عندما يتبخر الحزب الحاكم!! … بقلم: خالد التيجاني النور

 


 

 


tigani60@hotmail.com

لو أن جمالاً لم يهزأ بسائله وسؤاله, الذي بدا له سخيفاً, لربما ما كان ليكلف أباه فقدان ملك مصر والأنهار التي تجري من تحته, ولربما ما كان ليفقد إلى الأبد حلمه في وراثة عرشه, ولو أن جمالاً كان يعلم الغيب لاستكثر من خير مثل هذا السؤال البرئ, ولتجاوب معه بالجدية اللازمة وأثنى على سائله الناصح الأمين, إذاً لما مسه السوء, وأي سوء أن يرحل الرئيس حسني مبارك بطل الحرب, والرجل الذي حكم مصر لأطول, فترة ثلاثة عقود, لم يسبقه إليها إلا قليلاً من حكامها, أن يرحل بهذه الطريقة المهينة والمخزية بدلاً من أن يكلل بأكاليل الغار والمجد وهو في أرذل العمر, ولكن وحده من يتحمل المسؤولية عن هذه النهاية المفجعة.
وأصل الحكاية أن وريث عرش مصر المفترض جمال مبارك, وقد برز نجمه فجأة في قيادة الحزب الوطني الديمقراطي بفعل المنتفعين من قادته, عقد مؤتمراً صحافياً قبل أشهر معدودة إبان المؤتمر السنوي للحزب الحاكم وقد وقف تحت لوحة تحمل شعاراً جميلاً يقول (فكر جديد .. من أجلك أنت), ونهض صحافي شاب ليسال (عن إمكانية الحوار مع جماعات المعارضة الجديدة, شباب 6 أبريل, وشباب الفيس بوك)؟. لم يصبر نجل الرئيس الشاب المتعجل على فهم السؤال, وأشاح بوجهه بعيداً مستسخفاً السؤال وقال باسماً باستهزاء مستكنفاً الرد (طب ردو عليه بقأه ده)! ملتفتا للحضور, وبالطبع لم تقصر جوقة المنافقين الحاضرين من مشاركته في الضحك مستهزئين بالسؤال والسائل, وما علم أنه لن تمض اشهر قليلة حتى اكتشف أن هذه أغلى نصيحة مجانية قدمت لحاكم, ولو علم بالمآل البائس الذي كان ينتظره لاشتراها بكل كنوز الدنيا, فهذه الجماعات الشبابية التي كان يحسبونها كائنات اسفيرية افتراضية وهمية أثبتت العكس أن من يحكمون هم الافتراضيون حقاً, ومجرد موهومون مخدرون بسكرة السلطة. حتى أن زهرات (الفيس بوك) اليانعات هزمن (جنرالات البوت المحفلين بالنجوم المرصعة على الأكتاف).
وهكذا نجحت كل الثورات في التاريخ لسبب واحد هو ان الحاكم المستبد لا يرى غير نفسه ولا يسمع سوى صوته, ويحسب جهلاً أن الدنيا تسبح بحمده لأنه واهب الحياة لشعبه, يبني لهم الطرق ويفتح لهم المدارس والجامعات ويفعل كذا وكيت, ويستمع لمستشاري السوء الذي يزينون له كل باطل ويقبحون له كل حق, ويطمئنونه كذباً أن الشعب لا يرى له بديلاً فماذا يريد الشعب أكثر من هذا, ويستغرب أن يسألوه قولة الطائر المحبوس في قفص جميل (حريتي لا تشترى بالذهب), فما بالك إن كانت حياتهم جحيماً لا تطاق, وعيش بل أمل؟
هكذا شأن الطغاة على مر التاريخ احتقار من يمحضونهم النصح الأمين أو يطالبون بحقهم في الحرية والحياة الكريمة, (ومن هو هذا البوعزيزي)؟!, في رأي ليلى بن علي صاحبة قصر قرطاج, (ومن هي أسماء محفوظ أو وائل غنيم وعشرات غيرهم من الأسماء المحهولة من شباب عصر العولمة) الذين استكثر جمال مبارك مجرد الالتفات إليهم. (ولكن كم دبابة يملك البابا)؟! كان هذا جواب دكتاتور الإتحاد السوفييتي السابق ( جوزيف ستالين ) عندما أخبره مستشاروه أن ( البابا) قد أصدر بياناً قاسياً وشديد اللهجة ضده, وذهب ستالين والاتحاد السوفيتي وبقيت البابوية. وقالت الشهبانو فرح ديبا (ولكن من هو الخميني)؟, ليفاجأ الشاه وهو يولي هارباً من طهران بحجم حشود الجماهير الغاضبة التي تهتف ضده مستغرباً ان هؤلاء كلهم لغ يريدونه, وقالها الجنرال فرانكو وهو على فراش موته عندما قيل له أن الشعب الأسباني جاء يودعك فرد قائلاً وإلى أين سيسافر الشعب؟, وقالها قبلهم جميعاً فرعون, كبير الطغاة, عندما سأل موسى عمن يكون ربه؟!!.
دروس عظيمة وعبر لا تنتهي تذكر الناس بها ثورتي الشباب في تونس وفي مصر, ولكن تبقى حكمتها جميعاً واحدة أن سلوك الطغيان وسيرته واحدة ومصيره النهائي كذلك واحد مهما تعددت الأشكال وتباينت, والطريف أن ثورة تونس التي فاجأت الجميع تفاءلت بها الشعوب العربية المقهورة وتمنت أن تصيبها عدواها, واستعاذ منها الحكام واعتبروها مجرد صدفة لن تتكرر ببساطة لأن كل واحد منهم اعتبر نفسه استثناءً ولن تدور عليه الدوائر, وطفق منظرو الحكومات ينفون وجود شبه لبلدانهم بتونس ويعددون وجوه الاختلاف ويظلون في غيهم هذا حتى تأتيهم الطامة, وكأنه سبق عليهم الكتاب فلا يتويوا حتى يروا ذل وهوان السقوط من العروش.اسمع لوزير خارجية مبارك أحمد أبو الغيط, قبل أيام قلائل من ثورة الشباب في مصر, يقول بحزم (هذا كلام فارغ) عندما سئل إن كانت عدوى الثورة التونسية ستصل إلى بلاده, ولم تمض أيام معدودة حتى أصبح (كلاماً ملياناً) أطاح بالحكم الذي كان يظن أنه الأكثر رسوخاً في المنطقة. فأثار سقوط كبير الزعماء الجزع والخوف في نفوس من هم دونه. ومن الطريف أن أبو الغيط سئل في إحدى الفضائيات العربية لاحقاً قبل يومين من سقوط حكم مبارك عن رأيه في أسباب الثورة في بلده التي اضطر للاعتراف بها مرغماً بعد فوات الآوان, فقال إنها بسبب انتخابات مجلس الشعب الأخيرة, وهي التي بلغ التزوير فيها حد أن استولى الحزب الحاكم بصورة شبه كاملة على مقاعده حارماً المعارضة من أي تمثيل, وأضاف بسبب تقدم سن الرئيس مبارك ورواج قصة التوريث, وتحدث عن انتشار القمع والبطش الذي مارسته الأجهزة البوليسية ضد المواطنين العزل في السنوات الأخيرة, واشار إلى سطوة رجال الأعمال ونفوذهم الذين زكم فسادهم الأنوف, وما كان فيما قال أبو الغيط جديداً فهو في باب العلم العام, ولكن المستشارين كانوا قبل ذلك يقلبون هذه الحقائق وينكرونها ويغالطون, حتى جاءهم طوفان الثورة ولات ساعة مندم.  
وهكذا أصبحت خارطة طريق الثورة أكثر من واضحة, حكم متسلط تطاول عمره ووهن عظمه, حزب حاكم يهيمن على الأمور تحت عباء ديمقراطية مزيفة, ومظهر للحرية يمنح ويمنع حسب مزاج الحكم لا يعدو أن يكون من باب (حرية الهوهوة) على منطوق المثل (الكلب ينبح والجمل ماشي), انتشار الفساد واحتكار السلطة والثروة للمحاسيب, اختطاف مؤسسات الدولة لصالح المحظوظين من ذوي النفوذ, ويصبح الشعب ضيفاً في بلده, ثم يصبح ضيفاً ثقيلاً على السلطة فلا تأبه باحتياجاته الأساسية, ويصمت الشعب لحين معزياً النفس ( وما أضيق العيش لولا فسحة الامل), فتصادر السلطات الأمل ذاته, وتبدأ الاحتجاجات صغيرة, فلا يلتفت الحكم إليها, ثم تكبر قليلاً فيسخر منها, ثم تنتشر فتحاول السلطات قمعها, فتزداد الثورة لهيباً واتساعاً فيفاجأ الحاكم أن حزبه الحاكم وشعبيته الطاغية وجماهيريته مجرد أكذوبة لا وجود لها ولا حيلة, فليجأ إلى أجهزته الأمنية فتواصل القمع ما استطاعت حتى تستنفد قدرتها على القمع فتخور وتختفي, ثم يلجأ الحاكم إلى جيشه  فيخذله حين يكتشف متأخراً وبعد فوات الآوان أن جيشه الذي صنعه على عينه هو جيش الوطن لا جيشه الخاص, وحينها لا يجد الحاكم أن لا مناص من الفرار, فينتصر الثوار.
أمران مهمان للغاية كشفتهما ثورتا تونس ومصر أن الساقين اللتين تظن الانظمة المتسلطة أنها تقف عليهما صامدة لا تتزعزع ويؤمنان لها استدامة البقاء, وأعني ما يسمى بالأحزاب الحاكمة والأجهزة البوليسية هما أول من ينهاران متى ما شد عزم الثوار, مما يجعل الانظمة تصبح مثل درويش الفيتوري الراقص بلا ساق, سرعان ما تتهاوى مترنحة بعدما عز النصير وجاء الأجل المحتوم.
ولئن كان مفهوماً أن تعحز الأجهزة البوليسية والأمنية من مواجهة شعباً ثائراً مهما كانت قوتها, والمفارقة أن حجم هذه الأجهزة في كلا البلدين الثائرين بلغ أضعاف عديد جيشهما, ومع ذلك لم يغنيا عنهما شيئاً, كما لن يغنيا أبد الدهر عن شعب إذا أراد يوماً الحرية والحق في الكرامة الإنسانية.
فإن السؤال الذي يشغل بالي كيف تبخرت ما يسمى ب(الأحزاب الحاكمة) في كل البلدين هكذا فجأة لتصبح اثراً بعد عين, وهي التي كانت تدعي لنفسها حجم عضوية شعبية لا تضاهى, وتأييداً جماهيرياً كاسحاً, وتزعم دون أن يغمض لها جفن أنها إنما جاءت إلى السلطة باسم الشعب في انتخابات تعرف هي قبل غيرها أنها زورتها من الألف إلى الياء, وتظل هذه الأحزاب, التي تسميها وسائل الإعلام من باب التدليل (الأحزاب الحاكمة) وهي في الواقع ليس سوى (أحزاب حكومية) شيئاً تخترعه الأنظمة المتسلطة لا يعدو أن يكون مجرد (مصالح حكومية بيروقراطية) تحتشد بالموظفين المطبلين لا بالقادة السياسيين الحقيقيين, تستمد شريان حياتها من امتيازات السلطة, وتظل قيادات هذه الأحزاب تكذب, وتحترف الكذب, حتى تصدق وحدها كذبها, وتتوهم لنفسها مكانة وقبولاً شعبياً لا وجود له إلا في خيالها, والله وحده أعلم إن كان هؤلاء الحكام يصدقون حقاً هذه الأوهام التي تروجها بطاناتهم, أو يعرفون أنهم يكذبون, كما يكذب هو عليهم, ولا مشكلة ما دام هذه الاكاذيب لا تكلفهم شيئاً, ولكنهم يكتشفون حجم هذه الخطيئة الكبرى متأخراً, وان لها ثمناً باهظاً.
فقد اختفى (التجمع الدستوري الديمقراطي) حزب بن علي الحاكم والمظاهرات الشعبية تجتاح تونس من جنوبها إلى شمالها, ولم يسمع له صوت, ولم يخرج له مؤيدون لرئيسه المحبوب والثورة المطالبة برأسه تمتد شهراً, وتبخر الحزب تماماً حتى قبل هروب الزعيم.
و(الحزب الوطني الديمقراطي) الذي كان يزعم أنه نال تأييد تسعين بالمائة من الشعب المصري في انتخابات أجريت قبل بضعة اشهر, تبخر هو الأخر, وشباب الفيس بوك الذين استهزأ بهم وريث الزعيم يدعون لتظاهرة 25 يناير, وعندما حاول بعض قادة الحزب البحث عن مؤيدين له لم يجدوا غير بضعة بلطجية مأجورين, أثاروا الأسى على الحزب الحاكم المزعوم بأكثر مما أثاروا السخط, كيف لمصر هذا البلد العظيم أن يحكمه أمثال هؤلاء لثلاثة عقود؟.
بالطبع سيزعم قادة الأحزاب التي لا تزال حاكمة في الأقطار العربية الآخرى ممن يستبعدون أو لا يدرون متى يأتيهم قدر الثورة الشعبية, أنهم براء من فعل ظاهرة التبخر التي اعترت الحزبين الحاكمين في تونس وفي مصر, وأنهم من طينة آخرى, وأنهم أعرق وأعرف وأوعى وكذا وكيت من صنوف أوهام تعزية النفس, وعليهم أن يدركوا أن أياً من الحزبين المتبخرين في تونس ومصر لم يكونا طارئين على الحياة السياسية, فالتجمع الدستوري الديمقراطي هو وريث نضال التونسيين من أجل الحرية والاستقلال منذ أن اسس المصلح الكبير عبد العزيز الثعالبي (الحزب الدستوري الحر) في العام 1920 وشاركه ثلة من المناضلين الكبار, ثم جدده الحبيب بورقيبة ومحمود الماطري عام 1934 حتى تحقق الاستقلال على يديه. واصبح الحزب الحاكم.
وأما الحزب الوطني الديمقراطي فقد اسسه الرئيس الراحل أنور السادات منتصف السبعينيات على إرث ثورة يوليو 52, واستدعى له تراث مصطفى كامل وحزبه الوطني من بواكير النهوض المصري اوائل القرن الماضي.
 وتغيرت أسماء ووجوه القادة على مر الأيام, وفقدت هذه الأحزاب الحاكمة صلتها بقيم إنشائها وتحولت عنواناً للتسلط وأدوات لتزييف إرادة الشعوب لذلك سقطت من ذاكرة التاريخ بفعل الشعب لا بغيره. لا يصدق الحكام عادة من ينصحونهم لوجه الله, ولكنهم مستعدون دائماً لسماع أصوات من يدفعون لهم ليقولوا لهم ما يعجبهم وهم يعرفون أنهم يخدعونهم, ولكنهم لا يسنبينون الرشد إلا ضحى الغد.
وثمة اختبار بسيط نهديه للحكام إن أرادوا ان يكتشفوا زيف أحزابهم الحاكمة وشعبيتها المزعومة, أن يعمدوا لما فعله الرئيس الراحل أنور السادات الذي ابتدر التعددية الحزبية المحسوبة منتصف السبعينيات بتبنيه لفكرة المنابر الثلاث داخل الاتحاد الاشتراكي قبل أن يجعلها أحزاباً, المهم في الأمر ان منبر الوسط تحول إلى حزب مصر واصبح هو حزب الأغلبية الحاكم بزعامة ممدوح سالم رئيس وزرائه, وتسنت له كل مظاهر حزب السلطة, وما أن قرر الرئيس السادات أن ينشئ الحزب الوطني الديمقراطي ويتزعمه شخصياً حتى فر الجميع من حزب مصر إلى حزب الرئيس الجديد الذي أدركوا أن السلطة والنفوذ الحقيقيين تحولا إليه, وأصبح حزب مصر في لحظة خاوياً على عروشه, واختفى من المشهد تماماً, فلا حزب حاكم ولا أغلبيية ولا يحزنون, فمن يا ترى من الحكام يبادر إلى هذه الوصفة المجربة ليكتشف زيف بطانته, وإدعاءات قادة حزبه الجوفاء قبل ان يتبخر حزبه عند أول اختبار ثوري حقيقي, ثم لا تنفعه ندامة الكسعي؟.
عن صحيفة إيلاف السودانية
الاربعاء 16 فبراير 2011

 

 

آراء