ينخرطوا في الحركة الشعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، ويصبح ضابطاً مناضلاً مقاتلاً في الحركة، وكان لسان حاله يقول: "أجمل من رائحة النِّضال لم أشم رائحة!" والبسالة التي بها صمد رجال ونساء النُّوبة كانت موضع تبجيل، وبما أنَّ الإنسان في نهاية الأمر يموت ويمسي جسده طعماً للطير حين لم يدفن، لم يقبلوا بالضيم مهابة من المنيَّة، ومات منهم مات وهو حر، وكان لسان حالهم يتمثَّل فيما قصَّده المتلمس قصيدة وعبَّر عنه شعراً في البيتين الآتيتين:
ألم تر أنَّ المرء رهن منيَّة صريعٌ لعَافِي الطيرِ أو سوف يُرْمَس
فلا تقبلنْ ضيماً مخافةَ مِتةٍ ومُوتَنْ بها حرّاً وجلدك أملس
على أيَّة حال، فقد أكَّد الملازم (شرطة) خالد عبد الكريم صالح رئيس شعبة الأمن والمتابعة في حكومة ولاية كردفان – وهو شقيق اللواء سيِّد الحسيني عبد الكريم صالح والي كردفان، وحارسه الشخصي خلال الفترة من أيار (مايو) 1992م – شباط (فبراير) 1993م – أنَّ حكومة الفريق عمر حسن أحمد البشير تقوم بانتهاج سياسة تستهدف القضاء على قبائل النُّوبة (ملحق رقم (15)). وشدَّد شقيق الوالي في بيان تلاه أمام مؤتمر صحافي في بيرن – حاضرة سويسرا - رعته المنظَّمة السُّودانيَّة لحقوق الإنسان، التي كانت تتخذ من لندن مقرَّاً لها، أنَّ نائب والي كردفان هو المسؤول الأول في حزب الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، وهو المشرف على نشاطات جهازي الأمن العام و"أمن الثورة"، وذكر – فيما ذكر - أنَّ الأخير غير موجود من الناحية الرسميَّة، ولكنه فعَّال لما يريد.
وفي محاولتها للإدمان في التطهير العرقي للنُّوبة، وتقسيم أراضيهم، وتفتيت وحدتهم، قامت حكومة الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة بتهجيرهم قسراً إلى ما يسمى ب"قرى السَّلام" لاستيعاب العائدين من مناطق الحرب بالجبال. وفي هذه المعسكرات المنتشرة في كل من كادقلي، لقاوة، حمرة الوز، حمرة الشيخ، وفي المرغنيَّة وبارا وشيكان بالقرب من الأبيض، جبل الطير، جبل الداير، خور طقت، الرهد، أم روابة، السميح، الرحمانيَّة (بين رشاد وأبو جبيهة)، والنُّهود، كان يتم حشد وحشر ضحايا الحرب الأهليَّة في ظروف قاهرة ينعدم فيها أبسط مقوِّمات الحياة من مأكل ومشرب وملبس وصحة وتعليم وغيرها، فضلاً عن أنَّها كانت تجمعات للأسلمة القسريَّة والاغتصاب والتجنيد الإجباري لقوات الدِّفاع الشَّعبي، وتوفير العمالة الرخيصة لمالكي المشاريع الزراعيَّة من التجار الجلابة، حيث كان لا يسمح لهم بمغادرة هذه المعسكرات. ففي معسكر الرحمانيَّة – وهو كان أكبر معسكر للنُّوبة، ويقع في الجبال الشرقيَّة - حيث تم فيه توطين 60,000 مواطناً أغلبهم من النساء والأطفال والعجزة العام 1992م، وبعد عامين تقلَّص العدد إلى 40,000 فقط، وذلك لانتشار الأمراض المعدية والوبائيات وسط المهجَّرين. ففي يوم 3 حزيران (يونيو) 1992م تم تحميل عدداً من اللواري والشاحنات من قرى الشات بالنساء والأطفال وتفريغهم في ضواحي الأبيض. وتكرَّر نفس المشهد في اليوم التالي، حيث تمَّ ترحيل 5,000 مواطناً، تبعتها 9 شاحنات. أما في معسكرات أم روابة، بارا، وحمرة الشيح بمحافظة شمال كردفان فكان يتراوح عدد الأطفال الذين اختطفوا من قبيلتي الشات وكورونقو عبد الله ما بين 1,300-1,500 طفلاً. وكان يقع معسكر الأطفال في أم روابة على بعد 15 كيلومتراً خارج المدينة، وتتراوح أعمار الأطفال فيه ما بين 7-12 سنة، وكان يشرف على الأطفال في معسكر حمرة الشيخ أحد عناصر الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة وهو محمد إبراهيم وكان يساعده في الأشراف أحمد عبد العزيز، وتُمنع زيارتهم منعاً باتاً. وقد تمَّ نقل هؤلاء الأطفال من قراهم في سيارات مقفولة بعد أن رأى بعضهم ذويهم وهم يُقتلون أمامهم، والبعض الآخر لم يدر أماكن تواجدهم، وكان يُوجد معهم عدداً من المسنين من نفس القبيلتين. وكان كل الأطفال عراة، وقد تمَّ تغيير أسمائهم جميعاً بأسماء عربيَّة، ومُنعوا منعاً باتاً من التخاطب بلغاتهم المحليَّة، وباتوا يدرسون اللغة العربيَّة. وقد اكتظَّت هذه المعسكرات بأهل النُّوبة، وبخاصة بعد الفتوى التي صُدرت عن مؤتمر علماء الدِّين وأئمة المساجد والخلاوي بولاية كردفان، والمنعقد بمدينة الأبيض في 27 نيسان (أبريل) 1992م حول قتال الخوارج بجنوب كردفان، وإعلان الجِّهاد على أبناء النُّوبة، وإباحة دمائهم وأموالهم وسبي نسائهم وأطفالهم، وتشتيتهم إلى خارج منطقة الجبال، وترحيلهم إلى ما يسمَّى ب"قرى السَّلام"، وإحلال القبائل العربيَّة في مناطقهم. وقد شرعت الحكومة بالفعل في تنفيذ الفتوى بإرسال مليون مجاهد وميليشي العرب لقتل النُّوبة، وطردهم من قراهم وإخلائهم من ديارهم بغير حق، ونذكر على سبيل المثال منطقة أبو جنوك المكوَّنة من حوالي 12 قرية، وكان يسكنها حوالي ثمانيَّة آلاف شخص من النُّوبة الذين تمَّ ترحيلهم منها إلى السنط تحت تهديد السلاح وخلال 72 ساعة فقط، لتصبح هذه المنطقة لعرب المسيريَّة الرحل.
ومع ذلك، لم يقتصر التهجير القسري على شمال كردفان، بل امتدّ ليشمل أقاصي شمال-شرق السُّودان. ففي بورتسودان تم تفريغ الآلاف من المواطنين النُّوبة في خور (مجرى مائي موسمي) بالقرب من ملعب كرة القدم خلف السوق الكبير لمدة ثلاثة أيام دونما أيَّة رعاية تذكر، وبعد ذلك تمَّ "إلقاؤهم" في بطون الوديان والتلال الصحراويَّة في منطقة سوتريبا، وطالبوهم بزراعة المنطقة، ووعدوهم بتمليكهم الأرض إذا هم نجحوا في اخضرارها. وإنَّه لمن المعلوم أنَّ مياه البحر الأحمر لمالحة، وهذا ما لم يعتاده المواطنون "النوباويُّون"، فضلاً عن عدم وجود طلمبات لتنقية هذه المياه من الملوحة، وكانت النتيجة تردٍ واضح في الصحة ومات كثرٌ من النُّوبة ممن لم يقو على احتمال هذه المعيشة القاسية، وبخاصة الأطفال والعجزة. وكان للأسلوب الذي به تمَّ هذا التهجير القسري لأهالي النُّوبة أسوأ الأثر على الصحة العامة، وبخاصة نقلهم بأعداد كبيرة وشحنهم كالمواشي أو الأنعام الأخرى، وعدم إطعامهم أو توفير الماء لهم لعدة أيَّام، وافتقار هذه المعسكرات إلى كل عناصر الإقامة الآدميَّة، واختلاف الطبيعة الجغرافيَّة التي عليها اعتادوا العيش في جبال النُّوبة، وهو مناخ السافنا واعتدال الجو إلى مناخ شمال كردفان شبه الصحراوي.(32) وقد عبَّرت عن هذه التجاوزات التي يشيب لها الولدان في جبال النُّوبة "حركة التضامن مع أبناء النُّوبة بالخرطوم"، وذلك في نداء "أنقذوا قبائل النُّوبة من التَّطهير العرقي" إلى المجتمع الدولي عامة، والحكومة البريطانيَّة ومجلس العموم البريطاني، والحكومة الأمريكيَّة والكونغرس الأمريكي خاصة في بيان صادر لها في 5 أيلول (سبتمبر) 1993م، وطالبت هذه الدول – فيما طالبت - بالمزيد من كشف ممارسات الحكومة السُّودانيَّة تجاه حقوق الإنسان في جبال النُّوبة، وتعرية النظام ومحاصرته، وألا تستمع منظمات حقوق الإنسان والدول الصديقة والأمم المتحدة لبعض الأصوات النشاز من أبناء النُّوبة والجنوبيين في الداخل ممن اشترتهم الحكومة لطمس الحقائق وتزييف الواقع المزري للإنسان الأفريقي في السُّودان، فهؤلاء لا يمثِّلون إلا أنفسهم.
ومن هؤلاء المتملِّقين أنجلو بيدا، الذي كان نائباً لرئيس المجلس الوطني (البرلمان) في تموز (يوليو) 1994م، وهو كاثوليكي من أبناء الجنوب. فقد ذكر بيدا أنَّه في شباط (فبراير) 1996م ترأس لجنة من قادة سودانيين ممن أُوكِل إليهم أمر النَّظر في وضع حقوق الإنسان في إقليم جبال النُّوبة، والتدقيق حول مزاعم إساءة معاملة المستوطنين في معسكرات الحكومة، وأنفق أربعة أيام هناك. وقد زار الكنائس، السجون، مراكز الشرطة ودعا إلى حشد جماهيري لإعلان وجودهم للناس وإذاعة أسباب حضورهم إلى المنطقة في الناس، فزعم أنَّه لم يجد شيئاً، لم يجد الرِّق، ولا الاغتصاب ولا الأسلمة القسريَّة. هذا ما حاول أن يقوله أنجلو بيدا عن النظام الذي غرق فيه أكلا وشراباً، ولا يعني أهل النظام أنفسهم أكان مخلصاً لهم أو مبتغياً للحظوة والزلفى. وهذا قول أناس في قلوبهم مرض وفي أنفسهم زيغ، وهي شيمة من شيمات الانتهازيين وبعض الزعامات حسبما تمليه عليهم المصالح والأهواء الشخصيَّة بصرف النظر عن اتساقها قرباً أو بعداً مع الصالح العام للوطن. ألم تر كيف يعمل المال في أفئدة المؤلفة قلوبهم، ويبسط على نفوس هؤلاء الملفِّقين نوعاً من السلطان قويَّاً! فكيف يظن بيدا أنَّ المغتصبات من فتيات النُّوبة لسوف يأتين إليه ويقدمن أنفسهن بأنَّهن قد تم اغتصابهن بعد أن نظَّمت أجهزة أمن الحكومة الرحلة، واختارت الأماكن التي ينبغي أن تزورها اللجنة، والأفراد الذين يجب أن تتحدَّث إليهم اللجنة، والتوصيات العامة والصيغة النهائيَّة التي ينبغي أن تخرج بها اللجنة، وغيرها من أسلوب الانتقاء والحذف والنفي والتمحيص والفحص الأمني والقيود الإعلاميَّة وهلمجراً. وما أن اطمأنَّ بيدا وآخرون مثله من النظَّام من أهل النظام والمنسِّقين من أشياع النظام، حتى استقام لهم مقدار من تلفيق أولئك وتنسيق هؤلاء طبعوه بطابعهم ونفخوا فيه من روحهم وأذاعوه بين الناس. يقولون ذلك ليتقرَّبون به إلى أصحاب السلطان، ويبتغون به المثوبة عندهم، ولا سيما إذا كانت الحوادث السياسيَّة والأوضاع الاجتماعيَّة تعين على ذلك وتدني منه.
على أيَّة حال، فإنَّ سياسة حشر المواطنين في معسكرات خاصة في حال الاضطرابات السياسيَّة لهي سياسة استعماريَّة. فقد استخدم البريطانيُّون في ماليزيا هذه السياسة حين قاموا بتجميع الصينيين – الذين أحضروهم كأيدي عاملة رخيصة في بادئ الأمر – في معسكرات عرفت باسم "القرى الجديدة" (New Villages)، وذلك لأنَّهم كانوا يساندون الحركة الشيوعيَّة قائدة النضال المسلح ضد الوجود البريطاني في ماليزيا. وكانت هذه المعسكرات سيئة التجهيز في أول الأمر، ولم تستطع هذه السياسة إثناء المهجَّرين الصينيين عن دعم الثوار الشيوعيين قيد أنملة. وفي نهاية الأمر عدَّلت بريطانيا في هذه السياسة لكي تكسب قلوب وعقول هؤلاء المواطنين. فقامت السلطات البريطانيَّة بتحسين ظروف المعيشة في هذه "القرى الجديدة"، وتوصيل أنابيب المياه ومد خطوط الكهرباء، وتشييد المدارس والطرق، وتثبيت القيم الديمقراطيَّة لانتخاب ممثِّليهم بالسبل الديمقراطيَّة، ومنحهم أراض، وإثبات حقوقهم في المواطنة. وقد حقَّقت هذه الإصلاحات الاجتماعيَّة والسياسيَّة في نهاية الأمر نجاحاً أكثر مما لم تحققه العمليات العسكريَّة ضد الثوار في الأحراش. كذلك استخدم البيض في الولايات المتحدة الأمريكيَّة نفس السياسة حينما قاموا بحجز أطفال الهنود الحمر – بعد إبادة ذويهم – في معسكرات منفصلة، وذلك لتغيير الهُويَّة الثقافيَّة لهؤلاء الصغار عن طريق تدريس اللغة الإنكليزيَّة، وتعليم الديانة المسيحيَّة، وتلقين ثقافة الرجل الأبيض لانصهارهم في المجتمع الأمريكي الجديد الذي يودُّون اختلاقه. وكذلك فعل مجرمو المملكة المتحدة الذين قذفت بهم الإمبراطوريَّة البريطانيَّة في أستراليا ونيوزيلاندا، وكان هؤلاء البريطانيُّون من اللصوص الذين أبعدتهم بريطانيا إلى هذا الجزء من إمبراطوريَّتها. فبعد الإبادة العرقيَّة لسكان هاتين الجزيرتين الأصليين (Aborigines)، أي "الأروما"، تم حجز أطفالهم – وبخاصة الخلاسيين منهم، أي المولَّدين من التقاء الرجل الأبيض ونساء الأروما – في معسكرات خاصة، وذلك لمحو هُويَّتهم الثقافيَّة. وما بروس تريفورو إلا واحداً من هؤلاء "الجيل المسروق" (Stolen generation) الذي تم اختطافه من أسرته في عيد ميلاد المسيح العام 1957م وهو كان يبلغ من العمر حينئذٍ 13 شهراً، حيث أقدمت السلطات الاسترالية يومذاك بأخذ الآلاف من الأطفال من الأروما في الخمسينيَّات والستينيَّات من القرن الميلادي الماضي. وفي آب (أغسطس) 2007م قضت محكمة في جنوب استراليا أن تقوم الحكومة الاستراليَّة بدفع تعويض قدره 220,000 جنيهاً إسترلينياً لبروس، لأنَّه فقد الهُويَّة الثقافيَّة، وأمسى مدمناً للخمور، ومصاباً بالاكتئاب، وبات لا يستقر في وظيفة بعينها. وطبق البريطانيون نفس السياسة في حربها ضد حركة "الماو ماو" في كينيا، ولقي الكينيُّون الذين اتهموا بانتمائهم للحركة المتمرِّدة صنوفاً من العذاب وإعدامات جماعيَّة في المعسكرات الخاصة التي فيها تمَّ تجميعهم. إذن، ما الذي يجمع بين ممارسي هذه السياسة، التي تنعدم فيها كل القيم الأخلاقيَّة وحقوق الإنسان، والتي تقضي بحجز مواطنين مدنيين في معسكرات خاصة لأنَّهم متَّهمون بمعارضة النظام، أو بغرض فرض الانصهار الإجباري في الثقافة الغالبة القاهرة (أو المفروضة)؟ إنَّ العامل المشترك في هذا كله هو الاستعمار، وإنَّ القائمين بأمر هذه السياسة لهم البريطانيُّون سواء كان ذلك في ماليزيا أو أمريكا الشمالية أو أستراليا أو نيوزيلاندا أو إفريقيا. ثم العامل العرقي الذي يضع الإنسان الأسود - أو الملوَّن – في قاعة الترتيب الاجتماعي، وقديماً – كما هو حديثاً - كان العرق ينبوع التهم، ومثار الشكوك والريب. أفلم يكن من الأجدر على قادة النظام "الإنقاذي" في السُّودان ألا يحذو حذو البريطانيين الاستعماريين! بلى! وكيف يحلو لأهل الحكم في الخرطوم أن يعاملوا شعبهم بمثل هذه الطريقة السيئة، وكان من الأجدر بهم أن يعطفوا عليهم، ويصطبغوا عليهم الرحمة لا آيات الإذلال والهوان.
برغم من هذه الصورة العنصريَّة المأسويَّة في جبال النُّوبة شرع بعض أبناء النُّوبة في تزيين وجه النظام "الإنقاذي" دون حق. فقد كتب أحدهم يقول: "إنَّ الحكومة وفَّرت (في قرى العائدين) كل مقوِّمات الحياة الصحيَّة والتعليميَّة." بل ومضى كاتب المقال ناعتاً قائد التمرُّد بالمنطقة السيِّد يوسف كوة مكي – وليس يوسف كوة عبد الله، كما جاء في المقال، ونحسبه أن يكون خطأً مطبعيَّاً لا جهل صاحب المقال بالاسم الصحيح للقائد يوسف – حيث وصفه: "أنَّه قد عمل في مجال التعليم (...) مدرِّساً بمدرسة كادقلي الثانويَّة (تلو)، ولقد شهد ضده كل من تلقَّى منه من الطلبة بعنصريَّته الظاهرة، التي لم يكن يخفيها. أما قصة تمرُّده فمعروفة، وهي مشكلة شخصيَّة بينه وبين حاكم كردفان آنذاك السيد الفاتح بشارة ووزير إسكانه السيد محمد أبو كلابيش."(33) وعن هذه العنصريَّة، التي يتحدَّث عنها أحد أبناء النُّوبة "المبرمج آلياً"، فقد جادلنا فيها في أكثر ما يكون الجدال في صفحات أخرى من هذا البحث، وفي مصادر أخرى مطبوعة وإلكترونيَّة وفي الصحف السيَّارة.(34) غير أنَّ هذا كله لم يمنعنا، في نهاية الأمر، من الزيادة هنا ليس من أجل التزيُّد والاستكثار، بل للإيضاح واستنطاق الحق. فكلمة عنصريَّة (Racism) كلمة ذات أبعاد اجتماعيَّة ونفسيَّة وسياسيَّة عميقة. إذ عرَّفها معجم أكسفورد بأنَّها: "الاعتقاد في علو عرق ما، والموقف المتميِّز ضد الأعراق الأخرى المنطلق من ذاك الاعتقاد." فالعنصريَّة كما يقول أتينيه بالبار "ليست وجوداً موضوعيَّاً لعناصر بيولوجيَّة، وإنَّما نتاج تأريخي وثقافي"، وهي ليست بالضرورة لصيقة بالطبيعة البشريَّة كما يصورها البعض. ويضيف ابن خلدون كنو كالو: "(إنَّ) كلمة عنصري لكلمة مطاطة تستعمل عند الحاجة، وتطلق على من له رأي واضح وصاحب قضيَّة مطلبيَّة في السُّودان، وبخاصة إذا كان صاحب القضيَّة من العنصر الزنجي."(35) ويكتب الدكتور أحمد عثمان سراج: "في وطننا ظلَّت تهمة العنصريَّة تلقى على عواهنها .. (إذ أنَّها) في معظم الأحيان ظلَّت تصدر من الفئات المهيمنة في مجتمعنا ضد أخرى مطحونة.. تدفع هذه الأخيرة المضطهدة بالعنصريَّة متى ما جنحت للتمرُّد، بل حتى مجرَّد الاحتجاج. أي متى ما جرؤت و"رفعت نخرتها" – (أي شمَّرت عن سواعدها) – المطلوب هو الخنوع والخنوع الدائم." وفي هذا الوطن المعروف باسم السُّودان- الذي يعني "أرض السود" – تسمع ممن فيهم بقيَّة من حمية الجاهليَّة الأولى ألفاظاً مثل "يا عب"، أو عبارة الدَّلع المخفَّضة "يا فرخ"، تلك التي تُطلق على من تبدر فيه – أو منه – نزعة تمرُّد إن كان حالك السواد، ولا تطلق على أحد الجعليين وإن كان أحلك سواداً من هذا المراد، فالجعلي "الأسود لونه" أخدر" (أخضر)"، لأنَّ للألوان في السُّودان بعدها الاجتماعي-النَّفسي. فهؤلاء – في نظر المسرفين والغلاة من أهل السُّودان – هم "أولاد البحر"، أو "أولاد قبائل"، أو "أولاد عز"، أو "أولاد عرب"، أو "من الأشراف"، أما سواهم فهم من "العبيد المناكيد"! ثم يتساءل الدكتور سراج غير مندهش: من هم العنصريُّون حقاً؟! لتأتي إجابته: إنَّ "كل من يتوهَّم في نفسه وأهله علواً عرقيَّاً، ويتعامل مع غيره بافتراض دونيَّة فيهم، ويضطهدهم بالفعل أو القول أو بوسوسة داخل قلب "أسود" فهو عنصري". ولا تخلو بعض الشرائح السياسيَّة في السُّودان من هذه "الجاهليَّة الأولى"، وفي هذا الصدد يضيف الدكتور سراج: "التقدميُّون في السُّودان غائصين في وحلتين؛ رواسب في الأعماق تطفو هنا وهناك برغم من الشعارات والهتاف بغير ذلك: أولهما الموقف من المرأة (وبخاصة الزوجة والأخت والابنة)، وثانيهما الموقف العرقي، ولا أزيد!!"(36) لذلك حين اجتمع أبناء النُّوبة بالقائد يوسف كوة مكي في لندن العام 1996م، وكان كاتب هذا الكتاب يشغل منصب الأمين العام لتضامن أبناء النُّوبة بالخارج (المملكة المتحدة) سأل يوسف: من منكم استطاع أن يقرأ مقالتي الدكتور أحمد عثمان سراج، فلما جاء ردنا له بالإيجاب طلب منا القائد أن نبعث بنسخ منها إلى صاحب المقال المذكور سابقاً من أحد أبناء النُّوبة التي فيها نعت يوسف ب"العنصريَّة". فقد شخَّص الدكتور سراج لب المشكل السياسي-الاجتماعي في السُّودان، بل وقد لامس هذه المشكلات وعايشها من قبل غلاة الأساتذة وأعضاء الحركة الإسلاميَّة ضد الطلاب الجنوبيين في مدرسة خورطقت الثانويَّة كما سردها في المقالين، وقد قرأ القائد يوسف كوة هذه المقالات كلها أيما القراءة، وهو – بلا ريب – قارئ نهم لا يشق له غبار.
كانت هذه المآسي هي التي دفعت المواطن النوباوي علي الكمين أن يصف المنطقة بأنَّها "جزيرة محاطة بكل الحقد الإنساني.. ترزح في براكين النسيان والتجاهل العالميين"، ويضيف الكمين: "في الأسبوع الماضي قذفت طائرات (الدكتور حسن عبد الله) الترابي إحدى القرى فقتلت أربعة نسوة كن يعملن في الزراعة، وشيخاً كبيراً وطفلين، وعادت تلك الطائرة مرة أخرى لترمي حقدها عندما كان أهل القرية يعملون في الزراعة لصالح ضحايا الطائرة، إنَّه لإيمان يصعب تحطيمه وتصديقه". ويؤكِّد علي الكمين للعالم: "الناس هنا أيها العالم يسيرون عراة نحو الأمل الذي خرجوا من أجله.. إنَّ أعضاءهم البارزة تذكر بقصة الخلق وقصة تجاهلكم المتوارث.. يخضعون بشكل منظم لعمليات الإبادة الثقافيَّة والتطهير العرقي والابتزاز السياسي.. إنَّهم كفروا بكم، وهذا أمر مؤسف، وازدادوا إيماناً بعدالة قضيَّتهم.. في العام 1992م مات الناس جوعاً!! هذا أمر طبيعي.. أعلم ذلك، ولكنهم لم يغادروا مقاعدهم (...) إنَّ من يغتصب سلطة بليل فهو متمرِّد.. ومن يشرِّد شعباً بأكمله فهو متمرِّد، ومن ينشئ بيوت الأشباح فهو متمرِّد.. ومن يقفز بسعر الخبز إلى 50 جنيهاً فهو متمرِّد.. ومن يقتل 28 في وقفة العيد (ضباط حركة رمضان العام 1990م) فهو متمرِّد.. ومن يستخدم القنابل العنقوديَّة المحظورة فهو متمرِّد.. ومن يدخل الآلات الحادة في عجائز الرجال فهو متمرِّد.. ومن يولي أمره للترابي فهو متمرِّد (...)."(37)
وفي يومي 26 و27 تشرين الثاني (نوفمبر) 1994م قامت الحكومة بحملات واسعة النطاق على مستوى العاصمة القوميَّة للحصول على أفراد لتجنيدهم قسراً في مجاهدي قوات الدفاع الشَّعبي من أجل إرسالهم إلى مناطق القتال في جبال النُّوبة وجنوب السُّودان. وكان من نتائج تلك الحملات اختطاف 3,000 طفلاً من النُّوبة والجنوبيين الذين كانت تتراوح أعمارهم بين 7-11 عاماً، وتمَّ نقلهم إلى معسكر وادي سيدنا، وكان من ضمن هؤلاء المختطفين الطفلين الأخوين: عمر إسماعيل كوكو (11 سنة)، ومحمد إسماعيل كوكو (8 سنوات). وفي يوم الثلاثاء شباط (فبراير) 2000م قامت الطائرات الحكوميَّة بقصف مدرسة للأطفال في قرية كاودا، مما أدى هذا القصف العشوائي إلى مقتل 14 تلميذاً وتلميذة ومعلمتهم وإصابة 17 خمسة منهم كانت إصاباتهم خطيرة. هذا، فقد ورد في بعض الأنباء أنَّ الجرحى بلغ عددهم أكثر من 20 شخصاً. وقد اعترفت الحكومة السُّودانيَّة لأول مرة في تأريخ الحرب الأهليَّة بقيام طائراتها بقصف بعض المواقع بجبال النُّوبة. إذ قال الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل – وزير الخارجيَّة السُّوداني يومئذٍ: "إنَّه ليس من سياسة الحكومة التعرُّض لمواقع غير عسكريَّة يحشد فيها التمرد قواته، وإن كانت المنطقة بها تجمعات للمدنيين فهذا شيء يُؤسَف له وتتمنى الحكومة ألا يتكرَّر ثانية".(38) كانت صور الأطفال الجرحى المعروضة في الإعلام المرئي مأسويَّة، ومنظر القتلى يثير الحزن والألم الشديدين، وكتب الأطفال وكراساتهم المتناثرة تبعث الاشمئزاز والسخط الشعبي ضد حكومة الخرطوم، وقد أدانت هذه العمليات البربريَّة كل الحكومات الغربيَّة والمجتمع الدولي ومنظَّمات حقوق الإنسان. وكان معظم ضحايا ذلك الاعتداء الآثم تلاميذ في الصف الأول الابتدائي الذين كانوا يجلسون تحت الشجرة يتلقون مادة اللغة الإنكليزيَّة. وكانت صورة مدير المدرسة، وهو يحاول الإمساك بإمعاء تلميذ كانت الشظايا قد بقرت بطنه، توضح بجلاء بأنَّ مثل هذه الانتهاكات الفظيعة التي تمارسها الحكومة السُّودانيَّة ضد المدنيين النُّوبة الأبرياء قد أصبحت أمراً شائعاً. ولكن يا للحسرة! لم تمض سوى دقائق معدودات وكان ذلك التلميذ قد فارق الحياة. وقامت الطائرة التابعة لسلاح الجو السُّوداني، بعد أن شنَّت هجومها على مدرسة الصليب المقدَّس بكاودا فوق، بإلقاء ثمان قنابل أخرى على قريتين قريبتين من المدرسة. وأفادت التقارير أنَّ 34 تلميذاً وتلميذة وأثنين من المعلمين قد قُتِلوا في عمليات مشابهة في الفترة ما بين تشرين الأول (أكتوبر) 1997م إلى العام 2000م في جبال النُّوبة.
ففي خواتيم شهر آب (أغسطس) 2001م خرقت صحيفة "الحياة" اللندنيَّة الجدار الأمني المفروض على جنوب كردفان بواسطة الحكومة السُّودانيَّة، ودخلت مناطق الحركة الشعبيَّة في جبال النُّوبة، وعكست سلوك "الحكومة السُّودانيَّة (التي) اعتمدت سياسة التجويع ضد شعب النُّوبة الذي لم يتلق أيَّة معونات إنسانيَّة منذ العام 1988م حتى تموز (يوليو) 2000م. إذ حملت آنذاك طائرتان تابعتان للأمم المتحدة 14 طناً من البذور والأغذية والمواد التعليميَّة من مطار لوكيتشوكيو الكيني إلى مطار الأبيض (في شمال كردفان)، ومنها إلى (جبال) النُّوبة، حيث وزَّعتها الجمعيَّة (منظمة جبال النُّوبة للإغاثة وإعادة التعمير). وكانت هذه المرة الأولى التي تأذن الحكومة السُّودانيَّة رسميَّاً بإرسال معونات دوليَّة إلى المنطقة من خلال أكثر من عقد."(39) وفي ست حلقات تحدَّث مراسل الصحيفة – يوسف خازم – عن الأمن الغذائي والتعليم وعن آخر معركة جرت في الجبال، وحاولت خلالها القوات الحكوميَّة السيطرة على مدينة كاودا الإستراتيجيَّة، كما تعرَّف على التراث "النوباوي" السُّوداني المميز، بما في ذلك طقوس الاستسقاء وجلب المطر لدي القبائل، وضرب الحبيب بالحشيش، ورقصة الكمبالا والمبارزة بالعصي، والمعالجة باستخدام طقوس إفريقيَّة، وذلك في إطار العادات والتقاليد التي تذخر بها هذه المنطقة، بما في ذلك التركيبة الاجتماعيَّة والقبليَّة والدينيَّة. وكذلك تطرَّق مراسل الصحيفة إلى تأريخ النزاع السياسي والعسكري بين النُّوبة والحكومات السُّودانيَّة المتعاقبة. وفي هذه الزيارة، حاور مراسل الصحيفة قائد قوات الحركة الشعبيَّة – حاكم جنوب كردفان – عبد العزيز آدم الحلو عن الوضع العسكري، كما سجَّل انطباعاته عن إحدى مواقع القتال وشهادات من مواطنين تعرَّضت منازلهم للحرق أكثر من مرة. ونشرت الصحيفة حديثاً كان قد أدلى به القائد يوسف كوَّة مكي - قبل وفاته – في نُمُولي إلى يوسف خازم في مطلع العام 2001م. ولا شك في أنَّ هذه الحلقات الصحافيَّة قد أثارت ردود فعل بين من هو مؤيِّد لها ومعيب عليها.(40)
أمَّا الطبقة المثقَّفة من أبناء النُّوبة في شمال السُّودان، فقد كانت تتم تصفيتهم بأسلوب مختلف. ففي هذه الحال يزج بالضحية في "بيوت الأشباح" تحت أيَّة تهمة ملفَّقة، ويُعذَّب حتى يختل عقليَّاً أو نفسيَّاً، أو تحدث له عاهة مستديمة ثمَّ يخُلى سبيله، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: المهندس الكيميائي محمد نواي حمدان، والمعلِّم عبد الباقي، وكذلك الطيب بدوي. ثمَّ كان اعتقال الأب فيليب عباس غبوش في يوم الاثنين 9 تشرين الأول (أكتوبر) 1995م، ومعه يوسف دنقير وخميس سليمان بواسطة رجال الأمن، وذلك بعد الفراغ من خطبته الجماهيريَّة في منطقة جبرونا بغرب أم درمان. فبينما كان الأب غبوش يخاطب الجماهير إذا برجال الأمن يقطعون التيَّار الكهربائي من المايكرفون، مما اضطرَّ الأب غبوش أن يكمل حديثه بدون المايكرفون. وبعد الاعتقال - الذي تمَّ بصورة عنيفة، ودون مراعاة لظروفه المرضيَّة أو عامل السن أو مكانته الروحيَّة – تعرَّض غبوش لأقصى أنواع التنكيل والضرب في الرأس والخدين والكلي، والإهانة والشتم ولاستفزاز، وقد عصبوا عينيه، وهي الطريقة الكلاسيكيَّة في التعامل مع المعتقلين السياسيين. فقد جاء اعتقال الأب غبوش في أعقاب زيارة الدكتور جورج كيري – كبير أساقفة كانتبري – للسُّودان، حيث تحدَّد في الاجتماع النهائي للجنة الاستقبال، التي كانت الحكومة ممثلة فيها بوزير الدولة بوزارة الخارجيَّة قبريال روريج، أن تكون هناك ثلاث شخصيات قوميَّة ودينيَّة لمخاطبة لقاءات الدكتور كيري بمناطق النازحين الثلاثة بولاية الخرطوم. وقد تحدَّدت الشخصيات على النحو التالي:
مولانا أبيل ألير – النائب الأول الأسبق لرئيس الجمهوريَّة – أن يخاطب الجماهير بحي الحاج يوسف في الخرطوم بحري.
المطران كوركيل خميس في الساحة الخضراء في الخرطوم.
الأب غبوش في جبرونا بأم درمان، وقد كان خطابه شاملاً وشارحاً كل الظروف التي كانت تمر بها البلاد عامة، ومناطق الحرب والنزوح من الجنوب وجبال النُّوبة والأنقسنا خاصة.
وفي يوم 5 كانون الأول (ديسمبر) 1995م كتب عمر مصطفى شركيان – الأمين العام لتضامن أبناء النُّوبة بالخارج – رسالة إلى كبير أساقفة كانتبري مبدياً اشمئزازنا عن اعتقال وسوء معاملة الأب فيليب عباس غبوش من قبل السلطات الحكوميَّة بالخرطوم. هذا، فقد رد سكرتير كبير الأساقفة – الكاهن أندرو ديوتشار – لرسالة شركيان في يوم 13 كانون الأول (ديسمبر) قائلاً إنَّ كبير الأساقفة قد أشار إلى اعتقال الأب فيليب غبوش خلال زيارته، مما اضطرت السلطات الحكوميَّة إلى إطلاق سراحه، وبالطبع بعد التعذيب الجسدي والنفسي والإهانة والسباب.
مهما يكن من الشأن، فلم تتوقَّف الاعتقالات التعسفيَّة وسط المعارضين من أبناء النُّوبة. ففي هذه الأثناء اعتقلت السلطات السُّودانيَّة عدداً من أبناء جبال النُّوبة في مدينتي الدلنج والأبيض وهم: قادم حماد هنوة (معلِّم فنون جميلة)، حمدون محمد تيه (عميد كليَّة تربية الدلنج)، حسن كوة (موظف بالشؤون الدينيَّة بالأبيض)، محمد أزرق (أعمال حرة بالأبيض)، وآدم فرج الله (أحد الموقعين على مذكرة التجمع الوطني الديمقراطي في آذار (مارس) 1996م عن الحزب القومي السُّوداني). كما أقدمت السلطات الحكوميَّة على اعتقال القسيس يوحنا تيه كوكو في كانون الثاني (يناير) 1997م في كادقلي.(41)
وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ مثل هذه التعدِّيات الإنسانيَّة تمثِّل فساداً أخلاقيَّاً، والتمادي في تجاوز الحل السلمي للأخوة السُّودانيين فيما شجر بينهم يعتبر فساداً سياسيَّاً، وتدمير المجتمعات واجتثاث جذور شعوبها لا يمكن وصفها إلا في إطار الفساد الإنساني-الاجتماعي، ثم حرمان مناطق بعينها من التنمية الاقتصاديَّة والمشاريع الخدميَّة يُعَد فساداً اقتصاديَّاً. وما الفساد إلا لعنة كونيَّة أُصِيب بها ظلمة كثر في بقاع عديدة من العالم عامة والسُّودان خاصة. هؤلاء الساسة الفاسدون أيما الفساد يستحقون الغليان في نار حامية في هاوية الجحيم، والخونة ينبغي تجميدهم في الثلوج، أو كما كتب الشاعر الإيطالي دانتي الخيَّري - بتشديد الياء مع فتحها – (-1321م) في قصيدته "الكوميديا الإلهيَّة" في أوائل القرن الرَّابع عشر الميلادي. إنَّ هذه ليست بكلمات تُطلق على عواهنها، بل هذا ما حدث في التأريخ القريب، بل طلب ملحاح واضح على القوى المعيَّنة التي قامت بهذا الجرم الشنيع أن تجيب بالكلمات أمام الملأ، وأن تتبرَّأ عما اقترفت أياديهم ومما جرى ضد مصالح أبناء النُّوبة، معلنة برنامجها الحقيقي بعد التوبة النصوحة وإحقاق الحق وعودة الحقوق إلى أهلها، ومن بعد أن تعلن فسلفتها السياسيَّة شريطة الالتزام بقوانين الديمقراطيَّة والإصلاح الوطني وإعادة ترتيب البيت النوباوي فوق كل الهموم وفي مقدِّمة جميع الأولويات، وإعمار الذات النوباوي المخرَّب. أو كما قصَّد الشاعر أحمد بن يحيي البهلكي من جيزان بالمملكة العربيَّة السَّعوديَّة وهو يستهجن "أهل الإفك":
لا سامح الله من قد حلَّ العُرا وطغى وما رعاها هنا عهداً ولا ذمماً
وراح يشعلها ناراً مؤجَّجة تقتات أزكى نفوس في أعزَّ حمى
وفي الحق، لقد غصنا في بطون كتب التراث والفقه والتأريخ الإسلامي وعلم الكلام والحديث والسيرة والسنة النبويَّة وغيرها ولم نعثر على نص إسلامي يبيح التعذيب. ومع ذلك، شهدت الدولة الأمويَّة والعباسيَّة ضروباً من أنماط التعذيب على المعارضين سياسيَّاً والمختلفين مذهبيَّاً، أو الذين جاءوا بطرائق جديدة وملل مستحدثة لم يألفها الناس إذ ذاك. وقد عذَّب كثرٌ من الولاة رعاياهم بسبب ما أتوا به من جديد القول أو الفعل، وغض البعض الآخر الطرف عن التعذيب، وسعى البعض الثالث إلى استئذان الحاكم في تعذيب الخارجين عن سلطة الدولة أو دين الملة. وفي سبيل أولئك الذين تنادوا إلى الحاكم في طلب الإذن لتعذيب بعض المتهمين نورد الحديث الآتي. فقد روي الإمام ابن الجوزي رحمه الله قال: "حدَّثنا الثقاة أنَّ عدي بن أرطأة، كتب إلى عمر بن عبد العزيز: "من عدي بن أرطأة، أما بعد: أصلح الله أمير المؤمنين. إن قِبَلي أناساً من العمال قد اقتطعوا من مال الله عزَّ وجلَّ مالاً عظيماً لست أقدر على استخراجه من أيديهم، إلا أن أمسهم بشيء من العذاب. فإن رأى أمير المؤمنين - أصلحه الله - أن يأذن لي في ذلك أفعل". قال، فكتب له عمر بن عبد العزيز: "أما بعد: فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر، كأني لك جُنَّة من عذاب الله، وكأنَّ رضائي عنك ينجيك من سخط الله عزَّ وجلَّ. فانظر من قامت عليه بيِّنة عدول، فخذه بما قامت عليه به البيِّنة. ومن أقرَّ لك بشيء فخذه بما أقرَّ به. ومن أنكر فاستحلفه بالله العظيم وخل سبيله. وأيم الله عزَّ وجلَّ بخياناتهم، أحب إلى من ألقى الله بدمائهم، والسلام". كذلك روى ابن الجوزي قال: "حدَّثنا ضمرة عن ابن شوذب أنَّ صالح بن عبد الرحمن وصاحباً له، وكان عمر بن عبد العزيز قد ولاهما شيئاً من أمر العراق، كتبا إليه أنَّ الناس لا يصلحهم إلا السيف. فكتب لهما: "خبيثين من الخبث، رديئين من الردئ. تعرضان لي بدماء المسلمين؟ لعمري ما أحد من الناس إلا دماؤكما أهون عليّ من دمه." أما بعد، فإنَّ أهل "الإنقاذ" زعموا في أعظم ما يكون الزَّعم أنَّهم واصلون إلى الحق في الناس، ولكنهم خاضوا إليه بالباطل خوضاً. وإنَّها لفلسفة خاسرة، كما دلَّل التأريخ على خسرانها خسراناً مبيناً. فقد نقول ذلك ونحن نعلم أنَّ هذا الزمان قد ولَّى وهيهات أن يعود، ولكننا نقتبس ذكره ونقتفي أثره لنقيس به مزاعم الذين يجيئوننا آخر الزمان ويرفعون المصاحف على أسنة الرماح. هذا، ولم نعثر على أصدق من أبيات الشاعر غانم الروحاني، وكأنَّما لسان حاله كان يصف واقع شعب النُّوبة خاصة والشعب السُّوداني بشكل عام. وكيف يقضي الناس حيواتهم في آلام مبرحة، بينما الفاسدين يفرحون ويأخذون الزينة من آلام أمَّتهم، ويطربون لدي نزف الجراحات وويلات الفقر والجوع بعد أن استحوذ هؤلاء الفاسدون على الخيرات في نهم، وأودعوا حقوق الشعب أرصدة في بنوك الغرب. وقد انتشر هذا الفساد وحدث هذا الاستحواذ دون رادع ديني يصدهم عن غيهم أبداً، ولا ضمير أخلاقي أو بقايا من مروءات الرِّجال. أفلم تر كيف قصَّد غانم الروحاني من تعز باليمن قصيدته "سرد الإدانات"!
وواقعُ الشَّعبِ آلامٌ مبرحةٌ والفاسدون بأفراح وزيناتِ
يتراقصون على آلامِ أمتهم ويطربون لدي نزفِ الجراحاتِ
يدغدغون عواطف شعبهم كذِباً أنَّ الرّخاء والهناء في القادمِ الآتي
ولا رأينا سوى آمال خادعة والفقر والجوع مصحوباً بويلاتِ
يستحوذون على الخيراتِ في نهمٍ في البر والبحر من نفطٍ وأقواتِ
ويودعون حقوق الشعبِ أرصدة في الغربِ والشعبُ في آه وزفراتِ
لا دين يردعهم عن غيهم أبداً ولا ضمير أو بقايا من مرواتِ
وإن دعا ناصحٌ: يا قوم حسبكمُ يكفيكمُ ما مضى من نهب الأقواتِ
يستأسدون وهم للغربِ مسخَرةٌ يُنفذونَ لهم كل القراراتِ
وإنَّ أهل النظام "الإنقاذي" في السُّودان منذ العام 1989م كانوا يستخدمون نمطاً من الصحافة اتخذ من الكذب سبيلاً لهم، وكأنَّهم مؤمنين بنظرية جون غوبلز – وزير دعاية ألمانيا الهتلريَّة-النازيَّة – الشهيرة التي تقول: "أكذب.. أكذب وستجد في النهاية من يصدِّقك". ووجدناهم كانوا يرفعون شعارات، وينطقون بهتافات، وينامون ويصحون على أناشيد كتبها الصحابة ممن قُتِلوا في معركة مؤتة، وهي أول معركة بين المسلمين مع النصارى. إذ قُتِل في هذه المعركة قائد جيوش المسلمين – أي ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم – جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة. فلما رُفِع لواء القيادة لعبد الله بن أبي رواحة تردد وهو يشهد كثافة جند النصارى، ولكنه حسم تردده، وأنشد القصيدة التي كانت ترددها قوات الدِّفاع الشَّعبي في السُّودان:(42)
أقسمت يا نفسي لتنزلنَّ
لتنزلنَّ أو لتكرهنَّ
قد أجلب الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
يا حبَّذا الجنات واقترابها
طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
على أن لاقيتها ضرابها
هذا هو الوقود السياسي والروحي الذي استخدمه نظام "الإنقاذ" لسواقة الشباب إلى أتون الحرب الأهليَّة في السودان عموماً، وجبال النُّوبة خصوصاً. وفي جبال النُّوبة كان الغلاة الإسلامويُّون وأهل "الإنقاذ" المشائيم يرون أنَّ ما يقومون به كافٍ لشفاء حقدهم وموجدتهم، وطفئ لغلتهم، فيجهزون على النُّوبة بالشتم والضرب تارة، والقتل تارة أخرى، وتشويه اللحيم (أي القتيل) حيناً، والتمثيل بالجثث حيناً آخر، ويأخذون الأبرياء بذنوب لم يقترفوها في أحايين كثيرة. وليس هذا شيئاً نفترضه نحن أو نستنبطه استنباطاً، وإنَّما هو شيء كان يقترفه أصحاب السلطان أنفسهم. وقد تمَّ هذا كلَّه من وراء ستار الفتوى الفقهيَّة التي صُدرت ضد أهل النُّوبة في مدينة الأبيض، والتي وقف عندها فقهاء السلطان وطفقوا ينادون بضرورة استبعاد واستعباد النُّوبة. وقد جادلنا ما وسعنا الجدال في أمر هذه الفتوى ورهبانها في سفر صادر لنا بلندن.(43) وبموجب هذه الفتوى تم تنفيذ الآتي:
إعلان الجهاد على النُّوبة.
إباحة أموال النُّوبة وممتلكاتهم، وسبي نسائهم وأطفالهم بين العامين 1991-1992م والعام 1993م.
رفضت الحكومة الاعتراف بأنَّ الحرب دينيَّة، برغم من استخدامها للدين في التصفية العرقيَّة للنُّوبة.
أما ما يسمَّى ب"قرى السَّلام"، فإنَّها لعبارة عن ترحيل النُّوبة من قراهم إلى مناطق بعيدة ومنح هذه الأماكن للعرب، أي إحلال العرب مكان النُّوبة بكل من منطقة كادقلي والدَّلنج والفولة، وكذلك منطقة أبوجنوك التي تمَّ ترحيل النُّوبة منها إلى السنوط لتصبح المنطقة مستوطنة لرحل المسيريَّة العرب.
وقد أمست – وستظل – هذه الفتوى تستدعي سؤالاً مندهشاً: من هم هؤلاء الجالسون على هذه المقاعد في مدينة الأبيض ليتحكَّمون في أرواح العباد وأموالهم كما يشاؤون؟ ويقسِّمون السعود والنحوس بين البشر كما يريدون؟ إنَّهم ليسوا بأنبياء معصومين، ولا بأملاك مطهرين، ولا يحملون في أيديهم عهداً من الله تعالى بالنظر في أمر عباده وتوزيع حظوظهم وأنصبتهم بينهم، فبأي حق يجلسون هذه الجلسة على هذه الصورة؟ ومن أيَّة قوة قانونيَّة يستمدون هذه السُّلطة التي بها يستأثرون من دون الناس جميعاً؟ إنَّهم قطعاً ليسوا بعقلاء القوم، والعاقل يقتدي بقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث قال: "لا تعرف الحق بالرجال، بل أعرف الحق تعرف أهله"، والعاقل يعرف الحق ثم ينظر في نفس القول، فإن كان حقَّاً قبله، سواء كان قائله مبطلاً أو محقاً، بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل الضلال، عالماً بأنَّ معدن الذهب الرغام – الرغام بفتح الراء، وهو التراب. ولأنَّ فتوى فقهاء السُّلطة التسلطيَّة كانت قد صدرت في مدينة الأبيض تبريراً لوضع قائم، فإنَّهم قد وقعوا في عدة تناقضات واضحة؛ فلتجدنَّهم قد أباحوا دماء المسلمين وغير المسلمين على السواء. أفلم يسمعوا بقول "النبي صلى الله عليه وسلم، يقص من نفسه، ألا لا تضربوا المسلمين فتذلُّوهم، ولا تحمدوهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفِّروهم."(44) وهكذا أدَّى التمسك بنصوص هذه الفتوى والتفريط في حقوق الأغيار إلى قيام هيكليَّة كهنوتيَّة صبر النُّوبة على مكارهها زمناً شقيَّاً.
وقد أُحططنا علماً أنَّ الدفاع عن الوطن – أو "الجهاد" – تطوُّع، وأي نظام يقوم على التطوُّع يعني عدم وجود عقوبة، والتطوُّع مع وجود عقاب دنيوي يخالف طبيعة الدين والدَّولة معاً. وعندما تخلَّف الكثيرون عن غزوة تبوك لم يجر عليهم عقاباً سوى ثلاثة أشخاص قاطعهم المسلمون لما يعرفونه من عظيم إسلامهم، وكان ضميرهم هو الذي عفا عنهم. وكان الجهاد يقوم على التطوُّع، وليس هناك قانون عقابي لمن يرفضه، وكانت الزكاة كذلك تطوُّع، وإذا رفضه أحد تركه الرسول لضميره. ولم يقاتل أبو بكر مانعي الزكاة إلا باجتهاد منه، ولو كان هناك نص من النبي لمثل هذه الحالة لما عارضه عمر بن الخطاب. وقد امتنع هؤلاء المتمرِّدون عن دفع الزكاة لا لكونها عبئاً ماديَّاً يثقل كاهلهم فحسب، وإنَّما لأنَّهم اعتبروا دفعها إتاوة قرشيَّة من المغلوب للغالب. لكن عمراً لم يعارض قتال أهل الرِّدة، وقد قيل عن حرب المرتدين – كما وثَّق الدكتور الدوري – كانت حركة قبليَّة تستهدف تمزيق وحدة الأمة. وإذا كان الأمر كذلك تبقى المسألة حرباً سياسيَّة لإبراز أنياب الدَّولة وشوكتها، حيث لم يكن للدين يد فيها، وإن كانت قد تمَّت باسم الدين. لكن أبت أنفس فقهاء السلطة التسلطيين في مدينة الأبيض إلا أن يدلِّسوا لنظام الحكم الاستبدادي باسم الدين، وأنشأ أهل هذا النظام التجنيد الإجباري، وأصدروا عقوبات رادعة على من عصى لهم أمراً، وعطَّلوا دراسة الدَّارسين منهم بعدما رفضوا أن يلبُّوا نداء هذه الدعوة الجهاديَّة. هكذا كان الأمر حريَّاً بنا توضيح غسق المعضلة السياسيَّة التي فيها أدخلنا أهل "الإنقاذ"، وأصبح من ليس له عين متبصرة، أو عقل مذكِّر، أو أذن واعية، أصبح كل من ليس له قسط من هذا أو ذاك في تيه حائراً زمناً طويلاً؛ وما تزال ترفدهم جماعة "الإنقاذ" بالمزيد من الارتباك الروحي وهم في شك منهم مريب.
مع العلم أنَّ جبال النُّوبة لم تكن تهامة ولا نجد ولا الحجاز، ولم وتكن الحرب الأهليَّة فيها شبيهة بغزوة تبوك ولا خيبر ولا يوم حنين، ولم تكن المعارك فيها بمثل ما حدث في بدر أو أحد أو القادسيَّة، ومع علمنا بهذا كله، كان المسلمون العرب في شبه الجزيرة العربيَّة يحثون قادتهم الحربيين وجيوشهم الغازية للأمصار إلى الامتثال لبعض قيم الأخلاق الحربيَّة. فعلى سبيل المقاربة – التي قد لا تقوم مقام المقارنة – وصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه جيش أسامة بن زيد بن حارثة بأن "لا تخونوا، ولا تعدوا، ولا تغلوا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً وتحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكله، وسوف تمرُّون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له."(45) فهل سلم الطفل الرضيع، أو الشيخ المكتهل، أو المرأة العجوز، أو الإنسان المحايد في هذه الحرب الأهليَّة في جبال النُّوبة؟! وهل سلم أولئك الذين وقفوا أنفسهم على العبادة والتفكير في محل إقامتهم، كما نهى الإسلام عن التعرُّض لهم حفاظاً لحريَّتهم الدينيَّة؟! ثم هل سلمت ممتلكات النُّوبة وأنعامهم من النَّهب، حيث أنَّ القوات الحكوميَّة وميليشيات الدِّفاع الشَّعبي كانت تتخذ من هذه الغارات وسيلة للكسب، مهما تعدَّدت أسبابه وأشكاله. كلا! لم يسلم أولئك وهؤلاء أبداً في هذه الحرب التي استمر جيش "الإنقاذ" يقتلون بنيهم داخل الوطن الواحد، الذي صكَّوا آذاننا بأناشيد الوحدة الوطنيَّة الزائفة وآيات الإخوة المزوَّرة. وما تلك الدِّماء التي سالت في جبال النُّوبة – مثلما كانت الحال في جنوب السُّودان وجنوب النيل الأزرق – إلا إيذاناً جهيراً بفشل الوحدة الداخليَّة؛ وما تلك المظالم الاجتماعيَّة وجعل الشَّعب السُّوداني فئات ممزقة بين عرب وأفارقة، وسادة وعبيد، إلا نواحاً على جسد يتمزَّق؛ وما ذلك التمزُّق الفكري بين تكفير وتفسيق إلا تعبيراً صارخاً وحزيناً، بل باكياً على فشل الوحدة الفكريَّة وفشل الحقوق السياسيَّة والمدنيَّة معاً.
عليه، كان لزاماً علينا مراجعة فهم المنظور الفقهي الخاطئ، والتشويه التأريخي الذي لحق ببعض المفاهيم الإنسانيَّة والدلالات الاجتماعيَّة عند أهل السُّودان إبان ذلكم العهد الغيهب، وتركيز بحثنا في الخلفيَّة التأريخيَّة والبعد الواقعي، ومحاولة تجاوز الخلل أثناء تطبيقه على الواقع الراهن. كذلك كان ينبغي علينا التنكر لدور الفهوم والرؤى الخبيثة التي انبثقت من الخطاب الإعلامي الحكومي من أجل تسريع وتفعيل عمليَّة الإبادة العرقيَّة، وبخاصة أنَّ هذه الفهوم كانت تقوم على رؤية ثنائيَّة (دار حرب ودار إسلام). وقد تعدَّدت الدور التي أحدثت انسجاماُ مع واقع مفروض وظروف خاصة في حقبة تأريخيَّة بعينها وموضع جغرافي ذاته، فضلاً عن أنَّ تنوع هذه المسميات لم تكن محل اتفاق جميع الفقهاء عصرئذٍ، مما أحدثت بلبلة سياسيَّة وخلقت طبقات اجتماعيَّة تراتبيَّة لم تكن العدالة أو المساواة في الحقوق والواجبات والمواطنة جزءاً منها. فمن هذه الدور مثلاُ "دار العهد"، و"دار الأمان"، و"دار الصلح"، و"دار الهدنة"، و"دار الفسق"، و"دار الذمة"، و"دار البغي"، و"دار المؤمنين"، و"دار الشرك" وغير ذلك من المسميات التي لا حصر لها. أيَّا كان أمر هذه الدور، فإنَّها موحية بوجود علاقة يحكمها الخيار العسكري لا بين الحكومة وميليشياتها المسلحة من جهة، والحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان من جهة أخرى فحسب، بل بين الأولى ضد الأغيار الذين هم من أهل النُّوبة العزل الذين لا حول لهم ولا قوة. فلم يكن النُّوبة يتربَّصون العداء بالمسلمين لأنَّ هذا ليس بديدنهم، ولأنَّ فيهم من المسلمين الركع السجود، كما أنَّهم لم يقفوا كحجر عثرة في وجه التخالط الأثني الدائم في المنطقة منذ أمد مديد. ففي بلد متعدد القوميات والثقافات والأديان مثل السُّودان فإنَّ النظام السياسي الذي فيه يستطيع أن يتعايش أولئك وهؤلاء هو التساكن في ظل دولة علمانيَّة تدعو إلى حريَّة العقيدة تبعاً لقوله تعالى: "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف 18/29)؛ وذلك لأنَّ العلمانيَّة تحرر من الكهنوتيَّة بالدرجة الأولى ورفض لكل إرهاب ديني أو أي إكراه عقدي. وهي في جوهرها – قبل أن يلتوي به الفهم العربي الناقص – لا تخرج من مفهوم الآية الكريمة السالفة الذكر.
وفي القرن الخامس عشر عاشت أوربا عصر محاكم التفتيش الكاثوليكيَّة، وكان الناس يتعرَّضون للاضطهاد، أو تحقيق تعسفي لا يقيم اعتباراً للحقوق الفرديَّة بسبب معتقدات دينيَّة مخالفة، أو آراء سياسيَّة، أو اكتشافات علميَّة لم يكد رجال الدين الكاثوليكي يستسيغونها أو يقبلونها. ولكن قد خطا العلم في الأزمنة العصريَّة خطوات واسعة. فاستُبدلت النظريات القديمة بنظريات جديدة أو المفاهيم البالية بأخرى حديثة. وما كان يُقبل كواقع في الماضي صار يُعتبر اليوم خرافة. لذلك غالباً ما يلزم تنقيح الكتب العلميَّة. فقد شاعت في الأزمنة القديمة معتقدات خاطئة كثيرة. وتفاوتت الآراء بشأن الأرض مثلاً، فمنهم من قال إنَّ الأرض لتحملها أجسام ومواد ملموسة، ومنهم من قال إنَّها لمسطحة. ففي شتاء العام 1609-1610م أدار عالم الفلك الإيطالي غاليلو غاليلي (1564-1642م) التلسكوب – الذي اكتشفه حديثاً – نحو السموات، ومن ثَمَّ اكتشف أربعة أقمار تدور حول كوكب المشترى. وكان ما رآه قد أحدث ارتباكاً في المفهوم السائد بأنَّ كل الأجسام السماويَّة ينبغي عليها أن تدور حول الأرض. ومن قبل كان عالم الفلك البولندي نيقولاوس كوبرنيكوس (1473-1543م) قد قال بأنَّ الأرض وسائر الكواكب السيارة تدور حول الشمس وحول نفسها، الشيء الذي أثبته غاليلو كحقيقة علميَّة. لكن بالنسبة لرجال الدين الكاثوليكيين فقد اعتُبِروا هذه الاكتشافات العلميَّة، التي تتعارض مع المعتقدات المسيحيَّة، هرطقة، حيث اعتقد رجال الكنيسة أنَّ الأرض هي مركز الكون، وذلك مما أُتيح لهم من الفهم حول تفسير بعض الآيات الكهنوتيَّة. وأمام محاكم التفتيش الكاثوليكيَّة، التي نشطت في روما (وبخاصة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر) مهمتها اكتشاف الهرطقة ومعاقبة الهراطقة، تعرَّض غاليلو لامتحان عسير، وأُجبر على أن يتخلى علناً عن استنتاجاته، وقضى بقيَّة حياته تحت الاعتقال المنزلي. ولم تتم تبرئة ساحة غاليلو إلا العام 1992م، حين أقرَّت الكنيسة الكاثوليكيَّة بصحة اكتشافاته العلميَّة. وكان غاليلو معترفاً بصحة الكتاب المقدس، لكنه كان يصر على أنَّ الخطأ يكمن فيما وقع فيه المفسِّرون الدينيُّون، الذين كانوا يصرون على أنَّه ينبغي أخذ التعابير الإنجيليَّة عن الأرض حرفيَّاً. ودونكم وفتوى هدم التماثيل في أفغانستان، وفتوى المطرب الكويتي عبد الله الرويشد والدعوة إلى قتله بدون استتابته، وبحث أنصار الرئيس الأندونيسي عبد الرحمن واحد في إمكانيَّة إهدار دم خصومه المتمرِّدين على نظامه، كل هذه الفتاوي تعتبر عبثاً فقهيَّاً يخلق أذى لا حدود له بالمسلمين قبل غيرهم في كل مكان وزمان. إذ يحتار المرء ما الذي يمكن أن يحدث لولا أنَّ بعضاً من علماء السعوديَّة والكويت نفوا ما نُسِب إلى الرويشد، ولم يروا فيما فعله ازدراء ولا سخريَّة، ومن ثَمَّ بُرِّئت ساحته من تهمة الزندقة، وهدأت الزوبعة التي استمرَّت تفاعلاتها مدة أسبوع تقريباً، وعاد الرَّجل إلى أهله يتمطَّى، وإلى بيته الذي ظلَّ فيه تحت الحراسة الأمنيَّة كما ذكرت الصحف. ويذكر الكاتب المصري فهمي هويدي أنَّه حين يدقِّق المرء في ملابسات تلك الفتاوي يجد أنَّ إطلاقها تأثَّر بأحد عوامل ثلاثة: قلة المعرفة بالدِّين، أو قلة المعرفة بالواقع، أو التسرع في الحكم.(46) ولولا نؤثر الإيجاز ونحرص عليه لروينا لك أمثلة كثيرة في بلاد المشرق والمغرب، ووضعنا يدك على مواضع كثيرة فيها استغلَّ رجال الدين تأويلاتهم العقديَّة وتفسيراتهم الشخصيَّة في الوقوع بالخصوم السياسيين، والعلماء المكتشفين، والفلاسفة الاجتماعيين؛ هذا التعصب الذي يرمون به أصحاب الملل الأخرى. ولكننا نكتفي بهذا القدر اليسير، فقد ضربنا المثل. ويُخيَّل إلينا أنَّا وضَّحنا وبيَّنا وأزلنا الحجاب عن كل ما نريد أن نقوله في موقفنا بإزاء استغلال الدين في الخصومة ومظاهرها وأعراضها وآثارها السياسيَّة، وفي هذا النحو من أنحاء الحياة العلميَّة.
هكذا بات استخدام الدين في السياسة آفة للدمار وخراب للديار. أفلم يعلم هؤلاء الحكام المتغطرسون وتنابلة السلطان في السُّودان، الذين وصفهم حبيب شامي ب"تجار الكهنوت والبنكنوت (Banknotes) – أي تجار الدين والعملة – والإغاثة الإجراميَّة، الذين لا يخافون الله ولا يحكمهم ضمير؟! أفلم يعلموا أنَّ غفريل (جبريل) حبيب شامي كان مسيحيَّاً وعضواً في لجنة الجامع بمدينة الدلنج؟! حيث كان يطوف مع إمام الجامع لجمع التبرعات من أجل هذا الجامع، وكان يحتفل بعيد رمضان وعيد الأضحى وعيد الفصح وعيد الميلاد وسبر اللوبيا وسبر الجداد (الدجاج) في تناغم اجتماعي حلو الألحان؛ وقد وصى أبنه حبيب قائلاً له: "أريدك أن ترثني في كل شيء إلا الدِّين، هذا أريدك أن تبحث عنه، وأن يكون خيارك واختيارك."(47) وفي الحق، اختار حبيب شامي الإسلام بعد أن غاص وتعمَّق وبحث في الأديان كلها أجمعين أكتعين. ثم نقفز إلى مصر، حيث حاول الإنكليز أن يحدثوا شرخاً في البنية السياسيَّة المصريَّة عقب الثورة المصريَّة العام 1919م، فادَّعوا أنَّهم حماة الأقليَّة القبطيَّة المسيحيَّة من تغول الأغلبيَّة المسلمة. وقد عرف أهل مصر كافة أنَّ الاستعمار يريد أن يوقع بينهم في البغضاء والضراء، وخرج المسلمون والمسيحيُّون كلهم أجمعون أبتعون يجوبون شوارع القاهرة، ويندِّدون بالاستعمار، ويتغنَّون بالوحدة. تلك كانت تظاهرة ضخمة لشعب عظيم، وقد حمل شيخ الأزهر الصليب، وحمل كبير الأساقفة القبطي الهلال، وساروا جنباً إلى جنب، وهم يردِّدون: "الهلال يقبِّل الصليب" و"معاً على الصليب (في) الطريق". وقد أنشد الشاعر المصري أحمد شوقي في هذه المناسبة:
الدِّين للديَّان جلَّ جلاله لو شاء ربُّك وحَّد الأقواما
وكما اُستغل الدين في السياسة تمَّ استغلاله في الحياة الاجتماعيَّة كذلك. أفلم تروا كيف ترَّبص عبد الرحمن بن ملجم المرادي – زعيم الخوارج – بالإمام علي بن أبي طالب، وقتله بسيف مسموم في 17 رمضان بدافع الحرص على دين الله بعد أن اتَّهم الخوارج علي بن أبي طالب بالكفر؟ بلى! فقد تم الاكتشاف فيما بعد أنَّ دافع القتل هو أنَّ عبد الرحمن وقع في عشق فتاة من تيم الرباب اسمها قطام، وكانت على مذهب الخوارج، وفقدت والدها وشقيقها وعمها في المعركة التي خاضوها ضد الإمام علي بن أبي طالب، ولذلك اشترطت على كل من يريد الزواج منها رأس علي بن أبي طالب مهراً لها. كما اشترطت ثلاثة آلاف من الذهب وخادم وجارية يخدمانها؛ وفي ذلك أنشد الشَّاعر وهو يتحدَّث عن مهر قطام:
ولم أر مهراً ساقه ذو سماحة كمهر علي من فصيح وأعجم
ثلاثة آلاف وعبد وقينة وقتل علي بالحسام المسمَّم
ولا مهر أغلى من علي وإن علا ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
فإنَّ ادِّعاء عبد الرحمن بن ملجم أنَّه غيور على دين الله وهو يقتل الإمام علي من أجل مهر قطام دليل على أنَّ الدين أي الدين دوماً ما يتخذه المجرمون العتاة للحصول على مآربهم في الحياة الدنيا، وهم فيما فيهم من خطايا يتحمَّسون لتطبيق الشريعة السماويَّة على الأغيار. فقد رأينا كيف جاء موكب من أدعياء الحماس الديني لتطبيق شريعة التوراة التي نزلت على النبي موسى عليه الصلاة والسَّلام، وجاء الموكب يسوق امرأة ضعيفة ويتَّهمها بارتكاب جريمة الزنا، وطلب من المسيح عيسى بن مريم تعضيد تطبيق حد الزنا عليها، وهو القتل رجماً بالحجارة. بيد أنَّ الخطاب الديني للمسيح عليه الصلاة والسَّلام قصد إرجاع الأمر إلى نفوس أدعياء الحرص على الفضيلة فقال لرجال الموكب الحماسي: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر". فبُهِت القوم، ورجعوا إلى قواعدهم وهم يتلاومون. يمكننا أن نذهب مذاهب شتى في سرد أمثلة عديدة لاستغلال أهل الدنيا للدين – أي دين – في السُّودان خاصة وفي العالمين الشرقي والغربي عامة، ولكن نكتفي بهذا القدر.
إزاء هذه التجاوزات في حقوق الإنسان في جبال النُّوبة – وبصورتها المروعة والمفزعة – قادتنا الحال إلى التساؤل الآتي: ما هو الشر، ومن أين يأتي دوماً؟ وللإجابة على هذا التساؤل اطَّلعنا على ما قام به البروفسير فيليب زيمباردو من دراسة سيكولوجيَّة مثيرة للجدل بعنوان "تجربة السجن المعياريَّة" العام 1971م. وكان الغرض من القيام بهذه الدراسة التعرُّف على المسبِّبات التي تجعل الإنسان العادي يقوم بأعمال سيئة تقشعر منها الأبدان. وقد نشر نتائج تجاربه في كتاب يحمل عنوان "عنصر الإبليس" (The Lucifer Effect). وتتلخَّص "تجربة السجن المعياريَّة" في وضع 24 طالباً جامعيَّاً هم في صحة جيِّدة في سجن صوري، وتقسيمهم إلى سجان وسجناء. إذ كان من المفترض أن تستمر التجربة لمدة أسبوعين، ولكن بعد تمرُّد السجناء، اضطرَّ السجان إلى استخدام أساليب عقابيَّة تثير الصدمة، مما أدَّى إلى توقف التجربة بعد ستة أيَّام فقط. فقد بدأ السجان في مشاكسة السجناء، وحرمانهم من الطعام والنوم، ورشهم بالمياه من خراطيش مطافئ الحريق، وكان يزداد الوضع سوءاً يوماً بعد يوم، حتى صار السجان يقبلون على ممارسات جنسيَّة منحطة. إذ بات السجان يتصرَّفون بساديَّة مفرطة، وأخذوا يستمتعون بأسلوب سحق السجناء. وفي نهاية الأمر، توصَّل البروفسير زيمباردو إلى نتائج مفادها أنَّ هذا السلوك الشرير تسبِّبه عوامل وضعيَّة، بحيث لا يستطيع البعض مقاومتها. بيد أنَّنا نحب أن نؤمن بأنَّنا نتصرَّف بعزيمة حرة، إلا أنَّ "تجربة السجن المعياريَّة" وبعض البحوث السيكولوجيَّة الأخرى يمكن أن تغيِّر سلوك الناس عن طريق الظروف، وغالباً بطرائق لم تخطر على بالهم. بيد أنَّ "تجربة السجن المعياريَّة" لم تخل من الانتقادات في نتائجها وقيمتها الأخلاقيَّة.
ومن جانب آخر، قام البروفسير ستيفين رايكر من جامعة سينت أندروز في فايف بإسكوتلاندا بتجربة مثيلة عن السجن مع البروفسير ألكس حسلام، وأُذِيعت نتاج تجربتهما في هيئة الإذاعة البريطانيَّة العام 2002م، حيث تعارضت نتائجها مع بحث "تجربة السجن المعياريَّة". إذ اقترح زيمباردو أنَّه حين تضع الناس في مجموعة وفي ظروف قاهرة، وتمنحهم سلطة، فإنَّهم سرعان ما ينحدرون إلى الدرك الأسفل، ويتصرَّفون بصورة ديكتاتوريَّة. وفي هذا نرى أنَّ النَّفس الإنسانيَّة كالغدير الراكد، لا يزال صافياً رائقاً حتى يسقط فيه حجر فإذا هو مستنقع كدر. إلا أنَّ البروفسير رايكر قد جادل أنَّه لا يفقد الناس مقدرتهم على التمييز حين يكونوا في مجموعة. وإنَّهم باستطاعتهم اتخاذ الخيارات المتاحة لهم، وليس هناك ثمة شيء يعفي الأشخاص من مسؤولياتهم الفرديَّة، لكن علينا أن ندرك كيف تتعرَّض المسؤوليَّات الفرديَّة للخطر. إذن، علينا أن نسأل أنفسنا وغيرنا: هل كان جلادو وزبانية النظام "الإنقاذي" في جبال النُّوبة يعبِّرون عن "التفاح الفاسد" (Bad apples)، أم كانوا في "برميل فاسد" (Bad barrel)، أي بأسلوب آخر – هل كانوا أفراداً فاسدين تقع عليهم المسؤوليَّة الفرديَّة فيما اقترفوا من جرائم ضد الإنسانيَّة وجرائم حرب والإبادة الجماعيَّة، "وكل نفس بما كسبت رهينة" (المدثر 74/38)، أم أنَّهم كمجموعة يتحمَّلون كلهم أجمعون أكتعون ما اقترفت أيديهم؟ وإذا دعا الأمر إلى تطبيق حكم القضاء العادل والقصاص ينبغي أخذ الأمر إلى أعلى الهرم السُّلطوي – أي الجنرالات والقيادات التي دشَّنت هذه السياسات، وسنَّت هذه القوانين، وأعطت الموافقة الضمنيَّة لتقرير "الأسلوب الأمثل" الذي ينبغي أن يتبعه أهل النُّوبة، كما زعم أولو السلطة. وإنَّ الذين لاذوا بالصَّمت – من عملاء النظام - في هذه الظروف العصيبة حفاظاً على أرواحهم لمذنبون لعدم اتخاذ أي إجراء لوقف هذا العمل غير الإنساني وسط رفقائهم الساديين. ولكي يتجرَّد الإنسان عن حب الحياة والنَّفس الأمارة بالسوء، عليه ألا يكون محوريَّاً ذاتيَّاً (Egocentric)، بل عليه أن يمسي محوريَّاً اجتماعيَّاً (Sociocentric)، بحيث يضع الأولويَّة في رفاهيَّة الآخرين، والاهتمام بالمبادئ. إذن، ما الذي يجعل الناس أشراراً؟ إنَّ الذي يجعل البشر أشراراً يمكن حصره في الآتي:
الملل والسأم.
التنكُّر، بحيث يعتقد الجاني بأنَّه لا يمكن أن يمثِّل نفسه أمام القضاء.
تجريد الأغيار من الإنسانيَّة، واعتبارهم دون البشر وإنَّهم لأعداء فقط.
تعميم المسؤوليَّة: ففي حال المجموعة يبدأ الناس في فقدان "بوصلة الأخلاق"، ويعتقدون أنَّهم سوف لا يمثِّلون أنفسهم أمام القضاء.
الطاعة: يتم تدريب أغلب النَّاس على طاعة السُّلطة طاعة عمياء، لكن علينا أن نفرِّق بين السُّلطة العادلة وأخرى جائرة.
السُّلطة: إنَّ السُّلطة لتفسد، والسُّلطة المطلقة تفسد مطلقاً؛ وللسلطان عزة لا تبالي بعهد ولا وفاء.
وفي هذه الأثناء لا نطلب من النَّاس أن يعتقدوا كما يؤمن دعاة "كنيسة العلمولوجيا أو السيانتولوجيا"، وهي حركة دينيَّة علميَّة تؤكِّد على دور الروح أو طاقة الحياة في الكون المادي. ويعتقد معتنقو هذه الديانة أنَّ البشر قد جيء بهم إلى الأرض منذ 75 مليون عاماً. وتؤكِّد تعاليمهم أنَّه كان هناك أمير حرب شرير يُدعى زينو، والذي قام بحشر 135 تريليون شخصاً من كوكب المجرَّة وقذف بهم في هاوية بركانيَّة في الأرض؛ ومن ثَمَّ بخَّرهم بالقنابل النوويَّة، ثمَّ التصقت الأرواح المشعة، أو الشياطين، بالإنسان، وهي تمثِّل جذور مشكلاتنا الخاصة والعالميَّة. ولكي ننقذ أنفسنا من الشياطين الشريرة، كما يزعم السيانتولوجيُّون، ينبغي إكمال عدة مستويات في "العمليَّة الشيطانيَّة". وقبيل أن يتم استيعابنا في حجرة "العمليَّة الشيطانيَّة" يجب علينا إكمال "العمليَّة الطهرانيَّة"، وهي عمليَّة شاقة في إزالة السموم. والجدير بالذكر أنَّ السيانتولوجيين لا يتناولون العقاقير الطبيَّة بتاتاً، ويعارضون الطب النفسي، ويؤمنون أنَّ الأطفال ينبغي أن يُولدوا دون صراخ لتجنيب تعرُّض الطفل للتعذيب. بيد أنَّ "شهود يهوه" يؤكِّدون أنَّ الإنسان يمتلك كل ما يمكن أن يجعله عطوفاً رحيماً بدلاً من أن يكون قاسياً. لكنهم يتساءلون عن مسبِّبات التجاوزات، وعمَّ يجعل الناس قساة غلاظاً؟ وهل يمكن أن يتغيَّر أولئك الذين يعاملون الناس بقسوة؟ وهل يمكن أن تنتهي القسوة؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، كيف ومتى؟ إذ يزعم شهود يهوه أنَّ الأنانيَّة هي العامل الأساس لتأجيج القسوة في العالم اليوم، فهناك من يقدم على عمل أي شيء لشق طريقه، وغالباً ما تنتج عنه أعمال وحشيَّة، وينطبق هذا على الأفراد والأمم على السواء. وهناك من الأفراد من يستمتع بتعذيب الغير وبه يتلذَّذ، بادئاً بالتأثير النَّفسي. والعنف له علاقة بالثَّقافة الاجتماعيَّة، حيث يتعلَّم الناس أن يتفاعلوا بعنف حين تساعد البيئة الثقافيَّة على ذلك وتشجعه. بيد أنَّ شهود يهوه يجدون تعليلاً روحيَّاً لظاهرة العنف ومن هو وراءه. وبالطبع، كما هي الحال عند أهل الدين أي دين، يرمي شهود يهوه باللوم على الشيطان ونفوذه بعد طرد سيدنا آدم وزوجه حواء من الجنة. ثم يضيفون أنَّه قبل 16 قرناً ظهرت ملائكة متمرِّدة وقامت بعلاقات جنسيَّة مع النساء وأنتجت جنساً هجيناً يُسمى "نيفيليم"، وكما يتضح من الاسم فإنَّه يعني المصارعين – أي الذين يصرعون الآخرين، وكانوا أفراداً عنيفين وقد جلبوا الوحشيَّة وعدم الأخلاق للبشريَّة. وبما أنَّ فيضان نوح عليه الصلاة والسَّلام قد دمَّر ال"نيفيليم"، إلا أنَّ آباءهم قد مضوا إلى مملكة الروح والشياطين غير المرئيَّة. أيَّاً كان من أمرهم، فإنَّما تركت لنا هذه القصة صورة هي إلى الأساطير أقرب منها إلى أي شيء آخر.
مهما يكن من شأن أولئك وهؤلاء، فإنَّ الصراع الذي جرى في جبال النُّوبة بين الدولة – التي عجزت عن مجابهة الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان – ووجهَّت قواها العسكريَّة ضد المواطن النُّوباوي باسم الدين لم يطل الدين كمعتقد ينظِّم العلاقة بين الله والفرد، وإنَّما جرى على أساس حظر حريَّة الآخر من ممارسة حقه السياسي والاجتماعي من قبل السُّلطة التي فرضت شكل ومضمون قهرها عن طريق الإحالة إلى المرتكزات الدينيَّة لها وإعطاء قهرها الاجتماعي طابعاً مقدَّساً باستخدام الدين كسلاح أيديولوجي لتعبئة أدواتها الهجوميَّة ضد خصومها السياسيين، وضم الرأي العام في هذه الأدوات. إنَّ تأريخ الإسلام ليبين بوضوح أنَّ الحروب الدينيَّة هي حروب سياسيَّة واجتماعيَّة ارتدت طابعاً دينيَّاً. كان ذلكم هو العهد الذي فيه ظهر أيديولوجيُّون في السُّودان ينظِّرون للاستبداد الديني، وينظِّرون للمحافظة على استمراريَّته ولتبعيَّة الحاكم العسوف وطاعته. فهل كان السُّودان على وجه العموم والنُّوبة على وجه الخصوص في حاجة إلى جهاز أيديولوجي يبرِّر استبداد الدَّولة السياسي واصطباغه بالصبغة الدينيَّة وممارسة الإرهاب الفردي والمجتمعي باسم الإسلام؟! كلا! ففي بادئ الأمر أنبتت دولة "الإنقاذ" حكومة طلعها كأنَّه رؤوس الشياطين، وفي قارعة الطريق باتت آلة حربيَّة نهمة وقودها الناس، وفي نهاية الأمر غدت معضلة سياسيَّة أصبح التخلُّص من ضراوتها أملاً بهيجاً يسعى إليه طلاب الحريَّة سعياً حثيثاً. وقد صرف أهل النُّوبة وغيرهم بالفعل سنيناً طويلة دامية لتقليم أظافرها، وخلع أنيابها، وقطع ألسنتها، ومرت سنوات قبل أن يصلوا إلى منطقة وسطى، بل - إن صح هذا القول مطرداً - إنَّهم لم ينجحوا نجاحاً مؤزَّراً، وإنَّما أفلحوا في إيجاد وضع يسمح لهم بالمشاركة في الحكم، ويضعهم في دور الشريك، لا دور المهمَّش المذلول، كما سنرى لاحقاً.