استعجال زلزال التاسع من يوليو في السودان وعبقرية الفشل
د. عبد الوهاب الأفندي
2 June, 2011
2 June, 2011
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]
كما طفق الأمريكيون يسائلون أنفسهم والعالم عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر: "لماذا يكرهوننا؟"، وهو سؤال ينطوي بدوره على كثير من الجهل والتجاهل لحقائق الدنيا وعواقب الأفعال، فإن أهل الحكم في السودان ظلوا يتساءلون منذ بداية عصر الإنقاذ عن سر الصورة السلبية التي يعكسها الإعلام عنهم بغض النظر عن تصرفاتهم ونواياهم. وفي الحالين، لجأ المفسرون إلى افتراض مؤامرات خارجية وقوى شريرة تعمل في الظلام وتمارس الكيد ضد جهة بريئة. وكما أن نظرة مختصرة إلى السياسات والممارسات الأمريكية كانت تكفي للإجابة على السؤال، فكذلك يمكن أن تكشف نظرة عجلى على قرارات وممارسات الحكومة السودانية خلال الأيام القليلة الماضية لتذكر من نسي وتشرح لمن جهل كيف أن الحكومة السودانية هي بالحق عدو نفسها.
وكنا قد فصلنا في مقال الأسبوع الماضي الحديث عن التعامل الكارثي مع أزمة أبيي، ومعالجة الخلل والفشل السياسي بما هو شر منه. فقد كانت الحكومة تخلت طائعة عن سلطانها على جزء من ترابها، وأشهدت على ذلك المجتمع الدولي والاتحاد الافريقي، واتخذت من هؤلاء مراقبين كانوا حضوراً وشهوداً، وهي لم تكن مضطرة إلى ذلك. ولكنها عادت وتراجعت عن هذا الالتزام، أيضاً أمام شهود، وباستخدام عنف زائد غير مبرر وغير ضروري، دون أن تكون مضطرة إلى ذلك أيضاً. وكان من الممكن احتواء الوضع في أبيي بوسائل أفضل، وخسائر أقل، وبدون ترويع للآمنين، ووضع السودان في مواجهة مع المجتمع الدولي هي آخر ما تحتاجه البلاد حالياً.
وقد أخذت هذه المواجهة شكلاً جديداً بالصدام المفتوح مع بعثة الأمم المتحدة في السودان، وإصدار قرار أحادي الجانب هذا الأسبوع بإنهاء مهمة البعثة، أيضاً بطريقة عدائية غير مبررة. فلم تكن هناك أي مشكلة تتعلق بإنهاء مهمة البعثة المفوضة من قبل مجلس الأمن مع نهاية الفترة الانتقالية. ذلك أن البعثة قد أخذت تتهيأ بالفعل للرحيل، وبدأت منذ أشهر في نقل جزء كبير من عملياتها وموظفيها إلى جنوب السودان. ولكن بعض الجهات في الأمم المتحدة، وهي جهات لا تخفي تعاطفها مع السودان، كانت قد طرحت مقترحات للإبقاء على وجود مدني للأمم المتحدة في شمال السودان، باتفاق مع الأمانة العامة وبعيداً عن مجلس الأمن. ويهدف هذا المقترح لدعم استمرارية التواصل بين السودان والمنظمة الدولية بغرض دعم جهود السلم والتنمية.
ويذكر أن بعثة الأمم المتحدة توظف أكثر من ألفي سوداني ضمن طاقمها، وهذا يوفر، علاوة على ملايين الدولارات شهرياً من الرواتب والمنصرفات الأخرى، فرصاً للكوادر السودانية للتدريب والتأهل على أعلى مستوى في الدبلوماسية والإدارة والمهارات في مجال العمل الإغاثي ومجالات حقوق الإنسان وغيرها. وهذا يعني أن إنهاء البعثة بهذا الشكل الكامل والمفاجئ ستكون له آثار سلبية على البلاد حتى إن لم تأت النهاية بهذه الصورة الصدامية العنيفة، وفي ظل اتهامات للحكومة السودانية بارتكاب تجاوزات تقارب التطهير العرقي، مما كان سيفرض الدعوة إلى مراقبة دولية حتى لو لم يكن هناك وجود دولي مسبق. وكأنما لم يكن هذا كافياً، فإن الحكومة السودانية اجترحت هذه الكبيرة بحضور ممثلي مجلس الأمن الذي وصل بكامل هيئته إلى البلاد، وكان في طريقه تحديداً لزيارة أبيي والاطمئنان على الأوضاع فيها. وبالطبع لم يستطع مجلس الأمن الوصول إلى أبيي، كما أن كبار المسؤولين السودانيين رفضوا مقابلة وفده.
ولا يحتاج المرء لأن يكون ممن يرجمون بالغيب حتى يقدر أن المجلس سيصدر بالإجماع قراراً بتمديد بعثة الأمم المتحدة في السودان، وفي منطقة أبيي تحديداً والحدود مع الجنوب، وتحت الفصل السابع، وتحت طائلة العقوبات إذا لم يقبل السودان. ولا نحتاج كذلك أن نكون من قارئي الفنجان حتى نجزم بأن الحكومة السودانية ستقبل بهذا القرار صاغرة، كما حدث من قبل في دارفور، بعد أن حلف كبار المسؤولين بالطلاق وبأغلظ الأيمان، بأن جنوداً أجانب لن يطأوا أرض دارفور، وأضافوا بأن باطن الأرض سيكون خيراً من ظاهرها لو جاء ذلك اليوم. ثم كان ما كان مما هو معلوم للشاهد والغائب.
وحتى بدون هذه التعقيدات فإن تسلسل الأحداث كان سيؤدي مع حلول التاسع من يوليو القادم إلى زلزال كبير تشهده البلاد مع انفصال الجنوب، خاصة في الساحة الاقتصادية. ذلك أن عائدات النفط تشكل 50% من دخل الحكومة و 93% من عائدات الصادر. وحالياً تقتسم الحكومة المركزية عائدات نفط الجنوب مع حكومة جنوب السودان، وهو ما سيتوقف بعد انفصال الجنوب، الذي توجد فيه حوالي 75% من حقول النفط. وكان من المفترض أن تستمر اتفاقيات التقاسم لعدة سنوات بعد الانفصال، وذلك بضغط من القوى الدولية التي كانت تخشى عودة اندلاع الحرب إذا أدى الانفصال إلى حرمان الشمال من نصيبه من النفط. وكان هناك على الطاولة مقترح بأن تستمر صيغة التقاسم الحالية لبضع سنوات قد تصل إلى سبع سنوات، على أن يتم إعفاء جزء كبير من ديون السودان. ولكن في مقابل ذلك كان ينتظر أن يتم التفاهم على النقاط الخلافية الأخرى مثل أبيي والحدود والجنسية المزدوجة.
أما الآن وقد اشتعلت الحرب بالفعل، واتخذت حكومة الشمال مواقف قاطعة حول الجنسية والحدود وكذلك القوات المشتركة وولايات جنوب كردفان والنيل الأزرق، فليس هناك حافز لحكومة الجنوب للتضحية بنصيبها من النفط خشية وقوع حرب قد قامت بالفعل. وبالمقابل فإن استمرار تصلب الشمال حول أبيي ودور الأمم المتحدة، مع عدم إحراز أي تقدم في دارفور، سيعني استمرار العقوبات الحالية وربما توقيع عقوبات جديدة، وعدم التحرك نحو إعفاء الديون. فيكون السودان ضحى بالجنوب ونفطه، وقدم تنازلات لا حصر لها، ثم حصد الريح.
وكان محافظ بنك السودان السابق الدكتور صابر محمد الحسن قد حذر سلفاً من وقوع صدمة اقتصادية في الشمال عقب انفصال الجنوب تفوق الأزمة المالية العالمية، وتختلف عنها في أنها لن تكون عابرة. هذا برغم أن الحكومة ظلت تسعى في خطاب بعض مسؤوليها للتقليل من شأن هذه الصدمة وتقول بأن إجراءات ستتخذ لتلافي آثارها. ولكن من الصعب إقناع أي مراقب بأن فقدان قرابة نصف إيرادات الدولة فجأة لن تكون له عواقب وخيمة، وبالتالي تبعات سياسية مزلزلة. ذلك أن الخفض في الإنفاق الحكومي، وانعكاساته على الخدمات، والنقص الحاد في العملات الصعبة، والتضخم نيتجة للاستدانة بحجم كبير من البنك المركزي، كلها ستعيد إلى الأذهان أزمة الاقتصاد الحادة التي شهدتها البلاد في مطلع التسعينات، وستؤدي بغير شك إلى موجات احتجاج لا تدرك عواقبها، خاصة في عهد الثورات العربية الجارية.
وهذا يطرح أسئلة مهمة عن الحكمة في قيام الحكومة باستعجال زلزال التاسع من يوليو وتعميق آثاره السالبة عبر السياسات السالبة التي اتخذتها بفتح جبهة حرب جديدة مع الجنوب ومع المجتمع الدولي في الوقت الخطأ والظرف الخطأ؟ وكنا قد علقنا من قبل على المقولات التي دأب المسؤولون على الترويج لها كلما واجهوا أزمة، وهي الحديث عن مؤامرة أجنبية تستهدفهم دون غيرهم من خلق الله ودوله، وذلك بالقول إن أكبر المؤامرات التي وقع السودان ضحيتها تحاك داخل أروقة صنع القرار في الخرطوم نفسها. وإنه إذا كان لا بد من البحث عن متآمرين و "مندسين" (والعهدة على الأسد، ومبارك وصالح وآل خليفة في البحرين، وكلهم ضحايا تآمر واندساس) فإن البحث لا يجب أن يتعدى القصر الجمهوري وقيادات الأجهزة الأمنية والوزارات الكبرى. فهنا تحاك المؤامرات ضد السودان وتنفذ، وأعداء البلاد غافلون حتى تأتيهم الأخبار السارة من الخرطوم بأن كارثة جديدة قد اجترحت، ومصيبة أخرى قد نزلت بالبلاد مما كسبت أيدي حكامها، فأصبحوا لربهم ولحكام السودان من الشاكرين.
وإلا فكيف يمكن للمراقب أن يفسر استباق زيارة مجلس الأمن بإجراءات سياسية وعسكرية تضع البلاد في مواجهة مع مجلس الأمن والمجتمع الدولي، في وجود خيارات أخرى أقل ضرراً وأكثر فائدة؟ ألم ينفذ نفس هذا السيناريو الخاسر بحذافيره في أبيي في مايو من عام 2008، ثم كانت النتيجة العودة إلى المربع الأول والوضع الذي كان قائماً من قبل؟ ولماذا التصعيد وتعريض مصالح المواطنين للضرر في حين كانت الحكمة تقتضي التعامل مع الوضع بالحكمة اللازمة، خاصة في ظل التجارب السابقة؟
قد لا تكون المشكلة بنفس الحجم لو كان المخطط هو المضي في الحرب حتى النهاية، وهو أمر مشكوك فيه. إذ لو كان خيار الحرب هو المطروح، فلماذا تم توقيع اتفاق السلام أساساً؟ لأن الحرب كانت تكون خياراً حينما كان الجيش لا يزال يسيطر على معظم أراضي الجنوب ويتحكم في الحدود. أما وأن الحرب لم تعد خياراً، فلماذا كل هذا التخبط؟