الفساد لا يفنى ولا يستحدث من عدم!! 2-2
بالأمس قلنا إن الحالمين بمحاربة الفساد بمفوضية واهمون، وأشارنا لضرورة فضح القوانين التي تحمي الفاسدين. ولكن للأسف، فإن ذلك ليس كافياً، فالأجهزة والقوانين ليستا كافيتين لمحاربة الفساد، فالقوانين قد تصبح «خيال مآتة» ويمكن أن يتم التحايل عليها، ويمكن للنافذين المرور فوقها أو من تحتها، فتعطل، لا حسيب أو رقيب. المؤسسات يمكن إفراغها من مضمونها والسيطرة، فتعمى أبصارها فلا ترى ما تحت بصرها من فساد. يمكنك أن تأخذ ديوان المراجع العام نموذجا، فهذا الديوان ظل يتلو علينا نشيد الفساد سنويا من على منبر المجلس الوطني، ولكنه لا يتقدم بعد ذلك خطوة واحدة!! يقولون إن مهمتة رصد الفساد لا محاربته أو محاسبة المسؤلين عنه؟ طيب مين المسئول؟!.
نحتاج لشيئين لمحاربة الفساد بشكل فعال، الأول: يتعلق بإتاحة حرية المعلومات من الأجهزة المعنية وبشكل شفاف. للأسف المؤسسات الحكومية لا تعرف الشفافية ولا تتيح حرية للاطلاع على ما يجري بدهاليزها. المعلومات عن التعاقدات الضخمة للشركات العامة والخاصة وما بينهما لا يمكن الحصول عليها، وأن ما يظهر في الإعلام بشأن هذه التعاقدات هو مجرد مراسم احتفالية تؤخذ فيها الصور التذكارية ولا أحد يجرؤ على نشر تفاصيل تلك العقود كأنها أسرار عسكرية. هل منكم من اطلع على عقد من عقودات البترول أو المباني أو ناطحات السحاب التي تنهض كل صباح في أطراف وقلب الخرطوم؟. هل عرف أحد ما يوما معلومة عن الكيفية التي ترسو بها عطاءات الدولة لصالح هذه الجهة أو تلك؟. ما هي المعايير؟، من هي تلك اللجان التي تفرز العطاءات؟، تأمر بالبناء دون عطاء. لا أحد يعلم شيئاً عن الممارسات التحتانية للجان العطاءات أو شركات المقاولات التي تتعاقد مع الدولة. أفعال الدولة كأنها شأن خاص يتعلق بممتلكات خاصة لا يجوز للجمهور الاطلاع عليها.
غياب الشفافية هو ما يثير الريب في أفعال الحكومة. قناعتي في ما جرى مثلا في معركة وزارة الصحة ليس فساداً، فالسيد الوكيل السابق الأستاذ كمال عبد القادر رجل نظيف اليد واللسان لم تشبه في حياته شائبة فساد، وقد ظلم، ولكن غياب المعلومات الكافية عن ما جرى في دهاليز الوزراة أدى لإطلاق مثل تلك التهم. الشفافية هي أقوى مصادات الفساد، فكلما كانت أفعال الحكومة في الضوء تقلصت مساحات دمغها بالفساد، ولكن للأسف الحكومة لا تعترف بهذا المبدأ ولا تعمل به، ولذا في كل عام تجد نفسها في ذيل قائمة الشفافية!! الغريب أنها لا تسأل نفسها: لماذا؟. ومباشرة تضع منظمة الشفافية في قائمة الأعداء والمتآمرين على المشروع الإسلامى.!! لو أنها درست المسببات التي تؤدي لدمغها بالفساد وتعمل على إصحاح البئية التي يعشش فيها الفساد لكان أنفع وأجدى لها من مجرد الاكتفاء بلعن منظمة الشفافية.
الموضوع الآخر الذي هو على صلة بالفساد هو موضوع الإعلام.غياب الإعلام عن كشف قضايا الفساد ومتابعتها، مرجعه الأساسي لغياب المعلومات، وهذا ما أشارنا له سابقاً، ولكن الأمر الآخر يتعلق بضعف قدرة الإعلام على متابعة المواضيع المتعلقة بالفساد. فالإعلام غائب عن معركة إصحاح القوانين التي تحمي الفساد، ولذا أصبح الفساد في الإعلام مادة للإثارة، وكأن مهمتنا كإعلاميين فقط فضح المفسدين الذين يقعون تحت أيادينا. إصلاح القوانين الحامية للفساد فريضة غائبة في الإعلام. يعزى غياب الإعلام عن معركة الفساد لأسباب عديدة أولها يتعلق بضعف بينة الإعلام، وثانيها شراسة الجهات المسيطرة عليه بواسطة مصالحه الإعلانية وارتباطه بالسلطة نفسها. وأخيرا هو الخوف من الوقوع تحت سلطة غابة القوانين المتعددة التي يسير الإعلام تحتها كما يسير المرء في حقل ألغام متفجر.
خلاصة القول، إن إصحاح بيئة القوانيين الحامية للفساد وإطلاق حرية المعلومات قضيتان حاسمتان في محاربة الفساد، وهما من مهام الدولة التي تبدي حرصها الآن على مكافحته. إلى جانب تلك المهام تبقى مهمة تقوية المؤسسات الإعلامية كمنابر رقابية لها سلطة رقابة أقوى من القوانين، وهذه أولوية قصوى، وذلك حتى لا تصبح هي نفسها عرضة للفساد، وتلك هي مهمة الناشرين والدولة معا.