من يصنع السياسة الخارجية؟ … بقلم: خالد التيجاني النور
tigani60@hotmail.com
تواجه الخرطوم ما يكفي من التحديات المصيرية ما يغنيها من افتعال المزيد من الأزمات التي تزيد توتير الأجواء المتوترة أصلاً، وتستدعي بلا مبررات موضوعية المزيد من المواجهات والصدامات وهي آخر ما تحتاج إليه في هذه اللحظة الفارقة في تاريخ البلاد الحديث في وقت لا يفصل فيه بين استدامة السلام والاستقرار وبين العودة إلى أتون الحرب إلا خيط رفيع يتأرجح فوقه سباق خفي وأعصاب مشدودة بين دواعي الحكمة ودعاوي التهور.
ومناسبة هذا الحديث ما شهدته الخرطوم في الأيام الفائتة من تصعيد حاد حملته تصريحات نارية لمسؤولين حكوميين وبيانات سياسية ودبلوماسية وعسكرية تبارت في إطلاق مواقف شديدة الانتقاد لتصريحات للرئيس الأمريكي باراك أوباما بشأن السودان، وما طيرته وكالات الانباء من عزم الأمم المتحدة على نشر قوات حفظ سلام عازلة على الحدود بين الشمال والجنوب.
وثمة تساؤلات مهمة بداية عن مسائل أساسية في إدارة شؤون الحكم والدولة، هل هناك مؤسسات حقيقية مسؤولة عن صناعة القرار كل في مجال التخصص المعين من شؤون الحكم، ومن يصنع القرار، ومن المسؤول عن التعبير عنه وتنفيذه، فقد أظهرت هذه التجربة الأخيرة أن الأمر في الواقع المعاش سداح مداح الكل يملك حق اتخاذ القرار، والكل يملك حق إطلاق المواقف، ولو سلمنا جدلاً أن هذا الوضع يمكن السكوت عليه أو الصبر عليه إن كان متعلقاً بشؤون البلاد الداخلية، لقلنا لا بأس، ولكن أن يمتد الأمر إلى أمور حساسة متعلقة بالسياسة الخارجية المرتبطة بأطراف أجنبية قد تقود إلى ما يحمد عقباه فهذا ما يحار المرء فيه.
وثالثة الأثافي لو أن هذا التصعيد الحاد وهذه المواقف النارية كانت مقصودة لذاتها، وتعبير عن سياسة مدروسة لما كان هناك من تثريب على من أطلقوها، ولكن نظرة سريعة فاحصة على خلفيات هذه التطورات تكشف حقيقة مرة أن الذين تباروا لتوريط البلاد في أزمة مفتعلة لم يكلفوا أنفسهم قراءة بنصف انتباهة لمضمون التصريحات التي يردون عليها، لقد تبين للاسف الشديد أن عناوين وكالات الانباء العالمية المثيرة هي التي تصنع سياستنا الخارجية بردود فعل مهتاجة، وفي الواقع أن هناك الكثير ما يمكن الاستناد عليه فعلاً من سياسات أمريكية مجحفة للتنديد بها، وليست هناك حاجة على الإطلاق لافتعال أسباب لا وجود لها من أجل توتير العلاقات الخارجية بلا مبررات موضوعية.
ولعل أكثر الأمور مدعاة للاستغراب أن الرئيس الامريكي باراك اوباما تلقى أكثر الانتقادات عنفاً من بعض المسؤولين في الخرطوم على أكثر تصريحاته موضوعية بشأن تطورات الأوضاع في السودان، إن لم نقل إنها كانت متقاربة مع مواقف قادة الحكم هنا كما سنبين لاحقاً، فالذين تصدوا له اجتزأوا من تصريحاته قوله إن ملايين السودانيين سيكونون ضحايا لعودة الحرب، وتجاهل منتقديه، أو لعلهم لم يصبروا ليطلعوا على النص الكامل لتصريحاته، مكتفين بـ(لفح) العناوين، وثمة موقفين مهمين أفصح عنهما أوباما في تصريحه الأول تأكيده على أن بلاده تركز على نطاق واسع من الطرق الديبلوماسية للتعاطي مع الوضع في السودان، وهذه إشارة مهمة لجهة أنه لم يتحدث عن ضغوط أو تدخل عسكري لفرض واقع معين، والموقف الآخر المهم الذي كشف عنه الرئيس الأمريكي قوله (من المهم لنا أن نمنع هذه الحروب - ليس فقط إنطلاقا من أسباب إنسانية بل أيضا إنطلاقا من المصلحة الذاتية- لأنه إذا تفجرت الحرب هناك فإنها قد يكون لها آثار مزعزعة للاستقرار توجد مجالا أوسع لنشاط ارهابي قد يجري توجيهه في نهاية المطاف إلى بلدنا).
وأهمية هذا التصريح أنه يكشف عن موقف استراتيجي للولايات المتحدة حيال الوضع في السودان يؤكد أنها مصلحتها في منع عودة الحرب إلى السودان، وأنها تفعل ذلك بدافع مصلحتها الذاتية في المقام الأول خشية أن تخلق زعزعة استقرار السودان ملاذاً آمناً لجماعات (إرهابية) قد يمتد نشاطها إلى داهل الولايات المتحدة نفسها.
ومعرفة هذين الموقفين المهمين الاستراتيجيين للإدارة الأمريكية ينبغي أن يكونا شديدي الأهمية للخرطوم في بناء استراتيجية للتعامل مع واشنطن إنطلاقاً من تلاقي المصلحة الوطنية السودانية مع المصلحة الأمريكية في منع عودة الحرب، وعدم زعزعة استقرار السودان حتى لا يكون ملاذاً آمناً لجماعات العنف.
وفي الواقع أن تحذير الرئيس أوباما من عودة الحرب وعواقب ذلك على ملايين البشر في السودان، لا يختلف إن لم يماثل تحذيراً مماثلاً صدر عن الرئيس عمر البشير وردده أكثر من مرة والذي يعتبر فيه أن السيناريو الاسوأ الذي يخشى وقوعه ألا يحدث الانفصال فحسب بل أن تعود الحرب على الرغم من التمسك باستدامة السلام والاستقرار بلغ حد القبول بأن يؤدي الاستفتاء على تقرير المصير إلى التضحية بوحدة السودان، وعودة الحرب التي حذر منها الرئيس البشير لا تعني سوى أن الملايين أيضاً من السودانيين سيدفعون ثمن ويلاتها.
وعلى ذات المنوال جاءت تصريحات نائب الرئيس علي عثمان في حديثه لمجلس الوزراء عقب عودته من الاجتماع الدولي بنيويورك، وقال فيها إن السلام الذي تحقق هو قيمة كبيرة ينبغي على الجميع المحافظة عليها مهما كانت التداعيات السياسية لتنفيذ اتفاقية السلام مطالباً الجميع بالعمل لتلافي العودة للحرب مرة أخرى، ولكنه حذر من أن هناك ترتيبات، في إشارة لقضيتي أبيي وترسيم الحدود وقضايا مع بعد الاستفتاء، إذا لم يتم اتخاذها وفق نصوص الاتفاقية فإن (احتمال العودة للحرب يصبح يقيناً). والطريف أن نائب الرئيس وصف الموضوعات العالقة هذه بأنها (كلها قنابل موقوتة) مستخدماً نفس التعبير الذي أطلقته وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون الشهر الماضي التي وصفت الوضع في السودان على أعتاب الاستفتاء بأنه (قنبلة موقوتة) ونالت جراء ذلك تقريعاً فظاً من بعض كبار المسؤولين في الخرطوم.
ولا يحتاج الأمر لإيراد المزيد من الأمثلة من تصريحات قادة الحكم للتأكيد على أن عدم عودة الحرب هو موقف واضح ومحدد لا جدال فيه، ولا حوله، وأن المطلوب التحرك الواعي لتلافي حدوث السيناريو الأسوأ، ولا أحد عاقل يرى في العودة العبثية للحرب يمكن أن تكون حلاً لأية مشكلة مهما عظمت وتعقدت بعد التجارب المريرة للحروب التي اشتعلت في أركان السودان الأربعة على مدى أكثر من نصف قرن، فلذلك كان غريباً للغاية أن يحتج أحد من المسؤولين في الخرطوم على تصريح للرئيس الأمريكي يحذر فيه من مغبة العودة للحرب، وهو موقف كما اسلفنا يتفق تماماً مع الموقف المعلن لقيادة الدولة كما بينا آنفاً، صحيح أنه هناك العديد من الخلافات بين الخرطوم وواشنطن وحتى توتر في العلاقات، ولكن ما المانع أن تكون هناك مواقف مشتركة، تحقق مصالح للطرفين، فإن كانت للسودان مصلحة اصيلة في استدامة السلام والاستقرار، وللولايات المتحدة مصلحة ألا تؤدي زعزعة الاستقرار في السودان إلى توفير ملاذ آمن للجماعات التي تستخدم العنف ضدها وقد تصل عملياتها إلى داخل أراضيها، فما المانع من أن تكون هذه قاعدة للتعاون لتحقيق مصالح مشتركة، بدلاً من أن تكون علاقة ذات إتجاه واحد تتحقق فيها المصالح الأمريكية فقط بلا مقابل.
وعلى الذين لا يقرون هنا بهذه المصلحة للولايات المتحدة ألا ينسوا أن الحكومة منخرطة بالفعل في (الحرب ضد الإرهاب) منذ مطلع هذه الألفية، حتى قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهو تعاون وثيق وصل بالعلاقات الاستخبارية بين الطرفين إلى حد التطبيع الكامل، في غياب تطبيع سياسي واقتصادي مماثل، ولذلك فما هي الحكمة من إطلاق مواقف متشجنة غير منتجة في وقت عصيب تزداد فيه الحاجة إلى أعلى درجات الحكمة في التعاطي مع التحديات المصيرية الراهنة.
وما حدث من ردود فعل مبالغ فيها ومفتعلة بشأن تصريحات أوباما، رافقه أيضاً هرج مماثل رداً على تصريحات مزعومة بشأن عزم الأمم المتحدة نشر قوات حفظ سلام عازلة على الحدود بين الشمال والجنوب، وهو أمر لم يحدث أصلاً، ويبدو أن الذين انبروا للتعليق عليه من المسؤولين في الخرطوم لم يتثبتوا من التصريحات التي نسبت لمسؤولين دوليين بهذا الشأن فحسب، بل ثبت أنهم يجهلون، أو يتجاهلون عن عمد، وضع قوات بعثة الامم المتحدة في السودان، وتفويضها، وأماكن انتشارها، وحدود مهمتها، فاختلقوا ضجة لا مبرر لها، ولم يكن الأمر يحتاج إلى احتجاج من وزارة الخارجية لاستدعاء للممثل الخاص للأمين العام على أمر لم يحدث اصلاً، وهو ما نفاه في مؤتمر صحافي لاحقاً، وهو ما يفترض أن يكون قد تسبب في إحراج للدبلوماسية السودانية، وتشكيك في مهنيتها.
ولو تابع الذين تسابقوا في الخرطوم للإدلاء بتصريحات نارية تصريح المندوبة الأمريكية سوزان رايس بهذا الشأن لكفوا أنفسهم مؤونة الإفتاء بغير تبيين، ولوفروا على البلاد المزيد من توتير الأجواء بغير ضرورة، فقد قالت رايس التي كانت ضمن وفد مجلس الأمن الذي زار السودان، رداً على أسئلة الصحافيين حول موقف الولايات المتحدة ومدى استعدادها لدفع ما ورد في مداخلتها أمام المجلس بشأن إنشاء منطقة عازلة على الحدود بين الشمال والجنوب بقوات اممية، بقولها (هذه الفكرة سمعناها في الأصل من حكومة الجنوب، ولم نسمع بعد من الشمال والخرطوم كيف ينظرون إلى هذه الفكرة، أعتقد أن معظم أعضاء المجلس متشككون حيال هذه الفكرة، على الأقل، لجهة جدوى نشر قوات على طول الحدود، فهذه القوات غير موجودة أصلاً، ولا يمكن تجميعها على وجه السرعة الكافية)، وأضافت هناك نقاش جاد حول بدائل للتركيز على نقاط في الحدود أكثر عرضة للعنف، والتي قد يتعرض المدنيون فيها للمخاطر، وقالت إننا ننتظر مقترحات من الأمانة العامة، ومن يونميس، والأطراف المعنية لإجراء المزيد من المناقشات.
وما قالته رايس واضح للغاية، كان ذلك الخميس الماضي، وأن ما جرى التعليق عليه بانفعال زائد في الخرطوم بعد ذلك لا يعدو أن يكون مجرد فكرة طرحتها الحركة الشعبية، وأقرت رايس أنه لم يتم بحث هذا الأمر مع الخرطوم، وبالتالي فليس هناك قرار بنشر قوات عازلة ولن يكون ذلك ممكناً بغير موافقة الخرطوم، أما إعادة انتشار قوات يونميس الموجودة اصلاً على الأرض فهو لم يتعد تفويضها، اللهم إلا إذا نسى المحتجون أنها موجودة بتفويض بموجب الفصل السابع يخولها حماية نفسها، ومنسوبي الأمم المتحدة، وكذلك المدنيين الذين يتعرضون لخطر وشيك.
ولذلك فمن المهم للغاية في هذه اللحظة المفصلية والمصيرية التي تعني كل كلمة فيها الكثير أن تعيد الحكومة ترتيب بيتها من الداخل، فإطلاق العنان لكل من حمل صفة رسمية أو سياسية في الحزب الحاكم ليفتي في كل شئ ويقرر في كل أمر بلا ضابط ولا رابط سيزيد الطين بلة، وقد اصبحت أسهل وسيلة لممارسة السياسة إطلاق التصريحات المجانية دون اعتبار لعواقبها، فهل من معتبر قبل أن تهلك البلاد حصائد ألسنة هواة التصريحات؟.