ريح الحرب تصرصر على الباب “3-3”
1 July, 2009
عندما قاد محمد علي باشا جيوشه الى داخل السودان كانت البلاد قد أكملت دورة تشظيها وبدأت أكثر استعدادا لتقبل الغُزاة، حيث كانت بقايا دولة سنار تترنح، تتجاذبها الرياح الهوج من كل حدب وصوب، سمع الناس نشيج شعرائها يبكون كما بكى ملوك الطوائف دولة الأندلس.
آهٍ على بلدة الخيرات منشئنا
أعني بذلك دار الفتح سنارا
آه عليها وآهٍ من مصيبتها
لم نسلها أينما حللنا أقطارا
فأوحشت بعد ذاك الأنس
وارتحلت عنها الأماثل بدوانا وحضارا
قال المؤرّخون في تضعضع وانهيار الدولة السنارية إن حدوث الصراعات الداخلية المُسلَّحة بين الشريكين في الحكم: “الفونج والعبدلاب” التي تطاولت وتسارعت وتيرتها في أواخر ايام الدولة السنارية أدت فيما أدت الى إضعاف الحكم وفقدان ثقة الناس في الدولة، وكان سببا لتدهورها الاجتماعي والثقافي الذي كانت قد أرسته الدولة حين تفتحت على العلم، وكانت منارته ترسل بعثة طلابها للأزهر وتضيء جوانب أفريقيا بالبعثات الدعوية (بلغت الاستنارة السنارية ذروتها في بروز أروقة في الأزهر ومكة والمدينة للسناريين سميت برواق السنارية، وأحيانا برواق التكارنة بينما عُرف السناريون في الإرشيف العثماني بولاية الحبشة، وهذا يدل على تنوّع الثقافة السنارية)، هذه هي صورة سنار قبل أن تضمحل الدولة ويتكاثر دجالوها. من يقرأ قاموس الجاهلية يتعجب من الشيوخ الذين طاروا والذين عبروا البحر والذين كلما ارتكبوا الفواحش ازدادت كراماتهم. كانت سنار وسط هذا الدجل والظلام تتداعى من الداخل.
وقال المؤرّخون إن صراعات الشريكين (العبدلاب والفونج) أدت إلى تمرد بعض الأقاليم على السلطة المركزية، مثل تمرد مشيخة الشايقية وتبعتها أغلب مشيخات الدولة السنارية، وخاصة بعد تسلط الوزراء الهمج على سلطة الفونج (بلغت دولة الفونج أوج قوتها واتساعها في عهد السلطان بادي أبوشلوخ، إذ تحققت في عهده أعظم انتصاراتها على الحبشة وكردفان، غير أن هذا العهد كان يحمل في طياته بداية النهاية لهذه الدولة، فقد طغى الملك بادي وانغمس في اللهو والفساد مما أدى إلى تحويل السلطة للهمج بزعامة الشيخ محمد أبولكيلك قائد الجيش في كردفان، وبدأ عهد الضعف والانهيار، وأصبحت القوة هي الطابع الأساسي الذي ينظم علاقة الحاكم بشعبه، وبدأ عهد الصراع بين الوزراء والملوك، وانتهى عهد الشورى، وامتد الصراع إلى الهمج أنفسهم فكثر القتل والعزل بين الملوك والوزراء والخلافات والحروب الأهلية،وكان ذلك ختاما ونهاية لدولة الفونج الإسلامية التي ظلت تحكم السودان مايزيد على ثلاثة قرون).
طُويت صفحة دولة سنار ومن قبلها طويت صفحات دولة ملوك الطوائف بالأندلس بذات الأسباب. كانت الحروب تنخر من الداخل حين كان ملوك الطوائف هناك والهمج هنا في لهوهم العظيم وجدالهم المتطاول، كانت الأقاليم تتمرد على السلطة المركزية دون أن تجد السلطة المركزية المتضعضعة حلا للتمردات التي تواجه الدولة.
الذين لايسمعون صوت ريح الحرب وهي تصرصر الآن على الأبواب عليهم فقط قراءة التاريخ، وإمعان النظر فى قصة دولة سنار وكيف ذهبت ريحها، ومن أيّ المسامات تسرّب الغزاة. لعلهم يجدون في التاريخ عبرة تعينهم على فهم سننه.
الآن أدعو صديقي مدير المسرح القومي الدكتور شمس الدين يونس بالتعاون مع أستاذنا سعد يوسف مدير كلية الموسيقى والدراما لإعادة عرض مسرحية “سنار المحروسة” التي ألّفها وأخرجها الطاهر شبيكة وقدمها لأول مرة في الموسم المسرحي (1967 -1968) على عهد مؤسسة أستاذنا الفكي عبد الرحمن طيّب الله ثراه قبل أن يبعثها فى تسعينيات القرن الماضي المخرج المبدع مكي سنادة لتُعرض تحت عنوان (من كي لي كي). إن أفضل خدمة يمكن أن يقدمها المسرح الآن هي إبقاء التاريخ حياً في ذاكرة الأجيال، خاصة وأن الحالة التي نعانيها الآن تلخصها مسرحية سنار المحروسة بامتياز. ولازلت أذكر حين صعد درويش سنار (الممثل القدير إبراهيم حجازي أطال الله عمره) خشبة المسرح حاملا مبخرة ومسبحته مترنما (من كي لي كي جاب الوكا كي- من كي لي كي جاب الوكا كي). لا أعرف ماهو الوكا كي ولكن في ظني أنها الحالة التي كابدتها دولة سنار آنذاك ونكابدها الآن والله أعلم.
نزل إبرهيم حجازي من خشبة المسرح منشدا
يا واقفًا عند أبواب السلاطين
إرفق بنفسك من همٍ وتحزين
تأتي بنفسك في ذلٍّ ومسكنة
وكسر نفس وتخفيض وتهوين
من يطلب الخلق في إنجاز مصلحة
أو دفع ضر فهذا في المجانين
استغن بالله عن دنيا الملوك كما
استغنى الملوك بدنياهم عن الدين
حين كان حجازي يصل الى هذا المقطع الشعري لفرح ود تكتوك من المسرحية بأدائه الرائع وصوته العذب يتردد أصداؤه في أرجاء المسرح كنا نسمع نشيجا مكتوما يعم جنبات المسرح القومي، كان الناس في ما أظن يبكون دولتهم حين سمعوا ريحا تصرصر على أبوابها، كما نسمعها الآن ولا نجد وقتا لنذرف فيه دموعنا.!!