هل من سبيل لتفادي السيناريو الأسوأ؟
tigani60@hotmail.com
الأصل أن المتوخى من الجدل المثير والحراك الكثيف في الساحة السودانية والإقليمية والدولية حول استحقاق تقرير المصير الوشيك ومآلاته، أن يكون منتجاً ودافعاً باتجاه الهدف الأهم وهو توفير الضمانات اللازمة والشروط الموضوعية لتحقيق استدامة السلام والاستقرار للسودان ولجواره الإقليمي ولمحيطه القاري والدولي.
بيد أن النظر في طبيعة الجدل المثار يكشف أنه أصبح يدور بامتياز في حلقة مفرغة، مستنفداً الوقت الضئيل المتبقي والجهد الكبير المبذول في إطلاق مواقف ملتبسة وإشارات خطأ، والمفارقة أن جميع الأطراف المعنية تشترك في ذلك، ما يقود إلى نتائج سلبية، عكس ما هو مأمول من تثبيت دعائم السلم والاستقرار، إلى إعادة إنتاج الاقتتال والحرب العبثية في أكبر فشل كارثي يمكن تصوره.
والحالة هذه فثمة حاجة قصوى لتفكيك مواقف الأطراف المختلفة وفحص منطلقاتها ودوافعها وأهدافها ثم تحليلها وإعادة تركيبها، لعل ذلك يساعد في الدفع بمقترحات وخيارات جديدة أكثر عملية وواقعية وجريئة قد تسهم في إعادة توجيه الجدل المحتدم والحراك المحموم بما يوقف لعبة اللوم وتبادل الاتهامات غير المجدية، ويعمل على الخروج من الدوران في الحلقة المفرغة قبل فوات الآوان. ويصوب الجهود المبذولة نحو الغاية الأهم عدم الوقوع مجدداً في براثن حرب عبثية لا طائل البتة من ورائها ولا حاجة لإقامة دليل على مفاسدها التي لا تحصى.
والجدل المثار حالياً يدور بين خياري الوحدة أو الانفصال، وأن الفصل في ذلك رهين بإجراء الاستفتاء على تقرير المصير الذي يمارسه مواطنو جنوب السودان في الموعد المضروب لذلك، وحول الشروط المحددة لصحته حسب قانون الاستفتاء، ويمتد الجدل إلى جملة من القضايا العالقة التي تحتاج إلى اتفاق بين الشريكين بشأنها وحسم الخلاف حولها قبل الاستفتاء.
وبالنظر إلى المعطيات في الواقع السياسي الراهن في السودان فإن هذا الجدل يبدو إلى حد كبير أقرب ما يكون إلى الجدل البيزنطي الذي لا يضع في الحسبان اعتباراً للوقائع الماثلة، ولا للمؤشرات الدالة بقوة على المآلات المنتظرة. لأنه يتجاهل أن القضية الأهم هي الاختيار بين السلام والحرب، وليس بين الوحدة والانفصال.
وثمة مزاعم كبيرة بشأن الأهمية المدعاة من قبل الأطراف كافة لعملية الاستفتاء باعتبارها الأداة الوحيدة الموثوقة التي تملك حقاً القول الفصل في شأن تقرير المصير وحدة أو انفصالاً، ولقد تحولت عملية الاستفتاء، بحد ذاتها وبغض النظر عن الملابسات المحيطة بها وقيمتها الفعلية لتصبح (بقرة مقدسة)، تتسابق الأطراف كلها وفي مقدمتها الشريكان على تقديم القرابين لها وإعلان الخضوع الكامل لمنطقها في حين أنها لا تعدو أن تكون مجرد وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، كما أن الوحدة أو الانفصال ليستا سوى معبر لتحقيق الغاية الاسمى استدامة السلام والاستقرار.
فالمؤتمر الوطني والحركة الشعبية يؤكدان على كثرة خلافاتهما وتشاكسهما، وبينهما ما صنع الحداد، التزامها بإجراء الاستفتاء في موعده، وقبولهما بنتيجته، والمجتمع الدولي كبد قادة الشريكين مشقة السفر إلى نيويورك، وكابد أعضاء مجلس الأمن الدولي وعثاء المجئ إلى السودان، فقط للحصول على تأكيد الشريكين، وانتزاع تأكيد خاص من المؤتمر الوطني وتعهد بعدم عرقلة إجراء الاستفتاء في موعده، والقبول بنتيجته، والقصد هنا تحديداً الانفصال، ولا ينسى عرابو المجتمع الدولي، واشنطن وحلفاؤها الأقرب من الأوربيين، التذكير بأهمية أن يكون الاستفتاء موثوقاً وحراً ونزيهاً ومستوفياً للمعايير التي تؤهله للقبول به.
ولاشيء أدل على عدم استحقاق عملية الاستفتاء لهذه (القدسية المدعاة) أكثر من (التلاعب السياسي) الذي تمارسه جميع الأطراف بشانه، فالمجتمع الدولي والشريكان يعلمون علم اليقين أن الشروط الموضوعية لإقامة الاستفتاء في موعده المضروب بحيث تتحقق فيه ما ينادون به من ضرورة توفر متطلبات الحرية والنزاهة والموثوقية أمر ليس وارداً على الإطلاق بالمعايير القياسية فحسب، بل حتى بقدر معقول منها، ليس بسبب سوء نية أو تدبير أي طرف، بل بسبب استحالة قدرة المفوضية القيام بهذه المهمة في هذا التوقيت بالذات لأسباب لوجستية وإدارية لتوفير حتى الحد الأدنى من هذه المتطلبات الموضوعية، فما تبقى لها من وقت لموعد الاقتراع لا يزيد عن بضعة أسابيع إلا قليلاً، وهي التي كان من المفترض أن تشرع في مهمتها هذه قبل ثلاث سنوات ونصف السنة من موعد الاقتراع المضروب، ولم يتم تشكيلها إلا قبل خمسة اشهر فقط من موعد الاستفتاء، وزاد الطين بلة أنها أنفقت زمناً ثميناً في هذه الاشهر المحدودة في مشاكسات عبثية.
وموثوقية الاستفتاء المطلوبة ليست محل شكوك فقط لاسباب لوجستية معلومة، بل كذلك لأسباب سياسية موضوعية، إذ المفترض أن يكون الاستفتاء أحد وسائل الممارسة الديمقراطية الحقيقية والسليمة لمعرفة اتجاه الرأي العام في القضية المحددة، ولا أحد يستطيع الإدعاء أن هناك قاعدة اجتماعية، أو ممارسة ديمقراطية جديرة تجعل من الاستفتاء يعبر تعبيراً حقيقياً عن اتجاهات الرأي العام وفق المعايير القياسية للديمقراطية، ولا نقصد هنا أن نقدح في مواطني الجنوب، لأن الأمر ينطبق ايضاً على الوضع في الشمال، ودوننا جميعاً تجربة الانتخابات الأخيرة، والشبهات التي أحاطت بها، ما جعلها مفتقرة للشروط الموضوعية القادرة على إنتاج مشروعية جديدة تتخطى تكريس الأمر الواقع.
ولذلك فإنه حتى لو تم تأجيل الاستفتاء لأجل محدود لتجاوز العقبات الإدارية واللوجستية، فلن يكون ذلك كافياً لتغيير حقيقة أن الاستفتاء لن يكون بأي حال تعبيراً عن ممارسة ديمقراطية حقيقية في غياب مجتمع ديمقراطي حقيقي. ومعلوم أن الانتخابات والاستفتاءات في العالم الثالث لا تعدو أن تكون وسيلة لتكريس موازين القوة القائمة، وليست لها أية قدرة فعلية في تغيير معادلة الأمر الواقع.
إذاً فإن من المؤكد أن كل الأطراف الدولية والمحلية تدرك أكثر من غيرها أن قيام استفتاء حر ونزيه وموثوق به في الموعد المحدد له سلفاً هو ضرب من المستحيل، إن لم نقل أنها عملية احتيال سياسي تمارس على رؤوس الاشهاد، إذ لن تتوفر له أية مصداقية بالمعطيات المتاحة لا بالاعتبارات السياسية ولا بالحسابات اللوجستية المحضة، والسؤال الذي يثور هنا ما سبب ما يبدو من تواطؤ ظاهر بين أطراف تحمل أجندات مختلفة على إعطاء الاستفتاء هذه المعيارية المزعومة في ظل أوضاع ملتبسة أصلاً، وخيط رفيع يفصل بين الحرب والسلام؟.
الامر بالنسبة إلى الحركة الشعبية لا يحتاج إلى تفسير فموعد الاستفتاء، وليس كيفيته، مقدس بالنسبة إليها ليس لأنها حريصة ومتلهفة لمعرفة خيار مواطني الجنوب بين الوحدة والانفصال، بل لأنها قررت سلفاً بالنيابة عنهم أن الأغلبية الكاسحة منهم تريد الانفصال وليس مهماً إن كان ذلك تعبير حقيقي عن قياس للرأي العام الجنوبي أم لا، بل من أجل الإجراءات الدستورية المطلوبة لنيل الشرعية القانونية للانفصال، ولذلك فهذا الموعد وبغض النظر عن الشروط الموضوعية المطلوبة توفرها لاستقصاء رأي المستفتين بحرية ونزاهة هو الذي تنتظره قيادة الحركة الشعبية على أحر من الجمر لتمرير قرارها السياسي القاضي بالانفصال وفقط لتوفير الغطاء القانوني والدستوري له، ومن ثم الحصول على المشروعية الدولية لاستقلال الجنوب.
وبالتالي فالحركة الشعبية ليست مهتمة ابتداءً بجودة الاستفتاء أو بمصداقيته، بقدر ما يهمها ألا تفوت الفرصة التاريخية التي سنحت لها لتكريس قرارها بالانفصال في التوقيت المضروب، وبالطبع لا مصلحة لها البتة في أي تأجيل موعد الاستفتاء، اللهم إلا لأمر قاهر خارج إرادتها، أو استجد ما يجعلها تقتنع أن التأجيل لحين قد يحقق لها مصلحة وميزة إضافية مؤكدة.
أما بالنسبة للمجتمع الدولي، عبر مواقف الحكومات والمنظمات الأقليمية والدولية، فكلها تعلن تأييدها ودعمها لقيام الاستفتاء في موعده، وهي تدرك بالطبع الملابسات التي تجعل موثوقيته محل شكوك، ولكنها بالتأكيد لن تكون ملكية أكثر من الملك وهي ترى الشريكين على الرغم من كل خلافاتهما لا ينفكان، لا سيما المؤتمر الوطني، يصران على إعلان التزامهما بإقامة الاستفتاء في موعده والاعتراف بنتيجته.
وللولايات المتحدة الامريكية التي تتزعم المجتمع الدولي بلا منازع حسابات آخرى في حماستها الزائدة على ضرورة إجراء الاستفتاء في موعده والتمسك بذلك والضغط على المؤتمر الوطني بوسائل شتى ترغيباً وترهيباً للحصول على تعهده بعدم عرقلة إجراء الاستفتاء لأي سبب، سواء توقيته أو الاعتراف به.
فإدارة أوباما مقبلة في غضون اسابيع قليلة على انتخابات التجديد النصفي للكونغرس وهي مهددة بخسارة أغلبيتها الضئيلة لصالح الجمهوريين في ظل أدائها المتواضع خلال العامين المنصرمين، وهو ما يجعلها مهيضة الجناح أمام الضغوط الكثيفة من جماعات الضغط المؤيدة لانفصال الجنوب، ولذلك وعلى الرغم من أنها تدرك التبعات والتداعيات الخطيرة في ظل المعطيات الراهنة لاستفتاء يقود لانفصال محتوم، وهو ما وصفته هيلاري كلينتون بأنه قنبلة موقوتة، إلا أنها مع ذلك لا تملك حيلة لتفكيك هذه القنبلة سوى محاولة تقليل المخاطر المترتبة على الاستفتاء إلى أقل قدر ممكن في ظل عدم قدرتها على وقف دوران عجلاته.
ولعل ما نقلته صحيفة (واشنطن تايمز) على لسان مسؤول في إدارة أوباما من أن إجراء الاستفتاء في موعده سيكون قراراً سياسياً، وليس قراراً يستند على الوقائع على الأرض يؤكد بوضوح أن مطالبتها بأن يكون الاستفتاء حراً ونزيهاً وموثوقاً لا يعدو أن يكون مجرد بلاغيات لأنها مدركة تماماً لاستحالة ذلك، وأن المطلوب هو إجراؤه على أي وجه كان في الموعد المحدد له.
ونأتي لموقف المؤتمر الوطني الذي ما فتئ على الرغم من كل التحفظات والانتقادات التي يوجهها للحركة الشعبية، يؤكد التزامه بإقامة الاستفتاء في موعده واستعداده للقبول بنتيجته، صحيح أن قادة المؤتمر الوطني يتحدثون عن شروط معينة لحسم القضايا العالقة مثل ترسيم الحدود، ومسألة أبيي، وقضايا ما بعد الاستفتاء، بيد أن تعدد مواقف المتحدثين باسم الحزب الحاكم وأحياناً تناقضها لا يدع مجالاً لمعرفة حقيقة موقفه السياسي، في لحظة لا تحتمل الغموض والإبهام، فالحركة الشعبية خلافاً لموقف شريكها تتبنى خطاً سياسياً واضحاً وحراكاً محدداً باتجاه الانفصال، فيما لا يزال المؤتمر الوطني يقف في منزلة بين المنزلتين.
ومن المؤكد أن حسابات المؤتمر الوطني أكثر تعقيداً فمن جهة يدرك أن إقامة الاستفتاء في موعده والقبول بنتائجه التزام دستوري وسياسي لا فكاك منه تحت أية ذريعة، فضلاً عن إدراكه للكلفة الباهظة للتنصل من هذا الالتزام الذي تعهد به بكامل رضائه، ويدرك كذلك أن دفاعه عن خيار الوحدة أمر لا مناص منه، على الأقل لجهة تفادي تحمله المسؤولية التاريخية لتعريض وحدة البلاد للتفكك. فضلاً عن اكتشافه المتأخر أنه ليس مستعداً جيداً لتبعات وتداعيات ما بعد الانفصال.
ومأزق المؤتمر الوطني أنه بنى رهانه على خيار وحيد، فهو اعتبر أن التسوية التاريخية التي أنجزها في اتفاقية السلام الشامل والتي ضمنت للحركة الشعبية سيطرتها الكاملة على الجنوب، والمشاركة في حكم الشمال، ستكون كافية لإقناع الحركة الشعبية بالكف عن أحلامها الاستقلالية، والدليل على ذلك أنه عند تحديد خياري الاستفتاء كان ترتيبات ما بعد ذلك واضحاً إن جاء لصالح تأكيد الوحدة باستدامة نظام الحكم الذي أرسته اتفاقية السلام والدستور، فيما سكت تماماً عن طبيعة الترتيبات اللاحقة إن جاء التصويت لصالح الانفصال، وهذا هو السبب المباشر في الجدل الدائر حالياً.
وهذا الموقف المأزقي للمؤتمر الوطني سببه أنه متنازع بين إدراكه أن أمر الاستفتاء قضي بالانفصال بحكم الأمر الواقع، وبين اضطراره للدفاع عن خيار الوحدة ظاهراً حتى آخر لحظة على الرغم من عدم قدرته على وقف دوران عجلة الانفصال المتسارعة، وهو ما يجعل هامش المناورة أمامه ضيق للغاية، فالوقائع على الأرض تقول إن الحركة الشعبية استغلت تماماً ترتيبات اتفاقية السلام في بسط سيطرتها الكاملة على أرض الجنوب عسكرياً وسياسياً واقتصادياً طوال سنوات الانتقال الماضية، وهي ليست سيطرة بمفهوم تسوية نيفاشا من تمكينها من الحكم الذاتي شبه الكامل في إطار وطن موحد، بل باتجاه دفعها للأمور باتجاه الاستقلال الكامل.
ومع إعلان قيادة الحركة الشعبية لموقفها الداعم للانفصال، ومع الدعم الدولي الذي حظيت به لصالح موقفها في اجتماع نيويورك، لم يعد من مجال لإنكار أن الانفصال حادث بالفعل، ومع سيطرتها الكاملة على الأرض يبقى إجراء الاستفتاء، وإن كان معيباً، مجرد مظهر لتأكيد قرارها بالانفصال. ولقطع الخيط الرفيع الذي كان يجمعها مع الحكومة الاتحادية في دولة موحدة.
والسبب الرئيس للتوتر الراهن بين الشريكين الذي يعرقل الاتفاق على ترتيبات موضوعية لما بعد الانفصال يعود بالأساس إلى أن الحركة الشعبية مسكونة بهاجس أن المؤتمر الوطني يبدو حريصاً على الوحدة إلى درجة استعداده للتنكر لكل تعهداته بإجراء الاستفتاء وعدم القبول بالانفصال المحتوم، وإن أدى ذلك إلى الذهاب إلى الحرب.
والمؤتمر الوطني من جهته يرى ان الحركة الشعبية تنكرت لتعهدها والتزامها في اتفاقية السلام بالعمل من أجل الحفاظ على الوحدة، وأنها لم تتنكر لذلك فحسب بل تريد الحصول على انفصال مجاني ومكافأتها على التنصل من تعهداتها.
ولذلك فإن عدم التقدم في مسائل ما بعد الانفصال يعود إلى كثافة المناورات وأوراق الضغط التي يمارسها كل طرف على الآخر، في ظل شكوك كثيفة متبادلة، للخروج بأفضل نتائج ممكنة.
والسؤال الآن كيف السبيل لكسر هذه الحلقة المفرغة وتجاوز حالة حوار الطرشان؟. ربما يشكل موقف مهم للرئيس عمر البشير أعرب عنه أكثر من مرة بوضوح كوة للخروج من هذا المأزق، فالبشير تحدث في اكثر من منبر عن أن أسوأ سيناريو قد تواجه البلاد هو ألا يحدث الانفصال فحسب، بل تصحبه كذلك حرب، ويقول البشير بأن المؤتمر الوطني ضحى من أجل السلام المستدام إلى القبول بتقرير المصير وإن أدى ذلك إلى الانفصال. وقبل ذلك كان البشير يردد دائماً قوله بأن وحدة مع حرب أفضل منها انفصال مع سلام.
إذاً ما دام زعيم الحزب الحاكم وصاحب قرار الحرب والسلام، لا يرى بأساً في الانفصال إذا كان ذلك سيجلب السلام، فلماذا يوضع مصير البلاد واستقرارها على المحك في جدل بيزنطي حول عملية استفتاء لا تغير من الواقع شيئاً؟. بل تسمم الأجواء ويعرقل التوصل إلى تسويات موضوعية للقضايا العالقة، بل يعيد إنتاج الحرب بلا دوافع حقيقية.
لماذا لا يتقدم المؤتمر الوطني خطوة إلى الأمام ويقبل فوراً بالانفصال باعتباره أمراً محتوماً في ظل المعطيات الراهنة، لينزع بذلك صاعق القنبلة الموقوتة، وليتحول الاستفتاء والجدل حوله باعتباره وسيلة وحيدة لتقرير المصير على الرغم من عدم توفر أية شروط موضوعية تجعله موثوقاً، وليتم الاستفتاء في جو منزوع التوتر مما يجعل التصويت ممارسة توكيدية رمزية بدلاً من كونها خيارأ تنافسياً قد يشعل الخلاف بشأن موثوقيتها الحرب مجدداً؟.
وهذا المقترح في الواقع ليس جديداً فقد طرحه الباحث الضليع في الشؤون السودانية أليكس دي وال العام الماضي في ندوة عن الوحدة والانفصال رعتها بعثة الامم المتحدة ومركز إتجاهات المستقبل، حيث طرحه كمدخل بديل ينظر للانفصال ليس باعتباره سيؤدي إلى إنشاء دولة مستقلة في اليوم التالي، ولكن باعتباره عملية تتطلب وقتاً وتدرجاً في فك الارتباط السيادي، بما يمكن من إقامة دولتين قابلتين للعيش، وفي سلام، وهو ما يعني عملية انفصال مطولة قد تستمر لما بعد العام 2011، وهو امر يتوافق واستراتيجية أوباما بشان السودان التي أعلنها العام الماضي.
من المؤكد أن مبادرة المؤتمر الوطني بهذا الإتجاه، على الرغم من أنها تجعله كمن يتناول سماً زعافاً، إلا أنه لا مناص من ذلك علاجاً للمأزق الراهن الذي يقود بلا شك إلى حرب لا يريدها أحد، ولن تستأذن أحد في نشوبها إن تقاعس القادة عن تفاديها.
بالطبع لن يكون سهلاً على المؤتمر الوطني تقبل ذلك، ولكن إن كان ذلك سيساعد في تخفيف أجواء التوتر، وخلق أجواء إيجابية لحسم القضايا الخلافية وترتيبات ما بعد الانفصال على نحو أكثر موضوعية وقد تتيح فرصاً أفضل للتعاون المستقبلي، فلماذا التمسك بآلية الاستفتاء المعطوبة، وتعريض البلاد لمخاطر أعظم جرياً وراء بقرة مقدسة مزعومة. فلا أحد لا يدرك أن من قرر الانفصال حقاً هو النخبة السياسية الجنوبية، ولا سبيل البتة لممارسة ديمقراطية سليمة وإن خلصت النيات ليقرر ذلك مواطنو الجنوب.
ومن المهم أن تدرك نخبة المؤتمر الوطني أن تسوية مجاكوس، ومن بعدها اتفاقية السلام الشامل، لم تقررها إرادة شعبية، ولكنها نتاج عملية توازن قوة بين المشروعين السياسيين الأكثر تناقضاً في الساحة السودانية، ولا يقدح ذلك فيها في تقديري لأنها حققت مكسباً عظيماً بوقف الحرب، ومنحت فرصة للسلام والاستقرار في البلاد بعد أكثر من نصف قرن من التيه وإن كان ثمن ذلك التضحية بوحدة البلاد، والوضع الآن لم يتغير وموازين القوة هي ذاتها التي تقرر في أمر الوحدة والانفصال، فما الحكمة من إعادة إنتاج حرب عبثية أكثر ضراوة؟.
نقلاً عن (إيلاف) السودانية
و(الراية) القطرية