سيناريو “اليوم التالي” في شمال السودان: مخاطر التداوي بسبب العلة

 


 

 


إذا كان صباح ما بعد يوم الانفصال سيواجه الدولة الوليدة في جنوب السودان بتحديات جسام قد تنوء بها القيادات الجديدة، فإن عواقب الانفصال على ما سيبقى من السودان لن تكون أقل خطورة. فالسودان ظل يواجه، حتى بدون الانفصال، أزمات متعددة، ليس أقلها أزمة دارفوروتفاعلاتها المحلية والدولية. وهناك بوادر أزمة اقتصادية تزداد تعقيداتها كل يوم، هذا إضافة إلى الأزمة السياسية المزمنة المتعلقة بشرعية الحكم المهتزة التي ستزداد اهتزازاً بعد انفصال الجنوب الذي يتحمل أهل الحكم كل تبعاته.

ولا تتعلق المسألة فقط بكارثة الانفصال وتبعاتها ومسؤولياتها، وما سيحدث من تلاوم في داخل الحكم وبينه وبين المعارضة، بل إن ثلم الشرعية للحكم سيكون أكبر لأن الحكم سند مشروعيته من أول يوم إلى موقف متشدد تجاه الجنوب والحركة الشعبية، في مقابل مواقف خصومه في الشمال التي وصفها بالتفريط والتخاذل. فقد كانت هناك حلول مطروحة لأزمة الجنوب، مثل اتفاق قرنق-الميرغني الذي أبرم عام 1988، وكان يحتوي على ملامح حل سلمي يحفظ وحدة السودان مقابل تنازلات أقل بكثير مما تم التوصل إليه في اتفاقيات نيفاشا. ولكن نظام الإنقاذ رفض ذلك الطرح وأصر على التفاوض من جديد، وخلال معظم فترة الحكم ظل صراع الجنوب و "الجهاد" هناك يمثل لب شرعية النظام الذي نصب نفسه مدافعاً عن هوية البلاد العربية الإسلامية ضد الحركة الشعبية التي تستهدفها. وفي هذا الإطار ظلت حرب الجنوب هي محور التعبئة، ومبرر تكريس الموارد للمجهود العسكري، وسنداً للهجوم على أي معارض بتهمة الخيانة العظمى والانحياز إلى أعداء الدين والوطن. وبعد اتفاقية نيفاشا ظل الجنوب كذلك محور المشروعية من منطلق أن المؤتمر الوطني هو الشريك في السلام والضامن لتنفيذ اتفاقية السلام الشامل.

أما الآن فبعد أن أصبحت الحرب والسلم معاً، ومعهما الجنوب، جزءاً من التاريخ، فإن فراغاً كبيراً سيحتل قلب الساحة السياسية في السودان. فلم يعد الاستقطاب حول الحرب هو محور الاصطفاف، ولا التعلق بأهداب سلام هش وصفة لردع من يريدون تحدي السلطة. حتى الاستقطاب بين الإسلاميين وخصومهم فقد محوريته بعد انشقاق الإسلاميين وانحياز قطاع منهم للمعارضة. وفي حقيقة الأمر فإن واقعاً جديداً تماماً يفرض نفسه لأن زلزال فصل الجنوب يعني خلق كيان سياسي جديد تماماً لا بد أن يدار على قواعد لعبة جديدة. وفي كل السوابق التي تعرضت فيها دولة لهزة من هذا النوع، أدى ذلك إلى تغيير النظام. فعندما انفصلت باكستان الشرقية وتحولت إلى بنغلاديش في عام 1971، انهار النظام العسكري في باكستان، وعندما انقسمت قبرص في عام 1974 بعد الانقلاب الذي دعمه العسكر الحاكمون في اليونان، انهار ذلك النظام العسكري ومعه النظام الانقلابي في قبرص. وبنفس القدر فإن انفصال إقليم كوسوفو عن صربيا، بعد خسارة الحرب في البوسنة وكرواتيا، حسم مصير حكم رجل صربيا القوي سلوبودان ميلوسوفيتش، الذي خسر السلطة ثم سلم إلى محكمة لاهاي. وحتى في الأحوال التي كان التمسك فيها بإقليم ما إسمياً، كما كان حال دعوى الأرجنتين في الفولكلاند، فإن خسارة النظام العسكري حربه هناك ضد بريطانيا في عام 1982 أدت إلى انهيار سريع لذلك النظام. هنالك بالطبع استثناءات، خاصة حين يقع الانفصال سلماً وبالتراضي، كما كان حال انفصال اريتريا عن اثيوبيا عام 1993، وانفصال جمهورية سلوفاكيا عن جمهورية تشيكوسلوفاكيا في نفس العام. ولكن حتى هنا كانت لتلك الزلازل توابعها.

الحكومة السودانية تحسبت لبعض الهزات المتوقعة، حيث أكثر أهل السلطة من الحديث عن توقعات بأن يتعرض السودان لهجمة دولية جديدة بعد انفصال الجنوب الذي ظل يمثل حتى الآن "درعاً سياسياً" يحمي النظام بسبب الدور الذي يلعبه الحزب الحاكم في تمرير اتفاق السلام. ولكن ما أن ينتهي النظام من أداء هذا الدور حتى يصبح الخارج في حل من أي محاذير تقيد يديه إزاء استهداف النظام. ويبدو حتى الآن أن النظام اعتمد استراتيجية من عدة محاور لمواجهة التحدي المرتقب، وإن كانت بعض جوانب هذه الاستراتيجية تناقض بعضها الآخر.

فمن جهة نجد توجهاً نحو طمأنة السودانيين بأن الانفصال لن يكون حدثاً مزلزلاً، ولن يؤثر كثيراً في أوضاع البلاد. فالانفصال لن يكون "يوم القيامة" بحسب أحد المسؤولين، كما أن اقتصاد السودان لن يتأثر به كثيراً بحسب مسؤولين آخرين، لأن مساهمة نفط الجنوب في ميزانية الدولة لم تكن أكثر من 12% إضافة إلى أن نفط الشمال واعد أكثر وسيكون أطول عمراً. وفي نفس الاتجاه أعطى بعض المسؤولين تلميحات باحتمال التحرك باتجاه القوى السياسية المعارضة، كما ظهر اتجاه جاد لمعالجة أوضاع دارفور وفق استراتيجية تم التوافق عليها مع المجتمع الدولي. وفي معظم الأحوال كان خطاب الحكومة يؤكد أنها ستقبل نتيجة الاستفتاء وستسعى إلى علاقات ودية مع دولة الجنوب الجديدة وستحافظ على حقوق مواطني الجنوب الباقين في الشمال.

ولكن بعض تيارات الحكومة كانت في نفس الوقت تعطي إشارات متشددة تجاه كل الأطراف، بداية من التصريحات حول التشدد في تطبيق الشريعة الإسلامية، والتراجع عن قبول التعددية الثقافية والسياسية، وتهديد كل الجنوبيين المقيمين في الشمال بالحرمان من الجنسية والحقوق المدنية وتهديد المعارضة بالويل والثبور إن هي تحدت الحكومة. وفي نفس الاتجاه شهدت الفترة الماضية تصعيداً عسكرياً في دارفور، بمافي ذلك استهداف قوات جناح مني مناوي في حركة تحرير السودان، وهو الجناح الوحيد الذي وقع مع الحكومة اتفاق أبوجا في عام 2006 وشارك في الحكومة ودخل بسبب ذلك في صراعات دامية مع الحركات الدارفورية الأخرى. ويدخل في هذا الباب تعامل الشرطة بقسوة غير مبررة مع تجمع سلمي لحزب الأمة في أم درمان يوم الجمعة الماضي.

يتضح من هذا أن هناك تياران في داخل الحكومة، التيار الأول يرى أن التصدي للأزمة المرتقبة وعقابيل زلزال الانفصال ينبغي أن يكون بالتصالح مع الذات وبقية الشركاء في الوطن، وتخفيف حدة التوتر مع المعارضة ومع دولة الجنوب الجديدة من أجل تحقيق الاستقرار فيما بقي من السودان. أما التيار الآخر، فيرى أن الحل في التصعيد ورفع الشعارات وإعلان الجهاد على كل مخالف وحكم البلاد بقبضة من حديد. من الواضح كذلك أن هذين التوجهين يناقض بعضهما البعض، وأن التوجه الغالب هو، كما هو متوقع من تجارب الماضي القريب، هو تيار التصعيد.

وهناك فوق ذلك تناقض ذاتي داخل كل توجه. فالتوجه نحو التهدئة يقترن في الغالب بمحاولة التقليل من شأن الخطب وعواقبه، وعدم الاعتراف بحجم المشكلة أو بالمسؤولية في التسبب فيها. وفي نفس الوقت فإن التصعيد المرتبط برفع الشعارات الإسلامية يناقض نفسه في جوانب عدة. فلو كانت الدولة تقوم على أساس مبادئ الإسلام، فإن التعددية العرقية والثقافية هي من أسس أي مجتمع إسلامي، لأنه لا فضل لعربي على أعجمي في الإسلام إلا بالتقوى، والتقوى هي مما اختص الله وحده بالحكم عليه، كما أن الله خلق البشر شعوباً وقبائل ليتعارفوا. ولم يفرض حكام المسلمين في عهود الإسلام الزاهرة على الناس التخلي عن لغاتهم وثقافاتهم، ولهذا السبب فإن أكثر من ثمانين بالمائة من المسلمين اليوم هم من غير الناطقين بالعربية، دون أن يضيرهم ذلك شيئاً، وقد كان ولايزال من بينهم كثير من أئمة الدين. وعليه فإن من أول فروض الإسلام التبرؤ من كل شبهة استعلاء عرقي، أو تعصب قبلي أو جهوي، وخفض الجناح للمؤمنين والتواضع للخلق، واتهام النفس والإكثار من ذكر ذنوب المرء.

وكما ينبغي التبرؤ من التعصب بكل أنواعه وأشكاله، فإنه لا بد كذلك من الفصل بين التعصب القومي المرتبط بالدولة الحديثة وقيم الإسلام. فإذا كانت هناك دولة تقوم على أساس إسلامي، فلا يمكن أن تطبق قيم مخالفة عليها، كأن يقال للمسلم القادم من الجنوب أنه لا مكان لك في هذه الدولة ولا حقوق لأنك من أصل كذا. فإذا كانت الدولة تقوم على أساس الشريعة، فإن أي مسلم يهاجر إليها يصبح مواطناً لحظة تطأ أقدامه أرض تلك الدولة ويحوز على كل الحقوق المتاحة لبقية المواطنين. فإما أن تكون هناك دولة قومية يتساوى فيها كل المواطنين بغض النظر عن أديانهم (وهو ما ينص عليه الدستور السوداني الحالي) أو أن تكون هناك دولة إسلامية فيتساوى فيها كل المسلمين بغض النظر عن أصولهم.

مهما يكن فإن التوجه نحو التصعيد والتمترس وراء الإطار الضيق والإقصائي ليس من الحكمة في شيء، خاصة وأنه كان مسؤولاً إلى حد كبير عن الأزمة الحالية. فالنهج الإقصائي ليس مسؤولاً فقط عن فصل الجنوب، بل هو العامل الأهم في تفجر الصراعات (التي لا يزال بعضها مشتعلاً) في دارفور والشرق، وتلوح نذرها في مناطق أخرى. وإذا زاد التوتر وكثرت الصدامات فقد تتدهور الأمور أكثر في كل المجالات، خاصة الاقتصاد، وتزداد الأوضاع سوءاً في دارفور ومناطق التوتر الأخرى، مما يفتح المجال أكثر لضغوط أجنبية جديدة. فمن الواجب إذن على الحكومة أن تبتعد عن النهج التصعيدي وتسارع بتقديم مبادرات تصالحية تخفض التوتر بدلاً من أن ترفعه، وتقرب بين السودانيين لا أن تباعد بينهم، وتدعم الاستقرار لا الاضطراب.

ولا بد من الاعتراف بأن النظام السوداني سيجد من الصعوبة بمكان اتخاذ الخطوات السليمة في هذا الشأن، خشية أن تفسر تنازلاتها بأنها ضعف وتقهقر في ظل الظروف المحلية والدولية. وقد كان أهل الحكم ضيعوا فرصاً كثيرة في الماضي لتصحيح الأوضاع، خاصة خلال الانتخابات الأخيرة التي كان يمكن أن تؤدي إلى خلق مناخ سياسي جديد عبر قيام برلمان يمثل كل القوى السياسية. ولكن مهما يكن فإن هذه المسألة لا بد أن تعالج بالصورة الصحيحة، مهما يكن الثمن، لأن التداوي بالتي كانت هي الداء لن يؤدي إلى الكارثة، تماماً مثل سياسات الحكومة الاقتصادية الحالية التي تسعى لمعالجة نقص العملات الصعبة وارتفاع الأسعار بإجراءات لن تزيد الأوضاع إلى سوءاُ. ويمكن هنا للمعارضة أن تساهم بتقديم صيغ لحفظ ماء الوجه للحكومة لتسهيل الانتقال وتقليل ثمن التغيير للشعب السوداني ككل، ولكن الواجب في النهاية يقع على الحكومة التي سيتحتم عليها وحدها تجرع الدواء المر الذي لا شفاء إلا به.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء