في رواية موسم الهجرة الى الشمال للاديب الطيب صالح (1)
30 November, 2009
الذاكرة والطفولة:
أن الراوي الشبيه بالكاتب كما سنوضح في فصل تحقيق الكتاب لذاته يعتمد الذاكرة كقوام لوجوده لتعلقه الشديد بالماضي ، ولتوهج حبه لأرضه / قريته ومجتمعها. عندما هاجرالكاتب_الراوي مغترباً إلى (لندن) اكتشف علاقته بالزمان والمكان من جديد واثر عودته بدأ يسترجع الماضي بدءًا بعلاقته الوطيدة بجده وبالطفولة فظل يبحث عن طفولته كفردوس مفقود ويأمن وجوده باستناد ه إلى الماضي طامعاً في الاستقرار النفسي بتثبيت جمال عالمه المفقود في رحلة اشبه ( بالبحث عن الخلود )
" كنت سعيداً تلك الأيام كطفل يرى وجهه في المراة لأول مرة وكانت أمي
لي بالمرصاد ، تذكرني بمن مات لأذهب وأعزي وتذكرني بمن تزوج فأذهب لأهنأ ، جبت البلاد طولاً وعرضاً ، معزياً ومهنئاً ويوماً ذهبت إلى مكاني الأثير عند جذع شجرة الطلح على ضفة النهر ، كم عدد الساعات التي قضيتها في طفولتي تحت تلك الشجرة ارمي الحجارة في النهر واحلم ---اسمع أنين السواقي –وتصايح الناس في الحقول وخوار الثور ونهيق حمار
ورأيت البلد يتغير في بطأ – راحت السواقي وقامت على ضفة النيل طلمبات الماء وانأ أرى الشاطئ يضيق في مكان ويتسع في مكان أخر.أنه شأن الحياة تعطي بيد وتأخذ باليد الأخرى – الحقول المنبسطة كراحة اليد على طرف الصحراء – واسمع طائر يغرد وكلب ينبح وصوت فأس في الحطب وأحس بالاستقرار ،أحس أنني مهم ومتكامل – لا لست أنا الحجر يلقى في الماء لكنني البذرة تبذر في الحقل واذهب إلى جدي فيحدثني عن الحياة قبل أربعين عاماً – لا قبل ثمانين فيقوى احسا سي بألامن __ كنت أحب جدي وكأن يؤثرني – كنت منذ صغري تشحذ خيالي حكايات الماضي __ كان جدي يحدثني عن حاكم غاشم يحكم ذلك الإقليم ، أيام الاترك ولست ادري مالذي دفع مصطفى إلى ذهني –"
في هذه اللوحة الشعرية نقرأ التغيير البطيء الذي حدث في قرية ود حامد
" الطلمبات بدل السواقي " وأبواب الحديد بدل أبواب الخشب كما سنرى
في فصل في بيت الجد – مايهمنا هنا هو أن الكاتب قد حقق ذاته في الراوي بشكل واضح في هذا المقطع فالكاتب ظل مغترباً بلندن إلى حين وفاته عام 2009وظل طيلة غربته يحلم بقريته في شمال السودان وبيئها الطبيعية فهذا العالم المصغر لايختلف عن أهل ود حامد وبيئتها فقد صرح الكاتب بهذا التشابه بين بيئته وبيئة روايتاه لاسيما ( عرس الزين، يقول الكاتب " ربما لو لم اغترب لما كتبت ويقول كذلك عن قريته " يؤلمني إن أراها تتلاشى على مرأى من ناظري" وحتى لايتلاشى هذا العالم من ناظريه أعاد صياغته وخلده في فنه وإبداعه الروائي.
ان أسلوب الكاتب يتراوح بين الحقيقة_التسجيلية والخيال والحلم واليقظة وتكثيف الصور والإيحاء وسرعة الإيقاع وبطئه وفقاً للفكرة والتجربة الإنسانية والحادثة . لقد أحس الكاتب /الراوي / بوجوده الحقيقي وهومتفيىء بظل شجرته الأثيرة على ساعد النيل وهو وجود يأمن له استقراره ويجنبه التصدع والشتات ، هنا نرى الدور ( المبطن) للمكان /الطبيعة /في استقرار الفرد وتعلمه منها في كيفية التعامل مع الحياة وليس التمتع بها كلوحة فحسب. كما اشرنا من قبل فأن الراوي لم يتخلص من عنصر (الذاكرة ) طوال الراوية إذ ظل يتذكر الماضي ويأنس بوجود قصص جده والبيئة التي عهدها وأحبها وأخيراً نراه غارقا في الذاكرة ، بتذكره البطل مصطفى سعيد الذي ظهر فجأة في حياته وتعملق فيها ثم اختفى من ثم ليتركه وحده يتصارع ذكرياته و سيرة حياته ووصيته .
من المحاور الرئيسية التي أشار إليها الكاتب في هذا الفصل: قضية_ مسألة الهوية التي لم يزل يواجهها السودان إلى اليوم: من هو السوداني ؟ وكذلك مفهوم السوداني بالتجنس والمواطنة . نلمس هذه القضية في أكثر من موقع وفي وصف الجد لمصطفى سعيد بأنه رجل غريب رغم سودانيته /
وأنه تزوج بحسنه دون أن يكترث أهلها بأصله ؟ لقد أشار الكاتب إلى هذه القضية بصورة أعمق في مجتمع الرقيق ك بنت مجذوب في هذه الرواية ومعاملة السودانيين لهم ك موسئ الاعرج وعنصرية البدو تجاه الكل كما في أسطورة عرس الزين " إن هذه الإشارات تعيد قرأه مفهوم الهوية السودانية ، الافرقانية والعربية / والصرع الحاد القائم بينهما ومحاولة أيجاد هوية مستقرة متفق عليها دون تذويب شريحة او سيادتها علئ الاخزئ .
نلاحظ في هذا الفصل كل من المحاور التالية
1—فنية الراوية
2---تقييم النخبة للعلوم بناءا علئ أفضليتها لبناء المجتمعات النامية
3---الانضباط والعدل كأساسين لقيادة الدولة والبني التحتية / القرية /
نلاحظ المحور الأول / فن الراوية/ والذي أفردنا له فصل لاحق في القطع الفني في قول البطل للراوي " جدك يعرف السر " مثلا ليواصله في موقع مناسب في فصل لاحق فربط الفصلين يبعضهما ليثير تفاصليهما في مخيلة القارئكوحدة عضوية واحده كما أشار الراوي ايضا إلى غرفة البطل المثلثة السقف كظهر الثور حينما زاره بدعوة منه .
تتكررهذه الإشارة على مدى الراوية فتوحي بعمق وخطورة هذه الغرفة المباينة لبيوت قرية ود حامد اذ بناها البطل على نمط البيوت الانجليزية . نقول إن الإشارة إلى هذه الغرفة / العميقة الإسرار/ كالبطل نفسه كما وصفه محجوب صديق الراوي تأخذ عمقاً فنياً في الراوية لأنها تتكرر مغرية بفحواها التي لايكتشفها الراوي إلا في نهاية القصة .
2__إما المحور/ الإشارة الثانية فيما يخص ( العلوم ) وتفضيلها في بناء المجتمعات النامية فنقراها في حديث البطل للراوي بأن العلوم النظرية ليست ذات فعالية قصوى كالعلمية والتقنية لاسيما في بناء المجتمعات النامية الخارجة لتوها من مرحلة الاستعمار كالسودان
3—إما الإشارة الثالثة_ الانضباط والنظام والعدل كأسس لقيادة المجتمع / الدولة/ فقد صرح بها البطل في اجتماع لمشروع بقرية ود حامد ، هنا ينتقد الكاتب على لسان الراوي السلطة المرموز إليها بلجنة المشروع بود حامد وهذا نقد للفوضى واللاعدل
" قال مصطفى ، إن النظام في المشروع أمر مهم وإلا اختلطت الأمور وسادت الفوضى ، وكان على أعضاء اللجنة خاصة إن يكونوا قدوة حسنة لغيرهم فإذا خرقوا القانون عوقبوا كسائر الناس ولما فرغ من كلامه هز اغلب أعضاء اللجنة رؤوسهم استحساناً وصمت من عناهم الكلام ----أنه أحقهم برئاسة اللجنة لكن ربما لأنه ليس من أهل البلد لم ينتخبوه " هنا نلاحظ ثانية / أزمة الهوية و نقرا الإشارة إلى نقد المقاييس المجحفة التي تعزل النخبة المفكرة عن تولى المناصب الريادية ،لأنها لا تنتمي إلى قوميةو هوية معينة، كما حدث للبطل في لجنة المشروع_ أنه احقهم برئاسة اللجنة لكن ربما لأنه ليس من أهل البلد لم يعينوه ....._