الشيخ الجليل و لبنى و الأقاويل … بقلم: د. عمر بادي
20 August, 2009
ombaday@yahoo.com
إنقطع البث المباشر لخطبة صلاة الجمعة الأخيرة من قناتنا الفضائية القومية , و أيضا إنقطع بالقطع من قناة النيل الأزرق الفضائية و التي تقوم ببث الخطبة و الصلاة نقلا عن القناة الفضائية القومية . المتحدث كالعادة كان الشيخ الجليل عبد الجليل النذير الكاروري إمام مسجد الشهيد و مدير المجمع المرفق بالمسجد و رئيس مركز علوم الإيمان و عضو مجلس الإفتاء و عضو المجلس الولائي كما سمعت , و ليعذرني شيخي إن نسبت إليه بالخطأ ما ليس يخصه , فأنا أكتب من على البعد .
لقد كان الشيخ الجليل قد بدأ خطبته الثانية بالحديث عن الوصايا الخمس و تطرق بعدها إلى بنطال لبنى , ثم ربط بين مآلات الأزياء الفاضحة و إنتشار الجرائم الأخلاقية و ضرب مثلا بحادثة الشاب والفتاة اللذين وجدا ميتين داخل سيارة في مرآب . بعد ذلك إنقطع البث لفترة من الزمن أعقبتها المدائح النبوية , ثم تواصل الإرسال العادي بدون أي تنويه أو إعتذار من مذيعي الربط ! لقد مرت ثلاثة أيام على هذا الحدث و لم أجد أي تبرير لهذا القطع سواء في الصحف المتينة ( الورقية ) أو تلك الرخوة ( الإلكترونية ) .
إنني أكن كل إحترام للشيخ الكاروري و أتابع خطبته الأسبوعية كل جمعة , خاصة و أن فارق الزمن يجعل بثها بعد إنتهاء صلاة الجمعة عندنا ثم عودتي إلي منزلي للجلوس أمام التلفاز . الشيخ الكاروري كان يلقب في التسعينات بالشيخ المجاهد و ذلك لدوره الكبير في إثارة الحماس الديني لدى الشباب من داخل معسكرات الدفاع الشعبي حتى يتهيأوا للجهاد و ملاقاة الأعداء من جنوب القطر , و كان أيضا يلقي المحاضرات التعبوية للعاملين في المصالح الحكومية حتى يتطوعوا للإنضمام لمعسكرات الدفاع الشعبي . بعد ذلك وسّع الشيخ من إهتماماته فضمت البحث في علاقة العلم بالدين و تمثل في ذلك بالشيخ اليمني عبد المجيد الزنداني فكوّن مركز علوم الإيمان , و إجتهد في ذلك كثيرا حتى حق أن يلقب بالشيخ المجتهد , بل و أجهد نفسه في ذلك حتى نسي نفسه فضمر عوده . الشيخ الجليل يعجبني فيه ولاءه للقضية الفلسطينية و كشفه للمؤامرات الإسرائيلية و ترديده دائما أن الله قد بشّر بنصر المسلمين على اليهود حين يجيء وعد الآخرة ليسئوا وجوههم و ليدخلوا المسجد الأقصى كما دخلوه أول مرة و ليتبروا ما علوا تتبيرا . للشيخ الكاروري إجتهادات خاصة في تفسير بعض المصطلحات الدينية سواء في الكتاب أو السنة و تعجبني فيه جسارته في ذلك و يكفيه أنه يعمل عقله و يسعى لربط الدين بالعلم و بالحياة , و له في ذلك فضل الإجتهاد إن أخطأ و إن أصاب فله الجزاء و الحمد و الشكر . ألا ترون كيف يلتقي بنا كل مرة من خلال المنبر و هو يحمل قصاصات من تقارير و أخبار من الإنترنت و من إصدارات جديدة , كلها يجعلها حجة لدحض إدعاءات أعداء الإسلام و حجة لتأييد آرائه . لقد إلتقيت مع الشيخ الكاروري كثيرا في مقالاتي العلمية الإجتماعية الخفيفة و التي كتبت فيها عن التشابه بين الإنسان و الآلة و عن الإكتشافات العلمية الحديثة و علاقتها بالدين في مجال الجينات و الهندسة الوراثية و البصمة الوراثية و الخلايا الجزعية , و أيضا في الإنسان الآلي ( الروبوت ) و اليومانويد .
في الجزء الذي تم بثه من الخطبة الثانية للشيخ الكاروري أرى – و ليعذرني شيخي الكريم – أنه قد جانبه الصواب و انه قد تسرع في إبداء حكمه في قضايا لا زالت أمام القضاء , و أن ولاءه الخاص قد طغى على ولائه للحقيقة في جوانبها المتعددة . لقد تناول شيخي بنطال لبنى و كأنه جرم مشهود , و أن واجبهم هو المحافظة على الزى النسائي الشرعي رغم إعتبار البعض أنه تدخل في أمورهم الشخصية . إنه في ذلك يؤيد قانون النظام العام و يؤيد وجود شرطة أمن المجتمع و غاراتها ( كشاتها ) على أماكن تجمع الشباب و الأسر في الحدائق العامة و الحفلات و الكافتيريات . لم يعط شيخنا أعتبارا لإختلاف الآراء في لبس البنطال , بل و لم يعط إعتبارا لقرار محكمة النظام العام و التي حكمت في الأسبوع الماضي بإخلاء سبيل ثلاث فتيات كانت قد قبضت عليهن شرطة أمن المجتمع بجرم إرتداء بناطلين , و لكن كان تعريف القاضي بأن الزى الفاضح هو الذي يتنافى مع أعراف البلد و تعاليم الدين الإسلامي و لم ير في زيهن شيئا من ذلك . لقد إتهم شيخنا لبنى بأنها قد قصدت الحط من سمعة حكومتنا الرشيدة في المحافل الدولية و انها قد نفذت مخططاتها في ذلك . كما و أنه قد ربط بين بنطلون لبنى و ما ينتج عن الأزياء الفاضحة من إثارة للشهوات و إنتشار للرذيلة و ضرب في ذلك مثلا كما أسلفت بحادثة وفاة المهندس الشاب و الدكتورة و هما داخل سيارة في مرآب ! لقد ورد في الصحف أنهما قد توفيا بسبب الإختناق بغاز ثاني إكسيد الكربون . نحن الميكانيكيين و بحدسنا المهني نستبعد أن يكون الموت داخل سيارة و داخل كراج و عن طريق التسمم بالغاز يكون نتيجة لفعلهما للفاحشة . إن كان الأمر إنتحارا جماعيا فلا بد من توصيل العادم بأنبوبة إلي داخل السيارة و ترك المحرك دائرا , و إن كان الأمر جريمة إغتيال فربما يكون لها سبب آخر , و علينا بترك الأمر للتحريات و القضاء , و علينا في مثل هذه الحالات أن لا نأتي بآراء جائرة بل نسعى إلى الترحم على المتوفى و مراعاة شعور عائلته , و ليس التشهير به يا شيخنا الكريم . أما عن لبنى و التي صارت رمزا للصمود , فإنها لم تكتب و تتكلم ( كلام رجال ) فقط و إنما زادت البيان بالعمل كما يقول العسكريون , فلها مني تحيتي و تضامني .
أود أن أهمس في أذن شيخنا الوقور أن الفتيات المنحلات أخلاقيا و المتمرسات على التعامل مع قوات الردع المجتمعية , لا يلبسن الأزياء الفاضحة , بل بالعكس يلبسن الأزياء الإسلامية المحتشمة حتى تسهل عليهن أفعالهن ! إن البنطال في حقيقته هو شكل جديد للسروال العربي الإسلامي المعروف , كانت ترتديه المرأة تحت ( جلابيتها ) و كان لبسه لازما عند ركوب الخيل و البعير و الإبل مع لبس قميص فوقه معقودمن نصفه و لبس غطاء للرأس , حتى تسهل عملية الركوب و النزول , كما قرأنا في كتب التراث و شاهدنا في المسلسلات الإسلامية . هذا هو الزى العملي الإسلامي حتى في عصرنا الحديث , و أراه باديا في زى طالبات المدارس المقرر عليهن و في زى الممرضات في المستشفيات و في زى العاملات في القوات النظامية و في زى العاملات أمام الماكينات في المصانع حيث تحتم إجراءات السلامة لبس ذلك الزى . هذا هو الزى العملي الإسلامي المتبع في كل الدول الإسلامية . في السودان كان عندنا قديما في البيوت ( القرقاب ) تلبسه النساء مع ثوب ( الزراق ) , و أظن أن كلمة ( القرقاب ) أصلها بجاوي و تعني العباءة العربية الملفوفة حول النصف الأسفل و هي تعتبر نوعا بدائيا من البنطال .
إن النظام العام و المحافظة عليه أخلاقيا عن طريق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يكون من أولويات الرعية قبل الراعي و ان المجتمع هو الرقيب الأول تجاهه بما لديه من أعراف و تعاليم دينية . مثلا في تركيا العلمانية و في إستنبول الشبه أوربية لا يوجد قانون للنظام العام لكن رايت الناس يتدخلون إذا ما أخل أحد الشباب بأعرافهم الدينية , و جلهم مسلمون , كانوا يزجرونه و يردعونه حتى ينزوي خاسئا و هو حسير . نحن مجتمع متعدد الأعراق و الأعراف و كذلك متعدد الديانات رغم أن معظمنا مسلمون . لقد فطن شيوخ الصوفية الدعاة إلي ذلك , و كانوا أكثر وعيا لمكونات مجتمعنا السوداني فبنوا سياساتهم الدعوية عليها و اختاروا الدعوة إلي سبيل الله بالحكمة و الموعظة الحسنة , و تبينوا مقولة سيدنا عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص والي مصر : ( متى إستعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) . ألم يقرأ أحد من المغالين الجالدين للنساء قول الله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم ( فبما رحمة من ربك لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لإنفضوا من حولك ... ) صدق الله العظيم . أرجو من الله الكريم و بحلول شهر رمضان المعظم أن يهدي أولي الأمر إلي الرجوع إلي حكمتنا القديمة التي وضع لبنتها شيوخ الصوفية الأجلاء حفاظا على البلاد ووحدة العباد و أن يتركوا الغلو و التطرف و الفهم الخاطيء للدين الإسلامي السمح الذي لا يعرف الأثرة و التمكين و الكيل بمكيالين , فأين كل ذلك من الناس السواسية كأسنان المشط؟ فليرجعواعن كل ذلك و الرجوع إلي الحق فضيلة , و أن يتذكروا اليوم العبوس القمطرير .
الإساءة و الجلد أربعين جلدة و إشانة السمعة , كل ذلك من أجل لبس بنطال ! لا أدري , كيف يتم التعامل مع النساء بهذا الجفاء من أناس كل همهم التودد إلي النساء و طلب قربهن مثني و ثلاث و رباع و بالتسريح و الإحلال ! في ذلك قال أحد الظرفاء : ( الجماعة ديل بيحبوا تلاوة تلاتة سور من القرآن الكريم , سورة النساء , و سورة الدخان , و سورة المائدة ) !