ارحموا ناس مرزوق …. بقلم: د. حسن بشير محمد نور – الخرطوم
6 July, 2010
في منتصف سبعينيات القرن الماضي عندما كنا ندرس بسنار الثانوية جاء بعض الطلاب بقصيدة لا اعرف لها صانع و بالمناسبة من الأشخاص الذين جاءوا بها شخص اسمه مرزوق و حسب ما اذكر كان من سكان داخليتنا المسماة باسم الشيخ الحكيم (فرح ود تكتوك) ، عليه الرحمة و رضوان الله. يقول مطلع القصيدة التي لا زالت رغم السنين ترن في أذني ( الناس الفوق البيتم مرمر و نقشتو زوق ، اكيد ما شافو ناس جيب الله و ما لاقوهم ناس مرزوق، لان حتي اسامي الناس فيها فواصل و بينها فروق ...) . القصيدة وقعت موقعا حسنا لدي اعداد كبيرة من الطلاب كنت منهم ، خاصة و ان المد اليساري الثوري كان حيا و جاذبا في ذلك الوقت. بالطبع القصيدة تخوض في الدلالات الطبقية للأسماء ، و شاعرها يري ان الطبقات المنعمة لا تطلق تلك الأسماء علي أبناءها. ليست بالضرورة ان تلك هي قناعتي فهذه الأسماء ذات دلالة أصيلة مرتبطة بالرزق من الله سواء ان كانت الدلالة في جيب الله او في مرزوق. يضاف لذلك ان اسم مرزوق كان ولا يزال من الأسماء المفضلة لدي طائفة من الصوفية خاصة اليعقوباب. وهم شيوخ أماجد لهم باع في الصلاح تتحدث عنه أعمال الخير و الكرامات و دونكم الشيخ التوم ود بانقا. للتعرف علي حب ذلك الشيخ يمكن النظر الي أسماء مثل بانقا و التوم خاصة في منطقة الجزيرة وولاية سنار لتعرفوا كثرة أتباعه و مريديه ، و من يجدون في سيرته ما يستحق الاحتفاء.
لا ادري لماذا تطرق كلمات تلك القصيدة البسيطة ذات المدلول العميق علي كياني بكامله هذه الأيام و انا اتفرج علي موجة الغلاء الذي لا سابق له وهو يضرب جميع السلع و الخدمات التي تدخل في حياة الناس اليومية؟. لم يترك غول الغلاء للناس مجالا ليهربوا منه فقد طال كل شيء، الاكل ، الشراب ، الخدمات من تعليم، صحة ومواصلات. بمناسبة الخدمات فان تقسيم الهيئة القومية الي خمسة شركات سيضطر المواطن لان يدفع لخمسة جهات بدلا عن جهة واحدة وهذه تكلفة كبيرة تضاف للمعيشة و الإنتاج. صدقوني لن يحدث العكس. من المفارقات المضحكة المبكية ان مدرسة وسط الخرطوم ، في حي من الأحياء التي كانت تعتبر راقية حتي سبعينيات او ثمانينيات القرن الماضي، قبل ان يضربها جدب الحياة ، هذه المدرسة، وهي مدرسة حكومية ، قامت بإغلاق المراوح فوق رؤوس التلميذات لان بعضهن لم يسدد رسوم مربوطة عليهن مقابل مصاريف تخص تسيير المدرسة. هذه المدرسة في وسط الخرطوم والدارسات فيها من بنات (ناس الخرطوم).
يقول الصديق د. مصطفي احمد حمد ، الأستاذ الجامعي والخبير المصرفي : إن محاربة ارتفاع تكاليف الإنتاج وتخفيف الضغط الحاد الذي تسببه الرسوم و الضرائب الزائدة ولفك ضائقة السيولة و قلة موارد الدولة تحتاج لان تؤول تبعية المؤسسات ذات الإيرادات والتدفقات النقدية الكبيرة لوزارة المالية من اجل ان تصب تلك الموارد مباشرة في الخزينة العامة بدلا عن الاعتماد علي ما تأتي به الجمارك من إيرادات فورية جارية يوميا. من ضمن المؤسسات التي ذكرها شركات الاتصال التي تملك الدولة اسهما كبيرة فيها، الكهرباء و التعدين . هذا الامر سيقلل من تكاليف الانتاج من وجهة نظره التي تتسبب فيها الضرائب و الرسوم الخدمية والرسوم الجمركية كما انها لا تضطر الدولة الي زيادة أسعار الوقود و التي ستكون كارثة علي الإنتاج والاستهلاك معا. هذا من وجهة نظرنا اقتراح وجيه لكنه غير قابل للتطبيق . ونصا رد عليه بروفيسور عصام بوب أن هذا مستحيلا والحكومة لا تملك سبيلا لهذا الأمر لأن هناك جهات لا تريد لتلك الموارد ان تصل الي الخزينة العامة بل تريدها ان تصب في أماكن أخري.
نؤكد هنا كما تناولنا من قبل بمناسبة افتتاح سد مروي، ان تقليل أسعار الكهرباء يقلل من تكلفة الإنتاج ويزيد من عائدات الدولة من الضرائب نسبة لارتفاع الدخول و مكاسب عناصر الإنتاج المختلفة. لكن المصالح الخاصة و المكاسب الشخصية و نظام الحوافز و الدخول خارج المرتبات لا تترك سبيلا لمثل تلك الأشياء.
الغلاء الذي طال الخضروات، اللحوم ، الزيوت والبقوليات والسكر غلاء فاحش لا يطاق. مثلا الإجراءات الخاصة بملاحقة سلعة السكر لتثبيت سعره عند مستوي معين لن تنجح في تثبيت السعر الا في مستوي يفوق المعدل العالمي مرتين او ثلاث مرات. اذا قمنا باستيراد سكر من البرازيل او كوبا و فرضنا عليه رسوم معتدلة فلن يصل سعر الجوال زنة الخمسين كيلو الي 100 جنيه باي شكل من الأشكال ، اما في الوضع الراهن فسيظل السعر يراوح مكانه ليعادل سعر جوال السكر سعر برميلي نفط من أجود الخامات في الأسواق العالمية. حتي الخبز بالمناسبة غال جدا جدا في السودان. رغيفات الخبز الخمسه ذوات الجنيه لا تكفي لإعاشة شخص واحد في اليوم. اذن استدعوا القياس لمعرفة مصير 60% من السكان الذين يعانون من فقر مدقع باعتراف الحكومة نفسها. هذه النسبة من السكان التي لا يزيد دخلها عن دولارين في اليوم ستستهلك دولار علي الأقل مقابل الخبز بحجم افتراضي للحاسرة يتكون من خمسة أشخاص ، ماذا بربكم ستفعل بالدولار المتبقي ، و كيف يمكن ان يلبي احتياجاتها؟ أضيفوا الي ذلك ان هناك نسبة معتبرة من تلك ال 60% لا تجد دولارين في اليوم ، بل قد لا يتوفر لها دولار واحد من الدخل النقدي اليومي. حسنا سنستبعد تلك النسبة التي لا يصل دخلها الي دولار في اليوم باعتبارها لا تستحق الحياة ، ماذا سيفعل شخص يحصل علي خمسة دولارات كاملة في اليوم و لديه أسرة تتكون من خمسة افراد يذهب اثنان منهم فقط الي المدرسة؟ انها معادلة صعبة غير قابلة للحل.
عبر عن هذا الواقع احد الأطباء الذين التقيت بهم في مؤسسة جديدة تسعي (لتوطين) العلاج في السودان( وهو أمر لن يتم أيضا علي ما يبدو نسبة لعدم توفر المناخ والعقلية الملائمة لذلك الهدف، و الخوف من تسرب الطاقم الطبي عائدا من حيث أتي) . سألت الطبيب العائد كيف وجدت السودان؟ ، اجاب غالي بشكل لا يطاق وأضاف، لكي يعيش الإنسان هنا لابد ان يكون حاويا. هناك مصري ، مستثمر صغير لديه كافتيريا صغيرة لكنها محترمة تجبرك علي الشراء ، تعجب ذلك المصري من الأسعار ومن الخبز بالذات و لم ينسي التنويه حتي لسعر الجرجير. ابدا هذا الغلاء لا يحتاج لحواة فحسب وانما يحتاج لأدباء لكتابة القصص و الروايات حوله لتحكي للأجيال القادمة ، يحتاج لشعراء لينظموا فيه الشعر ، يحتاج لمغنين ليغنوا له و (لطمبارة) و (حكامات) ، يحتاج لحاردلو.
الخوف كل الخوف ان يكون هذا الغلاء مرتبطا بتقرير المصير و ان الحكومة تحتاط لإيجاد بدائل للبترول الذي سيذهب مع الجنوب في حالة انفصاله المرجح. قلنا مرارا و تكرارا ان خروج البترول من الموازنة العامة سيشكل مصيرا جهنميا للمواطنين وسيلقي علي كاهلهم بعبء تئن منه الجبال الصامتة. هل تعي جماهير الشعب السوداني التي تقف متفرجة علي مصير بلادها الموشكة علي الانفصال و التفكك، خطورة ما يجري علي حياتها و حياة أبنائها و بناتها؟ اذا كانت تعي ذلك ، مع الاحترام لخرجت في مواكب تسد الأفق في دعوات للوحدة و لإيقاف انفصال الجنوب عن الشمال. اعني جماهير الشعب السوداني في الشمال و الجنوب ، خاصة الأكثر وعيا و استعداد للفعل الايجابي. لا تنتظروا الأحزاب ان تفعل شيئا نيابة عنكم لأنكم ستنتظرون كثيرا. لكن أتوقع ان لا يكون هناك حراك جماهيري منظم ومؤثر لصد الانفصال الوشيك نسبة لعدم وجود مؤسسات تقنع الناس بضرورة ذلك التحرك ، كما لا توجد أي ضمانات بان يكون لمثل ذلك التحرك نتيجة. و يبدو ان هذه الجماهير الصامتة واعية و لكنها تنتظر الظرف المناسب لضمان نتائج تحركها. اصبحت حياة الناس علي المحك و في رأيٌ فان رفاهية المواطن السوداني في الوحدة و في التطبيق الكامل و الحرفي لدستور 2005 الانتقالي ، الذي يجب ان يكون دائما بعد تطويره و سد الثغرات التي يعرفها القانونيين ، بعد الخلاص مما ينتظرنا بعد يناير 2011م. حتى ذلك الوقت ارحموا ناس مرزوق.
hassan mn bashir [mnhassanb@yahoo.com]