رفع الملام عن أحمد علي الإمام … بقلم: د. محمد وقيع الله
28 June, 2009
جاء في عيون الأخبار أن الشيخ أحمد علي الإمام، حرر خطابا وجهه إلى الشيخ صابر محمد الحسن، طالبه فيه بتحري الدقة في تطبيق صيغ المرابحة، والابتعاد ببنك السودان، عن شبهة ممارسة الربا، كما طالبه بتقليص السقوف الائتمانية، أو الانتقال إلى صيغ مصرفية أخرى، والتأكد من حسن تطبيقها، حسب مقتضيات الشرع الإسلامي المنيف.
وقد اقترح حافظ الدين، حفظه الله، على حافظ المال، حفظه الله، أن يتولى بنفسه مراجعة النسب، والإشراف على مهمة تقليص السقوف الائتمانية، والتأكد من حسن التطبيق.
وأكد حافظ الدين علي ضرورة أن يلتزم النظام المصرفي السوداني بالصيغ الإسلامية، وأن يفي بمقاصد التشريع الحنيف، وألا يتجاوزها قيد أنملة ولا أدنى من ذلك.
وانتقد الشيخ بعض نواحي عدم الدقة، والتسيب، والتجاوز في تطبيق صيغة المرابحة، في الجهاز المصرفي السوداني، مما يؤدي إلى ارتكاب المحظور، والوقوع في حمأة الربا!
اهتمام قديم:
وكان الشيخ أحمد علي الإمام قد تناول هذا الموضوع، بالغ الحرج، في حوار له مع الأستاذ عادل سيد أحمد فقال:" إن المحاكم تحكم فقط، في مسألة الفائدة أو الزيادة على أصل المال، ولكن، المشكلة تكمن في أن بعض المعاملات الشرعية، والتي في حقيقتها شرعية، ولكن فيها مجال للإفساد.
فمثلاً، فإن معايير الانضباط الشديد في عمليات المرابحة، مختلة قليلا، وإن كانت هيئة الرقابة الشرعية، تقوِّم الهيئة المركزية في بنك السودان، أو الفرعية، في بعض المصارف، حتى تقوم بواجب المراجعة الدقيقة، لدرجة أن تحكم، أحيانا، في بعض الفوائد التي حصلت عليها، بعض البنوك، بالإبطال، وتوزيعها على الفقراء ".
وإذن فإن هناك تجاوزات ومخالفات وممارسات ربوية، مشهودة، تنشط في جسم العمل المصرفي السوداني، وهي التي دفعت بالشيخ لأن يبادر بتحرير ذلك الخطاب، ولرفع عقيرته بالشكوى والنصح، الذي هو من لباب الإيمان، وأن يصدع بكلمة الحق في وجه حافظ المال، فكلاهما راعيان، ومسؤولان عنا نحن أفراد الرعية.
تأملات في الخطاب:
ومع أننا لم نطلع على النص الكامل لهذا الخطاب الذي وجه من حافظ الدين إلى حافظ المال، إذ أنه لم ينشر بكامله في وسائط الإعلام، إلا أن الجزء الذي نشر منه، ولعله هو الجزء الأهم، ينبئ عن أنه خطاب مهم، يستوقف النظر، ويدعو إلى التأمل في موضوع المال، الذي هو عصب الدولة وعصب الحياة، التي لن تتبارك وتزكو ما لم تلتزم بصيغ الدين وصبغته:" فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا. مالكم لا ترجون لله وقارا ".
ومن أجلِّ علامات توقير الخالق جل وعلا، أن تلتزم الدولة التزاما صارما، نظريا وتطبيقيا، بمبدأ تجنب الربا، ومكافحته في سائر صيغ المعاملات الاقتصادية.
نيل الأوطار:
وإذا كانت الصيغ المصرفية غير منضبطة، أو مضطربة، ويعروها انحلال واختلال، ويسهل التلاعب بها في كل حال، تلبية لأهواء ومطامع رقاق الحال، لتمرير البيوع الربوية الفاسدة، بأغطية إسلامية شفافة، فإن الخطب إذن جلل، وليس يحسن سكوت، وإنما يجب النقد والاحتساب!
ولكن هل يكفي تحرير خطاب نقدي وعظي لنيل أوطار الضبط والإصلاح؟
ربما كان الأمر في حاجة إلى ما هو أكثر من ذلك الخطاب. فقد كان من المفترض أن يكون لدائرة التأصيل دور في البحث عن البديل للتعامل المصرفي، الذي ينبغي أن يلتزم به المصرف المركزي، ويلزم به المصارف الأخرى، وأن تقوم دائرة التأصيل على بلورة ذلك البديل، وتقديمه للمصرف المركزي ومناقشته فيه لتعديله فنيا بما يوائم الواقع ولا يخالف الشرع، أما مجرد إرسال خطاب إلى دهاقنة الإدارة والمال فلا يكون له كبير تأثير، ولا يمثل إلا صوت نذير وقتي، سرعان ما يخفته ويسكته سيل العمل المصرفي الإداري الهدار الموار!
ومن نافلة القول أن نشير إلى أن البحث العلمي هو مهمة من أهم مهام التأصيل. فلا تأصيل إلا بعد الوصول إلى الأصول، ولا وصول إلى الأصول إلا بعد البحث الدائب الموصول.
وعَُدَدُ البحث العلمي وأدواته شبه معدومة في السودان، سواء في المكتبات الجامعية أو مكتبات مراكز الأبحاث المزعومة. والكل يستهين يشأن الكتب والمكتبات، حتى كادت المكتبات التي كانت في غابر الدهر عامرة تصير في عداد الأموات.
ولا نريد أن نتحدث عن التـأهيل العلمي للباحثين، في المراكز البحثية إياها، وتمكنهم من منهجيات البحث، وإلا كنا كمثل القائد التركي الذي برر انهزامه في معركة فاصلة، بثلاثة عشر سببا، أحصاها كلها حتى وصل الأخير منها فذكر انعدام الذخيرة! فقيل له: لو بدأت بهذا السبب الأخير لأغناك عن التأخير!
بلوغ المرام:
وهكذا فبلوغ المرام ليس بالسهل الميسور، ولا يمكن أن يتأتى عن طريق تحرير خطاب، فهذا يكفي فقط لرفع الملام عن أحمد علي الإمام.
كما لا يمكن بلوغ المرام عن طريق تأليف الكتب الوعظية، التي تصدرها الجهات البحثية المتصلة بإدارة التأصيل. فمهام التأصيل تختلف عن مهام الوعظ والإرشاد، سواء من الناحية العلمية أو العملية.
فالوعظ، وإن كان تأثيره الروحي والتربوي والسلوكي عظيما عندما يمارسه واعظ رباني صادق بارع، إلا أن الواعظ لا سلطة له على الواقع، وتأثيره أقل من تأثير المحتسب، والقاضي، والتنفيذي، لأن هؤلاء لهم سلطات يزع الله بها أكثر مما يزع بالقرآن.
والتأليف العلمي المطلوب بقصد التأصيل، ليس هو التأليف المطلوب بقصد الدعوة والإرشاد العام، إنما هو تأليف في فقه الدولة، لا فقه المجتمع، ولا فقه الدعوة، ولا فقه الأفراد.
وقد رأيت طائفة من الكتيبات الصادرة عن هذه الهيئة، فوجدتها مبسطة، لا تشرف أي جهة في الدنيا أن تصدرها. وتدل دلالة على أن مسائل العلم والنشر عند هذه الهيئة، هي من المسائل الثانوية، التي ينتظرون أن ينفذها لهم الباحثون الهواة المتطوعون، الذين أعدوا أبحاثهم الابتدائية بغرض التدريب، ولم يجدوا لها ناشرا إلا هناك.
أو ربما كانت مهمة التأليف من صنف المهام التي يعهدون بها إلى رهط الموظفين الصغار، غير المؤهلين، وغير الباحثين، وغير المعدين أساسا لتولي هذه الوظائف المعقدة الدقيقة التي تتطلب جهودا ذهنية كبيرة.
العلم الوحيد المتطور:
هذا وربما استغنت الهيئة، وأغنت المصرف المركزي، عن مهمة البحث عن البديل المصرفي السليم، المتماشي مع الشريعة الإسلامية، والواقع الراهن، بما أنجز سلفا من بحوث في مجال علم الاقتصاد الإسلامي، وهو أحد العلوم القليلة المتطورة في نطاق العلوم الإسلامية الحديثة، وربما كان العلم الوحيد المتطور فيها.
ولكن العلة تكمن في عدم الاهتمام بالحصول على هذه البحوث الاقتصادية، وضمها في صعيد واحد، وهي علة إدارية في المقام الأول، فلا أحد يهتم بشأن المكتبات، ولا توكل مسؤوليتها لأحد، ولا يفطن أحد لدورها في تقدم العلم، الذي ليس هو شأن عفوي كنظم الشعر، فشتان وشتان ما بين العلم والشعر.
حقا ما أفقر شأن المكتبات في السودان وما أحقره، وما أضأل الإنفاق عليها من مال الله!
وهذان الشيخان اللذان نالا علومهما في أرقى الجامعات المتطورة في بريطانيا وأمريكا، نحسب أنهما أجدر رائدين بأن يهتما بالمكتبات العلمية المتخصصة، بعد أن رأيا بأم عيونهم كيف يهتم بها الغربيون، وكيف يجهدون في تكوينها، وتصنيفها، وتسهيل الرجوع إليها، وكيف يعزى تقدمهم الحضاري والتقني إليها في المقام الأول.
جهود الاحتساب:
واهتمامنا بأمر العلم هذا ليس يعزى لأن هو كل شيئ، فمقررات العلم يمكن مخالفتها بجهد يسير إن لم تَعْمُر التقوى القلوب، وإن لم تكن الرقابة الإدارية جادة حازمة حاسمة، والرقابة لا تكون كذلك، إن كانت تمارس من أعماق المكاتب المكيفة الوثيرة، الغاصة بالضيوف اللزج من أصحاب المصالح الضيقة الملحة المخلة بهذه الصيغ في الصميم، ومن أصحاب التأويل الثقيل وذوي النفوس الجشعة الذين يكيفون نصوص الدين حسبما يشاؤون فيبيحون كل ما هو محرم ومشتبه به من البيوع، وما هو فاسد في كل الشرائع والأديان، بدعوى عقلية ساذجة هي قولهم ما الفرق بين هذا البيع وذاك، وما الفرق بين المرابحة وغيرها من البيوع الآجلة؟! وهذا شبيه بقول من قالوا من قبلهم:" وأحل الله البيع وحرم الربا "، فجعلوا الربا أصلا، والبيع فرعا، واستنكروا تحريم الأصل، وتحليل الفرع!
وهؤلاء الذين يتجرأون على الشرع لا يجدي فيهم تعليم ولا تبصير، ولا تفطين ولا تحذير، ولا يجدي فيهم إلا سوط محتسب مشتق من درة عمر!
فالمحتسب العامل في الميدان، هو ما يحتاجه المصرف المركزي والمصارف الفرعية لمراقبة تنفيذ الصيغ المصرفية في زواياها.
وعمل المحتسب الإسلامي عمل حضاري، ينبغي أن يكون من أهم اهتمامات المشروع الحضاري الإسلامي، فهو الموكل بمراقبة خطوات تنفيذ المشروع على أرض الواقع، ولا ينحصر عمله في مراقبة النساء السافرات، ومتابعة التصرفات التي فيها إخلال بالآداب، وإنما له الدور المجلي في مراقبة الأداء العام في عالم الاقتصاد!
وهذه مهمة تأصيلية كبرى أخرى نرجو أن يتصدى لتأصيلها وتفعيلها في واقعنا الحضاري الديوان الذي يشرف عليه أستاذنا وشيخنا العلامة المبجل أحمد علي الإمام.
كاهن العلم الصادق:
وأخيرا فلعلنا لا نفتئت ولا نتدخل في شؤون الناس ولا نغمط أحدا حقه، ولا نعطي أحدا فوق حقه، إن قلنا إن شيخنا العلامة الخبير الورع الشيخ إبراهيم عبد الصادق، حفظه الله، الذي سمعت أنه انضم أخيرا إلى هيئة التأصيل الشرعي، هو خير أو من خيرة من يمكن أن ينهضوا بفرع البحث العلمي فيها.
فهو أفضل، وإن احترسنا واحتطنا، قلنا من أفضل من عرفنا من خلق الله السودانيين اهتماما بالعلم والبحث، والجد في العلم والبحث، بأفق متسع، وواقعية مثالية رحبة، فنسأل الله تعالى أن ينسأ في أجله، وأن يبارك في عمله، وأن يوفقه في خدمة العلم والمجتمع السوداني، وتأطيرهما بإطار الشرع، فهو أقوى ساعد للشيخ الإمام في هذا المقام، و: " إن خير من استأجرت القويُّ الأمين ".