ظهور البطل واختفاءه … بقلم: امير حمد _برلين

 


 

د. أمير حمد
2 January, 2010

 

التقى الراوي البطل مرات عدة  مع أهل ود حامد أثر عودته حين  عاد من لندن بعد إكمال دراسته _ دكتوراه في الأدب ، ومرة ثانية حينما زاره البطل في منزله وانتقد الدراسات النظرية ، وفاجأه بجملة، جدك يعرف السر

ومرة ثالثة التقى به في اجتماع لجنة المشروع ومرة رابعة حينما دعاه البطل إلى منزله وتركزت في مخيلة الراوي هيئة غرفته المحدودبة السقف

كالبيوت الانجليزية وليس كبيوت أهل قرية ود حامد.

أما المرة الخامسة فهي المحور الأساسي والمنعطف الخطير في كل هذه الرواية إذ تنتقل الأحداث والأقدار دفعة واحدة بسرد البطل للراوي سيرة حياته آثر أن قرأ شعرا بالانكليزية وهو مخمور في مجلس شرب أقامه محجوب صديق الراوي ، قص البطل للراوي سيرة حياته خيفة إن يذيع بسره فقد تقفاه البطل متيقنا بأنه شخص آخر غير الذي تعارف عليه أهل قرية ود حامد .

في مجلس الشرب هذا نلاحظ ظاهرة (الحلف بالطلاق) المتداولة بين السودانيين وقد أدرجها الكاتب بين السطور كإحدى الظواهر السلبية المتفشية في المجتمعات القروية كسلطة الرجل على المرأة، وتجنب الرجل الغريب "....... دعاني محجوب إلى مجلس شراب وبينما نحن نسمر جاء مصطفى ليكلم محجوب في شأن من شؤون المشروع ، دعاه محجوب أن يجلس فاعتذر ولكن محجوب حلف عليه بالطلاق مرة أخرى لاحظت سحابة التبرم تنعقد ما بين عينيه، ولكنه جلس ...... دفن مصطفى قامته في المقعد ، وأمسك الكأس بكلتا يديه ....... ثم فجأة سمعته يتلو شعرا  انجليزيا بصوت واضح  ونطق سليم ، قرأ قصيدة وجدتها فيما بعد بين قصائد الحرب العالمية الأولى :

هؤلاء نساء فلاندروز

ينتظرن الضائعين ينتظرن الضائعين أبدا لن يغادروا الميناء

 ينتظرن الضائعين  أبدا الذين  لن يجيء بهم القطار إلى أحضان

  هؤلاء النسوة ، ذوات الوجوه الميتة

 ينتظرن الضائعين الذين يرقدون موتى في الخنادق والحاجز،

   والطين في ظلام الليل

  هذه محطة تشارنغ كروس ، الساعة تجاوزت الواحدة، ثمة ضوء  ضئيل

    ثمة ألم عظيم ...."

لقد قرأ البطل هذه القصيدة وهو مخمور مما يدل على تعمقها في ذاته وتجذرها فيه حتى في حالة اللاوعي . ,بالتأمل في هذه القصيدة نجد أن خيبة الانتظار، ومأساة الحرب والموت تخيم فوقها وما البطل مصطفى سعيد إلا ضائعا كهؤلاء الضائعين ينتظر سدىً  الخلاص من ربقة ألمه  في حياته المزدحمة بالانتحارات والقتل وفقدانه للحب كما سنرى لاحقا.

لقد اختار الكاتب هذه القصيدة الممثلة لصورة  الجدوى ومأساة الحروب، وخص منها الحرب العالمية الأولى التي تمثل المرحلة التي عاشها البطل في مرحلة الاستعمار.  إن البطل كأحد أبناء جيل الاستعمار كان يمثل دور الثائر والمتحدي ، بل والغازي للغرب المستعمر في عقر داره كما سنرى لاحقاً .إن اختيار الكاتب لدراسة الراوي للشعر ، ومفاجأته من ثم بقراءة البطل للشعر الانجليزي في قرية لا تعرف الانجليزية هو أحد العناصر الناجحة في تلاءم وتناغم الأحداث .

لقد كان لقاء الراوي بالبطل في المرة الخامسة، وسماعه له وهو يتلو الشعر مخمورا مفتتحا للرواية الشارحة لسيرة البطل ( هل أحدث أبي، هل أقول لمحجوب ؟ لعل الرجل قتل أحدا في مكان ما وفر من السجن لعله........... لكن أي أشرار في هذا البلد لعله فقد ذاكرته........

وأخيرا قررت أن أمهله يومين أو ثلاثة فإذا لم يأتيني بالحقيقة، كان لي معه شأن أخر. لم يطل انتظاري فقد جاءني مصطفى ذلك اليوم............)

نعم لقد افشي البطل بسره للراوي بعد أن أكد له بأنه إنسان مسالم، وبكامل قواه العقلية، ويحب الخير لأهل قرية ود حامد.

في ختام هذا الفصل دعا البطل الراوي إلى منزله وقص عليه سيرة حياته. أراه البطل   جواز سفره فإذا به   ممتلئ بأختام دول كثيرة، مما يدل على تجوابه أصقاع العالم.

إن هذه الرحلة الواسعة كانت كما سنرى تسويفا للموت /الانتحار/ ، الذي كان يزمع فعله   اثر اغتيال زوجته الانجليزية فقد دعته وهو يقتلها بخنجر  ليرافقها في رحلة الموت التي كانت أصلا ترغب فيها.

من ضمن التواريخ التي تلفت النظر في جواز البطل هو تاريخ ميلاده عام1898  وهو تاريخ سقوط الخرطوم واندحار ثورة المهدية من قبل الاستعمار الانجليزي .

احتفى البطل في إحدى فيضانات النيل العارمة " كان النيل قد فاض ذلك العام أحد فيضاناته تلك التي تصبح أساطير يحدث بها الآباء أبنائهم .."لم

يبت الكاتب في انتحار  البطل غرقا, بل ترك المؤشرات كلها تدل على غرقه.

هنا نقرأ ( الإيحاء ) في أسلوب الكاتب وتركه الحوادث مفتوحة لشحذ خيال ألقارئ . مثلما ظهر البطل فجأة في حياة الراوي تعملق فيها و ظل طيفا أبديا يلاحقه حيثما حل, فالراوي مثلا في هذا الفصل  يلتقي  شخصيات تعرف البطل وتتذكره تماما, فيأخذ البطل  طابع الشخصيات المرموقة والمعروفة على مستوى القطر.......

نجح الكاتب في رسم شخصية البطل كشخصية معروفة وسهل بذلك الانتقال سريعا إلى عالمه فما أن سنحت السانحة بذكر  حادثة كانت  أو شخصية أو مرحلة معينة إلا  وحالم يصبح البطل بؤرة الأحداث .

 في نهاية الأمر, استسلم أهل ود حامد  لوفاة البطل  غرقا ( أخلدوا إلى الرأي لابد قد مات غرقا وأن جثمانه قد استقر في بطون التماسيح التي يعج بها الماء في تلك المنطقة ......."

تذكر الراوي الأمسية التي قرأ فيها البطل الشعر الانجليزي وهو مخمور والأمسية الثانية حينما قص عليه سيرة حياته  وتسكعه من ثم في طرقات ود حامد الليلية محاولا التخلص من سيرة  البطل .

وكما ذكرنا فإنه  أصبح هاجسا تعملق  في حياته برمتها " لقد عشت خمسة وعشرين عاما لم أسمع به ولم أره ثم هكذا أجده في مكان لا يوجد فيه أمثاله وإذا بمصطفى سعيد رغم إرادتي جزء من عالمي فكرة في ذهني , طيف لا يريد أن يمضي في حال سبيله ..."

 

Amir Nasir [amir.nasir@gmx.de]

 

آراء