“العودة إلى المستقبل” في أرض الفلاندرز

 


 

 



(1)
عندما حططت رحالي الأسبوع الماضي في "أنتويرب"، حاضرة إقليم الفلاندرز في بلجيكا، كان أول ما استوقفني وأنا أتلمس طريقي في المدينة عدم وجود أي لافتة تهدي الزائر إلا وهي بلسان هولندي غير مبين لأمثالنا. فاللغة الفرنسية، ثاني (أو أولى) لغات البلاد الرسمية، محظورة تماماً هنا، وبالطبع أي لغة أخرى. سوى ذلك المنظر المألوف هذه الأيام في أي مدينة تدعي صلة بالحضارة المعاصرة، أي مطعم ماكدونالز بأقواسه الصفراء، يواجهك بمجرد الخروج من محطة القطار. ثم ما تلبث أن ترى متاجر تحمل لافتات باللغة الإنجليزية فقط، في إشارة إلى التنازع الذي يواجه كثيراً من بلاد العالم هذه الأيام بين الأصالة والعالمية.

(2)
عندما كنا نقوم بجولة في قلب المدينة ذات التاريخ العريق والمعمار الأخاذ، أبلغنا مضيفنا أن المدينة تستعد للاحتفال في الحادي عشر من يوليو القادم، كما تفعل كل عام، بذكرى يوم من أيام الإقليم الخالدة، ألا وهو ذكرى انتصارهم على الفرنسيين في عام 1302. وأضاف بالطبع فإن الفرنسيين هزمونا بعد ذلك بعامين، وألحقوا بنا الهزائم بعد الهزائم طوال الحقبة التي تلت. "ولكننا نصر على تذكر ذلك اليوم ونسيان ما بعده".

(3)

إقليم الفلاندرز ومدينته الأهم ظل يجسد منذ بواكير عصر النهضة التنازع المستمر بين العالمية والتمسك بالهوية. فقد توارثت الإقليم ممالك وامبراطوريات متعاقبة، من الفرنسيين والأسبان والنمساويين، قبل أن يصبح جزءاً من هولندا المستقلة بعد هزيمة نابوليون في مطلع القرن التاسع عشر، ولكن الإقليم شهد مع شقه الفرنسي ثورة في عام 1831 أعلنت استقلاله عن هولندا وقيام مملكة بلجيكا المستقلة. جدير بالذكر أن دستور بلجيكا كان هو الذي استلهمه ثوار إيران حينما أعلنوا الثورة الدستورية عام 1905.

(4)
ولكن ثورة بلجيكا المجيدة كان لها جانب آخر مظلم، تمثل في التمييز المجحف ضد سكان الفلاندرز الناطقين باللغة الهولندية، حيث حرموا من التعليم والتقدم الاقتصادي والمشاركة السياسية الفاعلة. وقد كان لهذا الحرمان ألم خاص كون أنتويرب كانت في حقبة سالفة أقرب ما تكون إلى عاصمة العالم الاقتصادية، وكان ميناؤها كعبة العالمين. وعندما استولت اسبانيا على الاقليم في منتصف القرن السادس عشر، كان دخلها من ضرائب ميناء انتويرب يفوق دخلها من كل مستعمراتها الأمريكية سبع مرات.

(5)

تحفز أهل الفلاندرز للنضال من أجل المساواة، خاصة بعد الحرب العالمية التي شهد الإقليم خلالها أعنف معارك الحرب، وأنشدت في ربوعه أروع قصائدها. وتسارعت بعد الحرب العالمية الثانية وتيرة الإصلاح، حيث منحت أقاليم الفلاندرز حكماً ذاتياً، وتم الاعتراف باللغة الهولندية لغة تعليم ثم لغة رسمية ثانية. وأصبح بلجيكا منذ ذلك الزمان إحدى النماذج المتقدمة لما أصبح يعرف بالديمقراطية التوافقية، حيث تتشارك المجموعات العرقية أو الدينية السلطة، ويملك كل منها حق الفيتو في الساحة المشتركة.

(6)
ولكن هذا النموذج أخذ يفقد بريقه في ظل عودة التجاذب بين الشركاء في ظل مطالب من أهل الفلاندرز بمزيد من الحكم الذاتي، ورفض متشدد من شركائهم الوالون (الفرنسيين) لتلك المطالب. وكانت النتيجة هي فشل السياسيين في التوافق على تشكيل حكومة جديدة منذ انتخابات عام 2010 التي مر عليها قرابة العام (مما يجعل الحالة اللبنانية تبدو معتدلة بالمقابل).

(7)
حينما حللنا أنتويرب، لم تكن سياسة البلاد وتاريخها هي ما شددنا الرحال نستقصيه، وإنما مشاكل افريقيا، وتحديداً التساؤل عن دور المؤسسات والدساتير (إذا حسن تصميمها) في إعانة الدول على امتصاص الصدمات الناتجة عن الأزمات الاقتصادية والسياسية والطبيعية. وقد قضينا سحابة يومنا ذاك نناقش أوراقاً أعدها بعناية ومعرفة خبراء من أهل العلم من القارات الثلاث (افريقيا وأوروبا وأمريكا). ولكنني قلت لمضيفنا: كان الأجدر أن ندرج في حالاتنا السبع حالة ثامنة، هي بلجيكا.

(8)
بالفعل كانت بلجيكا موضوع نقاش طويل، لكنه خارج قاعة الاجتماع. وقد تساءلت وأنا أحاور أحد الأساتذة الأمريكيين أفنى عمراً في دراسة النظم الديمقراطية الحديثة (وكان قد تلقى في اليوم السابق دكتوراه فخرية من إحدى جامعات بلجيكا) عما إذا كان تعثر النموذج البلجيكي يحمل نذر شر للديمقراطيات الصاعدة في العالم الثالث، خاصة أننا ظللنا نعمل دوماً تحت افتراض أن التعايش الديمقراطي المتطاول يذوب الفوارق القبلية والطائفية ويصهر الشعوب في بوتقة الوطنية. إلا أن ما نراه اليوم في بلجيكا هو قبلية تتغنى بأمجاد معارك مضى عليها سبعة قرون، وتتمسك بالهوية على حساب دواعي الحداثة والانفتاح. ولم تكن لدى الرجل إجابة سوى الدعوة للتعلل بالأمل.

(9)

إننا نشهد في مناطق كثيرة من العالم، وليس في بلجيكا فحسب، "عودة إلى المستقبل" بحسب الفليم الشهير الذي يحمل هذا العنوان، حيث يستخدم البطل آلة افتراضية للانتقال إلى الماضي ثم يكون التحدي هو العودة إلى الحاضر الذي هو المستقبل في حساب الحبكة. فالقبلية هي سيدة الموقف، والتخندق وراء الهويات المحلية، خاصة في أوروبا، يتحدى كل عقل ومنطق. فهل العيب يا ترى في المؤسسات، أم هو في الناس أنفسهم؟

Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء