لمحة من العالم الشعري لمحمد مصطفى حمام … بقلم: د. محمد وقيع الله

 


 

 

waqialla1234@yahoo.com

 

كتاب من الشعر والأدب والفكاهة لا توجد منه غير نسخة واحدة!

  

(إهداء إلى أستاذنا البروفسور عمر أحمد العوض مع الإعزاز)

 

هذا شاعر إسلامي غير أنه ذو طبيعة ضاحكة ساخرة. قطع حياته فرحاً ومرحاً وحبوراً يتفجر. وكان زينة المجالس يملأ أوقاتها باستعراض مواهبه المتعددة، حيث أجاد قرض الشعر الرنان وإلقاءه بافتنان، وأحسن الترنم بالمواويل والأزجال والأشعار الشعبية المنبثقة عن قلوب العامة الصافية، وبقي يتودد إلى الخلق ويعبر عما في قلوبهم من المواجد والآمال والآلام.

 

وقد استلطفه الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد وأدناه إليه في مجالسه وأثابه، وكان حمام من تلاميذ العقاد المخلصين، وكثيراً ما يمثل في ندوته الأسبوعية. وقد وصف العقاد حماماً قائلاً: " إنه كتاب من الشعر والأدب والفكاهة لا يجد الناس منه غير نسخة واحدة "!

 

واشتهر حمام بموهبة نادرة في تقليد الأصوات بشكل غير مألوف . روى نماذج معجبة مطربة منها أنيس منصور في كتابه الرائع (في صالون العقـاد كانت لنا أيام). وحكى صاحب الشاعر وصفيُّه العوضي الوكيل منها الطرفة التالية: عرف الجميع عن حمام قدرته الفائقة على تقليد الأصوات تقليداً لا يميزه سامع من أصله، واستغل حمام هذه القدرة الفائقة في المداعبة والمفاكهة، مرة في إصلاح ذات البين بين الأستاذ العقاد والأستاذ محمد توفيق دياب، رحمهما الله، وقد طلب العقاد في الهاتف على أنه دياب واعتذر له، ثم طلب دياباً في التلفون على أنه العقاد واعتذر له، وعادت المياه إلى مجاريها بينهما بعد هاتين المكالمتين الهاتفيتين. وهكذا سخَّر حمام موهبته النادرة تلك في أغراض الخير، وغدا كل من الأستاذين الكبيرين العقاد ودياب ممتناً لصاحبه، أنه بادره بالفضل واعتذر له معترفاً بالذنب.

 

شعر عذب الترسُّل:

 

 

وقد انسكبت طبيعة حمام السهلة السمحة في شعره فجاء ديوانه عذب الترسُّل كأنه جدول نمير هادىء رقراق. ولا غرو فقد كان حمام يرسل الشعر وينفثه عفو الخاطر، ولا يجهد نفسه في تجويد التنغيم وترقيق الحاشية، ومع ذلك فقد أتى في وعاء لفظي سهل لطيف طريف. فشعر حمام أبعد ما يكون عن الجفاف والخشونة، كيف لا وهو الذي ظل دائم السخرية من أصحاب الألفاظ الوعرة في الشعر، بل كان يمزح معهم فيجاريهم أحياناً في نظمهم الحوشي، وينسب تلك الأشعار إليهم مثلما فعل في القطعة الشعرية التي نشرها منسوبة إلى صديقه اللغوي الضليع عبدالعزيز الاسلامبولي وقال فيها:

 

بالقصعليات أم بالغوصليات              وبالعرانيج أم بالخشفريات

 

يا دهر هل من فخاشيش منككة         تبأبىء الرقل إلا في الطرارات

 

استغفر الله أفغاتي مدعشرة            وفي ­الشناتير إسكاح الهبلات

 

وربما بغصتني وهي قرعبة           واضطرغطت هي في دنيا العتلات

 

قل للطفاطيف إن الصعب جاوزهم     يا للطفاطيف من ماض ومن آت!

 

النكاية بالمترخصَّين بالأدب:

 

 

وكما كان حمام مشغوفاً بالسخرية من المتقعرين المعاظلين بالألفاظ، فقد كان شديد النكاية بالمترخصين في إيراد الكلمات الرثة، والمعاني الغثة، من أنصار الشعر المنثور المسمى بالشعر الحر.

 

 يحكي الشيخ محمد الغزالي، يرحمه الله، أن حماماً كان ينظم الشعر الحر وينسبه إلى هؤلاء الشعراء سخرية منهم وتنكيلاً بهم. يقول الشيخ:كان صديقي محمد مصطفى حمام، رحمه الله، مولعاً بتقليد هذا الشعر المرسل والضحك من قائليه، فجاءني يوماً يقول اسمع هذه القصيدة:

 

تحت شجرة الأبدية

 

جلس الدهر يتفلَّى

 

وجلست معه

 

من الأفق البعيد

 

على شاطىء مديد من الصخور اللينة

 

هناك في الجزر التي تبارز الأمواج

 

كانت حبيبتي تحيا مع الغزلان وبقر الوحش

 

أين أنت يا حبيبتي؟!

 

فقلت له مصححاً: أين أنت يا مصيبتي؟ هكذا قال الشاعر أو كذلك يجب أن يقول! ويمضي الغزالي في تعقيبه قائلاً: ومع ذلك فهذا الهزل المصنوع أكثر تماسكاً من الشعر المرسل الذي انتشر في صحفنا انتشار القمامات في الطرق المهملة.

 

الوطنية الإسلامية :

 

 

وشعر حمام المبثوث في ديوانه ليس كله شعراً إسلامياً، ففيه مما يسقط سقوطاً مزرياً إن وزن بموازين الأدب الإسلامي الحق، ولكن عناية حمام بجانب الإسلاميات كانت عناية باكرة، وفي خواتيم حياته تكثف عنده ذلك الجانب وجاد بشعر صادق في ذم الهوى والطيش.

 

نظم حمام الشعر وهو دون الخامسة عشرة من العمر. وحين انضم في عام 1919م إلى ركب الجهاد الوطني ضد الاستعمار أنشد قصائد وأناشيد سارت بذكرها الركبان. كان شعره في تلك الفترة حداءً وطنياً خالصاً، ولكنه لم يصل إلى الحدود القصوى التي بلغها غيره ممن قدسوا الأوطان من دون الأديان. ويمكن أن يقال إن حماماً كان أقرب إلى هوى مصطفى كامل منه إلى هوى سعد زغلول. وقد تصاعد هذا الخط الوطني بحمام مع تصاعد مواجهات العالم الإسلامي للاستعمار الغربي، تلك المواجهات التي انتزعت بها الأوطان الإسلامية استقلالها، وبها اتسع مدى الهم الوطني لحمام ليكتسب بعداً إسلامياً جعله لا يفرق بين وطنه مصر وبين بقية أمصار الإسلام.

 

ضد الإباحية:

 

 

وفي سنوات الخمسينات والستينات من القرن الميلادي الماضي، حينما تعالت وطغت أمواج العلمانية والتغريب، وأخذ البث التغريبي يتخذ له حصوناً وأوكاراً سلطوية ركينة رهيبة، لم يتردد حمام في أن يواجه دعاوى التفسخ والتحلل بشعر خفيف الروح، فأنشد في مواجهة دعاة الإباحية في علاقات الجنسين شعراً أبان به عن خروج تلك الدعوة الآثمة عن الملة والشريعة فقال:

 

قال الفتى للفتى ما دمت تهواها

 

ولا ترى النور إلا في محياها

 

فأُنس بها زوجة تؤويك حانية

 

وكن بحبك مهواها ومأواها

 

فقال كلا فما كان الزواج سوى

 

مغارم وقيود لست أرضاها

 

علام أحبس قلبي في هوى امرأة

 

يظل محياي مرهوناً بمحياها

 

ورب ذرية أخرجت فانبعثت

 

البؤس يصحبها والنحس يغشاها

 

لي كل يوم فتاة فجرت غدقا

 

من الوصال فروَّاني ورواها

 

ولي من الغيد ليل باسم ألقٌ

 

في صحبة الكأس أسقيها وأُسقاها

 

قلنا أأنت تباهي بالزنا فرحاً

 

أأنت تعبث بالأعراض تيَّاها

 

فقال بل ذاك شرع صار متبعاً

 

كم تاه غيري به قبلي وكم باهى

 

قلنا ألست تخاف الله منتقماً

 

فقال في قحة لا أعرف الله!

 

ولما انضمت إلى البرلمان بعض نسوة من دعاة التغريب والتمدن الكاذب، ودعون في القحة ذاتها إلى تغيير وتبديل بعض أحكام الشريعة الإسلامية في موضوع الأحوال الشخصية واجه حمام تلك الدعوة المنكرة بقصيدة خاطب بها نائبتين تولتا كبر تلك الدعوة فقال:

 

ولقد رضيت النائبات وما الذي

 

يرضي بني وطني ولا يرضيني

 

لكن للأختين مني صيحة

 

من خالص التوجيه والتفطين

 

قولوا لكلتا الغادتين تخلَّيا

 

بالله عن تنقيح هذا الدين!

 

قال ذلك وهو يدري أن النائبتين تحتميان بحمى مكين، وربما انطلقتا بالدعوة النُكر بوحي منه، ولكن حماماً لم يرهب من ذلك شيئاً وهو يَذُبُّ عن دينه القويم، فصدع بقوله الحق في وجههما وفي وجه تغريبيين كثر ممن حاولوا إفساد اللغة والدين.

 

شعر الحكمة والزهد:

 

 

والشعر الذي فاه به حمام في آخر أيامه كان من شعر الحكمة والتوبة والرضا والإقبال على الله عز وجل:

 

علمتني الحياة أن حياتي

 

إنما كانت امتحاناً طويلا

 

قد أرى بعده نعيماً مقيما

 

أو أرى بعده عذاباً وبيلاً

 

علَّ خوفي من العذاب كفيل

 

لي بالصفح يوم أرجو الكفيلا

 

علَّ خوفي يردني عن أمور

 

خبثت غايةً وساءت سبيلا

 

وَعَدَ الله من ينيب ويخشى

 

بأسه رحمة وصفحاً جميلا

 

وبحسبي وعدٌ من الله حقٌ

 

إنه كان وعده مفعولا

 

علمتني الحياة أن أتلقى

 

كل ألوانها رضىًً وقبولا

 

ورأيت الرضا يخفف أثقالي

 

ويلقي على المآسي الذيولا

 

أنا راضٍ بكل ما كتب الله

 

ومُزجٍ إليه حمداً جزيلا

 

والرضا آية البراءة والإيما

 

ن بالله ناصراً ووكيلا !

 

 

التوبة النصوح:

 

 

  وقد وفق الله تعالى حماماً لأداء فرض الحج في آخر عهده بالدنيا، فأعلن بعدها التوبة النصوح، وارعوى عما اصطحبه من شبابه من نزق وغي، وصاغ رحلته إلى الحج شعراً جاء فيه:

   

يا رب جاء إليك يسألك الهدى

 

عبدٌ له أوزاره وضلاله

 

قد خال آفاق الحجاز تضيق عن

 

آثامه وبها تنوء جباله

 

عبر البحار إلى حماك ودمعه

 

آماله أو دمعه أوجاله

 

وخطا بأرضك ذاهلاً وكأنما

 

طفقت تطارد خطوه أعماله

 

حتى إذا البيت المحرم ضمه

 

قرَّت بلابلهُ وأصلح باله

 

يا رب قد بلغتني أملي ومن

 

آواه بيتك لم تخب آماله

 

أنزلت في القلب اللهيف سكينة

 

لا رَوْعُه باق ولا زلزاله

 

وأنلتني شرف الطواف وعزه

 

سبحان ربي لا يغيض نواله

 

وشفيت شوقي للحطيم وزمزم

 

والشوق طال على الفؤاد مطاله

 

ولقد عببتُ زلال زمزم غاسلاً

 

قلبي به. نعم الغسول زلاله

 

قد حُرِّم الرِّي الحرام على دمي

 

وجرى بزمزم في الدماء حلاله!

 

 وربما كفَّر الشاعر عن آثامه بما خلف من شعر قويم يدعو إلى التعبد والتمثل بالمكارم. وما أحلى أناشيده الموجهة لصياغة أبناء الغد، وهي أناشيد يمكن أن توضع جنباً إلى جنب مع أناشيد محمود أبي الوفاء والرافعي ومحمد إقبال، ومنها هذا النشيد العذب الذي في ثناياه الحكمة والإنابة والتسليم والتضرع والدعاء:

 

ربنا اجعلنا أصح الناس ديناً

 

واجعل الدنيا لنا خفضاً ولينا

 

ربنا واطبع ذرارينا على

 

سنة التقوى بنات وبنينا

  

وتغمد والدينا بالرضا

 

واجعل الغفران عقبى لذوينا

 

وازرع الرحمة في أنفسنا

 

واكفنا بأس القساة الظالمينا

 

وإذا أوليتنا يا رب نعــماء

 

فصنها من عيون الحاسدينا

 

وإذا أنزلت ضراء بنا

 

فاجز عنها جزاء الصابرينا

 

وإذا ما انكشف الضر فألهمــنا

 

وفاء الأوفياء الشاكرينا

 

رب بصرني بديني وأقم

 

لي على الجاحد سلطاناً مبينا

 

أغنني يا رب عن عون الورى

 

ثم لا تغني الورى عني معينا

 

أعطني أعط وكن جاهي أكن

 

جاه من ألقى من المستضعفينا

 

ثم هيئ لي عن الدنيا رحيلاً

 

لا أقاسي فيه سقماً أو أنينا!

 ولد حمام في عام 1904م في أسرة متدينة متوسطة الحال بمناطق فارسكور بدمياط، وعانى اليتم بفقد الوالد وهو في الرابعة من العمر ولكنه ثابر وحفظ القرآن الكريم في طفولته، ونال تعليماً مدنياً حتى أحرز درجة (البكالوريا) ، وانخرط في وظائف متواضعة بسلك الإدارة الحكومية، وعمل بالصحف، واشتغل بالتعليم آونة في المملكة العربية السعودية، وعمل آخر عمره بالكويت، ونشر بين هذا وذاك عديداً من المقالات والأشعار بالصحف والمجلات الأدبية، وتوفى في مارس من عام 1964م بالكويت، يرحمه الله . ونشر ديوانه بعد وفاته في عام 1977م بعنـوان (ديوان حمام). وهو ديوان لم يلق بعد ما يستحق العناية من دعاة الأدب الإسلامي. 

 

آراء