واشنطن في انتظار شئ ما سيحدث في السودان … بقلم: خالد التيجاني النور
6 February, 2010
tigani60@hotmail.com
أعاد تصريح الرئيس الامريكي باراك أوباما الذي تناقلته وكالات الأنباء العالمية الأيام الماضية الذي لوح فيه بفرض المزيد من العقوبات على الحكومة السودانية على خلفية تعثر جهود عملية السلام في دارفور, أعاد فتح الباب لتساؤلات وتكهنات بشأن الأجندة الحقيقة للاستراتيجية التي أعلنتها إدارته في أكتوبر الماضي, ورؤيتها لطبيعة العلاقة مع السودان في ظل المعطيات السياسية الراهنة.
وعلى الرغم من أن السياق التي أوردت فيه وكالات الأنباء التصريح بدا وكأنه ينقل خبراً عن خطوة جديدة تعتزم فيها إدارة أوباما فرض عقوبات جديدة تعلى السودان, إلا أن القراءة المتأنية لمتن كلام اوباما في إجاباته على أسئلة طرحت عليه عبر موقع يوتيوب الالكتروني, تشير إلى أنه أراد التذكير بمواقف إدارته التي طرحتها في استراتيجيتها بشأن السودان, والوضع في دارفور خصوصاً, أكثر من أنه يتحدث عن إجراءات جديدة لإدارته بهذا الصدد. إذ يلاحظ أن أوباما حدث في أجوبته عن احتمالات وليس عن موقف محدد فقد قال بشأن جهود الولايات المتحدة لتحقيق السلام في دارفور (في حال لم تستجب الحكومة السودانية فسيكون من المناسب استنتاج ان اسلوب التواصل غير ناجح وان علينا ان نمارس ضغطا اضافيا على السودان من اجل تحقيق اهدافنا), مضيفاً أنه (في حال تحركت الحكومة السودانية لتحسين الاوضاع على الارض ودفع عملية السلام ستكون هناك حوافز، كما انها في حال لم تفعل فستكون هناك ضغوط متزايدة من الولايات المتحدة والامم المتحدة). وتمنى اوباما أن (تتوصل كافة الاطراف الى اتفاقات لمعالجة المأساة الانسانية في هذه المنطقة). وختم اوباما حديثه بالقول إن (الخطوة القادمة في هذا الوضع الصعب هي اجراء كل الوساطات الممكنة للتوصل الى اتفاق سلام دائم بين المتمردين الذين ما زالوا في دارفور وبين الحكومة السودانية).
والقراءة المتمعنة في هذه الأجوبة مهمة لجهة أنها تكشف بوضوح أن الرئيس أوباما كرر المواقف نفسها التي أوردها في بيانه الذي أصدره عند إعلان إدارته لاستراتيجيتها تجاه السودان قبل نحو ثلاثة اشهر, ولم يعلن أنه بصدد اتخاذ إجراءات جديدة محددة لفرض عقوبات على السودان, ولا تعدو أن تكون أكثر من تذكير باستراتيجيته حيال السودان والتي ترتكز على سياسة الحوافز التي تشجع على التعاون والعقوبات في حال استمرار الوضع (المفجع والصعب للغاية في دارفور) على حد وصف أوباما.
ولعل السؤال الذي يقفز للأذهان هنا ما هي دلالة هذه التصريحات في هذا التوقيت بالذات ما دام أنها حمالة أوجه ولم تتضمن مواقف جديدة, وهل للأمر صلة بمفاوضات الدوحة المتعثرة, أم بالمحكمة الجنائية الدولية وقد جاءت قبل أيام من موعد قرارها بشأن استئناف المدعي العام لويس مورينو أوكامبو لإضافة تهمة ارتكاب الإبادة الجماعية للائحة اتهاماتها للرئيس عمر البشير, أم للأمر صلة بالانتخابات العامة الوشيكة في السودان؟.
من المهم الإشارة هنا إلى أن الخارجية الأمريكية ذكرت في بيانها بشأن استراتيجية أوباما تجاه السودان في 19 أكتوبر الماضي (سيقوم المسؤولون الكبار في عدد من الوكالات بتقييم مجموعة من مؤشرات التقدم أو تفاقم الأزمة كل ثلاثة أشهر، وسيتضمن التقييم الخطوات المتدرجة لتعزيز الدعم للتغيرات الإيجابية وعدم تشجيع التراجع. فالتقدم نحو تحقيق الأهداف الاستراتيجية سيجر معه خطوات تهدف إلى تقوية عزيمة من يطبقون التغيير. والإخفاق في تحسين الأحوال سيجر معه مزيدا من الضغط على من يرفضونه), وقد مر أسبوعان منذ انتهاء فترة الأشهر الثلاثة منذ إعلان الاستراتيجية دون أن تعلن الإدارة الأمريكية عن إجراء التقييم الدوري المفترض, أو على الأقل إلاعلان عن نتائج هذا التقييم إذا أجري بالفعل.
ويبدو أن ذلك قد أثار أنزعاج مجموعات الضغط الأمريكية المهتمة بالمسألة الدارفورية, إذ تشير معلومات أن الأسئلة التي أجابها عليها الرئيس أوباما, والتي طرحت عليه عبر موقع يوتيوب الالكتروني, ليست في الواقع سوى جزء من حملة تقودها مجموعات الضغط هذه لتذكير الإدارة بتعهداتها بهذا الشأن. وقد رأت الوقت يمضي دون أن توفي إدارة أوباما بما قطعته على نفسها في استراتيجيتها حيال السودان.
وقد كشف المبعوث الرئاسي الامريكي للسودان الجنرال اسكوت قريشن شيئاً من هذا حيث اصدر بياناً الجمعة الماضية بعد مرور أسبوع واحد على انتهاء فترة الاشهر الثلاثة الأولى من إعلان الاستراتيجية ذكر فيه أنه عقد اجتماعات مع ثلاثة أطراف من الناشطين في المسألة الدارفورية. في العشرين من يناير أي بعد يوم واحد من انتهاء فترة الاستراتيجية الأولى اجتمع قريشن مع ممثلي جماعات الضغط الرئيسية الأربعة (تحالف انقاذ دارفور), و(مشروع كفاية), و(شبكة التدخل ضد الإبادة الجماعية), ومجموعة (الإنسانية المتحدة).
وعقد المبعوث الأمريكي في اليوم التالي مائدة حوار مستديرة مع ثلاثين من المنظمات الإنسانية غير الحكومية العاملة في دارفور, ثم عقد في وقت لاحق اجتماعاً مع ممثلين ل(الشتات الدارفوري), وبالطبع كان الحوار مع هذه المجموعات المختلفة منصباً على ما تراه تقاعساً من قبل الإدارة الأمريكية في الوفاء بتعهداتها تجاه الوضع في دارفور, وللضغط عليها لاتخاذ إجراءات ضد الحكومة السودانية.
والملاحظ أن الجنرال قريشن اكتفى في تعليقه على هذه المداولات مع مجموعات الضغط الدارفورية بإيراد عبارات بلاغية من قبيل (كان الأسبوع الماضي وقتاً لمناقشة الانعكاسات, ووقتاً للاستماع), وقال إنه منذ إعلان اسراتيجية أوباما (دفعنا الأمور بالسرعة الكاملة لتطبيقها, وإنجاز تقدم في السودان), لكنه لم يقل شيئاً يشير إلى النتائج المحرزة تحديداً, وانتهى بعد سرد أنباء اجتماعاته مع هذه المجموعات إلى القول بأنها كانت قيمة, وأن الرؤى التي طرحتها كانت مفيدة, وأنه سيأخذ في الاعتبار الأفكار والمقترحات, والأمور التي تثير قلقها في حسبانه (ونحن نضغط باتجاه تنفيذ الاستراتيجية لتحقيق السلام والاستقرار والإزدهار في السودان).
والواضح من سياق تصريح أوباما, وكذلك تصريح مبعوثه الخاص الجنرال قريشن, أن الإدارة الأمريكية ليست بصدد إعلان موقف محدد تجاه الحكومة السودانية في الوقت الراهن على الرغم من انقضاء فترة التقييم الأولى المقررة للاستراتيجية المعلنة, كما يشير إلى أنها ليست بصدد اتخاذ إجراءات محددة طبقاً لذلك, هذا على الرغم من أن واشنطن شددت بين يدي إعلان استراتيجيتها في الإلحاح على أهمية عنصر الزمن, وقد حذر أوباما نفسه في بيانه من أن السودان ( سيقع في مزيد من الفوضى إن لم يكن هناك تحرك سريع).
والجدير بالتذكير هنا أن أوباما حدد في بيانه أنذاك أن أولويته الأولى هي دارفور, والثانية الجنوب حيث ذكر (أولا ينبغي أن نسعى إلى وضع حد نهائي للصراع وانتهاكات حقوق الإنسان والإبادة في دارفور. وثانيا ينبغي تطبيق اتفاق السلام الشامل بين شمال وجنوب السودان من أجل خلق إمكانية سلام طويل الأمد), ومع ملاحظة حدوث تقدم كبير في مسألة الجنوب بالتطورات المهمة التي حدثت خلال الأشهر الثلاثة الماضية بإقرار القوانين اللازمة نحو التطبيق الكامل لاتفاقية السلام الشامل, خاصة قوانين الاتسفتاء على تقرير المصير والمشورة الشعبية للمناطق الثلاثة, فإنه لم يحدث أي تقدم يذكر بشأن الأولوية الأولى لأوباما وهي إنهاء أزمة دارفور, فمفاوضات الدوحة تراوح مكانها ولا تبدو هناك بارقة أمل في حدوث مفاوضات تفضي إلى تسوية نهائية, والمفارقة في هذا الخصوص أن الولايات المتحدة لم تقم بجهود حقيقية لدعم المفاوضات وتأمين جلوس الأطراف إلى مائدة التفاوض, خاصة في ظل غياب ضغوط قوية على الحركات المسلحة في دارفور التي تتسبب شروطها المسبقة فضلاً عن تشرذمها من استئناف المفاوضات بصورة جدية, ومن الصعب إلقاء اللوم, حسب المعطيات الموضوعية الراهنة, على الحكومة السودانية في عرقلة المفاوضات.
وما يثير التساؤلات حول جدية واشنطن في تحريك المفاوضات للوصول إلى تسوية سريعة للأزمة أنها تتخذ موقف المتفرج مما يحدث في الدوحة, ولا يبدو أنها مستعجلة فعلاً لضمان حدوث اختراق في العملية التفاوضية, فالمبعوث الخاص الجنرال قريشن أطلق تصريحاً لافتاً بوصفه ما يجري في الدوحة بأنه مجرد (علاقات عامة), في إشارة واضحة للتقليل من شان جهود التسوية الجارية هناك, والسؤال هو ما هي الخطوات الفعلية والضغوط التي تعهدت واشنطن بفرضها على الطرفين للتوصل إلى تسوية سريعة للأزمة؟, في الواقع لم تفعل شيئاً محدداً واكتفاء الجنرال قريشن بدور المعلق على ما يحدث دون اكتراث لعامل الزمن والإلحاح الذي تتحدث عنه واشنطن يؤكد ما ذهبنا إليه في مقالنا الاسبوع الماضي من أن تسوية أزمة دارفور ممنوعة بفيتو من واشنطن قبل الانتخابات العامة المقررة في أبريل, لأن حدوث اتفاق سلام شامل في دارفور في هذا الوقت بالذات يمنح حافزاً كبيراً للرئيس البشير المصر على دخول السابق الرئاسي متحدياً إجراءات المحكمة الجنائية والموقف الغربي المساند لها.
وقراءة مجمل مواقف الإدارة الأمريكية هذا يشير إلى ان واشنطن لا تريد اتخاذ أية مواقف حاسمة قبل الانتخابات, ويبدو أن حساباتها تعول على معطيات معينة متوفرة لها تشير إلى حدوث تطور ما في السودان قبل إجرائها, أو أنها تتوقع أن إجراء الانتخابات, التي تؤكد حرصها على إجرائها على الرغم من تحفظات الحركة الشعبية والمعارضة عموماً, قد تفضي إلى حدوث تغيير مهم في الخريطة السياسية, وفي معادلات السلطة الراهنة في السودان, ولذلك يبدو أن إدارة أوباما تفضل التريث في الوقت الراهن, ولذلك فوتت موعد المراجعة الدورية الأولى لاستراتيجيتها التي تتضمن ضرورة اتخاذ إجراءات محددة بحوافز أوعقوبات, حسب مدى تجاوب الخرطوم معها, وحاولت في الوقت نفسه التجاوب مع ضغوط لوبيات دارفور في الحد الأدنى بتصريحات تعيد التأكيد على منطلقات الاستراتيجية دون المضي إلى حد اتخاذ إجراءات واضحة.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن استراتيجية أوباما حيال السودان تبدو وكأنها تنحو مذهب (الواقعيين) الذين يعتبرون أن وصوله إلى البيت الأبيض يحسب لصالح رؤيتهم في السياسة الخارجية الأمريكية التي يرون أن الغرض منها يجب أن يكون لصالح (إدارة العلاقة مع الدول), إلا أن مجريات الأمور التي تشير إلى عدم حدوث تقدم مهم في عهد أوباما بين واشنطن والخرطوم, التي رحبت كثيرا بمقدمه وتفاءلت بمبعوثه قريشن, تؤكد أن سياسة أوباما هي اقرب إلى منهج المحافظين الجدد الذين تسيدوا عهد بوش الإبن الذين يعتقدون بان الغرض من إدارة السياسة الخارجية هي (تغيير طبيعة الدول), وليست إدارتها بطريقة إدارة الأعمال, وهو ما أعرب عنه أحد أهم صقور المحافظين الجدد بول وولفويتز الذي اعتبر في مقال له بمجلة (فورين بوليسي) أخيراً إلى أنه لا يمكن تجاهل المسائل المنعلقة ب(طبيعة الدول) في إدارة السياسة الخارجية الأمريكية ( لان التكوين الداخلي للدول له تأثير ضخم على سلوكها الخارجي, لذلك يجب ان يكون لها اعتباراً ذا مغزى في إدارة السياسة الخارجية الأمريكية).
والمعطيات المتاحة الآن في شأن العلاقات السودانية الأمريكية تشير إلى أن أوباما يتبنى في الواقع استراتيجية المحافظين الجدد في عهد بوش الإبن الهادفة إلى تغيير (تغيير طبيعة الدولة السودانية) وليس التعاطي معها بمعادلاتها الراهنة بدليل أن كل محاولات الخرطوم لخطب ود واشنطن بداية بالتعاون اللامحدود معها في حربها ضد الإرهاب, ومروراً بتبني الوصفة الأمريكية لتسوية قضية الجنوب, والتجاوب مع جهود تسوية أزمة دارفور لم يؤد أبداً إلى ما ترجوه الخرطوم تطبيع علاقاتها مع واشنطن, لأن المطلوب أمريكياً (تغيير طبيعة الوضع) وليس التعاطي معه إلا في حدود ما هو مطلوب لتحقيق ذلك.
عن (صحيفة إيلاف) السودانية
الأربعاء 3 فبراير 2010