الأساس النظري لفهم أسباب المشاكسات بين الفرق الطحالبية ورجالات الإدارة الأهلية

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

   هنالك فرق رئيسي وجوهري بين القبيلة والقبلية، فالأولى تعني تضافر جهود فردية لخدمة مصلحة جماعية، والأخيرة تعني استغلال أوزان جماعية وتسخيرها لمصلحة ذاتية. إننا نلحظ تواجد هاتين الخاصيتين في القرى والمدن فالمدينة هي قرية كبيرة إذ من المفترض أن يسعى ساستها لتوظيف المقومات الثقافية للحفاظ على مصلحة اجتماعية/ اقتصادية، والقرية هي مدينة كبيرة إذ يحدث التفاضل الوظيفي فيها نقلة حضرية تقلل من شأن الاعتماد على الشخصيات وتهدف إلى تجسيد قيم القبيلة في المؤسسات. مابين المرحلتين مرحلة أشبه "بلحظة الإرباك" التي تختلط فيها المفاهيم فيتصور فيها البعض ألا فرق بين القبيلة والقبلية، البيت والبيتية أو الطائفة والطائفية.إن البيوت (أو البيوتات كما يحلو للبعض أن يسميها) عندها الشونة التي تدخر فيها المئونة، ولديها النحاس (نحاس الحرب) الذي يستخدم للنفير وحماية الأعراض، وفيها تصطف الصافنات الجياد رمز العزة والإباء، فيها تضرم نار القرآن وتحت أشجارها تتم الشورى ويعقد لواء التراضي. إن هذه المهام تقسمت نتيجة التطور الطبيعي للحياة على وزارات ومعتمديات قللت من أهمية الاعتماد على الحيشان (التي حل محلها مجلس المدينة أو الأمانة) لكنها لم تلغ التكافل بمعناه الاقتصادي، الاجتماعي والسياسي لأهل السودان. هذا الفهم يتعارض لزاماً مع "البيتية" كوسيلة يستغله البعض (قد يكونوا عوام أو مثقفين كما سنرى لاحقاً) للترويج لبيت معين دونما أدنى اعتبار لما قد يحققه هذا البيت من نفع أو ضرر للمجتمع. ينطبق هذا التعريف على الطائفة والطائفية إذ أن الطائفة هي مجموعة التقت حول مذهب معين، أما الطائفية فهي إتباع دونما استبصار أو روية لما قد يتحقق نتيجة هذا الإتباع من مصلحة دنيوية أو آخروية.لقد تعمدت في هذا المقال أن أقول بأن هنالك مفهوم واحد للقبيلة ومفاهيم عديدة للقبلية. إننا نلاحظ أن أولئك الذين ينادون بالقبلية في الإطار القبلي يركزون على أنها انتماء عرقي عوض عن كونها انتماء ثقافي ومجتمعي. إنما يفعلون ذلك كإستراتيجية دفاعية (Defensive Strategy)  حتى لا تثار الشكوك حول صدقية انتمائهم للقبيلة. مثلاَ لقد استمات مثقفو الشمال (الإسلامي) في خدمة ذويهم من الشايقية، الجعليين أو الدناقلة حتى أن أحد الوزراء اعتمد القبيلة في أورنيك التقديم لوزارته، هم فعلوا ذلك لينالوا احتراف لم يتحقق لهم بعد حتى من ذويهم، ناهيك عن الآخرين. لقد قلت متذمراً لأحد أصدقائي (من أصل شايقي) أن الإنقاذ أساءت إلينا إذ اعتمدت في تمثيلنا كقبيلة على أناس متهمين في مروءتهم وذمتهم، فما كان منه إلا أن قال إننا لسنا أفضل حظاً منكم. فقلت له: وكيف ذلك وأنتم تحتكرون جميع الوظائف؟ فقال لي: إنك تسئ إلينا إذ تظن أن هؤلاء يمثلوننا.لقد انتدبت الإنقاذ قبل شهور أحد منتسبيها إلى جنوب دارفور ليجيش بعض القبائل "العربية" لقتال من أسماهم "رزقة " فاعترضه البعض قائلين: إن كنت منتدباً فعلا فهذه جريرة لأنك تدمر التكامل الايكولوجي والبيئي لحساب فئة تبعد عنا 1500 كيلومتر ومن ثمّ لا تتأثر بما يحدث لنا، وإن كنت تفعل ذلك كي ترتفع أسهمك وتبقى في منصبك فهذه موبقة لأنك تسعى لإبادة جماعة تنتمي إليها عرقياً إن بعدت عنها وجدانياً. حار حينها المستشار ولم يدر أمن الخزي ينوء أم من العار.إن النوع الثاني من القبلية والذي هو أكثر انتشار في أوساط المثقفين هو "قبلية إنصاف المثقفين". هذه المجموعة لا تملك من الملكات ما يسهل لها الاندماج في المجتمعات على أسس حضرية ولذا فهي تلجأ إلى العصبية عوض عن المدنية كي تكتسب قيمة أدبية أو اجتماعية. يقول أستاذي (Goren Hyden) المؤسس لعلم الحكمانية (Governance) إن العصبية هي نوع من أنواع التجافي للقيم الحضرية، لأن المتعصب لا يوظف موارد حميميته الأولى قبيلة كانت عرق أو دين للتواصل مع الآخر (bonding) أو الانتقال إلى مرحلة ما بعد التكوين، إنما يتقوقع في إطار حاضنته الأولى، قبيلة كانت عرق أو دين ما قد يعميه (blinding) عن الأفق المجتمعي الكبير. إن قيم القبيلة ضرورية ولكنها ليست كافية للاندماج في مجموعات من المفترض أن تتجاوز الانتماء الأول للإنسان. إن المنتمي إلى نقابة مهنية أو عمالية يرتبك أشد ما يرتبك لحظة انتمائه الأولى لأنه ليست من واجب النقابة أن توفر له فلسفة وجودية متكاملة، إنما تفعيل لفلسفات وجودية متعددة لخدمة قضية مطلبية محددة، أي استحداث فلسفة عملية أشبه بالشكل الهندسي منه إلى الدائرة ذات المحور الواحد. ومن هنا نفهم كيف أن كثيراً من السياسيين السودانيين أخفقوا في التأقلم مع الواقع الحضري، مثلاً، رجالات الحركات الشعبية (والإسلاميين) الذين لم يجدوا طريقة حضارية في التعامل مع بعضهم البعض غير التصفية الجسدية التي شملت الدكتور جون قرنق دي مابيور رجل القبيلة الكبيرة التي اسمها السودان ورمزها البنيان (الهرم) الذي جسم على ضفاف النيل معلناً كبرياء الإنسان ومتمرداً على حادثات الزمان ومجدبات المكان.ثالثاً، إن "المثقف السوداني" لم يرد أن يهدم البيتية، الطائفية أو القبلية بقدر ما أراد أن يدك شموخ البيت، تماسك الطائفة ودينامية القبيلة. فلا عجب إن تعرضت القبيلة (التي هي موضوع اليوم) لاستقطاب سياسي كاد أن يعصف بالقبيلة ويحل من نواطها لولا تجذرها في عميق الوجدان السوداني وتماسكها على امتداد ذاك الحائط المهيب.هذه المقالة يمكن أن تفهم على أنها أساس نظري لفهم أسباب المشاكسات بين الجمعيات الأهلية (نظارات وإدارات) والفرق الطحالبية التي تستحدثها الأنظمة الشمولية ممزوجة ببهرج حداثوي وهي من الحداثة براء. ينطبق هذا على قبيلة "المثقفين" الذين لم ينالوا قدر ما نالوا لتميزهم الثقافي أو الفكري إنما تواجدهم في مركز اتخاذ القرار وسعيهم الدءوب للترويج لمصالحهم مستندين على العقلية التمركزية كنوع ثالث أو أخير من أنواع القبليات. مثلاً إنهم يرفضون تعاطي نظار القبائل لعقاقير السياسة، بحجة أنها تسبب لهم عقم اجتماعي. ويا لها من حجة تهمل حقيقة أن الإنسان مخلوق سياسي كما يقول الأستاذ (Leslie Thiele) صاحب كتاب (Thinking Politics) يسعى للحفاظ على كيانه ورعاية مصالح أهله بل حمايتهم من نيل المتربصين وطمع النفعيين (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). يظل هذا هو الفرق بين السياسة بمعناها التدافعي الذي تحكمه قيم القبيلة والسياسة بمعناها الغوغائي الذي يستدفعه حنق وحقد وتربص القبليين.

د. الوليد آدم مادبو

 auwaab@gmail.com.    

 

آراء