مخاطبة العقول أجدى وأنفع … بقلم: صديق عبد الهادي
مقال الأحد
Siddiq01@sudaneseeconomist.com
لا يشك احدٌ قط في أن السودانيين ومهما تباينت مواقفهم من مآل الاستفتاء القادم ، وبمنْ فيهم حتى غلاة الإنفصال، ينظرون مليئاً حين تغشى عقولهم لحظات من الصفا، يتأملون فيها فيما يكون عليه الحال لو افضى الامر الى ما كانوا يتوقعون. بمعنى انهم يقفون عند حقيقة السؤال بأنه لو تحققت الوحدة، هل يعني ذلك إنهزام أوإنتفاء الاسباب التي قامت عليها دعوة الانفصال؟، ام لو انَّ خيار الانفصال ساد، هل يعني ذلك وهن الاساس الذي إرتكزت وترتكز عليه الدعوة لوحدة البلاد؟!.
أبَانَ الظرف الذي تمر به البلاد، الآن، صدق الكثيرين وإخلاصهم لما يدعون اليه. وهنا نعني كلا الطرفين إذ لا نستبعد او نجرد اي منهما من فضيلة الصدق او من شيمة الاخلاص، كما أنه وبالقدر نفسه لا نخلِ طرف اي منهما، إن كانوا دعاة الوحدة أو دعاة الانفصال، من وجود المزايدين او الحائدين عن جادة الموضوعية. والساحة، معلومٌ، أنها تكتظ بالجميع!.
ولكن ما يخيف في ذلك الإكتظاظ ، وخاصة في وسط دعاة الوحدة، هو سيادة الاتجاه لمخاطبة العاطفة بدلاً من العقل، وهو مما يعطي الإنطباع بل ويقود إلى الإعتقاد بأن تلك الحالة الخطرة والمستعصية والمتعلقة بمستقبل الوطن، في مجملها، لم يتم إكتشافها إلا مؤخراً، وذلك امرٌ في حد ذاته معيب إذ يعزز، وبالقطع، من حجة الانفصال وليس العكس، لو يعلم الذين يعلُّون من خطاب العاطفة على حساب العقل.
إن اللجوء الى التخويف والابتذال بدلاً من إعطاء الامل وإعادة الثقة إلى نفوس السودانيين وتعزيزها، هو اقوى ما يغذي خطاب العاطفة. إن الحديث عن الدولة الوليدة نتاج إنفصال الجنوب في حال حدوثه، بأنها ستعاني من الصراعات الداخلية بين مختلف المجموعات العرقية وبأنها سوف لن تنعم بالاستقرار، هو نوعٌ من الحديث الذي، ولو ان فيه قدر من الصحة، لا يقف دليلاً او حجة تصب في خانة الوحدة. بل يبقى حديثاً مبتذلاً وليس بذي معنى ما لم يصحبه الاقرار بحقيقة أن السودان الموَّحد نفسه لم يشفع له توحده، الذي شهده وعاشه منذ ان اصبحت له دولة وطنية، من الوقوع في مصيدة الصراع الإثني، او بلغة اكثر تدقيق لم ينجه توحده من مصيدة الصراع بين المركز والهامش والذي كان ان ادى الى الحالة الراهنة. وهي حالةٌ اصبح فيها تحقيق الوحدة يستوجب، اكثر مما قبل، جهداً مضنياً وعملاً شاقاً لاجل تجنب التفكك والانفصال.
وفوق كل ذلك، هو نوعٌ من الحديث او التخويف الذي يضمر او ينطوي على نزعة من استعلاءٍ غير مقبول، يمثل في جوهره امتداداً للاستعلاء الذي اسهم حقاً فيما وصل اليه الوطن الآن. قد لا يعلم الذين يرددون ذلك، إن كان بوعي او بدونه، بان حديثهم ذاك لا يستبطن سوى مقولاتٍ تاريخية واهية لم تجد نفعاً من قبل في إبقاء هيمنة قوى كبرى على مناطق وبقاع كثيرة في العالم، إن جازت المقارنة. مقولاتٍ قالت بها بريطانيا يوماً في حق مجمل السودانيين، وتوسلتها الولايات المتحدة وما زالت تتوسلها اليوم، كذلك، في تبرير نزعاتها، ولكن دون جدوى !!!.
قطاعٌ واسع من الناس يقف إلى جانب الوحدة ولكن ليست الوحدة التي يسعى دعاتها ويكتفون بتفنيد دعاوى الانفصال وحسب، وإنما الوحدة التي تستهدف إزالة المقومات المادية للغبن، وهو غبن تاريخي لا جدال. والمقومات المادية للغبن في إختصارٍ مفيد هي الإستئثار الدائم بالسلطة وبالثروة من قبل الفئات التي تحكم من المركز ولواحقها. وهنا، لابد من الإقرار بان الممارسة الفعلية وعبر تاريخ طويل تؤكد اننا لسنا بمواطنيين متساوين في هذا الوطن، إذ اننا لم نقتسم يوماً لا السلطة فيه ولا الثروة !!. فالمطلوب إذن هو ليس إعلان النوايا الطيبة وإبداء العطف وإنما المطلوب هو العمل على وضع وتحقيق الضمانات الكفيلة للمساواة في المواطنة، والتي على رأسها يجيئ الدستور الديمقراطي الذي يبيح ويحمي، في آنٍ معاً، الحق في السلطة وفي الثروة، وكذلك الحق في الاعتقاد والانتماء، إن كان دينياً او فكرياً اوسياسياً او ثقافياً. والمقصود من كل ذلك، بالطبع، في نهاية الامرهو ضمان التطور الحر للفرد، المعتوق من وطأة الحاجة وذل التمييز ومهانة القمع.
تمَّ تلخيص جزءٍ كبير من ذلك في طيات إتفاقية السلام الشامل ، إن كان من جانب الاتفاق على تحديد اسباب الغبن، أو من جانب التأكيد على ضرورة تصفيتها، ووضع الوسائل اللازمة لانجازها. وكان ذلك هو المدخل الذي ارادت الاتفاقية تهيئته لاجل أن يتم الانحياز بطواعية وبوعي وبدون قسر لخيار الوحدة. فإكمال عملية الانحياز الطوعي للوحدة عبر الاستفتاء وحسب ما هو موصوف لن يتم إلا من خلال وسائل تسعى لمخاطبة العقل، والتي ليس من بينها بأي حال من الاحوال التفكير الساذج بتسيير قطارٍ للوحدة، ولا من بينها كذلك التفكير وراء الدفع بأولئك الإعلاميين الذين يثيرون الرثاء وهم يرددون مفردات لا يعلم احد من اين اتوا بها!!!. لغةٌ، لا ناقة لاهل السودان وهمومهم فيها ولا جمل!!!.
ومخاطبة العقل تتضمن الابتعاد عن التفكير بعقلية الاشراك أوالتوريط. فالإقرار بتحمل المسئولية سوى أن حدث الانفصال ام لم هو اقصر الطرق واجداها لاجل مد جسر الثقة المفقود بين الناس والنظام الحاكم.لا مفر للمؤتمر الوطني بل وللحركة الاسلامية من الاعتراف وتحمل المسئولية التاريخية في شأن سؤال الانفصال.
إن موقف الاحزاب السياسية واضح من الحوار الذي إنشقت ابوابه عنوةً، ولكن الاحزاب ليست هي كل شعب السودان. هناك قطاعات هامة لعبت دوراً معروفاً في صياغة تاريخ هذا البلد، وكانت لها مواقفها المشهودة عند أحرج منعطفاته. وبذلك نعني النقابات والاتحادات المهنية، والتي لم تنج هي الاخرى من مغبة الهيجان الاعمى الذي طال الجميع منذ العام 1989م، والذي لم يوفر احداً قط. ما من شك انه لم تعد النقابات كما كانت بعد ان تمَّ تجينها وإفراغها، إن كان ذلك بحد القانون او بتزييف الارادة. إنها لم تعد تمثل قواعدها بعد أن اصبحت تحتل مكاناً ثابتاً وسط الادوات التي تزين وجه النظام. لقد خسر السودان في هذا الظرف المدلهم احد اهم مؤسساته المنوط بها نشر الوعي الحقيقي وغير الزائف لاجل التمسك بخيار الوحدة . لقد إفتقد السودان وبحق حركته النقابية المستقلة، وهو في امس الحاجة إليها.
ختام/
كتب عمنا المناضل الاشم عبدالله محمد الامين برقاوي في كتابه "مشاوير خضراء"، الذي لخص فيه تجربته الثرة وأرّخ به لحركة المزارعين خاصة في مشروع الجزيرة والمناقل، قائلاً:
"لم تكن حركة المزارعين معزولة عن الحركة الوطنية، بل خاضت معارك الدفاع عن الحريات وطالبت بإلغاء المادة (105) من قانون عقوبات السودان والتي تمنع التظاهر والتجمهر. وتمَّ جمع التوقيعات من جماهير المزارعين فبلغت عشرين الف توقيع، أُرسلتْ للجنة الدفاع عن الحريات بالخرطوم فأصبح الاتحاد عضو فيها جنباً الى جنب مع اتحاد العمال والمعلمين والاحزاب السياسية المختلفة.
وقف الاتحاد موقفاً مسانداً للجبهة الاستقلالية فيما يختص باستقلال السودان. وفي إحدى إجتماعات اللجنة التنفيذية للاتحاد تقدم شيخ الامين محمد الامين – رئيس الاتحاد وقتها باقتراح بتأييد الاستقلال التام للسودان مما اثار جدل عنيف بين اعضاء اللجنة التنفيذية استمر لست ساعات ما بين مؤيد ومعارض. وإختلفت الآراء حول مهام ودور الاتحاد، حيث يرى المؤيدون ان يكون للاتحاد دور في المسائل القومية كالاستقلال والحريات العامة بينما يرى المعارضون بعدم إختصاص الاتحاد بالنظر في القضايا السياسية بإعتباره إتحاداً مطلبياً ينحصر دوره في (التقنت وابوعشرين) على حد تعبيرهم!!!. وجرى التصويت ليفوز إقتراح تأييد الاستقلال باغلبية كبيرة."
هذا هو اتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل، أحد الآباء الشرعيين للحركة النقابية السودانية، وذلك كان موقفه. فهل، يا ترى، يستطيع الاتحاد المسخ الحالي لمزارعي الجزيرة والمناقل، صنيعة المؤتمر الوطني، ان يجمع من المزارعين ولو عشرة اصوات لاجل الوحدة؟!، لا اعتقد انه بقادر.
إن الاشياء لتعمل في إتساقٍ متصل. فالوضع الراهن المتعلق بالوحدة والانفصال ما هو إلا تلخيص وتعبير لما شهدته الجوانب الاخرى للحياة من أزمات ما زال معظمها سائد ومتمكن، يحتاج في تجاوزه لمخاطبة العقل اكثر منه للعاطفة.