سنواتي في امريكا ..الحكومة تنازلت عن سفارة واشنطن للحركة الشعبية ثم استقطبت السفير (6) بقلم: طلحة جبريل

 


 

طلحة جبريل
19 July, 2009

 

talha@talhamusa.com

  

تقلص عدد مراسلي الصحف العربية في واشنطن، لعدة أسباب من أبرزها، ارتفاع رواتب الصحافيين في العاصمة الأمريكية وتدني مداخيل الصحف، واستقطاب الفضائيات لمعظم من كانوا يراسلون هذه الصحف في الماضي، وما تبقى تكلفت به قناة الحرة الأمريكية وكذلك راديو "سوا" الذي تأسس على أنقاض إذاعة "صوت أمريكا" العربية. لم يبق هناك الآن إلا بضعة صحافيين يعملون مع الصحف المكتوبة وهي في معظمها صحف تصدر من دول الخليج.

 

والإشكال في موضوع المراسلين العرب في واشنطن ان من يتقنون الكتابة في الصحافة المكتوبة عددهم محدود للغاية، وكنت واجهة معضلة حقيقية عند وصولي إلى واشنطن من أجل تعزيز طاقم مكتب " الشرق الأوسط" في العاصمة الأمريكية، إذ ان من يتقن اللغة الانجليزية تكون معرفته باللغة العربية متوسطة، و بلغة الكتابة الصحافية محدودة، وهناك من يتقن الانجليزية والعربية لكن بدون حس صحافي.

 كما ان الفضائيات لا تترك من لهم القدرة على الحديث أمام الكاميرا حتى لو كانت إمكانياتهم المهنية متواضعة، وهذه إشكالية كبيرة أدت إلى تدهور مستوى الصحافة العربية بكيفية عامة وكذلك الحرفية في كتابة الاخبار والتقارير للتلفزيون. ذلك ان هذا الجهاز لا يتطلب في بعض الأحيان الا كتابة تعاليق على الصور، نظراً لقصر الفترة الزمنية، التي لا تتيح سوى بضعة دقائق للتعامل مع أي خبر مهما كانت أهميته.

وباستثناء المؤسسات الصحافية العريقة على غرار" بي بي سي" فإن اتقان بعض تقنيات العمل التلفزيوني والظهور بمظهر حسن أمام الكاميرا، هي الى تطلبها الفضائيات العربية في مراسليها من العاصمة الأمريكية.

 

وكان أول ما استرعى انتباهي في واشنطن أن المراسلين العرب لا يكترثون كثيراً لحضور اللقاءات الصحافية اليومية وهي كثيرة وبلا حصر سواء في مركز الصحافة الأجنبي أو في "نادي الصحافة الوطني " كما أنهم نادراً ما يحضرون اللقاءات اليومية للمتحدث الصحافي باسم وزارة الخارجية، ولا يوجد أي مراسل معتمد لحضور لقاءات البيت الأبيض اليومية(باستثناء قناة الحرة).

 

الصحافيون العرب مغرمون عموماً بالإسرار، وفي بلد مثل أمريكا لا توجد أسرار كما هو الشأن في العالم العربي ، لذلك غالباً ما يفبركون أخباراً وينسبونها الى " مصادر جد مطلعة " او " مصادر وثيقة الاطلاع " ، ولا تكون هذه المصادر في معظم الأحيان سوى المراسل نفسه، وهناك من يترجم من الصحف الامريكية الرئيسية أخباراً وينسبها الى " مصادره المطلعة" او " وثيقة الاطلاع" .

 

والملاحظ ان المراسلين العرب نقلوا معهم الى واشنطن كل الخلافات السياسية التي تعرفها المنطقة العربية، وتجلى ذلك في تشكيل "رابطة المراسلين العرب" التي تضم غالبيتهم ، حيث أصبحت انتخابات هذه الرابطة التي تجري كل سنتين من أهم "أنشطتها" يحرص على حضورها الجميع، من أجل انتخاب قيادة الرابطة، في حين ان عدد الذين يحضرون اللقاءات الصحفية التي تدعو لها الرابطة مع مسؤولين امريكيين أوعرب يزرون واشنطن لا يتعدى أصابع اليد.

 

 كنت نأيت بنفسي عن خوض انتخابات رابطة المراسلين العرب في واشنطن، وفضلت أن أبقى عضواً عادياً احضر الأنشطة التي تنظمها الرابطة، لكن مع تأسيس "اتحاد الصحافيين السودانيين في الولايات المتحدة" كان لزاماً أن يكون لنا وجوداً وسط الصحافيين العرب والافارقة، وبما أن تكوين رابطة للصحافيين الافارقة ما تزال متعثرة ، فقد ترشحت في الدورة الأخيرة لقيادة رابطة الصحافيين العرب، وعندما حصلت على أعلى الأصوات طلب مني ان أتولى مهمة الامين العام للرابطة لكنني فضلت ان اكتفى بعضوية اللجنة التنفيذية للتركيز على أنشطة "اتحاد الصحافيين السوادانيين" وسأتحدث عن تجربة هذا الاتحاد في حلقة مقبلة نظراً لما خلقته من زخم سواء داخل أو خارج امريكا.

 

مع توسيع دائرة معرفتي بالصحافيين سواء كانوا عرب أو امريكيين أو اجانب،وجدت نفسي ضيفاً شبه دائم على عدد كبير من القنوات الفضائية وكذلك الإذاعات. هذه القنوات والاذاعات تفضل دائماً ان تنقل تعليقات لمراسلين يعملون مع الصحافة المكتوبة، لان جانب التنافس المهني ينتفي. هناك قول يرددها الامريكيون باستمرار مفاده" لاشيء مجاني في هذا البلد".

 

وينطبق ذلك على مثل هذه المساهمات. بيد ان هناك من يطلب بالطبع مساهمات مجانية، ينسحب ذلك على الفضائيات السودانية، وكذلك على الفضائيات المصرية واللبنانية. وبعض هذه الفضائيات لا تعوزها الإمكانيات المالية.

 

مع السودانيين لم يحدث ان رفضت المشاركة عندما أتلقى اتصالاً، وفي ظني انها ضريبة واجب وطني ، لكن مع الفضائيات المصرية واللبنانية كنت أعتذر في غالب الأحيان ليس لاسباب مادية، بل لان اسلوب التعامل ليس مهنياً، إذ هم يعتقدون انهم يقدمون لك "خدمة كبيرة" خاصة عندما تتحدث الى هذه القنوات وينقلون كلامك الى الشاشة.

 

وبصراحة وجدت أفضل تعامل مهني من طرف قناة " الحرة" الامريكية ومن ثلاث فضائيات اوربية هي " بي بي سي" و"فرنسا 24 " و" دولشي فيلا" الالمانية، وبالنسبة للاذاعات من " بي بي سي" ايضاً، ومن "اذاعة كندا".

 

غالباً ما تدفع هذه المؤسسات على مساهمة لا تتجاوز دقيقتين مبالغ تتراوح ما بين 200 الى 250 دولاراً . بيد ان لهم بالطبع شروطهم المهنية التي تجعلهم يتشددون في اختيار من يتحدث عبر قنواتهم.

 والقناة الوحيدة التي اعتذرت عن الحديث معها هي قناة " الجزيرة"، على الرغم من أن معظم طاقم هذه القناة بما في ذلك رئيس المكتب في واشنطن، هم من الزملاء المغاربة الذين تربطني بهم زمالة المهنة، ووشائج علاقة عاطفية توجد تفاصيلها في المغرب نفسه. وهناك عدة أسباب أملت هذا الاعتذار ، من بينها اعتقادي الراسخ ان " الجزيرة" تتلاعب باقوال من يتحدثون معها وفي كثير من الأحيان تخرجها عن سياقها.

بيد أن الحديث مع هذه القنوات عندما يتعلق  الامر بتدخل مباشر من الاستديو ليس أمراً سهلاً ذلك إذ ان دقيقتين احياناً تتطلب حوالي ساعتين من الوقت. مشكلة امريكا هي تباعد المسافات ، وعلى الرغم من ان استديوهات هذا القنوات توجد في واشنطن لكن الرحلة الى هذه الاستديوهات تستغرق حوالي ساعة زمن، وبعد الوصول الى الاستديو يتطلب الامر بعض الوقت لضبط المسائل التقنية مثل جودة الصوت والصورة ، ثم أن المشرفين على نشرة الاخبار يفضلون أن يتأكدوا بانك ومع بداية النشرة توجد معهم مباشرة حتى إذا جاءت الفقرة التي يفترض ان تتحدث خلالها يكون كل شيء جاهزاً، وحين يصل المذيع الى الفقرة التي تقول " ومعنا الآن من واشنطن فلان الفلاني" تكون اضواء الاستديو القوية أنهكتك تماماً، حيث تتمنى فقط ان تنتهي المداخلة لتخرج من هذه " السونا". في بعض الاحيان تكون الاسئلة وليدة اللحظة لذا يتحول الأمر الى إرهاق ذهني حقيقي، لان الناس تعتقد انك طالما انت في واشنطن يمكن ان تتحدث عن كل شيء له علاقة بالولايات المتحدة، وهذا الامر صحيح في بعض جوانبه لكنه ايضاً غير صائب في جوانب أخرى. صحيح لان الحصول على معلومات في امريكا من اسهل ما يكون، لكن ما هو سر يبقى سراً ، والامريكيون لهم قدرة مذهلة على الرغم من انفتاحهم المعلوماتي (من معلومات) للحفاظ على الأسرار ، وغير صائب في جوانب أخرى لان لا أحد يمكنه أن يزعم معرفة كل تفاصيل وطرق عمل المؤسسات الامريكية، لذلك ستلاحظون على سبيل المثال أن الانتخابات الامريكية وهي تتكرر بوتيرة ثابتة كل أربع سنوات ، لكن حتى الاعلام الامريكي يضطر في كل مرة ان يشرح طرق إجراء هذه الانتخابات. إن التصويت عن طريق ما يعرف في امريكا " كوكس" او المجمعات الانتخابية يحتاج وحده الى مقال في حجم هذا المقال لشرحه. كما ان طريقة عمل الكونغريس ولجانه تتطلب الكثير من الوقت من أجل فهمها، ولا بد لاي صحافي يريد العمل في الولايات المتحدة أن يقرأ أكبر عدد من مجلدات التاريخ الامريكي لفهم كيف وصلت المؤسسات الى وضعيتها الحالية، والبلد الوحيد في العالم الذي إذا أردت ان تزعم الماماً باوضاعه السياسية لا خيار امامك سوى  قراءة دستوره مرات ومرات.

 

لكن على الرغم من كل ذلك فإن العمل الصحافي في امريكا له مزاياه التي لا تحصى، إذ ان سهولة الوصول الى المعلومة يجعل ذخيرتك منها تنمو باضطراد ، ولا يوجد مسؤول امريكي يمكن ان يختبيء وراء سكرتيرة او مدير مكتبه ليقول لك إن " سيادته في اجتماع أو لديه مكالمة هاتفية طويلة" الامريكي لابد ان يرد على الهاتف، ربما يقول لك " لا تعليق " لكنه يجيبك في كل الأحوال. ثم ان واشنطن تعلم الصحافي كيف تتم صناعة القرارات المتعلقة بكل العالم.

 

ولعلني أختم لأقول ، إن أكثر ما أدهشني  من سياسات السلطة الحاكمة في الخرطوم،على كثرة قراراتها المدهشة والتي تدعو للاستغراب، أنها عندما حاولت تقسيم السفارات مع الحركة الشعبية، تنازلت لها عن سفارة واشنطن مقابل سفارة لندن، ثم سعت جهدها ان " تستقطب" بعد ذلك أول سفير رشحته الحركة الشعبية في واشنطن، الى حد انه غادر العاصمة الامريكية والحركة الشعبية تقاطع جميع أنشطته، كما انه هو نفسه أنشغل بامور اخرى لا علاقة لها بالعمل الديبلوماسي.

 

أما المسألة الثانية، هو ان وزارة الخارجية السودانية تطبق على تنقلات الديبلوماسيين العاملين في واشنطن المعايير نفسها التي تطبقها على باقي الديبلوماسيين، واعنى تحديداً مسألة المدة التي يقضيها الديبلوماسي في العاصمة الامريكية، وفي ظني ان أي ديبلوماسي يحتاج فعلا الى ثلاث الى اربع سنوات ليفهم" امريكا" ويربط فيها شبكة علاقات، و بعد ذلك يمكنه أن يعمل لخدمة علاقات بلاده مع الولايات المتحدة، لان تحركات الديبلوماسي ليست هي تحركات الصحافي، على سبيل المثال كنت اريد أن أفهم لماذا تعتمد ولاية مثل نيفادا ومدينة مثل لاس فيغاس على سياحة صالات القمار كما انها الولاية الوحيدة التي تسمح بالبغاء ، وهذا تطلب مني الانتقال الى هناك ، هذا الامر ليس متاحاً بكل تأكيد لديبلوماسي، قد يعتبر وجوده في أمكنة مشبوهة مسيئاً له ولسمعة بلاده.

 

الآن أختم لأقول لا تعتقدوا أن الحياة سارت في واشنطن على نمط واحد، او أنني بقيت أغوص يومياً جيئة وذهاباً في باطن أرضها داخل المترو وفوقها داخل حافلاتها،بل جبت الكثير من ولاياتها، وفي الاسبوع المقبل أتحدث عن بعض هذه الجولات.

  

نواصل.

    

عن الاحداث

     

مقالات سابقة

 

جميع المقالات السابقة منشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى ، ويمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط

 http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1 

 

آراء