في ذكرى الاديب الراحل الطيب صالح _عام على وفاته

 


 

د. أمير حمد
24 February, 2010

 

 

ثانيا  لغة الرواية  :

 

ما يميز لغة هذه الرواية هو شاعريتها . وتداخلها مع الأحداث والشخصيات في وحدة فطرية " دمج " لا تتميز بين شخصية أو حدث أو حوار , الأمر الذي يعني أن لغة الرواية تجاوزت دورها كوسيط , تعبير عن الأحداث ورسم الشخصيات لتكون هي "عنصر" مستقبل في حد ذاته .بالتدقيق في لغة الرواية هذه نجدها تعددت في مستويات السرد مباشر , إلى منولوج داخلي , ورسائل , وأتوبغرافية , وذكريات واستشراف للمستقبل كما هو حال الراوي والبطل . لقد كثف الكاتب الصور , والتشبيهات لبيئة الرواية فكان المشبه كالمشبه به من بيئة واحدة كما وصف الكاتب الجد المزارع البسيط والمتصوف على لسان الراوي " إنه ليس شجرة سنديان شامخة وارفة الفروع في أرض   منت عليها الطبيعة بالماء والخصب , ولكنه كشجيرات السيال في صحاري السودان سميكة اللحى حادة الأشواك لا تقهر الموت لأنها لا تسرف في الحياة . وهذا وجه العجب فقد عاش – أصلا – رغم الطاعون والمجاعات والحروب وفساد الحكام وها هو الآن في عامه المائة .... يقفز فوق الحمار نشطا ويمشي في غبش الفجر من بيته إلى المسجد........."

 

نجد في هذه الرواية من القيم الفينة  الكثير من ما   يحتاج إليه الفن العظيم . فعبارتها الجميلة , تعتمد على لغة عربية في غاية الصفاء والأناقة والشاعرية غنية بالأضواء والظلال , مليئة بالشحنات العاطفية , بعيدة عن التبذير والثرثرة . وموقف الطيب صالح من الحوار في هذه الرواية هو موقف  يستعين بروح اللهجة العامية ويحافظ على الصياغة الفصيحة البسيطة والروح الشعبية الأصيلة , دون أن تضيع لهجة محلية صعبة معقدة .مثالنا على ذلك الحوار الذي دار بين الراوي ومحجوب صديقه حينما انتحرت حسنة وألم بالراوي حزن عميق 

 " يا للعجب , يا بني آدم اصح لنفسك , عد لصوابك, أصبحت عاشقا آخر الزمن . جننت مثل ود الريس . المدارس والتعليم رهفت قلبك , تبكي كالنساء , أما والله عجيب. حب ومرض وبكاء , إنها لم تكن تساوي مليما , لو لا الحياء ما كانت تستاهل الدفن , كنا نرميها في البحر , ونترك جثتها ل.....

 

ولنقف أمام بعض النماذج والمقاطع المختلفة من هذه الرواية , فسوف نرى فيها قدرة الكاتب والفنان على الوصف , وسوف نلمس بين السطور شاعرية أصيلة نادرة وصياغة فنية للأسلوب العربي ... لا شك أنها صياغة منفردة بشخصيتها الخاصة ....

يقول الطيب في وصفه للصحراء "

" هذه الأرض لا تنبت إلا الأنبياء . هذا القحط لا تداويه إلا السماء . هذه أرض اليأس والشعر .

وعندما كان مصطفى سعيد بطل الرواية يحاكم في لندن وقف يقول , وما أروع ما يقوله الفنان على لسان بطله "

" إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة , وقعقعة سنابك خيل "اللنبي " وهي تطأ أرض القدس . البواخر مخرت عرض النيل لأول مرة تحمل المدافع لا الخبز , وسكك الحديد أنشئت أصلا لنقل الجنود, وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم . إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل , جرثومة مرض فتاك أصابهم أكثر من ألف عام " نعم يا سادتي إنني جئتكم غازيا في عقر داركم . قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ . أنا لست عطيلا عطيل كان أكذوبة".

 

هذه النماذج كلها تكشف لنا ما في حوار الطيب صالح وأسلوبه وتصويره للشخصيات والمواقف من عذوبة وخصوبة وغنى فني وفكري عظيم .

وفي الرواية فوق ذلك كله امتزاج خصب أصيل بين فضائل الرواية التقليدية مثل التصوير الدقيق العميق للشخصيات وخلق الحكاية الممتعة التي تشد الأنفاس حتى النهاية , وفضائل الرواية الحديثة التي تعتمد على تصوير الأحلام والعالم الداخلي للإنسان . لقد استخدم الطيب صالح في روايته جميع الأساليب المناسبة في مزيج فني سليم خصب وأصيل . ولذلك جاءت روايته في النهاية رواية عصرية من ناحية , ولكنها من ناحية ثانية تفوح بالأصالة والارتباط بالتراث الروائي العربي والعالمي معا .

 

Amir Nasir [amir.nasir@gmx.de]

 

آراء