قرار التنحي.. وداعاً للجيش أم إلى لقاء؟
15 January, 2010
tigani60@hotmail.com
على الرغم من أن تنحي الرئيس عمر البشير عن منصب القائد العام للقوات المسلحة وتقاعده بالمعاش كان أمراً متوقعاً لاستيفاء الشروط القانونية لضمان ترشحه في انتخابات الرئاسة المقبلة، إلا أنه مع ذلك فقد بدا إعلان الخبر مساء الاثنين الماضية عشية فتح باب الترشيح مفاجئاً لبعض الأوساط السياسية، وبالضرورة في أوساط العامة، وأطلق العديد من التكهنات والتساؤلات حول طبيعة هذا القرار ومغزاه وما الذي يمكن أن يترتب عليه، وبالطبع هناك من رأى الأمر تحصيل حاصل بحسبانه خطوة رمزية منتظرة لا تنطوي على دلالات ذات مغزى معين.
ما من شك أن اعتبارات التأهيل القانوني للترشح للانتخابات الرئاسية هي التي أملت هذا التطور المتوقع، ولكن مع ذلك فإنه من الصعب تصور إقدام المشير عمر البشير على إنهاء حياته العسكرية بالتقاعد بعد أكثر من أربعين عاماً من الخدمة في المؤسسة العسكرية هي مسألة عادية يمكن أن يمر عليها مرور الكرام، ولاشك أن الأمر ينطوي على الكثير من الدلالات السياسية المهمة، صحيح أن الخطوة أملتها ضرورة الإجراءات الانتخابية، ولكنها تلفت في الوقت نفسه إلى تطور مهم في المعادلة السياسية التي ظلت تحكم البلاد على مدى العشرين عاماً الماضية.
ومن المهم الإشارة هنا قبل المضي في تحليل هذه الخطوة ودلالاتها السياسية إلى أهمية قراءة الجوانب الفنية المتعلقة بهذا القرار مما يساعد على فهم أفضل لمضمونه وما يترتب عليه.
ومن هذه الجوانب الفنية نشير إلى أن قانون القوات المسلحة لعام 2007، في باب القيادة والسيطرة ينص على تراتبية في هرم المؤسسة العسكرية تتكون من أربعة مستويات الأولى هي القائد الأعلى، ثم وزير الدفاع، ثم القائد العام. ورئاسة هيئة الأركان المشتركة.
والقائد الأعلى هو رئيس الجمهورية بحكم منصبه، حيث ينص القانون على أن «تكون القوات المسلحة تحت القيادة العليا لرئيس الجمهورية»، ويحدد اختصاصاته ب « تحديد الهدف السياسي العسكري، إصدار توجيهات السياسة العسكرية للوزير، إعلان الحرب وفق أحكام الدستور والقانون، إعلان حالة الطوارئ أو الاستنفار وفقاً للدستور والقانون».
أما وزير الدفاع التالي في ترتيب هرم القيادة فيعينه رئيس الجمهورية، وينص القانون على أن سلطاته «دون المساس بالقيادة العليا لرئيس الجمهورية المنصوص عليها في المادة 8 تكون للوزير الاختصاصات الآتية، إعداد وتنفيذ السياسات والخطط والبرامج الاستراتيجية ومشروعات إعداد الدولة للدفاع، إعداد واعتماد مقترحات الميزانية ومتابعة اجازتها والإشراف على إدارة أموال القوات المسلحة وفقاً لقانون الاجراءات المالية والمحاسبية لسنة 2007 والقوانين ذات الصلة، التصرف في الميزانية بالكيفية التي تحقق الأغراض والأهداف العامة المتعلقة بالقوات المسلحة بما يضمن ترشيدها وحسن إدارتها واستغلالها الأمثل، مسؤولية الأداء العام للقوات المسلحة أمام السلطة التنفيذية والتشريعية، التخطيط والإشراف على إمداد القوات المسلحة بكافة احتياجاتها وإبرام العقود والاتفاقيات المتعلقة بذلك، تمثيل القوات المسلحة في جميع الأجهزة والهيئات والشركات المتصلة بعمل القوات المسلحة .
إنشاء وتولي المسؤولية عن مؤسسات التنمية الاقتصادية والبشرية التي تعين القوات المسلحة في تنفيذ مهامها، مسؤولية العلاقات الدولية ذات الصلة، إجازة وإصدار اللوائح والنظم، أى مهام أخرى تكلفه بها جهة أعلي مختصة.
ويأتي في المرتبة الثالثة في هرم قيادة القوات المسلحة القائد العام الذي يعينه رئيس الجمهورية، ويحدد القانون سلطاته ومهامه «دون المساس بسلطات القائـد الأعلى ووزير الدفـاع يختص القائد العـام بالآتي: تنفيذ سياسة الدفاع الوطنية والسياسات الأخرى ذات الصلة بالدفاع، تقدير الموقف الاستراتيجي العسكري وتنفيذ المهام الاستراتيجية، الإشراف علي تنفيذ خطط الاستخدام والتوزيع الاستراتيجي للقوات وتولي التوجيه الاستراتيجي لتحقيق هذه الأهداف، الإشراف على إعداد الخطط والبرامج اللازمة لتمكين القوات المسلحة من أداء مهامها وواجباتها وتنظيمها وتحديثها لتحقيق ذات الأهداف، تعيين رئيس وأعضاء رئاسة الأركان المشتركة بالتشاور مع الوزير وموافقة القائد الأعلى».
وتأتي في المرتبة الرابعة في تراتبية قيادة القوات المسلحة رئاسة الأركان المشتركة، وبالطبع فإن صلاحياتها ومهامها ذات طابع فني.
وبحسب هذه النصوص القانونية فإن تفسير القرار الرئاسي يعني تنحى المشير البشير عن منصب القائد العام، الثالث في تراتبية قيادة الجيش، ولا يعني بالضرورة انقطاع صلته بالمؤسسة العسكرية حيث يظل محتفظاً بمنصب القائد الأعلى، الأول في هيكل القيادة والسيطرة، بحكم منصبه رئيساً للجمهورية.
ولعل تنحي البشير عن منصب القائد العام يصحح وضعاً شاذاً داخل المؤسسة العسكرية يتعارض مع القانون، فالبشير كان يحتفظ بمنصبي القائد الأعلى والقائد العام، وحسب القانون فإن وزير الدفاع مرؤوس للقائد الأعلى، ولكنه رئيس للقائد العام، وحسب القانون فإن مجلس وزارة الدفاع يرأسه الوزير، فيما يتولى القائد العام منصب نائب الرئيس. وهو ما يشير إلى خلل قانوني في الوضع الذي كان قائماً.
والذين يرون في تنحي البشير عن موقع القائد العام مسألة رمزية، بالإشارة إلى استمرار نفوذه قائداً أعلى، يلفتون النظر إلى عدم صدور قرار بتعيين قائد عام جديد وإجراء عملية تسليم وتسلم وفق الأعراف العسكرية المتبعة، وهي ملاحظة تبقى صحيحة بالطبع حتى يتم ملء الموقع بتعيين من يشغله، ولكنها أيضاً مسألة غير جوهرية لجهة أن من يعين القائد العام هو رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة. فضلاً عن أن تقاعد البشير عن الخدمة لا يسلبه رتبة المشير التي سيظل متمتعاً بها بما في ذلك إرتداء الزي العسكري.
هذا من شأن انعكاس قرار التنحي والتقاعد الرئاسي على وضعية القيادة العسكرية للقوات المسلحة، أما في شأن الدلالات السياسية للقرار فإنه على الرغم من أنه صدر بين يدي فتح باب الترشيح لانتخابات الرئاسة إلا أنه يجب الإشارة إلى أن الأمر لا يتعلق بقانون الانتخابات مباشرة لأنه لا يتضمن نصاً من ضمن شروط التأهل للترشح للرئاسة بشأن الوظيفة أو الموقع الذي يشغله المترشح سواء كان عسكرياً أو مدنياً، ولكن الخطوة أملاها التحسب للطعن في المرشح إذا كان يتولى منصباً يخالف قانون القوات المسلحة لعام 2007، أو قانون الأحزاب السياسية لعام 2007 أيضاً، فقانون القوات المسلحة ينص في باب تكوين القوات المسلحة وهياكلها المادة 5 / «1» على أن « القوات المسلحة قوات نظامية قومية التكوين، احترافية وغير حزبية»، وبالطبع لا يمكن ألا تكون القوات المسلحة إلا حزبية إذا كان قائدها العام رئيساً لحزب سياسي، وبالتالي لم يكن هناك من مناص إلا أن يتنحى البشير، رئيس حزب المؤتمر الوطني، عن منصب القائد العام، خشية أن يتعرض ترشيحه لطعن دستوري.
أما قانون الأحزاب السياسية لعام 2007، فينص في باب تكوين الأحزاب السياسية بشأن الحـق في تكـوين الأحزاب السياسية، المادة 12 / 1 على أنه « يكون لكل سوداني بلغ الثامنة عشرة من العمر الحق في المشـاركة في تأسيس الأحـزاب السياسـية وعضويتهـا والانضمام إليها»، غير أنه نص في البند الثاني «لا يجوز لأي من المذكورين أدناه المشاركة في عضوية أي حزب سياسي أو الانضمام إليه خلال فترة توليه لمنصبه، أفراد القوات النظامية، القضاة بالسلطة القضائية المستشارون القانونيون بوزارة العدل، القيادات العليا في الخدمة المدنية ،
الدبلوماسيون بوزارة الخارجية». وبالتالي فإن بقاء رئيس المؤتمر الوطني في موقع القائد العام للقوات المسلحة يخالف بوضوح نص هذه المادة مما يجعله هدفاً للطعن في أهليته للترشيح.
بيد ان السؤال هنا أنه وبالإشارة إلى النصوص الواضحة في هذين القانونين الساريين منذ العام 2007، فإن القرار الرئاسي بالتنحي والتقاعد جاء متأخراً للغاية لتصحيح وضع مخالف للقانون وهو يجعل المؤتمر الوطني يتحمل المسؤولية السياسية عن ذلك، ويقدح في مدى التزامه بالقانون، فإذا كان الحزب الحاكم لا يأبه للتقيد بحكم القانون، فكيف له أن يفرض ذلك على غيره من القوى السياسية، وليس بعيداً عن الأذهان الإجراءات المستندة على تبريرات قانونية التي رافقت مظاهرات المعارضة الشهر الماضي. والحكمة التقليدية هي أن العدل أساس الملك، والناس جميعاً متساوون أمام القانون.
والواقع فإن ما أوردناه آنفاً يسري أيضاً على الحركة الشعبية، الشريك في السلطة، ومن المؤكد أن الخطوة التي أقدم عليها المشير البشير، وإن جاءت متأخرة وهي على كل حال أفضل من ألا تأتي أبداً، تضع الفريق أول سلفا كير على المحك، فماذا هو فاعل؟، فهو يشغل إلى جانب منصبه نائباً أول للرئيس، ورئيساً لحكومة الجنوب، وقائداً أعلى للجيش الشعبي، كذلك منصب القائد العام مما يخالف أيضاً القانون، وفي الحقيقة لا أدري على ماذا ينص قانون الجيش الشعبي، ولكن وجوده في رئاسة الحركة الشعبية، وفي موقع القائد العام للجيش الشعبي تشكل مخالفة صريحة لقانون الأحزاب السياسية لعام 2007، والسؤال هل يقدم على تصحيح وضعه القانوني مثلما فعل المشير عمر البشير، أما يتجاهل الأمر تماماً ولا يحفل بذلك، على اعتبار أنه لا ينوي الترشح لرئاسة الجمهورية، وأن ترشحه لرئاسة حكومة الجنوب، شبه المستقل، لا يجعله خاضعاً لقانون الأحزاب السياسية، على أية حال هذه مجرد افتراضات حتى يتضح موقف الفريق أول سلفا كير، ولكن من المؤكد أنه في حالة عدم تنحيه عن منصب القائد العام للجيش الشعبي فإن من شأن ذلك أن يخلق أزمة دستورية تزعزع العملية الانتخابية، المواجهة اصلاً بتحديات كبيرة.
من المؤكد ان المشير البشير أقدم على خطوته هذه وهو مطمئن إلى وضعه سواء في زعامة حزبه، أو في استمرار نفوذه في المؤسسة العسكرية، ولكن هل يملك الفريق أول سلفا كير المعطيات نفسها التي توفرت للبشير ليقدم على خطوته- أم أن حسابات الأوضاع داخل الحركة الشعبية مختلفة مما يجعله يؤثر التمسك بكل المناصب التي يتولاها حتى يضعف من سلطته ونفوذه بغض النظر عن التعقديات السياسية المحتملة التي ستترتب على ذلك، وبالطبع فإن حذو الجنرال سلفا كير حذو المشير البشير يمثل عاملاً إيجابياً لصالح ممارسة سياسية بأقل قدر ممكن من التجاوزات القانونية والسياسية، وتوفر على البلاد المتوترة أصلاً بفعل تداعيات وتبعات الاستحقاقات المصيرية المقبلة المزيد من أسباب التوتر.
ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن اتفاقية السلام الشامل تنص في برتوكول اتفاقية قسمة السلطة في باب «السلطة التنفيذية القومية» المادة 2 / 3 / 5 إلى أنه «إلى حين عقد الانتخابات سيكون الرئيس الحالي أو خلفه هو الرئيس والقائد الأعلى للقوات المسلحة السودانية، ويكون الرئيس الحالي للحركة الشعبية لتحرير السودان أو خلفه هو النائب الأول للرئيس فضلاً عن تقلده منصب رئيس حكومة جنوب السودان والقائد الأعلى للجيش الشعبي لتحرير السودان»، وهو ما يشير إلى اتفاق نادر بين الشريكين في مخالفة مسكوت عنها لأحد بنود الاتفاقية باحتفاظ زعيمي الطرفين بمنصب القائد العام كل في جيشه.
ويبقى وجه آخر مهم في قراءة الدلالة السياسية لقرار البشير بالتنحي والتقاعد وفق المعادلة التي تمت، هذه المرة على صعيد الوضع الداخلي لحزب المؤتمر الوطني عامة، وللحركة الإسلامية خاصة، وكما هو معلوم فإن واحداً من الأسباب المبكرة التي زرعت بذور الشقاق في أوساط الإسلاميين بعد الانقلاب العسكري في عام 1989، كان الخلاف بشأن وضعية العسكريين في سلطة الانقاذ، فالدكتور حسن الترابي كان يرى أن يتقاعد العسكريون الذين يريدون الانخراط في العمل السياسي عن خدمتهم بالقوات المسلحة، وهو ما استجاب له بعضهم، في حين أصرت الأغلبية على الاحتفاظ بخدمتهم العسكرية وعدم التخلي عن دورهم السياسي وعلى رأسهم البشير، فعلى خلفية بداية التصدع في صفوف قيادات الانقاذ منذ العام 1992، بدأت عملية بناء النفوذ داخل الجناحين، وكان طبيعياً أن يرى العسكريون في بقائهم داخل المؤسسة العسكرية ضماناً في وجه محاولات اقصائهم من السلطة بعد ان استتب الامر دون اعتبار لإقدامهم على تحمل المسؤولية الأكبر بالمشاركة في التنفيذ وفي توفير غطاء للانقلاب. فضلاً عن أن العسكريين رأوا في المساندة الشعبية التي حظوا بها في تلك الفترة تمنحهم مشروعية خاصة، وشعبية تتجاوز قواعد الإسلاميين.
واللافت أن بوادر الانشقاق في وسط الإسلاميين لم تكن بين المدنيين والعسكريين. ولكن الخلاف دب في الأساس بين المدنيين بين «الشيخ وأصفيائه الأقربين»، وانتهى لما هو معروف من مفاصلة، ولكن المهم في هذا الخصوص أن المدنيين المنشقين على شيخهم لما يجدوا مناصاً من الاصطفاف وراء البشير، صحيح أنهم حاولوا الاستفادة من نفوذه العسكري في حسم الصراع لصالحهم، ولكن رمزية البشير القيادية تجاوزت التكتيك المرحلي لهذه المجموعة لتتحول إلى زعامة مطلقة للنظام الانقاذي وليد مشروع الحركة الإسلامية السياسي.
وفي الواقع فإن الاصفياء المنشقين على زعامة شيخهم، لم ينجحوا في تحقيق ما فشل فيه أيضاً، وهو استخدام العسكريين غطاءً لتمرير أجندتهم السياسية، فقد أثبت البشير مجدداً أن العسكريين اكثر ذكاءً من المدنيين وقدرة في لعبة السلطة، وليست هذه هي المرة الوحيدة التي ينقلب فيه السحر على الساحر، فالانقلابات العسكرية التي حكمت السودان جاءت كلها بتدبير قوى حزبية، ولكن كانت دائماً ما تؤول سلطتها في نهاية الأمر للعسكريين، وهو أيضاً ليس بدعاً في العالم العربي ومعلوم ما جرى للأحزاب العقائدية التي راهنت على الجيش استعجالاً للتغيير..
عن صحيفة (إيلاف) السودانية