عن الجلابة والفلاتة ومن شرق وغرب: مفارقات المواطنة والانتماء في السودان
أتابع هذه الأيام قضية لفتاة سودانية تعمل خادمة لدى إحدى الأسر في العاصمة السودانية، وقد اعتقلتها الشرطة قبل بضعة أسابيع في مدينة أم درمان بينما كانت في طريقها لإرسال مبلغ من المال لأسرتها التي تقيم في إحدى الولايات في وسط البلاد، وذلك بشبهة أنها أجنبية تقيم في البلاد بصورة غير شرعية. وقد قدمت الفتاة فوراً للجهات المعنية وثائق ثبوتية تؤكد أنها تتمتع بالجنسية السودانية، رغم أن أصول أسرتها تعود إلى غرب افريقيا. وليس هذا بمستغرب، فهناك فئة ضخمة من مواطني دول غرب افريقيا، خاصة نيجيريا، يطلق على طائفة منهم تسمية "الفلاتة"، تقيم في السودان منذ مطلع القرن الماضي، وقد حصل غالبهم على الجنسية السودانية.
شككت الشرطة في صحة الوثائق الثبوتية، رغم أنها صادرة عن جهات حكومية، مما اضطر الفتاة للسفر إلى موطن أسرتها للحصول من السلطات المحلية على وثائق جديدة تثبت هويتها. وقد كلفها هذا المسعى نفقات ومشاق سفر أرهقتها من أمرها عسراً. ورغم ذلك لم تقتنع السلطات بقضيتها فأحالتها إلى القضاء، حيث ما تزال تجاهد لاستعادة حريتها وحقها في العمل.
الطريف في كل هذا أن الأسرة التي تعمل لديها هذه الفتاة هي أسرة آسيوية الأصل، ولم يحدث قط أن اعترضت الشرطة طريقها ذات يوم لمطالبتها بإثبات هويتها وأحقيتها في الإقامة في البلاد. وهذا يشير إلى أن الإشكالية التي واجهتها تلك الفتاة هي من جهة ذات طابع طبقي، حيث يكون الفقراء وأهل الطبقات الضعيفة هم الأكثرتعرضاً لمضايقات الجهات الرسمية. وهي أيضاً، ولعله الأهم، ذات طابع عرقي، حيث أن المواطنين من أصحاب السحنات الداكنة يكونون أكثر عرضة للإيقاف من دوريات الشرطة من غيرهم.
ويندرج هذا التوجه تحت تصنيف "العنصرية المؤسسية" بحسب اتهام تقرير ماكفيرسون الذي صدر في بريطانيا عام 1999 على خلفية مقتل الفتى الأسود ستيفن لورنس، وتقاعس الشرطة حينها عن تقديم قتلته للعدالة، رغم أنهم اعتقلوا وتراكمت الأدلة ضدهم. ولكن تهاون الشرطة في الإجراءات أدى في النهاية إلى انهيار المحاكمة. وقد اكتشف القاضي ماكفيرسون وهو يتقصى في ملابسات القضية هذه "العنصرية المؤسسية" المتفشية، ومن مظاهرها سهولة الاشتباه في الملونين، بحيث أن الشاب الأسود قد يكون عرضة للإيقاف من قبل الشرطة من خمسة إلى أربعة عشر مرة أكثر من رصيفه الأبيض. وبعد إعلان "الحرب على الإرهاب"، أصبح الآسيويون عموماً والباكستانيون خصوصاً يتعرضون للـتوقيف بنسبة عالية. وقد جاء في إحصائية صدرت مؤخراً أنه من بين أكثر من مائة ألف شخص تم اعتراضهم أو توقيفهم وفق قانون مكافحة الإرهاب لم يتم تقديم شخص واحد للمحاكمة، مما يرجح أن التوقيف يتم على أسس انطباعية تتعلق في الغالب بسحنة الشخص أو شكله، وليس على أي أسس موضوعية.
ولكن قبل الاسترسال في تحليل هذه الظاهرة وانعكاساتها على حقوق المواطنة لطوائف من السودانيين، أود أن أورد وقائع أخرى تكشف الجانب الآخر لهذه المسألة. أما الواقعة الأولى فتتعلق بحوار شاركت فيه في دار جريدة "الصحافة" السودانية بالخرطوم قبل أكثر من عام، ابتدره صحفي إسلامي معروف بهجوم على من وصفهم ب "الجلابة"، أي التجار العرب، في إقليم دارفور، وأنهم سبب الأزمة لأنهم يتعاملون مع أهل تلك المناطق بغرور وفوقية. وقد رددت على المتحدث بأن هذا الرأي لا يعكس الواقع، لأن من يسمون بالجلابة بالعكس، يندمجون في مجتمعات الهجرة ويصبحون جزءاً منها، وأن المشكلة لا تتعلق بهؤلاء بتاتاً. وكان من بين حضور ذلك اللقاء أحد قادة الحركات المسلحة في دارفور، فأمن فوراً على ما قلت، وذكر أنه شخصياً قضى سنوات الدراسة الأولى في ضيافة تاجر مشهور من قبيلة الشايقية من أعيان مدينة الفاشر بسبب صداقة أسرتيهما، وأن هذا التاجر ما زال يعامله كابن ولا يرضى أن يعبر مدينة الفاشر دون أن يمر بداره للتحية. وأضاف يقول إن ذلك التاجر محبوب من كل أهل المدينة، لدرجة أنه حين ساءت أحواله المالية في فترة معينة وقرر بيع داره أصر أهل المدينة على دفع ثمنها وإعادتها إليه. فكانت هذه إجابة قاطعة من أهل الذكر مقابل ترداد بعض المقولات الأيديولوجية المستهلكة.
في واقعة مشابهة كنت قبل أيام أناقش مع أحد كرام الإخوة المشاكل التي يواجهها شرق السودان، وتطرق حديثنا إلى مؤتمر إعمار الشرق المزمع عقده في الكويت مطلع الشهر المقبل، فقلل الصديق المذكور من أهمية المؤتمر، وأردف يقول: إن الحكومة أوكلت أمانة صندق إعمار الشرق إلى شخص ينتمي إلى الشمال. فسألته: هل هذا الشخص القادم من "الشمال" من المستوطنين في الشرق، أم أنه جلب من الشمال؟ فأجاب بأنه مقيم مستوطن منذ حقبة. فسألت: فما هو تعريفك إذن لأهل الشرق، خاصة وأننا كنا قد تجادلنا في وقت سابق حول قضية الوافدين إلى الشرق من اريتريا وبقية دول الجوار؟ وهل يكون المهاجر من اريتريا أو اثيوبيا احق بأن يعرف بأنه من أهل الشرق من المهاجر القادم من شمال السودان أو غربه وجنوبه؟ فأجاب بالإيجاب، قائلاً إن اهل الشرق في تعريفه هم المجموعات العرقية المقيمة على جانبي الحدود مع اريتريا، لأن "الشرق" بهذا التعريف وجد قبل نشأة الدولة القومية، فهو الأصل.
نحن إذن أمام تعقيدات متراكبة حول قضية المواطنة السودانية، حيث نواجه بمستويات متعددة من الإقصاء. وكنا قد ذكرنا في مداخلة سابقة أن السودان لم يشهد في تاريخه المستقل الإقصاء المنهجي المقنن، ولكن الواقعة التي بدأنا بها هذه المقالة تذكرنا بأن هناك ضروباً من الإقصاء غير المقنن تمارسها أجهزة الدولة عبر العهود، وتستهدف شرائح المواطنين الفقيرة من مجموعات عرقية محددة. هذا بالإضافة إلى عدم الاكتراث المنهجي من النخبة الحاكمة بمشاكل ومعاناة مواطني أطراف البلاد. وهذه كلها أمور تحتاج إلى معالجة. فلا يكفي أن تنص الدساتير على الحقوق المتساوية لكل المواطنين، في حين أن مواطنة سودانية فقيرة كادحة تتعرض للملاحقة التعسفية رغم أنها تحمل الأوراق الثبوتية الصحيحة، وحتى إذا كانت لا تحمل أي أوراق. فالأصل في التعامل البراءة. وفي الحالة التي ذكرناها، فإن الجهة التي خالفت القانون واستحقت المساءلة هي الجهات التي لا حقت هذه الفتاة وكلفتها من أمرها عسراً. والواجب على المسؤولين ليس فقط إنصاف مثل هذه الفتاة، بل إنهاء الممارسات التي تميز ضد المواطنين بلا سبب سوى سحنتهم ومظاهر الفقر البادية عليهم، خاصة وأن مثل هذه المشكلة قد تتصاعد بعد إعلان انفصال الجنوب، حين سيصبح كل شخص جنوبي المظهر عرضة للاعتراض والتوقيف من قبل أجهزة حفظ الأمن والنظام.
من جهة أخرى، فإن هذا التحيز المؤسسي ليس هو للأسف المظهر الوحيد للإقصاء والتمييز. فالصورة النمطية التي يروج لها الخطاب الأيديولوجي السائد في بعض الأوساط (حتى في أوساط النخبة الحضرية كما أسلفنا) عن المهاجر للأطراف شرقاً وغرباً وجنوباً تحت مسمى "جلابي"، وربط هذه الصورة بالاستغلال والمخادعة هي صورة تنقصها الدقة، وتمثل تشويهاً مجحفاً للواقع. فالمهاجرون إلى الأطراف، مثلهم مثل المهاجرين إلى المركز، أناس ضاقت بهم الحال فكدوا في طلب الرزق الحلال في أرض الله الواسعة. وسواء أحقق هؤلاء نجاحاً اقتصادياً مقدراً، كما هو حال القلة منهم، أو ظلوا يشاركون غالبية أهل موطنهم الجديد تواضع الحال، فلا تثريب عليهم ما لم يأتوا الإثم المخالف للقانون، وعندها يتم التعامل معهم بسلطة القانون.
ولعل التحامل على هذه الفئة يعكس الخلط اللاعقلاني لدى بعض الأوساط الافريقية بين فئات المستوطنين التي فرضت هيمنتها بقوة السلاح، واستأثرت بالموارد والأراضي دون أهل البلاد، كما هو الحال في الاستعمار الاستيطاني في الجزائر أو الجنوب الافريقي، وبين حالة بعض المهاجرين ممن حققوا نجاحاً اقتصادياً متواضعاً بجهدهم الخاص،كما هو حال كثير من المهاجرين الآسيويين أو العرب (اللبنانيين خاصة) في افريقيا. فهؤلاء وإن كان بعضهم جاء في ظل الاستعمار، لم يرتبطوا به مباشرة، واعتمدوا في نجاحهم على مهاراتهم الاقتصادية وتضامنهم. ولكن هذا النجاح أثار بعض مشاعر الغبن عند كثيرين، واستخدم سياسياً كما في يوغندا في عهد عيدي أمين الذي طرد كل المهاجرين الآسيويين وصادر ممتلكاتهم. وقد تضررت يوغندا واقتصادها نتيجة لهذا أكثر بكثير مما تضرر الآسيويون الذين بدءوا من الصفر في بريطانيا، فحققوا هناك نجاحاً كبيراً. ولكن العقلاء من القادة الأفارقة، كما كان الحال في كينيا وساحل العاج ومعظم دول افريقيا الأخرى، اتعظوا من تلك التجربة واحتضنوا المهاجرين فانتفعت البلاد كلها من ذلك.
هناك ضروب أخرى من الإقصاء تمارس في مناطق أخرى من السودان، خاصة الغرب والجنوب، حيث ترتبط الأرض بالقبيلة، ويعتبر كل وافد "أجنبياً" مهما طالت إقامته، ويحرم من التمتع بكافة الحقوق المتاحة للآخرين. وقد يشمل مثل هذا التمييز حتى الزوار والعابرين، حيث حكى عدد من منسوبي الحركة الشعبية من أهل الشمال أنهم واجهوا الكثير من التوجس وحتى العداء من قبل مواطني المناطق الجنوبية التي كانوا يمرون بها أو يقيمون فيها مؤقتاً لأن المواطن الجنوبي العادي لم يكن يستسيغ فكرة وجود شمالي في صفوف مقاتلي الحركة أو مؤيديها. فإذا كان هذا هو حال رفيق السلاح، فكيف بمن يصنف في خانة "العدو"؟
إذن هناك حاجة لمراجعة شاملة للمارسات والمواقف، ليس فقط من قبل السلطات، بل من قبل كل القوى الاجتماعية، بما في ذلك تلك القوى التي تناضل من أجل المساواة، التي لا ينبغي أن تنهى عن خلق وتأتي مثله. ولكن الأولوية تبقى لاجتثاث التحيز المؤسسي من أوساط قوى حفظ الأمن والنظام التي ينبغي أن تتوقف عن معاملة الفقر والتهميش كتهمة يأثمن من يقع تحت طائلتها.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]