بداية السياسة.. تغيير جذري من أجل الإصلاح الاقتصادي …. بقلم: خالد التيجاني النور

 


 

 

 

 انتهت، في كل أنحاء العالم، تلك الحقبة التي كانت تمارس فيها السياسة بحسبانها سوقاً لـ«طق الحنك» وإطلاق الشعارات الجوفاء، لقد أعادت التطورات على الساحة العالمية تعريف السياسة ذات القيمة الحقيقية بأنها القدرة على الإدارة الاقتصادية الفعالة والكُفأة للموارد المحدودة بحيث تحقق الرفاهية للمواطنين، لتضع بذلك معايير جديدة لنجاح وفشل الدول، والدور المحوري الذي يلعبه الاقتصاد كرافع أساسي للعمل السياسي لم يعد أمراً محل جدل، وأينما جلت ببصرك رأيت الاقتصاد يستحوذ كل اهتمام وأجندة الحكومات والسياسيين، يستوي في ذلك الدول الديمقراطية العريقة أو تلك الباحثة بجد عن التحول نحو الديمقراطية وحتى تلك النظم الدكتاتورية العتيقة التي تحسب في توفير الرفاهية الاجتماعية شأناً يغني مواطنيها عن الالتفات لتسلطها وسلبها لحرياتهم، ومن يتابع الانتخابات التي تجري في أركان الدنيا الأربعة يجد أن القضايا الاقتصادية هي محور حملات البرامج السياسية كما أنها مناط الترجيح بين الأحزاب المتنافسة.

ومن بلد تفرد بقوة اقتصادية هائلة انطلق شعار «إنه الاقتصاد يا غبي» الذي ذهب مثلاً بعدما أطلقه جيمس كارفيل الذي أدار الحملة الانتخابية لبيل كلينتون في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 1992م، في مواجهة حملة الرئيس جورج بوش الأب الذي أطلق شعارات من أجل إعادة انتخابه تذكر بالانتصارات التي حققها التحالف الدولي الواسع الذي قادته الولايات المتحدة في حرب الخليج الأولى لتحرير الكويت من الغزو العراقي.

ولكن الرئيس بوش الأب، السياسي المخضرم الخبير بكواليس السلطة في واشنطن، والبطل الذي كسب الحرب الباردة بانهيار المعسكر الاشتراكي في عهده، والقائد الذي كسب الحرب الساخنة على ضفاف الخليج العربي خسر فرصة إعادة انتخابه لصالح كلينتون، حاكم أركنسو، فقط لأن مستشاري السياسي الشاب أدركوا أهمية العامل الاقتصادي في حياة الناخب الذي يتحسس جيبه فزعاً في ظل وضع اقتصادي منذر بالخطر يتفاقم فيه عجز الخزانة، فيما تناسى مستشارو المخضرم بوش حال الاقتصاد وراهنوا على مجد الزعامة والبطولة.

ومنذ دخول كلينتون البيت الأبيض بفضل شعار «إنه الاقتصاد يا غبي» حتى صار مثلاً سار بذكره المحللون وحملة الأقلام كلما أرادوا أن يؤكدوا على أهمية ومحورية الاقتصاد في حياة الناس، وأنه ليس بوسع زعيم أن يسلك طريق المجد إن ظن أن ذلك لا يمر عبر الاهتمام بمعاش غمار الناس، وبسعي الصالحين لعمران الأرض.

وتأكدت محورية الهم الاقتصادي مجدداً في انتخابات الرئاسة الأمريكية العام قبل الماضي، وربما لو لم تتفجر الأزمة المالية بذلك الإندفاع قبل أقل من شهرين من موعد الاقتراع لما أمكن أن يصبح أمريكي إفريقي سيداً للبيت الأبيض في سابقة تاريخية، وقد كشف ثلثا من صوتوا له أنهم فعلوا ذلك لاعتبارات تتعلق بالوضع الاقتصادي المتردي الذي تسببت فيه إدارة بوش وكبدت الجمهوريين أسوأ هزيمة عرفها حزبهم.

ولا نريد اقتباس المثل لنرمي به أحداً هنا، ولكن نأمل في الاتعاظ بعبرته، فالناظر بتبصر في شأن الأحوال الاقتصادية في السودان، لا يخطئ حين يجزم أن الخطر الحقيقي الوشيك الذي يتهدد البلاد فعلاً لا قولاً إنما يأتي من ثغرة الاقتصاد المفتوحة أبوابه على مصاريعها بلا حراسة متيقظة واعية مبصرة لأزمات تتعدد عناوينها وأسبابها ونتيجتها واحدة.

فقد بقي السودان وحده من يغرد خارج السرب، فقد جرت الانتخابات هنا، واختلفت القوى السياسية المتصارعة في كل شيء وحول كل شيء، غير أن الثابت هو أن الغائب الوحيد في خضم هذا الجدل المحموم كانت هي هموم وشؤون الاقتصاد السوداني، نعم تطرقت برامج بعض الأحزاب المكتوبة لقضايا اقتصادية، ولكنها في الواقع لم تكن أكثر من مجرد عناوين عريضة ومن باب الديكور لإظهار الاهتمام، ولكنها لم تشكل أبداً بُعداً محورياً في تلك البرامج على النحو الذي تستحقه على الرغم من الأهمية البالغة للعناية بالشأن الاقتصادي، كما أنها لم تطرح أفكاراً جديدة خلاقة ولافتة للاهتمام تجعلها محطاً لأنظار الناخبين.

وهناك ألف سبب كانت تدعو لأن يجد الشأن الاقتصادي ما يستحقه من اهتمام في الحراك المحتدم في الساحة السودانية، تمتد من عدم كفاءة وفعالية الفريق الحكومي الممسك بهذا الملف مما تظهره نتائج الأداء الاقتصادي المتواضع للدولة الذي لا يتناسب إطلاقاً مع الموارد الكامنة الضخمة التي يتمتع بها الاقتصاد السوداني مما يشير إلى العجز الواضح عن استغلال هذه القدرات، وانتهاءً بالتحدي الكبير الذي ستواجهه البلاد، شمالاً وجنوباً، إن أفضى الاستفتاء على تقرير المصير إلى الانفصال في وقت ليست هناك أي استعداد جِدِّي لمواجهة الآثار الخطيرة التي سيخلفها على الطرفين. كما أن بقاء البلاد موحَّدة لا يعني بالضرورة أنها ستكون بمنأى من الأثار السلبية للأداء الاقتصادي المتواضع للدولة.

ومظاهر الأزمة الاقتصادية التي بدأت تضرب البلاد أوضح من أن تحتاج إلى تعداد أو إبراز دلائل عليها، فقد ضرب الكساد الأسواق حتى كادت تتوقف حركة البيع والشراء، وأصبحت السيولة في ندرة لبن الطير، وقيمة العملة الوطنية آخذة في التدهور حتى أنها في غضون عام واحد تكاد تفقد نحو نصف قيمتها، وتراجعت معدلات الإنتاج التي كانت مرجوة للمنتجات الزراعية في ظل برنامج النهضة الزراعية الذي كان الرهان عليه لا يقبل الخسارة. وقد أظهرت نتائج التجارة الخارجية للعام الماضي تواصل الأداء المتدني للصادرات الزراعية على الرغم من الأموال الطائلة التي أنفقت في برنامج النهوض الزراعي. هذا دعك من تفشي البطالة وغلاء الاسعار المتصاعدة على نحو جنوني حتى في سلع يفترض أنها منتجات محلية وتعتمد عليها حياة المواطن، ولربما كان الحال سيكون أسوأ بكثير لو استمر تدهور أسعار النفط، فقد ساعد عودتها للارتفاع إلى التقليل من الآثار البالغة السوء جراء اعتماد الحكومة في غالب موارد موازنتها، ومعظم حاجتها من النقد الأجنبي على النفط.

ولعل الأسوأ قادم، فالذين يعتقدون أن انفصال الجنوب هو مجرد نزهة ويستعجلون للتخلص مما يظنونه عبئاً، سيكتشفون أن الشمال الذي لم يستعد لهذا الاحتمال كما ينبغي كان هو العبء الحقيقي على موارد النفط الأتي معظمها من الجنوب، وأنه سيواجه مصاعب لا مثيل لها في ظل أداء اقتصادي عجز عن الاستفادة من سنين الوفرة في تمتين دعائم قطاعات الإنتاج غير الناضبة.

والمشكلة هنا لا تتعلق بحقيقة وجود الأزمة التي يواجهها الاقتصاد السوداني فحسب، بل بمردها الذي يعزى لإنكار وجود مشكلة أصلاً مع ميل المسؤولين الحكوميين عن الإدارة الاقتصادية للتعظيم من شأن إنجازات مهما كانت مهمة لكنها بأي حال لا تعطي إجابة ناجعة لما ينبغي أن يكون عليها الحال، وكذلك لوجود أزمة عميقة في طريقة إدارة الأزمة، وعياً بها وإدراكاً لتبعاتها وخططاً ناجعة لمعالجتها، وأول آفة في هذا الشأن «حالة الإنكار الدائم» الطاغية في ذهنية صناع القرار الاقتصادي، إنكار أن هناك مشكلة، بل إشاعة أجواء تفاؤل بوجود نهوض اقتصادي لا يسندها الواقع المعاش، ولا الأرقام الدالة على ذلك، والعبرة هنا ليست بتحقيق إنجاز هنا أو هناك، بل بمجمل الأوضاع الاقتصادية مقارنة بالموارد المتوفرة للبلاد والفرص المتاحة والمقارنة مع تلك الدول التي لا تملك شروى نقير مما يملكه السودان من موارد طبيعية ومع ذلك حلَّقت بعيداً في سماء النهوض الاقتصادي، مما يؤكد أن المشكلة ليست هي عدم توفر الموارد ولكن في غياب العقليات الخلاقة والقيادة الفعالة ذات الإرادة الواعية والتصميم على تحقيق قفزات نوعية وليست مظهرية.

وليس في ما أوردناه آنفاً تجنياً على أحد، فقد نشر صندوق النقد الدولي على موقعه في شبكة الإنترنت منتصف العام الماضي «خطاب حسن نية» من الحكومة السودانية تطلب فيه تعاونه، بأن يضع برنامجها الاقتصادي تحت مراقبته لثمانية عشر شهراً حتى نهاية العام الجاري، والواقع فإن الخطوة في حد ذاتها ليست جديدة، ولا هي المرة الأولى التي ترسل فيها الحكومة السودانية «خطاب حسن نية» طالبة التعاون مع الصندوق ووضع برامجها الاقتصادية تحت رقابته، إذ أنه أمر معهود منذ أن استعاد السودان عضويته المعلقة في مطلع العقد الحالي، ودخل في تعاون معه في برامج تهدف للمحافظة على استقرار الاقتصاد الكلي، ومعالجة ديون السودان الثقيلة.

غير أن الجديد هذه المرة في خطاب «حسن النية» هو اعتراف مسؤولي الإدارة الاقتصادية في البلاد بصورة واضحة ولا لبس فيها بتأثر السودان بالأزمة العالمية مما أدى إلى «تقلص عائدات النفط بشدة، وتقلص الاستثمارات الخارجية المباشرة»، وذهب الخطاب أبعد من ذلك حين طلب إخضاع السياسات والإجراءات الاقتصادية المالية التي تنوي الحكومة اتخاذها لتقليل آثار الأزمة العالمية على السودان لرقابة الصندوق، مع الاستعداد لاتخاذ إجراءات إضافية بالتشاور مع الصندوق إذا تطلب الأمر ذلك.

وكما هو متوقع فقد تلقَّف خبراء صندوق النقد الدولي الطلب الحكومي وطفقوا يوصون بوصفات الصندوق المعروفة بشدة مراراتها، وآثارها الوخيمة المجربة والتي لا تحتاج لأن تُساق عليها الأدلة، فقد عرفها السودان من قبل ومضى في التجاوب معها ولم تحقق إصلاحاً اقتصادياً قط، بل كانت سبباً مباشراً لأن يدفع غمار السودانيين ثمناً باهظاً لها على الرغم من الزعم من أن برامج الصندوق تهدف إلى تخفيف الفقر.

فقد رسم خبراء الصندوق صورة قاتمة للأوضاع الاقتصادية في البلاد على خلفية تأثير الأزمة العالمية، وتضمن برنامجهم الذي أعدوه بعد زيارتين للسودان في الأشهر الماضية، احتمالات مخيفة لمآلات الوضع الاقتصادي إذا لم يتم تداركه، لكن ما يثير الحيرة أن الإجراءات التي اقترحوها فقيرة إلى درجة كبيرة، فهي تركز على زيادة الجبايات الضريبية، وعلى تعويم سعر الصرف، وعلى الرغم من أن المسؤولين الحكوميين أعلنوا حينها رفضهم لوصفة الصندوق إلا أنهم ماضون فعلياً في تنفيذها عملياً وهو ما يتضح مثلاً من حجم التدهور الذي أصاب قيمة الجنيه السوداني على مدى الأشهر الماضية.

ومهما يكن من أمر فإن ذلك يعيد طرح تساؤلات مهمة طالما طرحت بشأن سلامة إدارة الاقتصاد السوداني سواء من ناحية السياسات، أو الأداء التنفيذي في إدارة القطاع، فقد رأى العديد من الخبراء والمهتمين أن فورة النمو التي ظلت تشهدها البلاد في السنوات العشر الماضية لم تكن دلالة على رشد السياسة الاقتصادية للحكومة بقدر ما كانت نتاج المداخيل الضخمة غير المسبوقة في الاقتصاد السوداني التي وفَّرها النفط، سواء لجهة دعم ميزان التجارة الخارجية ورفده بعائدات عملة صعبة كبيرة خاصة مع ارتفاع أسعار النفط عالمياً، أو في دعم إيرادات الموازنة، أسهمت بصورة واضحة في إغفال المشاكل الهيكيلية الحقيقة التي يعاني منها الاقتصاد السوداني.

لقد بح صوت الخبراء والمختصين وهم ينبِّهون منذ أن أطل فجر عصر النفط على البلاد من مغبة الخضوع لإغرائه، والركون إليه دون اهتمام بقطاعات الإنتاج الحقيقية في بلد يذخر بموارد طبيعية هائلة في الزراعة بشقيها، وكان محتماً أن يصاب الاقتصاد السوداني بالمرض الهولندي المعروف لأن من بيدهم أمر إدارة الاقتصاد تجاهلوا تلك النصائح ليس لعدم معرفةٍ بتبعات ذلك، فمن بينهم خبراء اقتصاديين مرموقين، ولكن لأن مشكلة الاقتصاد السوداني في عهد الحكم الحالي هي أنه لم يكن يدار بأولويات وحسابات اقتصادية، بل غلبت عليها الأجندة السياسية وحسابات الربح السياسي القصير الأمد، واستخدامها في إطالة عمر الحكم، على حساب المعالجات الاقتصادية العلمية طويلة الأثر، وقد رأينا مثالاً لذلك تلك الأموال التي أهدرت فيما عُرف بالنفرة الزراعية التي حققت فشلاً ذريعاً في تحقيق أي من أهدافها، لتستبدل لاحقاً بالنهضة الزراعية التي لم يثبت حتى الآن أنها حملت تغييراً حقيقياً يؤدي إلى نهوض فعلي، فالعقليات والآليات والأدوات نفسها التي أفشلت برنامج النفرة الزراعية هي نفسها التي تقف حجر عثرة أمام إنطلاقة ناجحة للنهضة الزراعية، ولا نطلق القول هنا على عواهنه، ويكفي مقارنة ما كان منتظراً تحقيقه وما تحقق بالفعل لنصل إلى هذه النتيجة.

وتأتي قمة المفارقة حينما سمعنا في الفترة الماضية بعد أن أفاق مسؤولو الإدارة الاقتصادية في الحكم من سكرة أموال النفط السهلة وهم ينعون على أنفسهم عدم الاستفادة من أموال النفط في تحريك قطاعات الإنتاج الحقيقية التي لا تعتمد عليها حياة أغلبية السكان فحسب، بل تشكل طوق النجاة، ومنصة الإنطلاق الحقيقة للاقتصاد السوداني، ومشكلة الحكم الإنقاذي هي آفة الإصرار على فريق محدد من المسؤولين لا ترى لهم بديلاً مهما فشلوا في مهامهم، وحتى النجاح لا يبرر الخلود في كراسي الحكم، فإدخال دماء جديدة لازم لنقل هواء جديد للعقول عسى أن تأتي بأفكار جديدة.

وليس سراً أن هناك تساؤلات كثيرة تُطرح عن أين ذهبت أموال النفط، فحسب تقارير رسمية فإن عائدات صادرات النفط في السنوات الخمس الماضية بلغت نحو أربعين مليار دولار، وإذا أضفنا إليها النفط المستهلك محلياً، وعادة ما يوازي نحو خمس الصادرات، فإن جملة عائدات النفط حققت قرابة الخمسين مليار دولار في السنوات الماضية، والسؤال هل تحققت نهضة ونمو يوازي هذه المبالغ الهائلة، يشير المسؤولون عادة إلى مشروعات التنمية العديدة التي شهدتها البلاد في الفترة الماضية، وتلك حقيقة لا مراء فيها، ولكن الثابت أيضاً أن معظم هذه المشروعات تم تمويلها بقروض خارجية وأدت من عبء الديون التي تعاني منها البلاد.

ونحن هنا لا نوجه اتهاماً ولكن نشير فقط إلى إثبات ما أوردناه سابقاً من إدارة الاقتصاد بأولويات سياسية، فترهل الجهاز الإداري للحكومة، مركزياً وولائياً، والإنفاق الضخم على الأجهزة الأمنية والعسكرية في ظل استمرار الحرب الأهلية في دارفور، فضلاً عن الصرف الضخم أيضاً على استحقاقات اتفاقية التسوية في الجنوب، وفي دارفور جزئياً والشرق وهلم جرا، كلها جعلت من إدارة الاقتصاد السوداني خاضع للطوارئ السياسية..

ومن التشوهات العميقة الأثر التي يعاني منها الاقتصاد السوداني تدخل الدولة في تفاصيل الأنشطة الاقتصادية مما جعل القطاع الخاص الحقيقي مسخاً مشوهاً موجوداً رسماً بلا دور فاعل، فعلى الرغم من أن الحكومة أعلنت رسمياً تبني سياسة التحرير الاقتصادي منذ بواكير التسعينيات، إلا أن ما يحدث فعلاً لا يعدو معنى كون أن الحكومة خرجت من الباب لتدخل من الشباك عبر شركات ومؤسسات يسيطر عليها متنفِّذون متحررون من القيود الحكومية ويتمتعون بامتيازات لا حصر لها، مما جعل القطاع الخاص مكبلاً في منافسة غير عادلة ولا شريفة، وشهدنا شركات شبه حكومية تسيطر على مفاصل العمل الاقتصادي، تعطي فتاتاً لمن ترضى بإدخاله في لعبتها، وهكذا أصبح الاقتصاد الفعلي يدار من خارج المؤسسات الرسمية دون حسيب أو رقيب، وتحوَّلت وزارة المالية والاقتصاد الوطني المنوط بها الولاية على المال العام، والولاية على إدارة الاقتصاد الوطني إلى متفرج، ومجرد إدارة خزانة، فقدت السيطرة على ولاية المال العام، وعلى إدارة العملية الاقتصادية.

ما أكثر ما يمكن أن يقال في شأن الأوضاع الاقتصادية المنذرة بخطر وخيم، وحالة الهرج والمرج السياسي التي تسود البلاد لم تترك فرصة لمعتبر في تدبُّر المآلات الخطيرة للتدهور الاقتصادي، ولئن كان دائماً من الممكن أن تفلح الفهلوة في إدارة الصراعات السياسية، ولكن من المؤكد أن إدارة الاقتصاد أمر مختلف تماماً لا تفلح معه حالة الإنكار ولا التصريحات النارية، ولا أنصاف المواقف، ولا التمنيات، فالاقتصاد علم بدائل يقوم على حسابات دقيقة، وما يحتاجه السودان أكبر من انتظار تجريب المجرب، المطلوب بصراحة تحول جذري في سياسات وإدارة القطاع الاقتصادي.

وهذا يعني أن قد آن الآوان لأن تلتفت قيادة الدولة بجدية أكثر للشأن الاقتصادي وتوليه الاهتمام والعناية القصوى التي يستحقها لأن ذلك لم يعد ترفاً، بل أمراً بالغ الجدية يتعلق به مصير الحكم نفسه واستقرار البلاد، والتهاون في التعاطي معه أو التهوين من أمره ستكون عاقبته خسراً، ولئن جاز بحساب الموازنات السياسية أن تبقي وظائف الحكومة الاساسية بلا تغيير، فإن تشكيل الفريق الاقتصادي للحكومة الجديدة يجب ألا يخضع لتلك الآلية المعطوبة المحدودة الأفق، بل يجب أن يكون خارج تلك الحسابات الضيقة لأن المطلوب تغييراً حقيقياً في إدارة القطاعات الاقتصادية للدولة من فريق تتوفر له القدرة والكفاءة وقبل ذلك الرؤية الثاقبة لوضع سياسات خلاقة وجريئة لتحريك وتفجير طاقات الاقتصاد السوداني الضخمة الكامنة، وإجراء جراحة للتشوهات الكثيرة التي تثقل كاهله، وتمكين ولايته من المال العام وإدارة الاقتصاد الوطني بنزاهة وشفافية وعدالة.

Khalid Tigani [tigani60@hotmail.com]

 

آراء