دولة جنوب السودان وبيت الزجاج!!
زفرات حرى
صدقوني إن قلت إن منبر السلام العادل سيكون أكثر التنظيمات السياسية سعادة وفرحاً بقيام سلام مستدام بين دولتي الشمال والجنوب ذلك أن المنبر كان الوحيد من بين القوى السياسية الشمالية الذي طرح الانفصال كحل لمشكلة العلاقة المأزومة بين الشمال والجنوب وبالتالي سيكون سعيداً للغاية أن يتمخّض عن رؤيته السياسية سلامٌ يُنهي الاحتراب ولعل ذلك ما دعانا إلى المطالبة بحل القضايا العالقة بما فيها ترسيم الحدود وإيجاد معالجة لمشكلة أبيي وغيرها من مناطق النزاع الحدودية حتى لو أدى ذلك إلى تأجيل الاستفتاء بالرغم من أننا كنا الأكثر استعجالاً لتحقيق الانفصال وإنهاء وحدة الدماء والدموع.
أقول ذلك وأنا أشعر بالسعادة كلما وجدتُ تصريحاً من القيادات الجنوبية يبشر بعلاقة سلسة بين الدولتين تتجنب الأجندة الحربية التي يتبناها أولاد قرنق عامة وأولاد أبيي خاصة فها هو جيمس واني إيقا رئيس المجلس التشريعي بجنوب السودان يصرح بأن دولتي الشمال والجنوب ستكون بينهما اتفاقيات تعاون وما قال الرجل ذلك إلا لأنه يعلم تماماً أن دولة الجنوب الوليدة ستكون هي الخاسر الأكبر من أي تصعيد للعداء بين الدولتين.
تصريح إيقا يكشف عن تباين واضح بين تيارين داخل حكومة الجنوب أو قل داخل الحركة الشعبية أحدهما يدق طبول الحرب ويقوده حقدٌ أعمى يشلُّ قدرته على التفكير العقلاني ويجعله يتخبط في دياجير الظلام ويسعى نحو حتفه بظلفه ويسوقه ودولته الوليدة نحو الهاوية ومن هؤلاء باقان وأولاد أبيي دينق ألور ولوكا بيونق وإدوارد لينو والآخر هو تيار العقلاء الذين يُدركون أن بيت دولة الجنوب الجديدة مصنوع من الزجاج الهشّ وأن جيشها بتناقضاته القبلية المعلومة لا يعدو أن يكون مجرد نمر من ورق!!
إيقا قال في اعتراف صاعق إن دولة الجنوب ستواجه صعوبات يمكنها أن تتغلب عليها خلال «3 ــ 5» سنوات حتى تستطيع التحليق موضحاً أن «الطائر الصغير لا يستطيع الطيران من أول يوم»!! ثم قال إن الشمال سيكون أقوى من الجنوب سياسياً واقتصادياً واجتماعياً!!
ما اعترف به إيقا لا يحتاج إلى إثبات ذلك أن الشمال دولة قائمة ذات إرث وتجربة وهياكل حكم راسخة على العكس من الجنوب الذي تُجمِع التقارير الدولية أنه في حالة يُرثى لها من انعدام البنيات الأساسية وحالة الانهيار في شتى المجالات علاوة على الفساد المستشري والأمراض التي تفتك به بما في ذلك مرض الإيدز المنتشر بلا أي جهد لكبح جماحه والجوع والفقر الذي يضرب مواطنيه.
حتى إسكوت غرايشن المبعوث الأمريكي المتعاطف مع دولة الجنوب والذي سبق أن صرح على رؤوس الأشهاد قبل أكثر من عام بأنهم سيمارسون الضغط على الشمال ويدعمون الجنوب.. حتى غرايشون اعترف لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية أن دولة الجنوب الجديدة ستواجه مشكلات كثيرة خاصة في البنيات التحتية وقالت الصحيفة في تقرير نشرته «الصحافة» إن 90% من الجنوبيين يعيشون على أقل من دولار في اليوم الواحد وإن جزءاً كبيراً من ميزانية الحكومة يُنفَق على الرواتب والمعدات العسكرية والأمنية وأشارت إلى الانقسامات العِرقية داخل الجنوب بالإضافة إلى مشكلة أبيي.
بالرغم من هذه الحالة المزرية في جنوب السودان فإن التقارير البريطانية تشير إلى امتلاك قيادات الحركة الشعبية بمن فيهم الرئيس سلفا كير لعقارات في أوروبا بمئات الملايين من الدولارات فهل بربكم من فوضى أكبر من هذه وهل نتوقع لدولة هذا حالها أن تخطو إلى الأمام وهي تهدر مليارات الدولارات في أكبر عمليات فساد منظم في التاريخ الحديث؟!
بالرغم من ذلك كله تجد الدولة الوليدة تتصرف بمنتهى اللامسؤولية في علاقتها بالشمال ولست أدري هل يأتي ذلك السلوك نتيجة لعدم وجود دولة مؤسسات أو قل عدم وجود دولة في الأساس أم أن الأمر عبارة عن تبادل أدوار ولعبة ذكية مرسومة بدهاء وحنكة سياسية تتجاوز قدراتنا المحدودة على الرصد والتحليل؟!
خذ مثلاً وجود متمردي دارفور في جنوب السودان والذي طُرح من قِبل الرئيس البشير خلال زيارته الأخيرة لجوبا ثم من قِبل الأستاذ علي عثمان محمد طه ثم من مدير عام جهاز الأمن الفريق محمد عطا فقد صدرت تصريحات بأن سلفا كير قد أمر بطرد الحركات المتمردة بمن فيهم مني أركو مناوي ولكن ها هو مناوي لا يزال يقيم في جوبا ويعلن أنه لم يُطلب منه المغادرة ثم هناك الحركات الأخرى بما فيها حركة خليل إبراهيم!!
لست أدري والله لماذا يأمن سلفا كير من أية ردة فعل يمكن أن تأتي من الخرطوم؟! هل لأنه جربها تخلع أسنانها على الدوام وتعجز عن العضّ أم أنه إهمال منه أم ماذا، ثم ما الذي يجعل الخرطوم على الدوام تمارس هذا السلوك المتهاون منذ بدء مفاوضات نيفاشا حتى اليوم؟! من تُراه يلوم الخرطوم إن هي لعبت بتناقضات المشهد الجنوبي بصورة علنية ومارست سياسة المعاملة بالمثل مستغلة وجود تمردات كثيرة توشك أن تعصف بالدولة الوليدة وتوترات وقبائل تتوجس خيفة من مستقبل كالح يوشك أن يُطبق على القبائل المستضعَفة؟!
أُعطيكم مثالاً على حالة الغَلَيَان التي يشهدها الجنوب عشية إعلان الدولة الجديدة فقد اجتمعت سبع قبائل استوائية في مدينة جوبا وقررت ما سمَّته بتجفيف مناطق الاستوائية من قبيلة الدينكا حيث تقدم المجتمعون بمذكرة عاجلة إلى جيمس واني إيقا المنحدر من إحدى القبائل الاستوائية طالبوه فيها بترحيل مقبرة قرنق من عاصمة الجنوب «جوبا» التي هي جزء من المنطقة الاستوائية إلى منطقة أخرى وأن يتم ترحيلٌ كامل لكل الدينكا من أراضي الاستوائية بعد الانفصال!! وكان من أبرز القبائل التي تقدمت بتلك المذكرة «المنداري والجانبار والفوجو والكوكو والكافو» ويُذكر أن القبائل الاستوائية كانت قد قررت عدم بيع الأراضي لقبيلة الدينكا!!
لا أحتاج إلى تذكير القراء الكرام بأن فِرية نقض الرئيس الأسبق نميري لاتفاقية أديس أبابا حين ألغى توحيد الجنوب في إقليم واحد وقسّمه إلى ثلاثة أقاليم كانت كذبة بلقاء فقد قام اللواء جوزيف لاقو الذي كان قد وقّع اتفاقية أديس أبابا مع حكومة نميري بتقديم مذكرة إلى نميري يطالبه فيها بتقسيم الجنوب بعد أن وجد أن قبيلة الدينكا قد أعملت سيف تسلُّطها على بقية القبائل بما فيها الاستوائية التي ينتمي جوزيف لاقو إلى إحداها وهي قبيلة المادي.. وها هو التاريخ يعيد نفسه وتنتفض القبائل الاستوائية مجدداً مطالبة برحيل الدينكا بل بإزاحة ضريح قرنق الذي ظن الموهومون أنه محل إجماع بين أبناء الجنوب ولكم ضجّت الصحافة الجنوبية بالشكوى من تغول الدينكا على أراضي الاستوائيين في مدينة جوبا وغيرها أما النوير فبينها وبين الدينكا ثارات وتنافُس تبدّى في تصريحات سلفا كير الذي قال في نائبه د. رياك مشار ما لم يقله مالك في الخمر!
أما اقتنعتم قرائي الكرام أن الجنوب يقيم في بيت من الزجاج ثم أما اقتنعتم بأن حكومتنا لا تزال تمارس فقع المرارة على حساب الشمال وحقوقه وأمنه واستقراره؟!