كلنا فينا عرق (كوش )

 


 

د. عمر بادي
24 December, 2010

 


الحرب الأهلية في الجنوب و التي إستمرت متقطعة منذ عام 1955 و إلى عام 2005 بإعتبار توقفها بين العامين 1972 و 1983 , كانت كارثة على المواطنين و على السودان نفسه , فقد كانت إمتدادا لعزلة قانون المناطق المقفولة ( قانون الجوازات و الهجرة ) لعام 1922 , الذي جعل من الجنوب محمية كبيرة للحيوانات و للبشر لا يقربها الشماليون , و بموجبه تم ترحيل الشماليين الذين كانوا بالجنوب قبل ذلك القانون . هكذا جعل ذلك القانون الجنوبيين يعيشون في تخلف و إنقطاع تامين و خير وصف لحالهم ما قاله الراحل الدكتور جون قرنق من أن الجنوبيين كانوا يعيشون في عهد أبينا آدم ! و حقا فقد كانوا عراة إلا من ورقة التوت ( الكنفوت ) التي يلبسها النساء حتى فترة ما بعد إستقلال السودان . لقد ساعد الشماليون الذين نزحوا إلى الجنوب كموظفين حكوميين أو تجار في نقل أهل الجنوب إلى الحياة العصرية , و كانت البوادر في إنتقال و هجرات الجنوبيين إلى الشمال مع هؤلاء الشماليين عند عودتهم . هذا لا ينفي دور الإرساليات التبشيرية الغربية التي كانت لها مدارس بجانب المدارس الحكومية و إستوعبت أعدادا من الطلبة الجنوبيين في عمليات التنصير .
في فترات الحرب الأهلية في الجنوب كانت المدن الكبرى تحت سيطرة الحكومة و لذلك لم يتأثر سكانها بالنزوح , فقد تركز النزوح على القرى و المدن الصغرى التي تعتبر كلها مناطقا ريفية , و قد عانى سكانها من ويلات الحرب و من النزوح إلى دول الجوار أو إلي شمال السودان كما فعلت غالبيتهم . من هنا يتضح أن الذين نزحوا إلى الخرطوم و تم إسكانهم في معسكراتٍ على أطراف العاصمة كانوا من نوعية القرويين و سكان الأرياف , بجانب نزوح البعض من المتعلمين المثقفين من أجل حياة أفضل في الخرطوم . لقد كانت الحرب و ما سببته من نزوح للإخوة الجنوبيين إلى الشمال , كانت نعمة متنكرة في ثياب نقمة أو كما يقال باللغة الإنجليزية A blessing in desguise لأنها فتحت بصيرتهم على حياة المدنية و أتاحت لهم التعليم في المدارس المسائية للكبار و في المدارس الصباحية للصغار و أكسبتهم حرفا إمتهنوها كالبناء و صيانة السيارات و التجارة للرجال , و إدارة البيوت و الحياكة و الطبخ للنساء , و ها هم قد عادت جماعات منهم إلى الجنوب و إستفادوا من هذه المهن .
لقد كانت معسكرات النازحين تقدم أبسط الخدمات للإخوة الجنوبيين بواسطة منظمات الإغاثة , و كان عليهم أن يكملوا النقص بالتوجه إلى داخل الخرطوم طلبا للعمل , و أقول هنا و بكل فخر أن الشعب السوداني في الخرطوم هم الذين قدموا يد العون للإخوة الجنوبيين , كل على قدر إستطاعته , و عاملوهم أحسن معاملة . كل من له بيت تحت التشييد لم يمانع أن تسكن الأسر الجنوبية فيه , و قد مررت بهذه التجربة و كانت تسكن في بيتي أكثر من أسرة . أما النساء فكن يدخلن إلى البيوت و يطلبن العمل و كن يقمن بأعمال النظافة و لكن ليس كأجيرات بل كأفراد من أصحاب البيوت و ذلك في التعامل معهن في المأكل و المشرب و الإستحمام و تهيئة النفس قبل الذهاب لأزواجهن في نهاية اليوم .
للأسف الشديد إن قانون المناطق المقفولة في زمن الإستعمار الإنجليزي , ثم الحرب الأهلية في فترة الحكومات الوطنية , كانا عائقا كالسد المنيع في طريق التعارف و الإندماج و التلاقح بين الشماليين و الجنوبيين , و الآن و بعد أن بدأ التفاعل يأخذ مجراه و بدأ يظهر جليا في التحدث باللغة العربية و في الشعور بالإلفة و بإمكانية التعايش الوجداني , تأتي النزعة الإنفصالية من قادة الحركة الشعبية لتوقف كل هذا المد الشعوري قبل أن تكتمل تفاعلاته . هنا يجب القول أنه لم يقدم شريكا الحكم , المؤتمر الوطني و الحركة الشعبية , المساعدات المرجوة منهما للإخوة الجنوبيين في معسكراتهم , و تركوهم يتقلبون في معاناتهم التي إستمرت سنين عددا , و كأنهما كانا يقفان في وجه هذا المد الشعوري بين الجنوبيين و الشماليين . إنني أخص باللوم الحركة الشعبية التي كان عليها أن تضع المواطن الجنوبي و متطلباته في أعلى أولوياتها بدلا من أن تضع قادتها و متطلباتهم في أعلى أولوياتها , حتى غدت برجوازية الحركة الشعبية علامة فارقة يرقبها القاصي و الداني .
لقد أبدت الكاتبة القاصة إستيلا قاتيانو في قصصها الواقعية جوانبا من معاناة النازحين الجنوبيين في معسكراتهم , و هي التي نشأت في ظل النزوح و تشبعت بقضاياه فعكستها على خير ما يكون رغم مأساويتها فتفاعل معها القراء , و أنا أرجو من العزيزة إستيلا سواء بقيت في الشمال أم ذهبت إلى الجنوب , أن لا تبتعد أبدا عن قضايا البسطاء و المسحوقين أينما وجدوا وأن تعكس بيئة الجنوب العذراء و ترصد التحولات الإجتماعية . أيضا لا بد من الإشادة بما تقدمه جماعة ( مسرح على الهواء ) بقيادة الفادني , من فقراتٍ تمثيلية في أماكن المعسكرات و السكن العشوائي , و يا ليتهم بدأوا هذه الفكرة منذ أعوام مضت , فقد وجدوا التجاوب و القبول من المشاهدين ووجدوا اللغة المشتركة .
هذا المد الشعبي الشعوري بين الجنوبيين و الشماليين , كيف يتسنى لنا دعمه ببعض القرارات الإيجابية ؟ لا بد من إحتضاننا للإخوة الجنوبيين في حالتي الوحدة و الإنفصال , لأن قرار الإنفصال إن حدث سوف يكون بمؤثرات فوقية و لن يكون عاكسا حقيقيا لرغبة الجنوبيين الطيبين . لذلك لا بد من إحتضان كل من آثر البقاء معنا في الشمال , و لا بد من ترك الباب مفتوحا لتقبل أي نازحين جدد ( أو سمهم لاجئين في حالة الإنفصال ) يأتوننا من الجنوب جراء أي منازعات أو حروب أو رغبة في العيش في الشمال . من أجل ذلك يجب إيجاد صيغة مشتركة بين حكومتي الشمال و الجنوب لإرساء هذا الأمر على أرض الواقع .
الجنوبيون النيليون يقولون إن أصلهم من مملكة ( كوش ) و التي تمثل ممالك النوبة الثلاثة كرمة و نبتة و مروي , و تمثل فترة زمنية من 2400 ق.م إلى 300 م , و هم ينحدرون من كوش بن حام بن نوح , و كلنا فينا عرق ( كوش ) .
(ombaday@yahoo.com)
 

 

آراء