“من دقنو وفتلو”: حول نجاح صنع عضو صحيح من خلايا نفس العضو في المعمل

 


 

 



يبدو من الغريب جدا في هذه الأيام مجرد ذكر – دعك عن الاهتمام- بموضوعات الاختراعات والاكتشافات التي نسمع بأخبارها الآتية من وراء البحار قبيل نهايات النشرات المسائية التي ليس في جلها غير أخبار عالمنا "العامر" بالقتل والخطف والتدمير والحرق والمجاعات والنزوح والتشرد والتسمم. بيد أن خبرا صغيرا أثار انتباهي، بعد أن لفت نظري له صديق عزيز، نشر في مجلة "ناشيونال جيوغرافك" الأميركية (الصادر في مارس 2011م). كان الخبر هو نجاح فريق الدكتور الأميركي "أنتوني عطا الله" (ولعله كما يبدو من اسمه من أصل سوري أو لبناني) في حل مشكلة نقل الأعضاء، والتي تواجه الآن  كثيرا من المشاكل مثل قلة المتبرعين الأصحاء، وضرورة التطابق المناعي بين المتبرع والمريض، واحتمال حدوث رفض الجسم للعضو المتبرع به. أتى الحل من معمل الدكتور عطا الله، والذي يعمل في معهد طبي يسمى معهد الطب التجديدي  Regenerative  Medicineفي مدينة ونستون –سالم في ولاية كارولينا الشمالية. قام العلماء في ذلك المختبر بزراعة خلايا سليمة من المثانة البولية لمرضى بسرطانات في هذا العضو، في مستنبت كالذي تزرع فيه البكتريا، وتركوها تتكاثر، ومن ثم نقلوها إلى"هيكل" يشبه البالون مصنوع من مادة الكولاجين (وهو البروتين الموجود في الغضروف). في هذا الموديل تنمو الخلايا العضلية إلى الخارج، والخلايا المبطنة للمثانة البولية إلى الداخل...يصفها د عطا الله بأنها تبدو كالكيكة المتعددة الطبقات، فالخلايا ترص طبقة طبقة على فترات متقاربة حتى يكتمل بناء المثانة البولية بالكامل. يتم بعد ذلك وضع "المثانة المستنبتة" في حاضنات في درجة حرارة الجسم الطبيعية (نحو 37 درجة مئوية) إلى حين تمام اكتمال عمل وظيفة المثانة البولية. تستغرق كامل "صناعة" المثانة البولية المستنبتة 6 إلى 8 أسابيع فقط. قد يسأل البعض عن السبب في عدم تعميم هذه الوسيلة البسيطة لصناعة أعضاء صحيحة أخرى مثل "الكلي" و"القلب" و"الكبد"، والسبب – كما يقول الخبراء- هو أن تنفيذ مثل هذه التقنية يسهل في الأعضاء الجوفاء hollow مثل المثانة البولية، ويصعب في الأعضاء الصلبة solid كالكلي، والسبب هو كثرة الأوعية الدموية في الأعضاء الصلبة. بيد أن د/ عطا الله يصر على مواصلة الحث والتجريب، فقد تمت في معمله محاولات حثيثة لخلق  22 عضوا ونسيجا وشمل ذلك عضو السمع (الأذن)، ونجح فريق د/ عطا الله أيضا في صناعة كبد كاملة تعمل بتمام وظيفتها بذات التقنية المذكورة.
لخص  د/ عطا الله مجمل الأبحاث التي سبقت تطويره للتقنية المذكورة في مقال استعراضي جامع نشر في دورية "النشرة الطبية البريطانية" في فبراير عام 2011م  بعنوان "هندسة نسيج المثانة البولية". وعلم "هندسة الأنسجة" من العلوم الحديثة التي تستخدم علوم وتقنيات حيوية خاصة ببيولجيا الخلية ونقل الأعضاء والهندسة الطبية الحيوية وذلك من أجل صنع وتطوير بدائل للأنسجة والأعضاء التالفة. ذكر الدكتور أن التقنية تبدو بسيطة وتتلخص في أخذ خلايا سليمة مأخوذة من جزء صحيح موجود في العضو أو النسيج التالف، وحقنه (مع خلايا دموية من ذات العضو) في هيكل صناعي (أو ما سماه بالسقالة scaffold الصناعية)  يشبه شكل العضو المراد استبداله، وتترك هذه الخلايا الصحيحة في مناخ يسمح لها بالنمو والتكاثر حول الهيكل الصناعي. خاض الدكتور في تفاصيل المواد الصناعية (وشبه الصناعية) التي تختار لهياكل أو "سقالات" للتكاثر الخلايا المعزولة عليها. بالطبع لن تجدي هذه التقنية نفعا إن كان العضو المصاب تالفا بالكلية، إذ لا يمكن أن تؤخذ منه في هذه الحالة خلايا سليمة.
كما هو معتاد في كثير من الصناعات، فعندما تثبت تقنيات (أو اكتشافات) جديدة نجاحها، فإن الآخرين سيقومون بمحاولات لتكرار وتطوير هذه الاكتشافات والتقنيات. وهذا ما حدث مع د/ عطا الله ومثانته المستزرعة من خلايا المريض نفسه. فلقد حاول ويحاول العلماء والأطباء في جامعات ولايات أميركية أخرى (وفي اليابان وأوربا الغربية)  فعل ذات الشيء، مثل جامعة مينسوتا (والتي يعمل علمائها على زراعة قلب جرذ (وعربنا لا يعرفون "الجرذ"  ولا يذكرونه إلا في معرض تبادل الإساءات)، وجامعات ييل وميشيغان وكولومبيا (التي يعملون فيها على صنع رئة وكلية وعظم الفك، على التوالي). وكما ذكرنا فإن عمل أعضاء جديدة من خلايا معزولة من هذه الأعضاء الصلبة أصعب من عملها من أعضاء جوفاء مثل المثانة البولية لأسباب كثيرة منها غزارة الأوعية الدموية في الأعضاء الصلبة.
يجلب مقدم "الطب التجديدي" تحديات تقنية عظيمة، بيد أنه يحمل أيضا تحديات أخلاقية كثيرة أخرى. فهل ستمتد مثل تلك التقنية لخلق أعضاء أكثر جودة من ما هو موجود عند الإنسان الصحيح، خاصة وأن من بيدهم المال (خاصة من كبار السن) قد يودون "تحسين" وظائف أو أداء بعض أعضائهم، حتى في حالة عدم وجود عيب مرضي بها؟ من يدري؟!      
في كل ما ذكرنا يجب التأمل في أصل من قاد هذا الفريق البحثي، وتخيل حاله لو كان يعمل في عالمه العربي الأصلي (حيث يخصص الحكام والأثرياء عشرات الجوائز للشعراء والغاوين، ولا يكادون يذكرون العلماء)، وحيث ستكون له – بلا ريب- اهتمامات مختلفة، ومصير مختلف، وسيتخرج ويعمل ويتقاعد دون أن يترك كبير أثر في العلم الذي تعلمه. كذلك ينبغي تذكر مبدأ أن العلم لا حدود له، وأن ما كان يعد خيالا وحلما قد غدا (ويغدو كل يوم) حقيقة واقعة. وليس ذلك من قبيل المصادفة (فلا مجال للمصادفة هنا)، ولا من باب الحظ (فالحظ – كما يقولون- يحالف فقط من يعملون). لعله من المحبط أن ينظر الناس (وحتى "كبار الأطباء") في بلادنا ومنطقتنا إلى ما ينتجه الآخرون (والذين يشير إعلامنا دوما لمنتوجاتهم في جحود بتعبير مضلل هو "آخر ما توصل إليه العلم الحديث")، ونكتفي بانتظار وصول مثل تلك التقنيات الحديثة الجريئة إلينا، أو أن يسافر المقتدرون لبلاد توجد فيها مثل التقنيات (وعلى رأس هؤلاء من يكررون على مسامعنا صباح مساء شعارات "توطين العلاج"). لا يظن أحد أنني أعجب من عدم قيام جامعاتنا ومعاهدنا بمثل تلك التقنيات الجريئة (وغير المعقدة تقنيا)، فالحال في عالمنا الثالث يغني عن السؤال، والعقبات والعوائق الموضوعية والذاتية معلومة للكافة. بيد أن العجب كل العجب هو استمراء تلك الحال، والسكوت عليها، بل بالرضا (المقنع) عنها، وكأنها قدر لا فكاك منه، حتى في البلاد التي لها القدرة على استيراد مثل تلك التقنيات أو السفر لموطنها. العلة في نظري المتواضع هي في العقلية التي لا تستطيع الخروج من تكرار محفوظات أن كل أو جل ما بين أيدينا وأمام ناظرينا من اختراعات واكتشافات هو من صنع آبائنا الأوائل...(وكأننا نعفي أنفسنا من المساهمة في تطوير عالم اليوم). وسواء صح هذا الزعم أو لم يصح، فالثابت هو أنه :"ليس الفتى من قال كان أبي"!
نقلا عن "الأحداث"      



badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء