واشنطن والخرطوم ترقصان على أنغام تانغو الأنفصال … بقلم: خالد التيجاني النور
2 April, 2010
tigani60@hotmail.com
في خضم الجدل المحتدم الذي يغشى الساحة السياسية السودانية هذه الأيام بين يدي الانتخابات العامة الوشيكة، وتشاكس القوى السياسية بشأن موعد الاقتراع بين الداعين بإصرار لإجرائها في توقيته المضروب وبين المنادين بتأجيلها لأشهر ستة أخرى ، دلق المبعوث الرئاسي الأمريكي إلى السودان الجنرال سكوت قريشن ماءً بارداً على هذا الجدل المحموم بتصريحات بالغة الأهمية تكشف مدى غربة الطبقة السياسية، المنخرطة في صراعات عبثية، عن الأجندة الحقيقية التي ترسم مستقبل السودان بعيداً عن إرادة أهله بسبب غيبة وعي قادته وانصرافهم عن مخاطبة التحديات الحقيقية التي تجابه البلاد وتحدد مصيرها ومستقبلها.
وأهمية التصريحات التي نقلتها «رويترز» عن الجنرال قريشن يأتي من كونها المرة الأولى، بعد نحو عام من بعثته، وستة أشهر من إعلان استراتيجية أوباما، التي يكشف فيها المبعوث الأمريكي صراحة عن توجهات وأجندة سياسات الإدارة الديمقراطية تجاه السودان، صحيح أن بعض الإفادات التي أدلى بها قريشن ليست جديدة تماماً، ولكن توقيت إعلانها والكشف كذلك صراحة عن مواقف جديدة كان التعبير بشأنها تلميحاً أو ملتبساً، توفر معطيات جديدة لإعادة قراءة وتحليل استراتيجية أوباما تجاه السودان المعلنة في 19 أكتوبر الماضي.
لقد أعاد الجنرال قريشن التأكيد في تصريحاته على أهمية إجراء الاقتراع في الانتخابات العامة في الموعد المحدد لها منتصف أبريل، وهو بالطبع موقف أمريكي معلوم وجرى التأكيد عليه أكثر من مرة في الأشهر الماضية بما في ذلك في بنود إستراتيجية أوباما، غير أن الجديد هنا أن إعادة التأكيد على هذا الموقف في هذا التوقيت بالذات التي تزداد فيها ضغوط القوى السياسية السودانية المنادية بتأجيل الانتخابات إلى نوفمبر، يشير إلى أن واشنطن تتجاهل بوضوح تام مطلب هذه القوى السياسية المعارضة، ومع أن المبعوث الأمريكي أقرّ بوجود مشكلات في ترتيبات العملية الانتخابية، لكنه قال إنها مع ذلك يجب أن تجرى في موعدها، متجاوزاً مبررات دعاة التأجيل بقوله « إن الانتخابات يجب أن تجرى بطريقة يراها الناس أنفسهم جديرة بالثقة»، وهو كلام عابر غير ملزم ولا يعدو أن يكون من باب المجاملة.
وبالنظر إلى أن هذا الاستحقاق الانتخابي يعد جزءاً مهماً في ترتيبات اتفاقية السلام الشامل المكفولة بضمانات دولية، وتأتي على رأس الضامنين الولايات المتحدة عراب معادلة التسوية، وهو الذي يجعل الدور الخارجي لاعباً أساسياً، بل رئيسياً، في وضع قواعد اللعبة السياسية في السودان وكذلك إدارتها، فإنه مما لا شك فيه أن هذا الموقف الأمريكي الصريح الداعي لإجراء الانتخابات في الموعد المضروب، يوجه ضربة قاسية لجهود دعاة تأجيل الانتخابات، ويحرمهم من استخدام ورقة الضغوط الخارجية في مواجهة المؤتمر الوطني الساعي بقوة لمنع التأجيل. كما أن ذلك يضعف من خيارات المعارضة في حالة الرفض شبه الأكيد لمذكرتها. ولعل الهجوم العنيف الذي شنه السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة على الولايات المتحدة إلى حد اتهامها بـ«الترويج لفوز المؤتمر الوطني لتمرير مخططها لتمزيق السودان» يشير إلى جانب من حجم خيبة أمل المعارضة في الموقف الأمريكي الداعم لإجراء الانتخابات في توقيتها ولو جاءت معيبة.
ولكن السؤال لماذا تبدي إدارة أوباما كل هذه الحماسة لإجراء الانتخابات السودانية في وقت تشير فيه أغلب الدلائل إلى أن الرئيس عمر البشير هو الأوفر حظاً بالفوز فيها، على الرغم من أنها تحمله شخصياً مسؤولية ما حدث في دارفور والذي تنفرد بوصفه إبادة جماعية وهي تهمة أسقطها قضاة الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية في مواجهته، وإن أعيدت إليها للنظر فيها مجدداً بحكم دائرة الاستئناف.
ينظر الكثيرون من القوى الغربية المؤيدة للمحكمة الجنائية الدولية إلى ترشيح البشير في هذه الانتخابات بمثابة تحد لها، وتقليل من هيبة المحكمة وقيمتها، ولكن مع ذلك تدعم واشنطن، المؤيدة لإجراءات المحكمة في مواجهة البشير، انتخابات تدرك ولا شك من خلال المعطيات المتاحة في الحملة الانتخابية الحالية أنه يتجه بقوة للفوز بها. وهو ما يدعو لطرح تساؤلات حول المبررات التي تدعو الإدارة الأمريكية لغض الطرف عن هذه الملابسات في ضوء النتيجة المحتملة للانتخابات، فهل ثمة صفقة ما غير معلنة بين الطرفين جرى تمريرها تحت الطاولة؟، وهل ترى واشنطن في فوز البشير، على الرغم من كل هذه العوامل المعقدة، أمراً مهماً ومساعداً في تحقيق استراتيجيتها تجاه السودان؟.
والولايات المتحدة ليست وحدها من يقف في صف إجراء الانتخابات في موعدها، ولو جاءت معيبة، ولو أتت بالبشير رئيساً، فالاتحاد الأوروبي كذلك لا يرى مندوحة من إجرائها، بل ويرسل اكبر بعثة مراقبة في تاريخه للسودان، مما يزيد الغموض بشأن المبررات الحقيقية للدعم الغربي لقيام الانتخابات السودانية على الرغم من كل الجدل الذي يحيط بها، ونتائجها المتوقعة.
ربما يحمل تصريح الجنرال قريشن بعض الجديد مما يمكن أن يعطي تفسيراً للموقف الأمريكي المثير لاستغراب المحللين، فعلى الرغم من أن التأكيد على إجراء الانتخابات في موعدها ليس موقفاً جديداً لإدارة أوباما، إلا أنها المرة الأولى التي يتم الربط فيها مباشرة بين ذلك ومستقبل وضع في جنوب السودان عقب الاستفتاء على تقرير المصير المقرر في التاسع من يناير المقبل كحد أقصى، ومع أنه أقرّ بالمشكلات التي تواجه العملية الانتخابية إلا أنه أكد على ضرورة إجرائها في موعدها، والغرض من ذلك كما أعلن صراحة «حتى تتكون الهياكل الديمقراطية اللازمة لعلاج القضية الخاصة بوضع جنوب السودان الذي سيتحدد في استفتاء في يناير المقبل».
ليس ذلك فحسب فقد عبّر المبعوث الامريكي صراحة عن «أمل الولايات المتحدة في أن تمهد انتخابات الشهر القادم في السودان السبيل إلى طلاق مدني لا حرب أهلية بين الشمال والجنوب.
ومضى قائلاً «إن الولايات المتحدة مستعدة لأي انفصال في نهاية الأمر قد يُسفر عنه الاستفتاء، موضحاً أنها تعمل لحلّ القضايا الخلافية أملاً في تفادي تكرار الحرب الأهلية التي استمرت عقدين وانتهت قبل خمس سنوات».
وأكد أن واشنطن بدأت فعلا تأخذ في الحسبان احتمالات انفصال الجنوب
وتابع المبعوث الأمريكي «بالنظر الى الحقائق على الارض، فان الاحتمال كبير ان يختار الجنوب الاستقلال»، مؤكدا أن واشنطن تركز الان على محاولة ضمان الانتقال السلمي «ما نحاول عمله الان هو فعل ما في استطاعتنا الان، ثم عمل التعديلات التي نحتاج اليها.
وأضاف قريشن إن القضايا التي تجري دراستها تشتمل على مسألة المواطنة، وتعيين الحدود، وكيفية تقسيم عائدات الثروة النفطية للسودان التي ينتج جزء كبير منها في الجنوب، ولكنها تشحن الى الخارج عبر الشمال، قائلاً نبحث عن «صيغة يفوز فيها الجميع. وأشار إلى أن ذلك سيكون صعباً تحقيقه إذا لم تكن حكومة الخرطوم مستعدة لمناقشة شروط أفضل للجنوب قائلاً «لا أرى أن الشمال مضطر لإعادة غزو الجنوب وبدء الحرب مرة أخرى، وإذا استطعنا حل هذه القضايا، فإنني أعتقد أن الاحتمالات جيدة.
من سياق هذه الاقتباسات المطولة من تصريحات الجنرال قريشن فإننا أمام خريطة طريق واضحة المعالم بشأن مستقبل السودان تكشف عن حقيقة أجندة استراتيجية أوباما وتحدد خياراتها التي كانت مفتوحة على احتمالات متعددة غداة إعلانها قبل نحو ستة أشهر.
ومن الواضح من هذا السياق أن انفصال جنوب السودان وفق هذه الرؤية الأمريكية بات في حكم الأمر الواقع، وأن ما تحاول واشنطن فعله الآن هو كيفية ضمان حدوثه بشكل سلمي سلس، وأن حماسة واشنطن لإجراء الانتخابات في أبريل لا صلة بها بمسألة التحول الديمقراطي بل هي هي مجرد محطة لازمة ومهمة لضمان عبور جسر الاستفتاء، وتمرير عملية الانفصال دون عوائق، أو منغصات تعيد إنتاج الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب. وأن واشنطن، والقوى الغربية بصورة عامة، مستعدة للتضحية بموقفها من مسألة المحكمة الجنائية الدولية، ولو إلى حين، وأن تقبل على مضض بحكم الأمر الواقع وحساباته على الأرض من أن فرص فوز البشير بالرئاسة بالفعل هي كبيرة للغاية، في غياب بديل قادر على تغيير المعادلة السياسية وموازين القوة الراهنة في الخرطوم، لتحول هذا المأزق من خانة الأزمة إلى صفقة جديدة بأن تغض الطرف عن موقفها من البشير، وأن لا تقف حجرة عثرة أمام انتخابه، أو تعرقله، مقابل أن يسهم ذلك في التزام المؤتمر الوطني بإكمال مستحقات اتفاقية السلام، وأن تكف عن وضع العراقيل أمام طموحات الحركة الشعبية للحصول على دولة مستقلة، وأن تسهل عملية انفصال الجنوب، وهي صفقة تحقق الفوز للطرفين، وتؤكد ما ذهينا إليه في مقالة سابقة من أن الانتخابات العامة التي أقرتها اتفاقية السلام عند منتصف الفترة الانتقالية مفصلة في الواقع على مقاس الشريكين، وأنها تهدف إلى مكافأتهما، وأن تحافظ على الحد الأدنى من معادلة اقتسام السلطة بينهما حتى يمضي تنفيذ الاتفاقية إلى غايته، ولا تهدف هذه الانتخابات بأي حال إلى تحول ديمقراطي حقيقي قد يفضي إلى تغيير قواعد اللعبة وتعديل موازين القوة مما يهدد التزامات اتفاقية السلام التي لا ضامن حقيقي لها إلا طرفاها. لأن دخول أطراف جديدة في اللعبة قد يعيد خلط الأوراق من جديد في وقت حساس بالنسبة للحركة الشعبية على وجه خاص.
.
والسؤال هو هل إعلان المبعوث الرئاسي الأمريكي أن بلاده باتت تتحسب جدياً لانفصال الجنوب، بل وتعمل بوضوح من أجل أن يتم ذلك بشكل سلمي، هل يشكل هذا موقفاً مستجداً في الأجندة الأمريكية؟ أم أن مسألة تقسيم السودان وشرذمته بداية بتشجيع انفصال الجنوب هي سياسة أمريكية راسخة حان آوان تنفيذها؟. من الصعب الإجابة على هذا السؤال في غياب معطيات محددة وأدلة ملموسة، فقد سبق أن سألت دبلوماسياً أمريكياً رفيعاً قبل بضعة سنوات قبل توقيع اتفاقية السلام الشامل عن موقف بلاده الحقيقي من وحدة السودان، هل تريده موحداً، أم تريد فصل الجنوب، وكانت إجابته أن واشنطن تفضل بقاء السودان دولة موحدة، ولكنها يمكن أن تتعايش مع وضع ينفصل فيه الجنوب، ولعل ذلك يقدم تفسيراً أقرب لنهج السياسة الأمريكية البراغماتية، ولعل واشنطن التي قدمت معادلة التسوية الأساسية في اتفاق مجاكوس الإطاري «نظامان في دولة واحدة» بعد قبولها، خلافاً لموقف دول إيقاد، بضرورة الاعتراف بهوية الشمال الإسلامية مقابل هوية علمانية للجنوب، كانت تأمل في أن تفضي ديناميات العملية السياسية إلى صيغة تتجاوز ثنائية الهوية إلى وضع خارج التصنيفات الدينية يؤمن وحدة السودان، ولكن ذلك لم يحدث بسبب ضعف الحركة الشعبية عن إثبات قدرتها على اختراق الشمال، خاصة بعد الرحيل المفاجئ لزعيمها قرنق صاحب القوة الدافعة للسودان العلماني الموحد، حيث انكفأت جنوباً وأصبحت مجرد حركة جهوية تفتقر لروح المغامرة للتغيير مكتفية بانتظار توديع رهانها على السودان الجديد على أبواب الاستفتاء المفضي إلى الاستقلال.
ويبدو أن الإدارة الأمريكية وجدت نفسها مضطرة تحت ضغط قيادة الحركة الشعبية وإرادتها المصوبة للانفصال، إلى التعايش مع هذا الخيار بحكم الأمر الواقع، والذي لا يعني بالضرورة أنه يمثل خيارها الحقيقي، فواشنطن مهما تملك من أسباب القوة إلا أنها لا تستطيع أن تجبر الحركة الشعبية على قبول خيار الوحدة ما دام أنها ليست مستعدة للقتال من أجله.
وبالطبع هناك وجهة نظر أخرى تعتقد أن فصل الجنوب ليس مفروضاً على واشنطن، بل هو أحد مؤامرات السياسة الأمريكية لتمزيق السودان وإضعافه نحو ما حدث في العراق وأفغانستان كما ذهب إلى ذلك إمام الأنصار وزعيم حزب الأمة السيد الصادق المهدي في تصريحه الذي أوردناه آنفاً، ويذهب بعض دعاة نظرية المؤامرة إلى حد الزعم بأن مصرع قرنق لم يكن قضاءً وقدراً بل اغتيالاً لحرمان البلاد من داعية متحمس للسودان الجديد الموحد وتغييب قيادته الكارزمية في وقت تتحدد فيه مصائر الوحدة والانفصال.
على أي حال بعيداً عن هذه الافتراضات فإن الواقع المعاش يشير إلى أن مسألة انفصال جنوب السودان باتت حاضرة بقوة في أجندة سياسات الولايات المتحدة، وأن ذلك يرتبط بشكل وثيق بالاستحقاق الانتخابي وإصرارها على قيامه في موعده، وبالعودة إلى استراتيجية أوباما بشأن السودان التي أعلنها في أكتوبر الماضي وحدد لها ثلاثة أهداف رئيسية هي تسوية أزمة دارفور، وإكمال تنفيذ اتفاقية السلام في الجنوب، وألا يتحول السودان إلى ملاذ آمن للإرهاب، فقد تضمنت كذلك حزمة من الحوافز والعقوبات التي أبقيت طي الكتمان، لتستخدم حسب التقدم أو التراجع عن تحقيق أهداف الاستراتجية، وتحدثت عن مراجعة دورية كل ثلاثة اشهر للاستراتيجية، وفي الواقع مر الربع الأول في يناير الماضي وسكتت إدارة أوباما عن إجراء تلك المراجعة في وقتها ربما انتظاراً لما تسفر عنه الانتخابات التي يوافي موعدها منتصف أبريل الربع الثاني لإجراء تلك المراجعة. فهل يا ترى يأتي إصرار واشنطن على إجراء الانتخابات في موعدها، ضد مطالب المعارضة السودانية، ومتماشياً مع تمسك الرئيس البشير بإجرائها في ضوء فرصته الكبيرة بالفوز، في إطار الحوافز غير المعلنة التي تبنتها استراتيجية أوباما، مقابل صفقة لتمرير مسألة الاستفتاء والانفصال بلا عراقيل؟.
مهما يكن من أمر فإن المعطيات المتاحة التي تشير إلى نوع من التماهي في مواقف الإدارة الأمريكية، والمؤتمر الوطني من مسألة إجراء الانتخابات في موعدها، مع الأخذ في الاعتبار أن ذلك يصب في صالح الحزب الحاكم كما يشير إلى ذلك دفاعه المستميت عنها، ومن الصعب تصور أن هذا التوافق مجرد مصافة، فالأجندة التي تريد واشنطن المضي فيها قدماً لإزالة أية عوائق أمام انفصال الجنوب، كما حدد ذلك الجنرال قريشن، تتطلب وجود شريك مستعد لذلك، فهل المؤتمر الوطني مستعد لتحمل مسؤولية استخدام فوزه في الانتخابات لتمزيق البلاد، وهو على أي حال ما يرميه به خصومه علانية؟. لا يبدو المؤتمر الوطني في الوقت الراهن آبه لغير تحقيق الفوز بأي ثمن.
عن صحيفة (إيلاف) السودانية
الأربعاء 31 مارس 2010