tigani60@hotmail.com
..يجانب الصواب الذين يظنون أن الاجتماع الدولي بنيويورك بشأن السودان الذي انعقد الجمعة الماضية كان مجرد حشد دبلوماسي عابر, أو لقاء علاقات عامة لا أكثر لتهدئة الخواطر المضطربة بين يدي استحقاق تقرير المصير, فلا اللحظة المصيرية التاريخية التي يواجهها السودان بعد مائة يوم فقط, ولا المستوى الرفيع لمن شاركوا في ذلك الاجتماع وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي باراك أوباما, فضلاً عن القراءة الموضوعية للرسائل البالغة الأهمية التي حفلت بها خطابات الاطراف الرئيسية المشاركة في الاجتماع, تترك من سبيل للتعاطي مع مخرجات اجتماع نيويورك بما تستحقه من اهتمام لجهة أنها تشكل نقطة تحول مهمة بشان الجدل الدائر حول مستقبل السودان, ومن المؤكد أنه سيكون لها تأثير فارق, ولن تكون الامور من بعده كما كانت قبله.
ومن المهم الإشارة إلى أن ما جرى وراء الكواليس من لقاءات جانبية بين الأطراف الفاعلة أهم بكثير مما جرى به التصريح في الخطابات الرسمية, ولكن مع ذلك فإن المواقف التي أعلنت صراحة في الاجتماع الرسمي لم تكن فارغة المحتوى بل تضمنت الكثير من المؤشرات التي تحدد بصورة واضحة ما هي الخيارات التي بحثت في الغرف المغلقة, وما الذي يمكن أن يترتب عليها.
ولعل اهم ما يثير الانتباه في مداولات ونتائج اجتماع نيويورك أن تشديد الأطراف الدولية وعلى راسها الولايات المتحدة على ضرورة الالتزام بالتنفيذ الكامل لاتفاقية السلام الشامل بإجراء الاستفتاء على تقرير المصير في الوقت المحدد له مطلع العام القادم, مع دعوات بإشارات غامضة لأن يكون سلمياً وموثوقاً دون معايير محددة, والمطالبة بلاعتراف بنتائجه, تكشف في الواقع عن مطالب تحمل ضمناً رسالتين, الأولى موجهة للمؤتمر الوطني وهي أنه الطرف المطلوب منه حصرياً الوفاء بكل هذه التعهدات, والرسالة الثانية وهي الأهم أن المطالبة بالتنفيذ الكامل لاتفاقية السلام وإجراء الاستفتاء في موعده والقبول بنتيجته هي مسائل تعني في الواقع توفير الضمانات اللازمة لتغليب خيار الانفصال, بمعنى ان الأطراف الدولية التي اجتمعت في نيويورك أقرت عملياً بالموقف السياسي للحركة الشعبية المتبني للانفصال, وها هي توفر غطاءاً له, وتسجل اعترافاً دولياً مبكراً بنتيجة الاستفتاء حتى قبل إجرائه, وتمارس في الوقت نفسه ضغوطاً على المؤتمر الوطني للقبول بمسار (الانفصال المحتوم) والحصول على تعهد منه بعدم عرقلته.
فالبيان الختامي لاجتماع نيويورك الذي حفل بتفاصيل التعهدات والالتزامات المطلوبة من المؤتمر الوطني, لم يغض الطرف عن تبني الحركة الشعبية صراحة للانفصال فحسب, بل تجاهل كلية مجرد الإشارة إلى أي دعم دولي لإبقاء السودان موحداً, على الرغم من أن اتفاقية السلام الشامل تجعل الأولوية للحفاظ على وحدة السودان مسؤولية ملزمة لطرفي الاتفاقية وللمجتمع الدولي الضامن لها.
وروح الخطاب الذي القاه الرئيس الامريكي باراك اوباما, وإن لم يتحدث عن الانفصال صراحة, إلا أن مضمونه يشير إلى أنه يتعامل مع الأمر وكأنه أصبح أمراً واقعاً, أو (محتوماً) على حد وصف وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون الذي أطلقته الأسبوع الماضي, فالخياران اللذان طرحهما أوباما في خطابه ليس عن خياري الوحدة أو الانفصال, بل يتعلقان بطبيعة التعامل المطلوب من قادة المؤتمر الوطني مع واقع ما بعد الانفصال, إما خيار القبول بهذا الواقع والتعامل معه بإيجابية وضمان استدامة السلام, أو خيار رفضه والعودة إلى مربع الحرب, وعليهما بنى سيناريوهات مستقبل علاقات بلاده مع الخرطوم.
أما زعيم الحركة الشعبية ورئيس حكومة الجنوب سلفا كير فقد كان أكثر وضوحاً بشأن موقف الحركة الشعبية الداعم لخيار الانفصال وهو يوصد الباب,في هذا المحفل الدولي المشهود, أمام أي احتمال لخيار الوحدة بل ويستبعده بالكامل قائلاً (علينا أن نكون واقعيين بشان الاحتمال الأكثر رجحاناً الذي سيتمخص عن الاستفتاء, فكل المؤشرات وقياسات الرأي تشير إلى أن مواطني جنوب السودان سيصوتون بأغلبية ساحقة لصالح دولتهم المستقلة), ومع أنه أقر بان اتفاقية السلام الشامل أعطت الأولوية للوحدة, ولكن كما هو متوقع فقد أنحى باللائمة على شريكه معتبراً أنه لم يفعل خلال سنوات الانتقال ما يجعلها جاذبة, وكان مطلبه صريحاً من القادة المجتمعين في نيويورك(نحن نحتاج إلى دعم ضامني اتفاقية السلام الشامل وبقية المجتمع الدولي ومساعدتنا في الانتقال إلى دولة مستقلة بسلام).
أما نائب الرئيس السوداني علي عثمان, الذي ظل يدافع بلا كلل عن خيار الوحدة, فقد جاء خطابه أمام الاجتماع الدولي يحمل للمرة الأولى ما يشير إلى أنه وجد نفسه أخيراً مضطراً للتسليم بأن أمر الاستفتاء قد قضي بالفعل لصالح الانفصال, ليس بخيار مواطني الجنوب المنتظر عبر الاستفتاء ولكن بحكم القرار السياسي للحركة الشعبية الساعي للانفصال الذي لم يعد موقفاً معزولاً بل يجد قبولاً ودعماً لا مواربة فيه من أطراف المجتمع الدولي الفاعلة المحتشدة في مقر المنظمة الدولية حتى قبل أن يذهب المستفتون إلى صناديق الاقتراع.
ومع ذلك فقد واصل طه دفاعه عن أولوية الوحدة بحكم نصوص اتفاقية السلام, وذكر الحاضرون من المجتمع الدولي بأنهم وقعوا عليها شهوداً على ذلك, ومع تأكيده الالتزام بهذا الهدف, إلا أنه لم يكن أمامه سوى التعبير عن الأمل في أن (يكون ذلك هو الهدف الأول لإخواننا وأخواتنا في جنوب السودان، كما نأمل في ذات الشيء منكم أنتم الذين قمتم بالتأمين على ذلك المبدأ عندما وقعتم على الاتفاقية), ومع ضعف الأمل في الاستجابة لهذا الرجاء سواء من قبل الحركة الشعبية أو الفاعلين الدوليين, فقد مضى باتجاه القبول بالأمر الواقع والانتقال إلى مربع هدف جديد معلنا الإيمان بأن (الهدف الأسمى والأكثر أهمية لاتفاقية السلام الشامل هو السلام الدائم والمستدام لأهل السودان قاطبة ، جنوبه وشماله، ولمنطقتنا التي نعيش فيها وإلى ما وراءها, وأن السلام هو المضمون الأكثر أهمية في اتفاقية السلام الشامل والعروة الوثقى لمستقبل مشترك يقوم على دعائم الرفاهية والإخاء لأهلنا في السودان مهما كانت نتيجة الاستفتاء على مصير جنوب السودان). إذاً الهدف الجديد الذي طرحه طه هو خيار استدامة السلام للسودان والمنطقة, بعدما أدرك أن أمر الحفاظ على وحدة السودان باتت حلماً بعيد المنال.
ولعل إدراك طه أن سفينة المجتمع الدولي أبحرت من نيويورك مع موج الانفصال هو الذي جعله يختم خطابه بتعبير مؤثر في تصوير هذه اللحظة التاريخية (لقد وصل الطريق الطويل والمتعرّج الذي خط تاريخ السودان إلى منعطف حرج ويعيش شعبنا وتعيش بلادنا لحظةً حاسمة سوف تقرر الصفحات التالية من تاريخ السودان المتفرد. وإننا نستقبل تلك اللحظة الحرجة والرهيبة بشجاعة وإقدام) وهل من لحظة أكبر رهبة من الانفصال بكل تبعاته وتداعياته؟.
ولئن يشير ما سقناه أعلاه من قرائن على أن الاجتماع الدولي في مقر الأمم المتحدة قد استبق الاستفتاء بتكريس خيار الانفصال والقبول به وتأمين الغطاء الدولي له, والحصول على تعهد والتزام الخرطوم بعدم عرقلة مسار (الانفصال المحتوم).)
فقد كشف اجتماع نيويورك أيضاً عن سيناريوهات مستقبل علاقات واشنطن والخرطوم, وكما أسلفنا فإن الخيارين اللذين طرحهما أوباما في خطابه ليس عن خياري الوحدة أو الانفصال, بل يتعلقان بطبيعة التعامل مع واقع ما بعد الانفصال, خيار القبول بهذا الواقع والتعامل معه بإيجابية لضمان استدامة السلام للسودان والمنطقة, أو خيار رفضه والعودة إلى مربع الحرب. وعليهما رسم الرئيس الأمريكي السيناريو المترتب على كل خيار.
وأكثر ما يلفت الانتباه في خطاب أوباما ما بدا وكأنه يدعو لبروز قيادة جديدة في السودان أو يستحث حدوث ذلك, فقد كان تركيزه واضحاً على دور القادة وهو يحدد مواصفات الدور المطلوب منهم, حيث اشار إلى أن اجتماع نيويورك ما كان ليلتئم لولا أن قادة السودان يواجهون لحظة اختيار حاسمة, و(ما إذا كانوا يملكون الشجاعة للمضي في اختيار طريق السلام الذي يستحقه السودانيون, وقد حان موعد اتخاذ القرار الصعب ولا سبيل لتأجيله).
وفي إشارة صريحة الدلالة ميز بين مسارين أمام القادة السودانيين في إشارة بالطبع لقادة المؤتمر الوطني, مسار (يرفض فيه بعض القادة القيام بمسؤولياتهم وهو ما سيكون له عواقب, المزيد من الضغوط, والعزلة العميقة), والمسار الأخر الذي ( يوفي فيه القادة بالتزاماتهم) وطفق اوباما يعدد المزايا والحوافز التي سيجلبها ذلك لهم (أنه قد يقود إلى تحسين العلاقات بين الولايات المتحدة والسودان, بما في ذلك دعم التنمية الزراعية لجميع السودانيين, وتوسيع التباجل التجاري والاستثمار, وتبادل السفراء, وأخيراً رفع العقوبات إذا أوفى القادة السودانيين بتعهداتهم). وفي لغة لا تخلو من إغراء سياسي قال أوباما (لقد حان الوقت ليدعم المجتمع الدولي القادة السودانيين الذين يتخذون الخيار الصحيح).
ربما أعاد أوباما في هذا الخصوص حزمة حوافز خارطة الطريق التي حملها مبعوثه الجنرال سكوت قريشن للمسؤولين في الخرطوم قبل اسبوعين, غير أن الموقف الجديد اللافت في خطاب أوباما أمام الاجتماع الدولي بنيويورك ليس فقط رفضه الاستجابة لطلب نائب الرئيس طه بضرورة إغلاق ملف المحكمة الجنائية الدولية بشأن دارفور, أو سحب الملف من المحكمة وإعادته لمجلس الأمن الدولي, بل إعلانه عن موقف متشدد غير مسبوق بانه لن يكون هناك سلام دائم في دارفور, ولا تطبيع للعلاقات بين واشنطن والخرطوم (بدون محاسبة على الجرائم التي ارتكبت في دارفور), معتبراً أن المساءلة والمحاسبة ليست ضرورياً من أجل مستقبل السودان فحسب بل لإرسال رسالة للعالم بأنه لا يمكن السكوت (على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية) والإفلات من العدالة. ومن المؤكد أن هذا الموقف يحمل الكثير من الدلالات على خلفية أوامر التوقيف الصادرة من المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس عمر البشير.
على أي حال مهما يكن من امر فإن اجتماع نيويورك أفرز معطيات جديدة في الساحة السودانية المقبلة على لحظة مصيرية حرجة, ولعل أهمها أن الجدل المتطاول حول الانفصال أو الترويج للوحدة في الساحة الداخلية لم يعد ذي جدوي في ظل هذه التطورات, فالانفصال كسب غطاء دولياً ولم يعد مجرد احتمال وارد, ومن الأفضل أن تركز القيادة السياسية السودانية جهودها على التعامل مع هذه المعطيات الجديدة بواقعية اكثر, ولم يعد المطلوب بعد الآن التفاوض بين الشريكين حول (ترتيبات ما بعد الاستفتاء), المطلوب بوضوح هو (التفاوض حول ترتيبات ما بعد الانفصال).