قصة بناء خط السكة حديد عبر الصحراء .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
بدر الدين حامد الهاشمي
6 June, 2011
6 June, 2011
قصة بناء خط السكة حديد عبر الصحراء
من كتاب: من الكيب للقاهرة بقلم: مارك استراج
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
-----------
في الفاتح من مارس عام 1896م أباد الأحباش في موقعة "عدوة Adowa " الجيش الإيطالي بقيادة الفريق براتيري، وكانت الهزيمة الساحقة مصدرا لأول قفشة دبلوماسية موثقة، إذ كتب ساليسبوري ما نصه: "كم وددت لو أن أصدقاءنا الطليان كانوا يتمتعون بقدرة أقل على تلقي الهزائم"!
وضعت هزيمة موقعة عدوة بريطانيا أمام أزمة مزدوجة، إذ أنها جعلت الجزء الشرقي من السودان عرضة للأخطار، وكانت تؤمل أن تحميه جيوش الفريق براتيري من أطماع الفرنسيين. ومن جهة أخرى فلقد ساد الخوف من أن يؤدي انتصار الأحباش الساحق على الطليان البيض إلى تشجيع الدراويش على معاودة الهجوم على مصر. لهذا اجتمع مجلس الوزراء (البريطاني) في 12/3/ 1896م وقرر أن يستبق الأحداث، وأن يسدد الضربة الأولى. لم تتم استشارة أي من كرومر أو كيتشنر في الأمر، بل تلقيا فقط أمرا بالزحف بقواتهما في عمق السودان.
كانت "وادي حلفا" هي نقطة انطلاق الحملة. وهذه المدينة هي أغرب مدن الأرض طرا. كانت تمتد ثلاثة أميال على الشاطئ الشرقي للنيل، بيد أن عرضها لم يكن يتعد أربعمائة ياردة (بل وكان في بعض المناطق لا يتجاوز الأربعين ياردة). وفي نهاية الجزء الشمالي للمدينة بنيت مجموعة صغيرة من "الفلل" الصغيرة التي تظللها الأشجار الكثيفة، ومسجد ومآذن وسوق. كان كل ذلك داخل سور طيني قصير. تمتد جنوب تلك المباني ثكنات الجيش (البركس) الطويلة، ومباني أخرى منخفضة ذات نوافذ صغيرة لا زجاج فيها، ومستودع للأسلحة ومستشفي عسكري وورشة وصفوف من منازل صغيرة متراصة وأنيقة لسكن الضباط. مع نهاية تلك المنازل يقع الجزء الغربي من المدينة، وكان لا يعدو أن يكون أكواخا طينية متهالكة فيها أزقة ضيقة. تحرس الصحراء جانب اليابسة وتخوم المدينة الجنوبية، ثلاث حصون وخمس قلاع متفرقة نصبت عليها مدافع.
بدا أن كان هنالك آثار حراك مرتقب. وفي ذلك كتب ستيفنس مراسل صحيفة الديلي ميل الآتي: "كانت خطوط السكة حديد تجري على كل شارع مغبر، وكانت القطارات واللواري تجوس خلال المدينة جيئة وذهابا، وبدت حلفا لكل العالم مشابهة لشيكاغو (مرتدية عمامة)".
كان كتشنر قد أمر بإقامة خط للسكة الحديدية، وكان من المقرر أن يسلك ذلك الخط نفس الطريق الذي خطه إسماعيل باشا قبل عقدين من ذلك الزمان؛ بيد أن هذا الخط الحديدى لم يكن من أجل نقل الحضارة والتمدن للسودان، أو من أجل ترحيل القطن السوداني. كان الغرض الرئيس من إنشائه هو نقل المؤن والطعام للجيش أثناء عبوره أرض السودان. كان حلا لمشكلة عويصة. وضعت للمشروع ميزانية بلغت نحو نصف مليون جنيه استرليني، ومع توقع أن تكون العمالة من جنود الجيش. وتم إقناع / فرض الأمر على كرومر (والذي كانت موافقته لازمة لصرف مثل ذلك المبلغ)، بأنه ما من طريق آخر أقل كلفة. كانت الشلالات تمتد لنحو مائة ميل جنوب وادي حلفا، وكان من المستحيل على الجيش عبور تلك الصحراء مشيا على الأقدام. إفترض كرومر أن الخط الحديدى سيكون من أرخص الأنواع، إذ أنه كان خطاً حديدياً ضيقاً. نجح كتشنر – وللمرة الأولى والأخيرة- في أن يغلب رأيه، وأن يستخدم خطا حديديا يبلغ عرضه ثلاث أقدام ونصف، وهي من نوع الخطوط الواسعة العريضة التي استخدمها سيسل رودس عند مده للخط الحديدي الرابط بين كمبرلي وبليوه (في جنوب أفريقيا). ربطت علاقة صداقة قوية بين الرجلين امتدت سنين عددا، وكانا يحملان ذات الأفكار والخطط الطموحة. كان الرجلان قد تقابلا قبل أسابيع فقط وذلك عند مرور رودس بالقاهرة وهو في طريقه عائدا إلى جنوب القارة. حينها طلب رودس من كتشنر أن يمنحه شحنة من الحمير السودانية لاستخدامها في روديسيا. لعل صداقة كتشنر للرجل هي ما يفسر اصراره على أن يكون الخط الحديدي من النوع العريض. تطلب الأمر تصنيع وابورات صغيرة عرفت ب "rolling stock " حسب الطلب للمساعدة في تشييد الخط الحديدي (حاشية: قام ردوس هنا بمد يد العون لصديقه كتشنر بثلاثة من هذه القطارات كان قد تم تصنيعها للاستعمال في سكك حديد أفريقيا الجنوبية). يضاف إلى ذلك انعدام اليد العاملة المناسبة والآلات والأدوات المطلوبة، مما أحال المشروع إلى كابوس حقيقي. لكن (وكما سجل المراسل الصحفي ستيفنس) : "حالف الحظ كتشنر مرة أخرى. حظي كتشنر بأفضل المرؤوسين، وكان الرجل قد جمع بين جرأة الفرنسيين في الخيال، وبراعة الأمريكيين في الاختراع، وعناد البريطانيين وإصرارهم على الإنجاز". تمثل كل ذلك في هذا المشروع، مشروع كتشنر. وتمثلت كل تلك الصفات الدولية في مهندس كندي الجنسية يدعى جايورارد. تخرج الرجل من كلية كنجستون في أنتاريو، وعمل في مشروع إنشاء خط سكة حديد كندا الباسفيكية قبل أن يلتحق بخدمة الجيش البريطاني كملازم في سلاح المهندسين. كان جايورارد في طريقه من هليفاكس في نوفا اسكوتيا إلى جزيرة موريشص عندما سمع كتشنر بإسمه، فطلب لقاءه في لندن. كان جايورارد في تلك المعاينة بالغ العفوية ومفرط اللامبالاة في علاقاته برؤسائه، فلقد أدى الرجل التحية العسكرية لكتشنر بيده اليسرى، إذ كان يخفي في يده اليمنى سيجارا ضخما! كان كل من يعمل مع كتشنر يرهبه ويخشى بأسه ويرد على اسئلته بإختصار وخنوع، إلا جايورارد، فإنه لم يكن يهاب أو يخاف من كتشنر أو غيره. كان يكسر قواعد البرتوكول دون وجل، وكانت إجاباته لأسئلة كتشنر مطولة، ولهجته عالية متفردة، مما ميزه عن الكل. كان كنشنر يدرك تميز الرجل ويقدره جيدا. كتب عنه المراسل الصحفي ستيفنس ما يلي: " إنه الشخص الوحيد في كل أفراد الجيش المصري الذي أجمع الكل على شجاعته أمام السردار".
عنما وصل جايورارد إلى وادي حلفا في نهاية شهر مارس 1896م كانت خطوط السكة حديد التي مدها إسماعيل باشا إلى صرص (والبالغ طولها 33 ميلا) ما زالت بحالة جيدة، وكانت هنالك أيضا خطوط حديدة أخرى طولها 54 ميلا أقيمت على عجل في 1884م أثناء الحملة الفاشلة (والمنحوسة) لإنقاذ غوردون، بيد أن الدراويش كانوا قد اقتلعوا تلك الخطوط. كانت آخر قطعة حديدية في ذلك الخط قد غرزت في وضع عامودي في الرمال وشدت بالحبال. اهترأت تلك الحبال، ولكن بقي أثر لمن كان قد استعملها: جمجمة بشرية وبقايا عظام جلت لونها الأبيض شمس حارقة وريح عاصفة.
شرح جايورارد – بقدر ما يمكن لعماله البسطاء أن يستوعبوه- خطته لإرساء خطوط حديدية. كان جل أولئك العمال من الفلاحين المصريين الذين جلبوا عنوة من مصر، ومن كل من تيسر قبضه من السودانيين مع 200 من المساجين الذين تم العفو عنهم لهذا الغرض. كانت من نتائج عمل هؤلاء الرجال مسيرة مضطربة شديدة الإهتزار (لوابور القطار) وبعض الحوادث... طاحت بعض القطارات عن خطها الحديدي، بيد أنها أرجعت وكأن شيئا لم يكن إلى مسارها المرسوم بعد جهد جهيد من أولئك الرجال الأشداء! لم يكن من المتوقع أن يشتكي ركاب تلك القطارات من وعورة الطريق واضطراب مسير القطار!
كانت الحكمة تقتضي أن تمتد خطوط السكة حديد محاذية لمجرى النيل مما يؤمن الحماية والمصدر الثابت للمياه، بيد أن جريان النيل يتخذ منعرجا رشيقا وطويلا يكاد يضاعف من طول المسافة التي يقطعها. لم يكن أمام الجيش وقت ولا مال لمنعرج رشيق وطويل، إذ كان هنالك طريق مستقيم واحد ينتهي عند "أبي حمد"، والتي منها يسير النيل في إتجاه الجنوب. حكم كل الخبراء الذين تمت مشاورتهم في الأمر على المشروع بالجنون، وذهب المهندسون - وهم في ذلك من المحقين- إلى أنه لا توجد أي معلومات مسبقة عن طبيعة تلك الأرض...بسهولها المنبسطة ومنحدراتها العميقة. تساءل الجنود: بحق الشيطان كيف يمكن لكتشنر أن يحمي خطا حديديا يمتد على طول الصحراء، وفي عمق أرض العدو بهدف الاستيلاء على بلد يقع تحت سيطرته؟! لم يكن الاستيلاء على البلاد ممكنا بالطبع دون قوات مسلحة ضاربة، ولكن كان لابد لتلك القوات المسلحة الضاربة من أن تكمل إنجاز الخط الحديدي، ولم يكن من الممكن إكمال الخط الحديدي دون الاستيلاء على "المحطة النهائية" للعدو! لم يكن كتشنر مغرما بمثل تلك النقاشات "الدائرية المفرغة". سأل كتشنر جايورارد سؤالا واحدا محددا: "ما الذي تحتاجه لبناء خط حديدي مستقيم من "وادي حلفا" إلى "أبي حمد"؟" جاءت إجابة جايورارد مفصلة ووافية وكافية، ولم تكن هناك حاجة بعدها للسؤال عن قطعة حديد إضافية واحدة. كانت الصعوبات اللوجستية جد هائلة.
يوما بعد يوم كان الخط الحديدي يتقدم للأمام، وكانت تسبقه مجموعة من المساجين يكونون دوما على بعد 6 أميال لكشف الطريق ووضع العلامات الدالة عليه.
لم تسجل إلا حوادث قليلة تصادم فيها قلة من الدراويش مع بناة الخط الحديدي. ولسبب غير معلوم تماما لم تقم جيوش الدراويش بمهاجمة بناة الخط الحديدي بصورة جادة أو مكثفة، مع أن هؤلاء كانوا لقمة سائغة لكل من كان يود مهاجمتهم، ولم يحاول الدراويش أبدا تخريب ما تم إنشاؤه من الخط الحديدي، والذي لم يكن تحت أي نوع من أنواع الحماية. كان المهندس جايورارد محظوظا أيضا في تمكنه من الحصول على الماء في تلك المنطقة الجرداء من العالم، إذ قاده "الإلهام" وحده إلى أن يقوم بحفر بئرين في الميل 77 والميل 126. ولما لم تكن هنالك أي علامة تميز هذين المكانين فلقد أطلق عليهما رقم 4 و رقم 6، على التوالي، ولا يزال هذان الرقمان هما اسماهما حتى اليوم.
كان مما حبب جايورارد لكتشنر هو قدرة ذلك المهندس الكندي على إكمال تنفيذ ما يوكل إليه من مهام بالحرف الواحد. قام جايورارد بإتمام بناء الخط الحديدي من "وادي حلفا" إلى "أبي حمد" والبلغ طوله 212 ميلا تماما كما كان قد خطط له...بالمسطرة والقلم. وصلت القضبان الحديدة إلى مرساها الأخير يوم 31/ 10/ 1897م، أي بعد 169 يوما من العمل المتواصل، وبلغ طول القضبان المستخدمة 230 ميلا.
"لقد كسبت السكة حديد الحرب"...هكذا كتب المراسل الصحفي ستيفنس. "كانت حلفا هي النقطة الحاسمة في الحملة...إذ أنها كانت المكان الذي منه انطلقت أشد أسلحة البريطانيين فتكا بالمهدية: خطوط السكة حديد"، وتغزل وينستون تشيرشل (كعادته) في النصر فكتب: " النصر جميل كزهرة فاقع لونها. وكان النقل (transport) هو الساق التي لولاها لما تيسر للزهرة أن تتفتح"
نقلا عن "الأحداث"
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]